أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-10-2014
2063
التاريخ: 11-10-2014
1562
التاريخ: 11-10-2014
4657
التاريخ: 11-10-2014
3381
|
حديث ذي القرنَينِ ، الرجل الذي جَابَ البلادَ وطافَ المَعمورةَ فأتى مَطلع الشمس ( شرقيّ الأرض ) ومَغربها ( غربيّ الأرض ) حديث قديم قد يَرجع تأريخه إلى عهد بعيد ، غير أنّ الذي حقّقه بعض أعلام العصر ، الأستاذ أبو الكلام آزاد الهندي ، مُستَمِدّاً مِن نُصوص التوراة ( العهد القديم ) هو احتمال أنْ يكون هو المَلِك الفارسي ( كورش ) الكبير ( 557 ـ 528 ق . م ) الذي دَانتْ له البلاد شرقاً وغرباً ، استولى على بلاد ماداى وآسيا الصُغرى وبابل ، وأَطلق سَراح اليهود مِن أَسر البابليّينَ وأَذِنَ لهم بالعودة إلى فلسطين وأَعانَهم على إحياء القُدُس مِن جديد ؛ ومِن ثَمّ جاء ذِكره في أسفار التوراة بإعظام وتبجيل .
وكانت تَسميته بذي القرنَينِ تعبيراً عن رؤيا رآها دانيال النبيّ عندما كانوا في الأَسر ، (1) وكانت الرؤيا تُبشِّر بِخَلاصِهم على يد مَلِكٍ ذي سلطان قاهر يَسطو على بلاد ميديا وفارس .
جاء في الرؤيا : ( في السّنة الثالثة مِن مُلكِ ( بيلشاصَّر ) البابلي ، ظهرت لي أنا ( دانيال ) رؤيا ... وكان في رُؤياي ، وأنا في شوشان القصر الذي في ولاية عيلام ، ورأيتُ في الرؤيا وأنا عند نهر أولاي ، فرفعتُ عَيْنَيَّ ورأيتُ وإذا بكبشٍ واقف عند النهر وله قَرنانِ ، والقَرنانِ عاليَانِ ... رأيتُ الكبشَ يَنطح غَرباً وشمالاً وجنوباً ، فلم يَقف حَيَوان قُدّامه ولا مُنقذ مِن يده ، وفَعَل كمرضاته وعَظُم ...
ثُمّ إنّه طلبَ مِن الله أنْ يَبعث له مِن يُعبِّر له الرؤيا ، وإذا بشَبحِ إنسان واقف قُبَالَته ، وسَمِع صوتاً يَقول : يا جبرائيل ، فَهِّم هذا الرجلَ الرؤيا ... فَجَعَل جبرائيل يُفسّر الرؤيا في تفصيلٍ حتّى أَتى على ذِكر الكَبش والقَرنَينِ ، فقال : أمّا الكَبش الذي رأيته ذا القَرنَينِ ، فهو مَلِك مادى وفارس ... (2)
وبالفعل فإنّ ( كورش ) وَحَّدَ مَملَكَتَي ماديا وفارس غَرباً وشمالاً واستولى على بابل في الجنوبِ وبسطَ سلطانَه على أرجاءِ البلاد .
وهكذا جاء في كتاب ( إشَعْياء ) : وأقول بشأن كورش ، إنّه خير راعٍ اصطَفَيتُه ، وإنّه يُحقِّق إرادتي ، ويُجدِّد بِناء أُورشليم ويَعمُر بيتي من أساس (3) .
وفي الإصحاح 45 : هكذا يقول الربّ لمسيحه (4) يعنى كورش : إنّي مَنَحتُ لك القُدرة والسَّطوة والمُلك ، وسوف يخضع أَمامك كلُّ المُلوكِ ، ويُفتَح لك الأبواب كلّها وسوف تُصفَى لك الأرض ويُذاب لك النُحاس والحديد ، وتَستَولي على خزائن الأرض وذَخائرِها ، ـ إلى قوله ـ أنا أَنهضتُه بالنصر وكلّ طُرُقِه أُسهِّل ، وهو يَبني مدينتي ويُطلِق سبيي ... (5) .
وفي الإصحاح 46 جاء تشبيه كورش بالعُقاب الكاسر ، (6) يقول : أَبعثُ مِن المَشرق عُقاباً كاسراً ينقضُّ على الأكاسرة ليُحطِّمهم ويَفعل في الأرض ما أُريد ، وسوف يَتحقّق على يديه ما قضيتُ (7) .
وكتاب إشَعْياء ـ ولعلّه عاشَ قَبْلَ ظُهور كورش بأكثر من قَرن ونصف ( 160 سنة ) ـ لم يُؤلَّف في زَمنٍ واحد ، وقد أَكمَلَه بَعدَهُ أنبياء مُتأخِّرون وبعضهم عاصرَ ظُهور كورش وسُقوط بابل ، غير أنّ الجميعَ وصفوا كورش بالقُدرة والسَّطوة الربّانيّة والذي جاء ليُخلّص العبادَ من الظُلم والجَور عليهم ، وهكذا فَعَلَ في خَلاص بني إسرائيل وإعادة بِناء البيت وقد مَلَك الأرض شرقاً وغرباً وبَسَط العدلَ فيها .
الأمر الذي يَهمّنا ويَرتبط بصُلب البحث عن شخصيّة ذي القَرنَينِ في كُتب السالفينَ .
وفي كتاب إرميا ، إصحاح 50 : أَخْبِرُوا في الشعوب وارفعوا رايةَ الفَخار . وقولوا : أُخِذت بابل ، وخُزِي بيل ومَرودَخ و أَوثانها ، وسُحِقت الأصنام ؛ لأنّه قد طلعتْ عليها من الشمال أُمّة تَهدم كلَّ هذه البنايات وتَكسر سطوتَها (8) .
وفي هذا التعبير جاء تشبيه الأُمّة الفارسيّة ذلك اليوم بالشمس الطالعة والتي تَبعث على العالَم أشعّتها للدفء والحيويّة والنشاط .
وهكذا جاء التعبير في القرآن عن ذي القَرنَينِ بالعبد الصالح ، والذي مَنَحه الله القُدرة والسَّطوة ، لا ليَستعملها في الشرّ ، بل في الخير والصلاح ونشر العدل في البلاد وحماية العباد عن مَظالم الطُغاة .
فكانت سيرته حسنةً وكانت سياسته على أساس الحِكمة وقد ارتضاه الله ، فأَلهَمَه الخير وَوَفَّقه في إسعاد العباد وإصلاح البلاد .
ومِن العِباد مُلهَمُون وربّما مُحدَّثون ، وإنْ لم يكونوا أنبياء ، الأمر الذي يَنطبق على ذي القَرنَينِ بكلّ وضوح ، ولعلّه هو كورش على ما جاء في العهد العتيق ؛ نظراً لهذا الانطِباق أيضاً حسب الظاهر .
وإليك وَصْفُه على ما جاء في القرآن :
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا }[الكهف: 83-98] .
والذي يبدو من هذه الآيات : أنّ لذي القَرنَينِ شأناً عند الله ، وأنّه كان مُلهَمَاً مِن عنده ، بعثه الله (9) سَطوةً على الطُغاة ونجاةً للعباد في أرجاء البلاد .
وهكذا جاء في مَنشور كورش دَعْماً لإحياء القُدس من جديد وإطلاق سراح إسرائيل من الأَسر ، مُنَوِّهاً أنّ ذلك مِن أمر الإله ربّ العالمين .
جاء في كتاب عَزْرا ، إصحاح 1 : 1 ـ 11 : ( وفي السنة الأُولى لكورش مَلِك فارس ، عند تمام كلام الربّ بفم إِرميا ، نَبّه الربُّ روحَ كورش مَلِك فارس ، فأَطلقَ نداءً في كلّ مَملكَتِه ، وبالكتابة أيضاً ، قائلاً : ( هكذا قال كورش مَلِك فارس : جميع مَمالِك الأرض دَفَعها لي الربُّ إله السماء ، وهو أَوصاني أنْ أَبني له بيتاً في أُورشليم التي في يهوذا ... ) .
وجَمَع الإعانة مِن كلّ أبناء مُلكه الوسيع ، قائلاً : ( وكلّ مَن بقي في أحد الأماكن ، حيث هو مُتغرِّب ، فليُنجده أهلُ مكانه بفضّةٍ وبذَهبٍ وبأَمتعةٍ وببهائمٍ ، مع التبرُّع لبيتِ الرّبّ في أورشليم .
وحتّى أنّه أَرجع التُراث الإسرائيلي الذي كان قد نَهَبَه بخت نصّر ، وَرَدَّه إلى البيت ، وكانت أَواني مِن ذهبٍ وفضّةٍ ما يُعدّ بالألوف ) (10) .
والتعبير في هذا البيان : أنّ الربّ نبّه رُوحَ كورش ، وهو الوحي بمعنى الإلهام .
وهذا يتّحد مع قوله هو : وهو أَوصاني أنْ أَبني له بيتاً ... أي وقع في خَلَدي فِعْلُ هذا الخير ، وكلّ فكرة خير إنّما هو مِن عند الله ، كما أنّ فكرة الشرّ مِن الشيطان {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] ، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } [الأنعام: 112] .
وهذا هو إلهام الشرّ الشيطاني ، أمّا إلهام الخير الرحماني ، فهو كما بشأن أُمّ موسى : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7] ، وأوحينا بمعنى أَلهمنا ، في القرآن كثير .
وهكذا ( قُلنا ) حديثاً مع ذوات الأنفس وليس مشافهةً بالكلام ، وليس بشأن الإنسان فحسب ، بل بشأن الحيوان والجماد ، أَيضاً كثير .
فجاء حديثاً مع أَصحاب البقرة : {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73] ، إذ لم يكن خِطاب مُشافهة ، ولا دليل على أنّه بواسطة الرسول ، والمُحتَمل قويّاً هو إيحاء هذا المعنى كما في أُمّ موسى .
وهكذا قوله بشأن بني إسرائيل ـ بعد هلاك فرعون ـ : {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ} [الإسراء: 104] ، إلقاء في النُفُوس بطبيعة الحال .
وكان الخِطاب مع النار في قوله تعالى : {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] ، أيضاً من قبيل إيحاء إرادته تعالى ، لكن تكويناً ، نظير الإيحاء إلى النحل والنمل وسائر الحَيوان ليَسلكوا سُبُل ربهم ذُلُلاً .
ومن هذا القبيل قوله تعالى بشأن مَرَدة بني إسرائيل : {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة: 65] ، لم يكن خِطاب تكليف بل خِطاب تكوين .
وهكذا الحديث مع الأرض والسماء في قوله تعالى : {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] ، {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] .
فلا غَرابة بعدئذٍ أنْ يأتي بشأن الإيحاء ـ نفسيّاً ـ إلى عبدٍ من عباد الله الصالحينَ : { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 86 - 88] .
وهذا عندما سارَ كورش مُتوجِّهاً في فُتوحاته نحو الغرب لتسخير بلاد ليديا ، (11)
فوَقَع مَلِكُها ( كرزوس ) أسيراً في يد كورش ، وكان قد تآمرَ ضدّه مع سائر الدُول للقضاء على إمبراطوريّة فارس ، ولكنّه فَشِل ووقعت بلادَه طُعمَةً رخيصةً للمَلِك الفارسي ، ومِن ثَمّ حاولَ إحراقَه بالنار ، لكنّه سامَحَه وعفا عنه ، حسب دَأَبه مع سائر أُمراء البلاد الذين بَغَوا عليه وأَصفَح عنهم .
وبذلك نرى الآيات لعلّها تَتَصادق مع ما سجّله التأريخ بشأن كورش ، فقد قَويَت شوكتُه بعد أنْ وحّد فارس ماديا بعد الاستيلاء على ( إكباتان ) ( همدان ـ اليوم ) ، فذهبَ مُتوجِّهاً نحو الغرب لإخضاع مُناوئيه هناك ( ليديا ) ، الأمر الذي يَتصادقَ مع قوله تعالى : ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ ( بتوحيد بلاد فارس وماديا ) وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ( أي عِلماً بطُرُق الفتح والظَفَر على الخُصوم ) (12) فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ( هي الضِّفة الغربيّة من آسيا الصُغرى ، حيث بلاد ليديا ، تركيا الحاليّة ) وَجَدَها ( أي الشمس ) تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) حيث بحر إيجه ويُسمّى بحر المَغرب ، وبحر مرمرة وعلى امتدادهما البحر الأسود ، وكلّها تُضرَب بالسواد ، كأنّه الوَحل ، والحَمْأَة : الطين الأسود ، وكانت الشمس تَغرب على آفاقٍ تُتاخِم تلك البحار الضارب لونها إلى السواد .
وهكذا سارَ كورش ( ذو القَرنَينِ ) بجُيوشِه نحو مَغرب الشمس ( غربيّ بلاد فارس ـ آسيا الصُغرى ) حتّى أَوقَفه البحر ، ولم يَكن مِن شبرٍ أَمامه مِن يابسٍ ـ في مسيرته تلك ـ !
فماذا بعد قُرص الشمس المُحتَقِن وقد تَخضَّب بحُمرَةٍ كأنّه يَنزُف ما فيه من طاقةٍ ... ماذا بعد قُرص الشمس وقد اصفَرّ واحتضَر وتضاءَل عند الأُفق ، ثُمّ هوى وسقطَ غارِقاً في العين الحَمِئة ... (13) في خليج ( إزمير ) (14) ، بين الماء والطين الأسود العَكِر اللّذَينِ يَسكُبهما نهر ( جيديس ) ؟
لقد رأى كورش ( ذو القَرنَينِ ) في هذا المَشهد ما يَشدُّه إلى الخالق الأَعظم ، مالِك السماوات والأرض ومُسيِّر الأَفلاك القابض الباسط العظيم المُتعال .
لقد تَضاءَلَ ـ رُغم مُلكه العريض ـ أَمام سُقوط الشمس في عين حَمِئة ، حيث أَظلمت الدنيا بعدها ، فَعَرف أنّ لكلّ شيء نهايةً ، وكلّ شيء هالِك إلاّ وَجهُ الله الكريم ، لقد تَوصَّل كورش ـ بما لديه مِن خَلفيّة روحيّة استمدّها مِن زرادشت ـ إلى حقيقة البَعث والمَمات وعَظمةِ الله في الآفاق .
هذا هو شَعب ليديا قد صارَ في قَبضَته ، فماذا يفعل بهم ؟
لقد مَنَح الله ذا القَرنَينِ حرّيةَ اختيار العفو عنهم أو تأديبهم والتَنكيل بهم ... واختار ذو القَرنَينِ العفو عمَّن تابَ وآمنَ ، وقال : من كان هذا شأنه فسَماحٌ وعَطفٌ ويُسرٌ وتكريمٌ وأَمانٌ ورحمةٌ ، ومَن كفرَ وطغى وتجبَّر فضَربٌ بالأعناقِ وعُنفٌ وتأديبٌ .
قال تعالى : {فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا } [الكهف: 85 - 88].
________________________
(1) ولعلّ دانيال هو قَصَّ على كورش رؤياه ، فتَبَشَّر كورش بها وأَخذها شِعارَاً في مُلكِه تَبرُّكاً بذلك وتقويةً لسلطانه ، ومِن ثَمّ كان قد أَعجَبَه أنْ ينحت صورتَه على الحَجَر ويَحمل على رأسه تاجاً ذا قَرنَينِ يَسطو بهما على الشمال والجنوب جميعاً . وهكذا نجد تِمثال كورش الذي عُثِر عليه في مشهد مرغاب وعلى رأسه التاج الشهير بالقَرنَينِ .
(2) سِفر دانيال ، إصحاح 8 : 1 ـ 4 و 15 ـ 21 .
(3) سِفر إشَعْياء ، إصحاح 44 : 25 ـ 28 .
(4) أي عَبدَه الذي اصطفاه ، وهكذا يُقال لعيسى بن مريم المسيح ؛ لأنّه النبيّ المُختار لإسعاد أُمّته ، والمسيح : المُبارك . حيث بارَكَه الله وجَعَل في وجوده البَركة واللُطف لعباده المؤمنينَ ، وبهذا المعنى أُطلِق ( المسيح ) على كورش .
(5) سفر ِإشَعْياء ، إصحاح 45 : 1 ـ 14 نقلاً بتلخيص وتوضيح .
(6) يُقال للعُقاب : كاسر ؛ لأنّه يَنقضّ على ما يَصيده فيَكسره كَسرَاً .
(7) سِفر إشَعْياء ، إصحاح 46 : 10 ـ 11 .
(8) كتاب إرميا ، إصحاح 50 ، نقلاً بتلخيص وتوضيح .
(9) كما بُعِث بخت نصّر نقمةً على العُتاة ، في قوله تعالى : ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ... ) . الإسراء 17 : 5 .
(10) كتاب عَزْرا ، إصحاح 1 : 1 ـ 11 .
(11) مَملكة قديمة غربيّ آسيا الصُغرى ممّا يلي بحر إيجه ، كانت قاعدةَ مُلكها مدينة ( سارد ) الزاهية بفخامتها يومذاك .
(12) عن قتادة والضحّاك : عِلماً يَتسبّب به إلى تحقيق إرادته وبلوغ مِأَربَه ، وعن الجبائي : كلّ شيء يَستعين به المُلوك على فتح البلاد والظَفَر على الأعداء ، مجمع البيان ، ج 6 ، ص 490 .
(13) والعين ـ هنا ـ : لُجّة الماء وعُبابِه المُتَموِّج ، فيتراءى للناظر على ساحل البحر كأنّ الشمس تَغرب في عُبابِه ، كما أنّ الناظر إليها وهي تغرب في البرّ ، كأنّها تغرب في أرض مَلساءٍ .
(14) هي ( سميرنا ) ( smyrne ) القديمة ، مَرفأ عظيم في تركيا على بحر إيجه .
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|