أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-7-2017
10036
التاريخ: 29-09-2015
5865
التاريخ: 27-7-2017
12091
التاريخ: 29-09-2015
2661
|
لمّا
كان الأدب وليد الواقع ومُرْتَسم التطوّرات الإنسانيّة، وكانت فترة ما بعد الحرب
حتى أواخر القرن تحمل مياسم تلك الحرب الهائلة ونتائجها المشؤومة وتستدعي تغيراتٍ
جذريةً في حياة الغرب الأوربيّ بخاصةٍ والعالم بعامّة، تعاقبت حتى نهاية القرن؛
فمما لا شك فيه أنّ أي حديث في سمات آداب تلك المرحلة وتياراتها ومنطلقاتها
ودوافعها وطوابعها يستلزم بالضرورة تصوراً عاماً لتلك المرحلة التي استمد منها
الأدب نسْغَه وحياته:
أسْدَل
انتهاء الحرب العالمية الثانية الستار على فترةٍ عصيبةٍ هزّت العالم هزّاً عنيفاً؛
وخلفت الدمار والموت والفوضى والقلق والاضطراب والتمزّق لتعِلن بزوغ عصرٍ جديد
التفت فيه العالم لمداواة جراحه النازفة والشروع في بناء مستقبلٍ يغيب منه شبح
الحرب إلى الأبد...
فهذي
جيوش الحلفاء المنتصرة تغطّي الساحة الأوروبية والآسيوية وتفرض سلاماً تحرسُه
فوّهات المدافع، وهذه الأمم المتحدة تدعي تنظيم السّلام تحت رايتها ذات الحمامة
البيضاء.. ولكن الحرب لم تسْفِر عن أمم مهزومة وأخرى منتصرة فحسب، بل عن كتلتين
عالميتين متناقضتين ذرَّ بينهما العداء القديم بعد التحالف الموقت، وعاد معهما شبح
الحرب والرعب من المارد النوويّ المتعاظم. معسكران هائلان وحرب باردة سرعان ما
ترتفع حرارتها بين الحين والآخر، في هذا المكان من العالم أو ذاك، من خلال التنافس
والتأزم السياسيّ والتفجرات المحليّة في أمثال فيتنام وكوريا وفلسطين التي تمتد
طويلاً وتأخذ الطابع العالمي، ومن خلال الثورات والانقلابات والأخلاق واللهاث
المحموم لامتلاك الأسلحة وبث القواعد العسكرية في أطراف العالم. وتعود طبول الحرب
لتستأنف نذرها من جديد فتهدّد ذاك السّلام المضعْضَع الوليد، وتنشر الذعر
والاضطراب والقلق.. وتقسَّم أوروبا، وتستقل أقطار سلماً أو حرباً، وتقوم كيانات
وانقلابات وتنشأ مشكلات جديدة، وخلافاتٌ وتصفية خلافات وتناقضات وصراعات داخلية
ونزاعات إقليمية وقوميّة تغذيّها قوى أجنبية، وتبسط الإمبريالية الجديدة هيمنتها
على كثير من الدّول بينما تناضل أخريات لمقاومتها أو التحرر منها.. وهكذا انتهت
الحرب ولكن صراعها وشبحها مازالا يؤرقان العالم...!
وينقسم
العالم إلى متقدم ومتخلف، وقوي وضعيف، وغني وفقير، ويشتد الصراع لاقتسام مناطق
النفوذ... تحت سمع
الأمم المتحدة وبصرها، تلك المنظمة التي بدت عاجزة لأنها صورة لصراعات الأقوياء،
بل ألعوبة في يد الأقوياء، وتنشب معارك داخلية في أمكنة عديدة سببها التمييز
العنصري والاستعمار التقليدي والصراع الطبقيّ والصراعات العقائدية والسياسية
والصدام مع العقائد والأنظمة التقليدية، وتتفجر حركات العمال والشباب وتكثر الإضرابات
والتظاهرات التي تبلغ أحياناً درجة العنف وتتسع لتشمل أقطاراً عديدة ويشتد القمع
والإرهاب من جهة السلطات الظاهرة والخفيّة...!
وتنقسم
المجتمعات إلى جبهتين، إحداهما تمتلك المال والصناعة وتمسك بزمام الاقتصاد تسيّره
كما يهوى الاحتكار وحيث تدر الأرباح والثانية فقيرة بائسة محرومة؛ فترى من جهة
شركاتٍ ضخمة متنافسة وتوسعاً في الآلية المقتدرة والأبنية الضخمة والمكاتب الفخمة
والأسواق الباذخة وتدفقاً في الإنتاج ولاسيّما الحربي والكماليّ؛ ومن جهة ثانية
طبقات محرومة كادحة وجماهير من العمال المسخرين بلقمة عيشهم والعاجزين عن
الاستمتاع بما تصنعه أيديهم وتلافي ضروريات عيشهم. تناقض تبرزه للرأي مدن الصفيح
وجبال القمامة وتراكمات البؤساء في دهاليز الجوع والمرض...! الأغنياء يكسبون ثمرات الحرب ويزدادون غنى والفقراء
يخسرونها ويزدادون فقراً... وتتفاقم الفوارق
ويشتد الصراع ومعه القمع إلى ما لانهاية...!
إنه
عالم ما بعد الحرب، الذي تقدم فيه العلم والاختراع والتكنولوجيا، ودخل عصر الأتمتة
والسبرناتيك والالكترون والذرة والليزر والفضاء.. ولكنه لم يفلح في حلّ مشكلات
البشر؟ وبدت فيه السياسات العالمية والمحلية والإقليمية عاجزة أو متآمرة. إنه عالم
التناقض والصراع والتطرف والنزاع والتمرد والقمع والانسحاق؛ عالم الظلم
والبيروقراطية والسلطات العسكرية والدكتاتورية والرأسمالية وهيمنة القوى العظمى
وانسحاق الجماهير الكبرى، عالم الحرية غير المتكافئة، عالم تزعزعت فيه القيم
والمعتقدات والأخلاق واهتزت البنى القديمة أو تصدعت وانهارت، عالم السرعة والتنافس
والجنس والعنف والمخدرات والعصابات. إنه عالم ما بعد الحرب الذي ساده القلق
والاضطراب والعقم وخابت فيه الآمال وغامت الطرق والأهداف واختلت القيم؛ وتطلع
الناس فيه من خلال سُدُف البؤس والدروب المظلمة إلى منافذ النور والنجاة.. وأين
توجد إلاّ عند الأدباء والمفكرين؟؟ والأدباء كسائر البشر يعانون ما يعانونه من
العذاب الروحي والاغتراب. لقد كان طبيعياً أن يرفضوا هذا العصر ويتخذوا منه موقفاً
احتجاجيّاً بشكل أو بآخر. وقد اختلفت منطلقاتهم ورؤاهم ومواقفهم من جرّاء التمزّق
والتشعّب والبحث الفردي الحرّ في الأطروحات والأساليب؛ ولكن هذا الاختلاف والتنوع
جرى بشكل عامٍ ضمن إطار السخط والسأم والقلق والرفض وفي بعض الأحيان ضمن شعور من
العبثية وعدم الجدوى؛ موقفٌ سلبيّ مردّه إلى أن الأديب أصبح يشعر بأنه مجرد رقم في
هذا الكيان المصطخب، لا يضمه إلى محيطه صلة تفاهم وشراكة ذات معنى. وتجلى ذلك في
نتاجهم الذي هو صدى لما يجري في المجتمع والعالم. وربما تجاوزوا الفكر إلى السلوك
الذاتيّ الذي أضحى عُصَابياً سريع التأثر. فبدت لديهم مظاهر اليأس ولجأ بعضهم إلى
المخدرات والجنس والانحلال والانتحار... لأن الحياة لم تعد تعني لديهم شيئاً ولا مبرّر لها.
وتردّدت
لديهم نغمات الحزن والنشيج والسوداوية والانسلاخ والانسحاق وصرخات الاحتجاج والنقد
الصارم وكأنّه جَلْدٌ للذات والآخرين.. كل ذلك من جراء هذه الحضارة الرأسمالية
الصماء ذات القلب الحديدي التي تسحق الفرد وتفقده أخلاقياته وتجرَّده من مسوّغات
وجوده.
على
أنّ بعضهم خرج من هذه الدّوامة المدوّخة إلى التماس خشبةٍ لنجاة الذات والمجتمع،
وبعضهم الآخر نجح في إثارة المشكلات ثم تَرَكها معلقةً دون علاج...