المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

سيرة الرسول وآله
عدد المواضيع في هذا القسم 9111 موضوعاً
النبي الأعظم محمد بن عبد الله
الإمام علي بن أبي طالب
السيدة فاطمة الزهراء
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الإمام محمد بن علي الباقر
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الإمام علي بن موسى الرّضا
الإمام محمد بن علي الجواد
الإمام علي بن محمد الهادي
الإمام الحسن بن علي العسكري
الإمام محمد بن الحسن المهدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19

Singular and Plural Nouns
4-4-2021
منهج التفسير الصوفي " الباطني "
20-09-2015
الاحتياطي
2023-04-08
Octahedral Number
22-12-2020
الأهداف الرئيسة لوظيفة التخزين والشروط اللازمة لتحقيق أهداف إدارة المستودعات
2024-08-16
المونتاج والصحافة المرئية
29-10-2020


تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق  
  
3843   04:47 مساءً   التاريخ: 27/9/2022
المؤلف : مركز المعارف للتأليف والتحقيق
الكتاب أو المصدر : مختصر تاريخ النهضة الحسينية
الجزء والصفحة : ص93-124
القسم : سيرة الرسول وآله / الإمام الحسين بن علي الشهيد / قضايا عامة /

علّة زمان الثورة ومكانها

بصرف النظر عن الرسائل التي وصلت إلى الإمام الحسين عليه السلام من أهل الكوفة، لم يكن بدٌّ من التوجُّه إلى العراق[1], لأنّ بذرة الشيعة في العراق، فهناك شيعته[2]، ومواطن العلويّين الذين ظهر منهم الإخلاص لأهل البيت، وخاضوا إلى جانبهم حروب الجمل وصفّين والنهروان[3]، وأثنى عليهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام[4].

ولأنّ العراق لم يستسلم لبني أميّة، كبقية الأقطار، فقد كانت الكوفة هي الحاضرة الوحيدة في العالم الإسلاميّ، التي اخترقَت الولاء للأمويّين، وكانت مقرَّ المعارضة والثورة ضدّهم طيلة عشرين سنة، وبقيَت تتمنّى زوالَهم، بعد أن ذاقَت مُرَّ حكمهم واضطهادهم وظلمهم، فقد حرموها وجوّعوها وبطشوا برجالها ورؤوسها، وبقيَت على اتصالٍ بالإمام الحسين عليه السلام، تدعوه إلى الثورة ضدّ الأمويّين[5]، وتزوره دائما في المدينة[6]. كلّ ذلك أدّى إلى أن تكون احتمالات انعكاس الاستشهاد الحسينيّ في التربة العراقيّة أكبر بكثير من غيرها، والحوادث التي وقعَت بعد كربلاء، وعلى مدى سنين متطاولة، تثبت ذلك.

بينما لم يكن في مكّة والمدينة عشرون رجلًا يحبّون أهل البيت عليهم السلام[7]، وحينما خرج الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق، لم يخرج معه من مكّة والمدينة رجلٌ واحدٌ في ثورته.

 هذا، مع أنّه كان يعلمعليه السلام بأنّ أهلَ الكوفة قاتِلوه[8]. ومع ذلك، فلا بدّ من العراق, لأنّ الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اختارا مصرعَه وبدءَ مسيره وحملتَه لإنقاذ الإسلام هناك في كربلاء، في العراق[9].

في الطريق إلى كربلاء

حينما وصل الإمام عليه السلام إلى الحاجر من بطن الرُمَّة، وهو وادٍ بعالية نجد، ومنزل لأهل البصرة إذا أرادوا المدينة، وفيه يجتمع أهل الكوفة والبصرة، ويقع شمال نجد، بعث قيس بن المسهّر الصيداويّ، ويُقال: بل بعث أخاه من الرضاعة، عبد الله بن يقطر[10]، إلى أهل الكوفة، ولم يكن عليه السلام عَلِمَ بخبر مسلم بن عقيل، وكتب معه إليهم:

"بسم الله الرحمن الرحيم

مِن الحسين بنِ عليٍّ، إلى إخوانِه مِن المؤمِنين والمسلِمين، سلامٌ عليكم، فإنّي أحمدُ إليكم اللهَ الذي لا إلهَ إلّا هوَ.

أمّا بعدُ، فإنَّ كتابَ مُسلِم بنِ عقيلٍ جاءني يخبرُ فيه بِحُسنِ رأيِكم واجتماع ملئكم على نصرنا والطلبِ بحقِّنا، فسألتُ اللهَ أنْ يُحسِنَ لنا الصنيع، وأنْ يُثيبَكُم على ذلكَ أعظمَ الأجرِ، وقد شخصَتْ إليكُم مِنْ مكّة، يومَ الثلاثاءِ لثمانٍ مضَينَ مِن ذي الحجّة يومَ الترويةِ، فإذا قَدِمَ عليكم رسولي، فانكمِشُوا[11] في أمرِكُم، وجِدُّوا، فإنّي قادِمٌ عليكم في أيّامي هذه، والسلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ"[12].

وكان عبيد الله بن زياد قد علم بخروج الحسين عليه السلام من مكّة، فكلّف الحصين بن النمير السكونيّ بمراقبة مداخل العراق من الحجاز، فاتّخذ الحصينُ القادسيّةَ مركزًا له، ووزَّع خيلَه شرقًا وغربًا، فأقبل قيس بن المسهّر الصيداويّ، حتّى انتهى إلى القادسيّة، فأخذه الحصين بن نمير، وبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فأخرج الكتاب ومزَّقَه، فلمّا حضر بين يدَي عبيد الله، قال له: مَن أنتَ؟

قال: رجلٌ مِن شيعةِ أميرِ المؤمنين عليه السلام.

قال: فلماذا مزَّقتَ الكتاب؟

قال: لئلّا تعلم ما فيه.

قال: ممّن الكتاب؟ وإلى مَن؟

قال: مِن الحسين عليه السلام إلى قومٍ مِن أهل الكوفة، لا أعرف أسماءهم.

فغضب ابن زياد، وقال له: اصعد، فسُبَّ الكذّاب ابن الكذّاب الحسين بن عليّ بن أبي طالب.

فصعد قيسٌ القصر، فحمد اللهَ وأثنى عليه، وقال:

أيّها الناس، إنّ هذا الحسين بن عليّ، خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا رسولُه، وقد فارقتُه في الحاجِر، فأجيبوه!.

ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفرَ لعليّ بن أبي طالب عليه السلام، فأمر عبيد الله فأُلقِيَ مِن فوقِ القصر، فتقطَّع، فمات[13].

فبينما الحسين عليه السلام في الطريق، إذ طلع عليه ركبٌ أقبلوا من الكوفة، فإذا فيهم هلال بن نافع الجمليّ وعمرو بن خالد، فسألَهم عن خبر الناس، فقالوا: أمّا والله، الأشراف، فقد استمالهم ابنُ زياد بالأموال، فهم عليك، وأمّا سائر الناس، فأفئدتهم لك، وسيوفهم مشهورةٌ عليك!

قال: فلكم علمٌ برسولي قيس بن المسهّر؟

قالوا: نعم، قتله ابن زياد.

فاسترجع، واستعبر باكيًا، وقال: جعل الله له الجنّة ثوابًا، اللهمّ اجعل لنا ولشيعتنا منزلًا كريمًا، إنّك على كلّ شيءٍ قدير[14].

ووصل الإمام عليه السلام إلى الثعلبيّة، وتقع على ثلثَي الطريق من مكّة إلى العراق[15]، حيث علم هناك بشهادة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة[16].

فسار حتّى انتهى إلى زبالة[17]، وهناك وافاه بها رسول محمّد بن الأشعث بما كان سأله مسلم أن يكتب به إليه من أمره، وخذلان أهل الكوفة إيّاه، بعد أن بايعوه، وقد كان مُسلِمٌ سأل محمّد بن الأشعث ذلك. فلمّا قرأ الكتاب، استيقن بصحّة الخبر، وأفظعَه قتلُ مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة. ثمّ أخبره الرسول بقتل قيس بن المسهّر، رسوله الذي وجَّهَهُ من بطن الرُمَّة[18].

والمشهور هو أنّ الإمام الحسين عليه السلام سرّح عبد الله بن يقطر إلى مُسلِم بن عقيل، بعد خروجه من مكّة، في جواب كتاب مسلم إلى الإمام، الذي أخبره فيه باجتماع الناس، وسأله فيه القدوم إلى الكوفة، فقبض عليه الحصين بن نمير[19].

ولكن هناك رواية تقول: إنّ الذي أرسله الحسين عليه السلام هو قيس بن المسهّر... وإنّ عبد الله بن يقطر بعثَه الحسين مع مسلم، فلمّا أن رأى مسلم الخذلان، قبل أن يتمّ عليه ما تَمَّ، بعث عبد الله إلى الحسين يخبره بالأمر الذي انتهى، فقبض عليه الحصين، وصار ما صار عليه من الأمر الذي ذكرناه[20].

فأخرج إلى الناس كتابًا، فقرأه عليهم: "بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنّه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلَنا شيعتُنا، فمَن أحبَّ منكم الانصراف، فلينصرف غير حرج، ليس عليه ذمام".

وأقبل الحسين عليه السلام حتّى نزل شراف، فلمّا كان في السحر، أمر فتيانَه، فاستقوا من الماء فأكثروا، ثمّ ساروا منها حتّى انتصف النهار تقريبًا، فظهرَت في الأفق رايات الجيش الأمويّ بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحيّ، فتياسر الإمام عليه السلام إلى جبلٍ اسمه ذو حُسَم، كي يضعه خلفه، ويواجه القوم. فنزل الحسين، فأمر بأبنيته، فضربت.

وسرعان ما تواجه الجيشان في حرِّ الظهيرة، ألف فارس من أهل العراق، وقلّة قليلة مع الإمام عليه السلام، معتمّون متقلِّدو أسيافهم، فقال الحسين عليه السلام لفتيانه: "اسْقُوا الْقَوْمَ، وَأَرْوُوهُمْ مِنَ الْمَاءِ، وَرَشِّفُوا الْخَيْلَ تَرْشِيفًا". فقام فتيانه، وسقوا القوم من الماء، حتّى أرووهم، وأقبلوا يملؤون القصاع والأتوار والطساس من الماء، ثمّ يدنونها من الفرس، فإذا عبَّ فيه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، عُزِلَت عنه، وسقوا آخر، حتّى سقوا الخيل كلّها.

وكان مجيء الحرّ بن يزيد من القادسيّة، حيث الجيش الأمويّ بقيادة الحصين بن نمير التميميّ، الذي كان على شرطة عبيد الله بن زياد، وأمره أن ينزل القادسيّة، وأن يضع المسالح، فينظم ما بين القطقطانة إلى خفان، ولم يصرّح الحرّ للإمام عليه السلام بمهمَّته، حتّى انقضى حيّزٌ من النهار، صلّى فيه الإمام عليه السلام الظهر والعصر.

وحينما حضرَت صلاة الظهر، خرج الحسين عليه السلام في إزار ورداء ونعلَين، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي لَمْ آتِكُمْ حَتَّى أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ، وَقَدِمَتْ عَلَيَّ رُسُلُكُمْ أَنْ أَقْدِمْ عَلَيْنَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَنَا إِمَامٌ, لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَنَا بِكَ عَلَى الْهُدَى. فَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ جِئْتُكُمْ، فَإِنْ تُعْطُونِي مَا أَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ مِنْ عُهُودِكُمْ وَمَوَاثِيقِكُمْ، أقْدم مصْرَكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، وَكُنْتُمْ لِمَقْدَمِي كَارِهِينَ، انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَقْبَلْتُ مِنْهُ إِلَيْكُمْ".

فسكتوا عنه، فقال الحسين عليه السلام للحرّ: "أَتُرِيدُ أَنْ تُصَلِّيَ بِأَصْحَابِكَ؟".

قال: لا، بل تصلّي أنتَ، ونصلّي بصلاتك.

فصلّى بهم الحسين عليه السلام، ثمّ دخل خيمته واجتمع إليه أصحابه، وانصرف الحرّ إلى مكانه الذي كان به. فلمّا كان وقت العصر، أمر الحسين عليه السلام أن يتهيّؤا للرحيل، ثمّ خرج، فأمر مناديَه، فنادى بالعصر، فصلّى بالقوم، ثمّ سلَّمَ وانصرف إلى القوم بوجهه، مخاطِبًا الجموع التي كانت مع الحرّ، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: "أَمّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ وَتَعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ، يَكُنْ أَرْضَى لِلَّهِ، وَنَحْنُ أَهْلُ البَيْتِ أَوْلَى بِوَلَايَةِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَيْكُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُدَّعِينَ مَا لَيْسَ لَهُمْ، وَالسَّائِرِينَ فِيكُمْ بِالْجَوْرِ وَالْعُدْوَان‏، وَإِنْ أَنْتُمْ كَرِهْتُمُونَا وَجَهِلْتُمْ حَقَّنَا، وَكَانَ رَأْيُكُمُ غَيْرَ مَا أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ، وَقَدِمَتْ بِهِ عَلَيَّ رُسُلُكُمْ، انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ".

فقال له الحرّ بن يزيد: إنّا، والله، ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر.

فقال الحسين عليه السلام: "يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجَين اللذَين فيهما كتبهم إليّ". فأخرج خرجَين مملوءَين صحفًا، فنشرها بين أيديهم.

ولكنّ الظاهر أنّ هذا الخطاب كان بلا جدوى، فقد صرّح الحرّ للإمام بأنّه يريد أن يُقْدِمَه على ابن زياد، وقال: فإنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أُمِرْنا إذا نحن لقيناك، ألّا نفارقَك حتّى نُقدِمَك على عبيد الله بن زياد.

رفض الإمام عليه السلام، وقال للحرّ: "المَوْتُ أَدْنَى إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ".

ثمّ قام عليه السلام، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:

"إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ مِنَ الْأَمْرِ مَا قَدْ تَرَوْنَ، وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَتَنَكَّرَتْ، وَأَدْبَرَ مَعْرُوفُهَا، وَاسْتَمَرَّتْ جدًّا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ، وَخَسِيسُ عَيْشٍ كَالْمَرْعَى الْوَبِيلِ. أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَأَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُتَنَاهَى عَنْهُ، لِيَرْغَب الْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ رَبِّهِ محقًا، فَإِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً، وَلَا الْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَمًا"[21].

فقام زهير بن القين البجليّ، فقال لأصحابه: أَتتكلَّمونَ أَمْ أتكَلَّمُ؟

قالوا: لا، بل تكلَّم.

فحمد الله، فأثنى عليه، ثمّ قال للإمام عليه السلام: "قدْ سَمِعْنا، هَداكَ اللهُ، يابْنَ رسولِ اللهِ، مقالتَكَ. وَاللهِ، لَوْ كانَت الدنيا لنا باقيةً، وكنّا فيها مخلَّدِينَ، إلّا أنَّ فراقَها في نَصْرِكَ وَمُواساتِكَ، لآثَرْنَا الخروجَ معكَ على الإقامةِ فيها"!

فدعا له الحسين، ثمّ قال له خيرًا[22]، ثمّ أمر قافلته بالانصراف، فاعترضها جيش الحرّ، فوقع تلاسنٌ بينه وبين الإمام عليه السلام... ولمّا كثر الكلام بينهما، قال له الحرّ: إنّي لم أُؤمَر بقتالِك، وَإنَّما أُمِرْتُ أنْ لا أفارقَكَ حتّى أقدمَك الكوفةَ، فإذا أَبَيْتَ، فخذْ طريقًا لا تُدْخِلُكَ الكوفةَ، ولا تردُّك إلى المدينة, لتكونَ بيني وبينك نصفًا، حتّى أكتبَ إلى ابن زياد، وتكتبَ أنت إلى يزيد بن معاوية، إنْ أردتَ أن تكتبَ إليه، أو إلى عبيد الله بن زياد إنْ شئت. فلعلَّ اللهَ إلى ذاك أنْ يأتيَ بأمرٍ يرزقُني فيه العافيةَ مِن أنْ أبتليَ بشيءٍ مِن أمرِك.

قال الإمام الحسين عليه السلام: "فَخُذْ هَهُنَا"[23].

كان الإمام عليه السلام يريد أن يدخل الكوفة حُرًّا، وبالطريقة التي يختارها هو، وكان الحُرّ يريد أن يأخذه إليها أسيرًا، بأمرٍ من ابن زياد. وكان هذا أصل الأخذ والردّ بينهما، فقد ظلّ الإمام عليه السلام مصرًّا على التوجُّه نحو الكوفة، حتّى بعد أن خيّرَهُ الحرُّ بن يزيد في أن يتّخذَ طريقًا لا تُدخِلُه الكوفة، ولا تردُّهُ إلى المدينة، فيذهب حيث يشاء بين ذلك، بل على رواية ابن أعثم، كان الاختيار أوسع، حيث شمل حتّى الرجوع إلى المدينة، إذا شاء، حين قال له الحرّ: يا أبا عبد الله، إنّي لم أؤمر بقتال، وإنّما أُمَرْتُ أن لا أفارقَك أو أقدمَ بك على ابن زياد. وأنا، والله، كارهٌ أن يبتليَني الله بشيء من أمرك، غير أنّي قد أخذتُ ببيعة القوم، وخرجتُ إليك، وأنا أعلم أنّه لا يوافي القيامةَ أحدٌ من هذه الأمّة، إلّا وهو يرجو شفاعةَ جدّك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. وأنا خائفٌ إنْ قاتلتُك، أن أخسر الدنيا والآخرة! ولكن خُذْ عنّي هذا الطريق، وامضِ حيث شئت، حتّى أكتبَ على ابن زياد أنَّ هذا خالفني في الطريق، فلم أقدر عليه...[24].

 وعلى ذلك، فقد كان الإمام قادرًا على العودة إلى المدينة، ولكنّه أصرّ على التوجُّه إلى الكوفة[25]. ولَمَّا منعَهُ الحرُّ أن يدخلها إلّا أسيرًا، لم يبقَ أمامه عليه السلام إلّا التياسر، فلا يستسلم للحرّ، ولا يريد العودة إلى المدينة، وهذا الطريق هو الذي قاده إلى كربلاء[26].

وهكذا، أخذ الحسين عليه السلام يتياسر عن طريق العذيب والقادسيّة، وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلًا، وسار في أصحابه، والحرّ يسايره.

إصرار الإمام على المسير بعد علمه بانقلاب الوضع في الكوفة

بعد انقلاب أهل الكوفة على مسلم بن عقيل، وخذلانهم إيّاه، انتفَت، عمليًّا، وانتهت تمامًا حجّتهم التي ألزَموا الإمام عليه السلام بها، بما أرسلوا من رسائل، وبالبيعة التي بايعوها لمسلم. ومع ذلك، لم يُعرِض الإمام عليه السلام عن التوجُّه إلى العراق، بعد وصول خبر مقتل مسلم وهانئ وعبد الله بن يقطر، بل أصرّ على التوجُّه إليهم، وواصل الاحتجاج عليهم برسائلهم وبيعتهم. فها هو يقول لمن يقابله في الطريق: "هَذِهِ كُتُبُ أَهْلِ الكُوفَةِ إِلَيَّ، وَلَا أَرَاهُمْ إِلَّا قَاتِلِيَّ..."[27]، ويقول للطرماح، وقد سأله أن يلجأ إلى جبل أجأ: "إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ القَوْمِ مَوْعِدًا أَكْرَهُ أَنْ أخْلِفَهُمْ. فَإنْ يَدْفَع اللهُ عَنَّا، فَقديمًا ما أنعمَ علينا، وكفى، وَإنْ يَكُنْ مَا لَا بُدَّ منه، فَفَوْزٌ وَشهادَةٌ، إنْ شَاءَ اللهُ..."[28]، وفي نصّ آخر: "إِنَّهُ قَدْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَؤلاءِ القَوْمِ قَوْلٌ لَسْنَا نَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الاِنْصِرَافِ..."[29].

فهل كان الإمام عليه السلام يراهن على قدرته الشخصيّة على التأثير على أهل الكوفة، لو دخلها هو شخصيًّا وخاطب أهلها مباشرةً، بحيث إنّهم سيلتفّون حوله ويسارعون إلى نصرته, بناءً على أنّ مسلم بن عقيل لا يملك قدرة الإمام عليه السلام في هذا المجال؟ ولعلّ هذه الفكرة طرأَت على ذهن أحد أصحاب الإمام عليه السلام، حين قال له: إِنَّكَ، والله، ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدِمْتَ الكوفةَ، لكانَ الناسُ إليكَ أسرع...[30], ولذا، واصل الإمام الإصرار على التوجُّه إلى الكوفة؟

أم إنّ الإمام عليه السلام كان يعلم، منذ البدء، أنّ أهل الكوفة سوف يخذلونه ويقتلونه، لعلمه بما سيؤول إليه موقف أهل الكوفة من قبل ذلك، فهو يعلم بما كان وبما سيكون إلى قيام الساعة؟ أو لأنّ أنباء أهل الكوفة، بعد مقتل مسلم، قد تواترَت إليه بسرعة، مؤكّدةً على أنّ ابن زياد قد عبّأهم لقتاله، وأنّهم أصبحوا إلبًا عليه، وفي عذيب الهجانات، لم يعد ثمّة شكّ في أنّ الكوفة قد انقلبَت على عهدها مع الإمام عليه السلام، رأسًا على عقب، بل وقد عبّأها ابن زياد عن بكرة أبيها، واستعرض عساكرها ليُسرّح بهم إلى الحسين عليه السلام؟

فيكون الإمام عليه السلام قد واصل طريقه، وأصرّ على التوجُّه إلى الكوفة، لا لأنّ لأهل الكوفة حجّة باقية عليه، بل وفاءً منه بوعده والقول الذي أعطاه، وحتّى لا يقول واحدٌ من الناس أنّه لم يفِ تمامًا بالعهد، لو أنّه انصرف عن التوجُّه إلى الكوفة في بعض مراحل الطريق، حتّى بعد أن أغلق جيش الحرّ دونه الطريق إليها, ذلك لأنّ الإمام عليه السلام أراد أن يتمّ حجّته على أهل الكوفة، ولم يشأ أن يدع لهم أيّة مؤاخذة عليه يمكن أن يتذرّعوا بها لو أنّه كان قد انصرف عن التوجُّه إليهم أثناء الطريق, لأنّهم يمكن أن يدّعوا أنّ الأخبار التي بلغَت الإمام عليه السلام عن حال الكوفة لم تكن صحيحة أو دقيقة، وأنّ أنصارًا له كثيرين فيها كانوا ينتظرونه في خفاءٍ عن رصد السلطة.

إنّ إصرار الإمام على التوجُّه إلى العراق، على الرغم من علمه بالانقلاب الحادّ في موازين القوى لمصلحة الأمويّين، يدلّ على أنّ رسائل أهل الكوفة إلى الإمام الحسين عليه السلام ودعوتهم إليه لم تكن هي السبب الرئيس في توجُّهِه نحو العراق، بل كان السبب الرئيس وراء إصراره على التوجُّه نحو العراق هو علمه المسبق

بأنّه ما لم يبايع، مقتولٌ لا محالة، حتّى لو كان في جحر هامة من هوام الأرض، بل كان عليه السلام يعلم أنّ أهل الكوفة قاتِلوه، "هَذِهِ رَسَائِلُ أَهْلِ الكُوفَةِ إِلَيَّ، وَلَا أَرَاهُمْ إِلَّا قَاتِلِيَّ!". ولذلك، كان عليه أن يختار بنفسه أرضَ مصرعِه، ولم يكن أفضل من أرض العراق للمصرع المحتوم الذي لا بدّ منه، لِما ينطوي عليه العراق من استعدادات للتأثُّر بواقعة المصرع، والتغيّر، حيث ستهُبّ من هناك، بعد مقتله، عواصف التغيير والتحوُّلات الكبرى، التي لا تهدأ حتّى تُسقِط دولة الأمويّين، والتي سوف يتحقّق فيها الفتح الحسينيّ.

الوصول إلى كربلاء

فلمّا أصبح، نزل، فصلّى الغداة، ثمّ عجّل الركوب، فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرّقهم، فيأتيه الحرّ فيردّه وأصحابه، فجعل إذا ردّهم نحو الكوفة ردًّا شديدًا، امتنعوا عليه وارتفعوا، فلم يزالوا يتياسرون كذلك حتّى انتهوا إلى نينوى[31].

فإذا راكبٌ على نجيبٍ له، وعليه السلاح، متنكّبٌ قوسًا، مقبلٌ من الكوفة، فوقفوا جميعًا ينتظرونه، فلمّا انتهى إليهم، سلَّم على الحرّ بن يزيد وأصحابه، ولم يسلِّم على الحسين عليه السلام وأصحابه، فدفع إلى الحرّ كتابًا من عبيد الله بن زياد، فإذا فيه:

أمّا بعدُ، فجَعجِع[32] بالحسين بن عليّ وأصحابه بالمكان الذي يوافيك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تنُزله إلّا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرتُ رسولي أن يلزمك ولا يفارقك، حتّى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام.

فلمّا قرأ الكتاب، قال لهم الحرّ: هذا كتاب الأمير عبيد الله بن زياد، يأمرني فيه أن أُجَعجِعَ بكم في المكان الذى يأتيني فيه كتابه، وهذا رسوله، وقد أمره أن لا يفارقني حتّى أنفّذ رأيه وأمره[33]، ولا بدّ من الانتهاء إلى أمره، فانزل بهذا المكان، ولا تجعل للأمير عليَّ علّة. وأخذ الحرُّ بن يزيد الإمامَ الحسين عليه السلام وأصحابَه وأهلَ بيته بالنزول في ذلك المكان، على غير ماءٍ، ولا في قرية.

فقالوا: دعنا ننزل في هذه القرية (يعنون نينوى)، أو هذه القرية (يعنون الغاضريّة)، أو هذه الأخرى (يعنون شفية).

فقال: لا، والله، ما أستطيع ذلك. هذا رجلٌ قد بُعِثَ إليَّ عينًا.

فقال زهير بن القين للإمام الحسين عليه السلام: إِنِّي، وَاللهِ، مَا أَراهُ يكونُ بعدَ هذا الذي ترونَ إلّا أشدَّ ممّا ترونَ. بِأبي وأمّي، يابنَ رسولِ اللهِ، واللهِ، لَو لم يأتِنا غيرُ هؤلاءِ، لكانَ لنا فيهم كفايةٌ، فكيفَ بِمَنْ سيأتينا مِن غيرِهم؟ فَهلُمَّ بنا نُناجِز هؤلاءُ، إنَّ قِتالَ هؤلاءِ أهوَنُ مِن قِتالِ مَن يأتينا مِن بَعدِهم, فَلَعُمْرِي، لَيَأتِينا مِن بَعدِ ما تَرى مَا لا قِبَلَ لنا بِه[34]!

فقال له الإمام الحسين عليه السلام: "فَإِنّي أَكرَهُ أنْ أَبدَأَهُم بِقِتالٍ، مَا كُنْتُ لِأَبْدَأهُم بِالقِتالِ حَتَّى يَبْدَؤُوا".

فقال له زهير بن القين: فهاهنا قريةٌ بالقربِ منَّا، على شطِّ الفرات، وهي في عاقول[35] حصينة، الفرات يحدق بها إلّا مِن وجهٍ واحدٍ. فإنْ منعونا، قاتلناهم, فقِتالُهم أهونُ علينا مِن قِتالِ مَن يجيءُ مِن بعدِهم. فقال له الإمام الحسين عليه السلام: "وأيَّةُ قريةٍ هي؟".

قال: هي العقر.

فقال الإمام الحسين عليه السلام: "اللهُمَّ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ العُقْرِ".

فقال الحسين للحرّ: "سِرْ بنا قليلًا، ثمَّ ننزلُ".

فسار معه، حتّى أتوا كربلاء، فوقف الحرّ وأصحابه أمام الحسين، ومنعوهم من المسير، وقال: انزِلْ بهذا المكانِ، فالفُراتُ مِنْكَ قريبٌ.

قال الحسين عليه السلام: "وَمَا اسمُ هذا المكانِ؟".

قالوا له: كربلاء.

قال عليه السلام: "ذَاتُ كَرْبٍ وَبَلَاءٍ! وَلَقَدْ مَرَّ أَبِي بِهَذا المكانِ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى صِفِّين، وَأَنَا مَعَهُ، فَوَقَفَ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَأُخْبِرَ بِاسْمِهِ، فَقَالَ: هَاهُنَا مَحَطُّ رِكَابِهِمْ، وَهَاهُنَا مُهَرَاقُ دِمَائِهِمْ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: ثِقْلٌ لِآلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ يَنْزِلُونَ هَاهُنَا".

ثمّ أمر الحسينُ بأثقاله، فحطَّت بذلك المكان[36]، وكان ذلك يوم الخميس، وهو اليوم الثاني من المحرَّم، سنة إحدى وستّين[37].

وقد عبّر الإمام الحسين عليه السلام عن معرفته العميقة بالأرض وبالتاريخ، حيث قال: "اِنْزِلُوا، هَاهُنَا مُنَاخُ رِكَابِنَا. هَاهُنَا تُسْفَكُ دِمَاؤنا. هَاهُنَا، والله، تُهْتَكُ حَرِيمُنَا. هَاهُنَا، وَاللهِ، تُقْتَلُ رِجالُنَا. هَاهُنَا، وَاللهِ، تُذْبَحُ أَطْفالُنَا. هَاهُنَا، وَاللهِ، تُزارُ قُبُورُنَا. وَبِهَذِهِ التُّرْبَةِ وَعَدَنِي جَدِّي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وَلَا خُلْفَ لِقَوْلِهِ"، ثمّ نزل عن فرسه[38]، وضُرِبَت خيمةٌ لأهله وبَنِيهِ، وضرب عشيرتُه خيامَهم من حول خيمته[39]، ثمّ بقيّة الأنصار.

وأقبل الحرُّ بن يزيد، حتّى نزل حذاء الحسين عليه السلام في ألف فارس، ثمّ كتب إلى عبيد الله بن زياد، يخبره أنّ الحسين نزل بأرض كربلاء[40].

فلمّا كان من الغد، قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقّاص من الكوفة، في أربعة آلاف فارس، فنزل بنينوى[41]، وهناك انضمّ إليه الحرّ بن يزيد الرياحيّ في ألف فارس، فصار في خمسة آلاف فارس، وما زال ابن زياد يرسل إليه بالعساكر، حتّى وصل عدد الجيش الذي استُنفِرَ لقتال الحسين عليه السلام إلى ثلاثين ألفًا، ما بين فارسٍ وراجلٍ.

معنى كربلاء

ذكر ياقوت أنّها لفظة عربيّة مشتقّة مِن الكربلة، وهي رخاوةٌ في القدمَين, أي الرخوة، أو مِن التهذيب والنقاوة, أي الأرض المنقّاة من الحصى والدغل، أو لأنّ فيها الكثير من نبات الكربل، وهو اسم نباتِ الحمّاض[42].

وذكر الشهرستانيّ أنّ كربلاء معرَّبة من كور بابل, أي (قرى بابليّة)، وقال الكرمليّ: إنّها مؤلَّفة من كلمتَين: كرب وإل, أي حرم الله.

وكانت معروفة قبل الفتح العربيّ لبلاد ما بين النهرَين، وقد ذُكِرَت في كتب التاريخ قبل الفتح[43]. فهي قطعًا ليست لفظة عربيّة.

فكربلا، إذًا، من القرى القديمة، كبابل وأربيل ونينوى، فلعلّ الاسم بابليٌّ أو آراميٌّ، ثمّ ورثها أمراء المناذرة وسكّان الحيرة بحماية الفرس. وكانت منطقةً زراعيّةً تُجبَى عنها الثمار، وتنيخ عنها القوافل. يحدُّها شرقًا نهر الفرات ومدينة بابل، فهي على مشارف البادية، ومن الشمال الغربيّ الأنبار، ومن الجنوب الغربيّ الحيرة عاصمة المناذرة.

وهي عبارة عن وهدةٍ فسيحة، محدودة بسلسلةِ تلالٍ ممدودةٍ، وربوات متّصلة من ثلاث جهات، مدخلها الجهة الشرقيّة.

ولها أسماء أخرى ذكرتها المصادر التاريخيّة: مثل الطفّ أو الطفوف، وطفّ الفرات, أي الشاطئ[44]، ونينوى[45]، والنواويس، وهي مقابر النصارى[46]، والغاضريّة.

نزل الركب الحسينيّ أرض كربلاء في الثاني من المحرّم سنة إحدى وستّين للهجرة، وكان ذلك في يوم الخميس، على ما هو المشهور القويّ[47].

عمر بن سعد يتولّى قيادة الجيش الأمويّ

وافق عمر بن سعد بن أبي وقّاص على تولّي قيادة الجيش الأمويّ في كربلاء، مقابل الوعد بولاية الريّ، ولم يستمع إلى نصائح الناصحين[48]، وفضَّل النار في الآخرة مع ولاية الريّ في الدنيا، على الجنّة.

وكان عبيد الله بن زياد قد بعث عمر بن سعد على رأس أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة، إلى دستبى[49]، وكانت الديلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها، وكتب إليه عهده على الريّ، وأمره بالخروج، فخرج معسكِرًا بالناس بحمّام أعين. فلمّا كان من أمر الحسين عليه السلام ما كان، وإقباله إلى الكوفة، دعا ابنُ زياد عمرَ بن سعد، فقال له: سِرْ إلى الحسين، فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه، سِرْتَ إلى عملك.

فقال له عمر بن سعد: إنْ رأيتَ - رحمك الله - أن تعفيَني، فافعل!

فقال عبيد الله بن زياد: نعم، على أن تردّ إلينا عهدنا.

فانصرف عمر يستشير نصحاءه، فلم يكن يستشير أحدًا إلّا نهاه. فأقبل إلى ابن زياد، فقال له: أصلحَك الله، إنّك ولَّيتَني هذا العمل، وكتبتَ لي العهد، وسمع به الناس، فإنْ رأيتَ أن تُنفِّذ لي ذلك، فافعل، وابعث إلى الحسين في هذا الجيش من أشراف الكوفة، مَن لستُ بأغنى ولا أجزأ عنك في الحرب منه. فسمّى له أناسًا.

فقال له ابن زياد: لا تُعلمني بأشراف الكوفة، ولستُ أستأمِرُك فيمن أريد أن أبعث! إنْ سِرْتَ بجندنا، وإلّا فابعث إلينا بعهدنا.

فلمّا رآه قد لجّ، قال: إنّي سائر...[50].

وهكذا، وافق عمر بن سعد على قيادة الحرب ضدّ الإمام الحسين عليه السلام، على الرغم من كلّ النواهي والتحذيرات التي سبق أن بلَغَتْ مسامعه الصمّاء، فقد رُوِيَ أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال له: كيفَ أنتَ إذْ قُمْتَ مَقامًا تُخيَّر فيه بين الجنّةِ والنارِ، فتختار النار؟"[51].

ورُوِيَ أنّ عمر بن سعد قال يومًا للإمام الحسين عليه السلام: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّ قِبَلَنَا نَاسًا سُفَهَاءَ يَزْعُمُونَ أَنِّي أَقْتُلُكَ! فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ عليه السلام: "إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِسُفَهَاءَ، وَلَكِنَّهُمْ حُلَمَاءُ. أَمَا إِنَّهُ تُقِرُّ عَيْنِي أَلَّا تَأْكُلَ مِنْ بُرِّ الْعِرَاقِ بَعْدِي إِلَّا قَلِيلًا!".

وروى عبد الله بن شريك العامريّ، قال: كنتُ أسمعُ أصحابَ عليٍّ عليه السلام، إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد، يقولون: هذا قاتلُ الحسينِ بن عليٍّ عليه السلام، وذلك قبلَ أنْ يُقتَلَ بزمانٍ!.

ولم يكن عمر بن سعد عبدَ الدنيا فحسب، بل كان ذا مَيلٍ وهوى أمويّ، فقد كان ممّن يتقرّب إلى سلطانهم، وكان من جملة الذين كتبوا إلى يزيد بن معاوية في ضعف والي الكوفة النعمان بن بشير، أو تضعّفه في مواجهة مسلم بن عقيل.

وكان قد نفّذ تعاليم ابن زياد تمامًا في قتل الإمام الحسين عليه السلام، وفي أن يوطئ الخيل صدره وظهره[52].

ولمّا لم ينل، بَعد عاشوراء، من ابن زياد، ما كان يأمله من ولاية الريّ، والزلفى من السلطان، خرج من مجلس ابن زياد يريد منزله إلى أهله، وهو يقول في طريقه:

ما رجعَ أحدٌ مثلَ ما رجعتُ! أطعتُ الفاسقَ ابنَ زياد، الظالمَ ابنَ الفاجرِ، وعصيتُ الحاكمَ العدلَ، وقطعتُ القرابةَ الشريفةَ!

وهجره الناس، وكلّما مرّ على ملأ من الناس، أعرضوا عنه، وكلّما دخل المسجد، خرج الناس منه، وكلّ مَن رآه قد سبّه، فلزم بيتَه إلى أن قُتِل[53].

رُسُل عمر بن سعد إلى الإمام عليه السلام

بعد أن استلم عمر بن سعد قيادة العمليّات ضدّ الإمام الحسين عليه السلام، ووصل إلى كربلاء، بعث إليه عزرة بن قيس الأحمسيّ، وقال له: اِئْتِهِ، فسَلْهُ: ما الذي جاء به؟ وماذا يريد؟ وكان عزرة ممّن كتب إلى الحسين، فاستحيا منه أن يأتيه، فعرض عمر بن سعد ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه، فكلُّهم أبى وكرهه.

وقام إليه كثير به عبد الله الشعبيّ، فقال: أنا أذهب إليه. والله، لَئِنْ شئت لأفتكنّ به! فقال له عمر بن سعد: ما أريد أن يُفتَك به، ولكن اِئْتِهِ، فَسَلْهُ ما الذي جاء به؟

فأقبل كثير إلى الإمام عليه السلام، فلمّا رآه أبو ثمامة الصائديّ، قال للحسين عليه السلام: أصلحَك اللهُ أبا عبد الله، قد جاءك شرُّ أهلِ الأرضِ، وأجرؤُه على دم، وأفتكُه!

فقام أبو ثمامة إليه، فقال له: ضع سيفَك!

قال: لا، والله، ولا كرامة، إنّما أنا رسولٌ، فإنْ سمعتُم منّي، أبلغتُكم ما أُرسِلْتُ به إليكم، وإنْ أبَيتُم، انصرفتُ عنكم.

فقال له: فإنّي آخذٌ بقائم سيفك، ثمّ تكلَّم بحاجتِك.

قال: لا، والله، لا تمسّه!

فقال له: أخبِرني ما جئتُ به، وأنا أُبلغُه عنك، ولا أدعك تدنو منه، فإنّك فاجرٌ!

فَاسْتَبَّا[54]. ثمّ انصرف كثير إلى عمر بن سعد، فأخبره الخبر، فدعا عمر قرّة بن قيس الحنظليّ، فقال له: ويحكَ يا قرّة! اِلْقَ حُسَيْنًا، فسَلْهُ: ما جاء به؟ وماذا يريد؟

فأتاه قرّة بن قيس، فلمّا رآه الحسينُ مُقبِلًا، قال: أَتَعْرِفُونَ هَذَا؟

فقال حبيب بن مظاهر: نعم، هذا رجلٌ مِن حنظلة، تميميٌّ، وهو ابنُ أختِنا، ولقد كنتُ أعرفُه بِحُسنِ الرأي، وما كنتُ أراهُ يشهدُ هذا المشهدَ!

فجاء، حتّى سلَّم على الحسين عليه السلام، وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه، فقال الحسين عليه السلام: "كتب إليَّ أهلُ مصرِكُم هَذا، أَنْ أَقْدِمْ. فَأَمَّا إِذْ كَرِهُونِي، فَأَنَا أَنْصَرِفُ عَنْهُمْ".

ثمّ قال حبيب بن مظاهر لقرّة بن قيس: ويحكَ، يا قرّة بن قيس! أنَّى ترجِع إلى القومِ الظالِمين! انصُرْ هذا الرجلَ الذي بآبائِهِ أيَّدَك اللهُ بالكرامةِ، وإيَّانا معَك!

فقال له قرّة: أرجعُ إلى صاحَبي بجوابَ رسالتِه، وأرى رأيي. فانصرَفَ إلى عمر بن سعد، فأخبره الخبر، فقال له عمر بن سعد: إنّي لأرجو أن يعافيني اللهُ من حربه وقتاله.

وكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد:

أمّا بعد، فإنّي حيث نزلتُ بالحسين، بعثتُ إليه رسولي، فسألتُه عمّا أقدَمَه، وماذا يطلب ويسأل، فقال:كتبَ إليَّ أهلُ هذه البلاد، وأتتني رسلُهم، فسألوني القدومَ، ففعلتُ، فأمّا إذ كرِهوني، فبدا لهم غير ما أتتني به رسلُهم، فأنا منصرفٌ عنهم.

فلمّا قُرِئَ الكتابُ على ابن زياد، قال:

الآن إذ علقَتْ مخالبُنا بـه      يرجو النجاةَ ولاتَ حين مناص

وكتب إلى عمر بن سعد: أمّا بعد، فقد بلَغَني كتابُك وفهمتُ ما ذكرتَ، فاعرضْ على الحسينِ أن يبايعَ ليزيد بن معاوية، هو وجميع أصحابه, فإذا فعل ذلك، رأَيْنَا رَأْيَنَا، والسلام.

فلمّا أتى عمر بن سعد الكتاب، قال: قد حسِبْتُ ألّا يَقبلَ ابنُ زيادٍ العافيةَ[55].

فأرسل عمر بن سعد بكتاب ابن زياد إلى الحسين عليه السلام، فقال الحسين عليه السلام للرسول: "لَا أُجيبُ ابنَ زيادٍ إلى ذلك أبدًا، فهل هو إلَّا الموتُ؟ فمرحبًا به!".

فكتب عمر بن سعد إلى ابن زياد بذلك، فغضب، فخرج بجميع أصحابه إلى النخيلة[56].

ابن زياد يعبّئ الكوفة لقتال الحسين عليه السلام

كان الحرّ بن يزيد الرياحيّ قد كتب إلى ابن زياد، بعد نزول الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، يخبره بذلك، فكتب ابن زياد، عندئذٍ، إلى الإمام الحسين عليه السلام: أمَّا بعدُ، يا حسين، فقد بلغَني نزولُك بكربلاء، وقد كتبَ إليَّ أميرُ المؤمنين يزيدُ بن معاوية أنْ لَا أتوسَّدَ الوثيرَ، ولا أشبعَ من الخمير، أو ألحقك اللطيف الخبير، أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد بن معاوية!

فلمّا ورد الكتاب، قرأه الحسين، ثمّ رمى به، ثمّ قال: "لَا أَفلَحَ قَوْمٌ آثَرُوا مَرضاةَ أَنفُسِهِم على مَرضاةِ الخالِق!"، فقال له الرسول: أبا عبد الله، جواب الكتاب؟

قال: "مَا لَهُ عِندِي جَوابٌ, لِأَنَّهُ قَد حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ".

فقال الرسول لابن زياد ذلك، فغضب من ذلك أشدّ الغضب...[57]، ثمّ جمع الناس في مسجد الكوفة، ثمّ خرج فصعد المنبر، فقال: أيّها الناس، إنّكم قد بلوتُم آل سفيان، فوجدتموهم على ما تحبّون، وهذا يزيد قد عرفتموه أنّه حَسَنُ السيرة، محمودُ الطريقة، مُحسِنٌ إلى الرعيّة، مُتَعاهد الثغور، يعطي العطاء في حقّه، حتّى إنّه كان أبوه كذلك. وقد زاد أمير المؤمنين في إكرامكم، وكتب إليّ يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار ومئتَي ألف درهم[58] أفرّقها عليكم، وأُخرجُكم إلى حربِ عدوِّه الحسينِ بن عليّ. فاسمعوا وأطيعوا، والسلام.

ثمّ إنّ ابن زياد أمر عمر بن سعد بتولّي قيادة الجيوش لقتال الإمام عليه السلام، فخرج، بعد تردُّدٍ، في أربعة آلاف، حتّى نزل كربلاء في الثالث من المحرّم، وانضمّ إليه الحُرُّ مع ألف فارس هناك، فصار في خمسة آلاف فارس.

اكتمال تعبئة الكوفة لقتال الإمام عليه السلام في السادس من المحرّم

كان الشمر بن ذي الجوشن السلوليّ أوّلَ من خرج إلى عمر بن سعد في أربعة آلاف فارس، فصار في تسعة آلاف، ثمّ أتبعه زيد (يزيد) بن ركاب الكلبيّ في ألفَين، والحصين بن نمير السكونيّ في أربعة آلاف، والمصاب الماريّ في ثلاثة آلاف، ونصر بن حربة في ألفَين، فتمَّ له عشرون ألفًا، ثمّ بعث ابن زياد إلى شبث بن ربعيّ الرياحيّ، فاعتلَّ بمرضٍ، فقال له ابن زياد: أتتمارض؟ إنْ كنتَ في طاعتِنا، فاخرج إلى قتال عدوّنا، فخرج إلى عمر بن سعد في ألف فارس، بعد أن أكرمَه ابن زياد، وأعطاه وحباه، وأتبعه بحجّار بن أبجر في ألف فارس، ووجّهَ أيضًا يزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم في ألفٍ أو أقلّ، فصار عمر بن سعد في اثنين وعشرين ألفًا، من بين فارسٍ وراجلٍ[59]. وكان الرجل يُبعَث في ألفٍ، فلا يصل إلّا في ثلاثمئة أو أربعمئة وأقلّ من ذلك، كراهةً منهم لهذا الوجه[60].

ثمّ جعل ابن زياد يُرسل العشرين والثلاثين والخمسين، إلى المئة، غدوةً وضحوةً ونصف النهار وعشيّةً، من النخيلة، يمدُّ بهم عمر بن سعد، حتّى تكامل عنده، لستٍّ مضين من المحرّم، ثلاثون ألفًا، ما بين فارس وراجل[61].

ووضع ابن زياد المناظرَ على الكوفة, لئلّا يجوزَ أحدٌ من العسكر، مخافة لأن يلحق الحسين مغيثًا له، ورتّب المسالح حولها، ورتّب بينه وبين عسكر عمر بن سعد خيلًا مضمرةً مقدحةً، فكان خبر ما قِبَله يأتيه في كلّ وقت[62].

وهمّ عمّار بن أبي سلامة الدالانيّ أن يفتك بعبيد الله بن زياد في عسكره بالنخيلة، فلم يمكنه ذلك، فلطف حتّى لحق بالحسين، فقُتل معه[63]، وكان قد شهد المشاهد مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام[64].

وكان عبد الله بن عمير الكلبيّ قد نزل الكوفة، واتّخذ عند بئر الجعد من همدان دارًا، وكانت معه امرأة له، يُقالُ لها: أمّ وهب بنت عبد. فرأى القوم بالنخيلة يعرضون ليسرحوا إلى الحسين، فسأل عنهم، فقيل له: يسرحون إلى حسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: والله، لو قد كنتُ على جهاد أهل الشرك حريصًا، وإنّي لأرجو ألّا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيّهم أيسر ثوابًا عند الله من ثوابه إيّاي في جهاد المشركين. فدخل إلى امرأته، فأخبرها بما سمع، وأعلمها بما يريد، فقالت: أصبتَ، أصابَ اللهُ بك أرشدَ أمورِك. افعل، وأخرجني معك. فخرج بها ليلًا، حتّى أتى حُسَيْنًا عليه السلام، فأقام معه[65].

في اليوم السابع من المحرّم

أمر ابن سعد عمرو بن الحجّاج أن يسير في خمسمئة راكب، فينيخ على الشريعة، ويَحُولُوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، وذلك قبل مقتله عليه السلام بثلاثة أيّام، فمكث أصحاب الحسين عطاشى[66].

ونادى أحدُ أوباش أهل الكوفة: يا حسين، ألا تنظر إلى الماء، كأنّه كبد السماء. والله، لا تذوقون منه قطرة واحدة، حتّى تموتوا عطشًا. فقال الحسين عليه السلام: "اللهُمَّ، اقتلهُ عطشًا، ولا تغفرْ له أبدًا".

وروى مَن رآه بعد معركة كربلاء، فقال: إنّه رآه يشرب الماء حتّى يبغر[67]، ثمّ يقيئه، ويصيح: العطش العطش، ثمّ يعود فيشرب الماء حتّى يبغر، ثمّ يقيئه ويتلظّى عطشًا، فما زال ذلك دأبه، حتّى لفظ نفسَه[68].

ولمّا اشتدّ على الحسينِ عليه السلام وأصحابِه العطشُ، دعا العبّاس[69] بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام أخاه، فبعثَه في ثلاثين فارسًا وعشرين راجلًا، وبعثَ معهم بعشرين قربة، فجاؤوا حتّى دنوا من الماء ليلًا، واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الجمليّ، فقال عمرو بن الحجّاج الزبيديّ: من الرجل؟ فجِيء! ما جاء بك؟

قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه.

 قال: فاشرب هنيئًا.

قال: لا، والله، لا أشرب منه قطرةً وحسينٌ عطشانٌ ومَن ترى من أصحابه. فطلعوا عليه.

فقال: لا سبيل إلى سقي هؤلاء، إنّما وُضِعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء.

فلمّا دنا منه أصحابه، قال لرجاله: اِملَؤوا قربَكم. فدهم العبّاس على الشريعة بمن معه، حتّى أزالوهم عنها، واقتحم رجالةُ الحسين الماء، فملؤوا قربَهم، ووقف العبّاس في أصحابه يذبّون عنهم، فثار إليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه، فحمل عليهم العبّاس بن عليّ ونافع بن هلال، فاقتتلوا على الماء قتالًا عظيمًا، فكان قومٌ يقتتلون، وقوم يملؤون القرب حتّى ملؤوها، فقُتِل من أصحاب عمرو جماعة، ولم يُقتَل من أصحاب الحسين أحد، ثمّ رجع القوم إلى معسكرهم، وشرب الحسين من القُرَبِ، ومَن كان معه[70].

المحاورة بين الإمام عليه السلام وبين عمر بن سعد

ثمّ أرسل الحسين عليه السلام إلى عمر بن سعد: إنّي أريدُ أنْ أكلِّمَك، فالقَني الليلةَ بينَ عسكري وعسكرَك. فخرج إليه عمر بن سعد في عشرين فارسًا، وأقبل الحسين في مثل ذلك. فلمّا التقيا، أمر الحسينُ أصحابَه، فتنحّوا عنه، وبقي معه أخوه العبّاس وابنه عليّ الأكبر، وأمر عمر بن سعد أصحابَه، فتنحّوا، وبقي معه حفص ابنه وغلامٌ له يُقال له: لاحِق[71].

فقال له الإمام الحسين عليه السلام: "ويحكَ يابن سعد! أمَا تتّقي اللهَ الذي إليه معادُك، أن تقاتلَني، وأنا ابنُ مَن عَلِمتَ، يا هذا، مِن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فاترُك هؤلاء، وكنْ معي، فإنّي أقرّبُك إلى الله عزَّ وجلَّ".

فقال له عمر بن سعد: أخاف أن تُهدم داري.

فقال له الحسين عليه السلام: "أنا أبنيها لك".

فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي.

فقال الحسين: "أنا أخلف عليك خيرًا منها من مالي بالحجاز".

فقال: لي عيال أخاف عليهم.

فقال: "أنا أضمن سلامتهم".

قال: فلم يُجِبْ عمر إلى شيء من ذلك. فانصرف عنه الحسين عليه السلام، وهو يقول: "ما لك؟ ذبحكَ اللهُ على فراشك سريعًا عاجلًا، ولا غفر اللهُ لك يوم حشرك ونشرك. فوالله، إنّي لأرجو أنْ لا تأكلَ مِن برِّ العراقِ إلّا يسيرًا"[72].

فقال له عمر: يا أبا عبد الله، في الشعير عوضٌ عن البرّ. ثمّ رجع عمر إلى معسكره[73].

عمر بن سعد يفتري على الإمام عليه السلام لينجو

لا شكّ أنّ عمر بن سعد، كغيره من مجرمي جيش ابن زياد، كان يعلم بأحقّيّة الإمام عليه السلام بهذا الأمر، كما كان يعلم بما لا يرتاب فيه بالعار والسقوط اللذَين سيلحقانه مدى الدهر، إذا ما قتل الإمام عليه السلام في هذه المواجهة، التي صار هو فيها على رأس الجيش الأمويّ. ولكنّه كان، في باطنه أيضًا، أسيرَ رغبته الجامحة في ولاية الريّ. من هنا، فقد سعى إلى أن يجد المخرج من هذه الورطة، فيُعافى من ارتكاب جريمة قتل الإمام عليه السلام، ولا يخسر أمنيّته في ولاية الريّ. فكتب، بعد لقائه مع الإمام عليه السلام، إلى ابن زياد، كتابًا نصّه: أمّا بعد، فإنّ اللهَ قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمّة. هذا حسينٌ قد أعطاني أن يرجعَ إلى المكانِ الذي أتى منه، أو أنْ يسيرَ (نسيّرَه) إلى (أيّ) ثغرٍ من الثغور (شئنا)، فيكون رجلًا من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، أو أنْ يأتيَ يزيد أمير المؤمنين، فيضع يدَه في يدِه، فيرى فيما بينه وبينه رأيَه، وفي هذا لكم رضى، وللأمّةِ صلاحٌ[74].

فلمّا قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتابُ رجلٍ ناصحٍ لأميرِه، مشفقٍ على قومِه! نعم، قبلتُ.

ولكنّ الشمر بن ذي الجوشن، تقرُّبًا منه إلى ابن زياد بدم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإبطاءً لخطّة عمر بن سعد، وطمعًا بأن يكون هو أمير الجيش في كربلاء، قال لابن زياد: أتَقبَلُ هذا منه، وقد نزل بأرضِك إلى جنبِك؟ والله، لَئِنْ رحَلَ مِن بلدِك، ولم يضَعْ يدَهُ في يدِك، ليَكونَنَّ أَوْلى بالقوّةِ والعزِّ، ولتَكونَنَّ أَوْلى بالضعفِ والعجزِ، فلا تُعطِهِ هذه المنزلةَ، فإنَّها مِن الوهنِ. ولكن، لينزل على حكمِك، هو وأصحابه، فإنْ عاقبتَ، فأنتَ وليُّ العقوبةِ (أَوْلى بالعقوبةِ)، وإنْ غفرتَ، كان ذلك لك. والله، لقد بلَغَني أنَّ حُسَينًا وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرَين، فيتحدّثان عامّةَ الليل.

فقال له ابن زياد: نِعْمَ ما رأيتَ! الرأيُ رأيُك.

ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن، فقال له: اُخرُج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد، فليَعرِضْ على الحسين وأصحابه النزولَ على حكمي، فإنْ فعلوا، فليبعثْ بهم إليّ سلمًا، وإنْ هم أبوا، فليقاتِلْهم. فإنْ فعل، فاسمع له وأطِع، وإنْ هو أبَى، فقاتِلهم، فأنت أمير الناس، وَثِبْ عليه فاضرب عنقَه، وابعث إليَّ برأسِه[75].

وكان كتاب ابن زياد لعمر بن سعد: أمّا بَعْدُ، فَإنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ إِلَى الْحُسَيْنِ لِتَكُفَّ عَنْهُ، وَلَا لِتُطَاوِلَهُ، وَلَا لِتُمَنِّيهِ السَّلَامَةَ وَالْبَقَاءَ، وَلَا لِتَعْتَذِرَ لَهُ، وَلَا لِتَكُونَ لَهُ عِنْدِي شَافِعًا. انْظُرْ، فَإِنْ نَزَلَ حُسَيْنٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى حُكْمِي وَاسْتَسْلَمُوا، فَابْعَثْ بِهِمْ إِلَيَّ سِلْمًا، وَإِنْ أَبَوْا، فَازْحَفْ إِلَيْهِمْ حَتَّى تَقْتُلَهُمْ وَتُمَثِّلَ بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لِذَلِكَ مُسْتَحِقُّونَ. وَإِنْ قُتِلَ الْحُسَيْنُ، فَأَوْطِئِ الْخَيْلَ صَدْرَهُ وَظَهْرَهُ، فَإِنَّهُ عَاتٍ ظَلُومٌ، وَلَيْسَ أَرَى أَنَّ هَذَا يَضُرُّ بَعْدَ الْمَوْتِ شَيْئًا، وَلَكِنْ عَلَيَّ قَوْلٌ قَدْ قُلْتُهُ: لَوْ قَتَلْتُهُ، لَفَعَلْتُ هَذَا بِهِ. فَإِنْ أَنْتَ مَضَيْتَ لِأَمْرِنَا فِيهِ، جَزَيْنَاكَ جَزَاءَ السَّامِعِ الْمُطِيعِ، وَإِنْ أَبَيْتَ، فَاعْتَزِلْ عَمَلَنَا وَجُنْدَنَا، وَخَلِّ بَيْنَ شِمْرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ وَبَيْنَ الْعَسْكَرِ، فَإِنَّا قَدْ أَمَرْنَاهُ بِأَمْرِنَا، وَالسَّلَامُ[76].

فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد، فلمّا قَدِمَ به عليه فقرأه، قال له عمر: يَا أبرَص! ما لَكَ؟ وَيْلَكَ! لا قرّب الله دارَك، ولا سهّل محلّتَك، وقبّحك، وقبّح ما قدمتَ به عليّ! والله، إنّي لأظنُّك أنتَ ثَنَيْتَه أنْ يَقبلَ ما كتبتُ به إليه. أفسدتَ علينا أمرًا كنّا رجَوْنا أنْ يَصلُحَ، لا يستسلم، واللهِ، حسينٌ, إنّ نَفْسًا أَبِيَّةً لَبَيْنَ جَنْبَيْهِ.

فقال له شمر: أخبِرْني ما أنتَ صانِعٌ؟ أتمضي لأمرِ أميرِك، وتقتل عدوَّه؟ وإلّا فخَلِّ بيني وبين الجندِ والعسكرِ.

قال: لا، ولا كرامةَ لك، وأنا أتولّى ذلك، فدونك، فكُنْ أنتَ على الرجّالة[77].

ثمّ كانت ليلة عاشوراء

يقول الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام: جَمَعَ الحسينُ أصحابَه، بعد ما رجع عمر بن سعد، وذلك عند قرب المساء، فدنَوْتُ منه لأسمع، وأنا مريض، فسمعتُ أبي وهو يقول لأصحابه: "أُثْنِي عَلَى اللَّهِ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ، وَأَحْمَدُهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. اللَّهُمَّ، إِنِّي أَحْمَدُكَ عَلَى أَنْ أَكْرَمْتَنَا بِالنُّبُوَّةِ، وَعَلَّمْتَنَا الْقُرْآنَ، وَفَقَّهْتَنَا فِي الدِّينِ، وَجَعَلْتَ لَنَا أَسْمَاعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً، فَاجْعَلْنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ.

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَصْحَابًا أَوْفَى وَلَا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِي، وَلَا أَهْلَ بَيْتٍ أَبَرَّ وَلَا أَوْصَلَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَجَزَاكُمُ اللَّهُ عَنِّي خَيْرًا[78]. أَلَا وَإِنِّي أَظُنُّ يَوْمَنَا مِنْ هَؤُلَاءِ الأَعْدَاءِ غَدًا، أَلَا وَإِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ، فَانْطَلِقُوا جَمِيعًا فِي حِلٍّ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنِّي ذِمَامٌ. وَهَذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ، فَاتَّخِذُوهُ جَمَلًا[79]، ثُمَّ لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِيَدِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، ثُمَّ تَفَرَّقُوا فِي سَوَادِكُمْ وَمَدَائِنِكُمْ، حَتَّى يفرجَ اللهُ، فَإِنَّ القَوْمَ إِنَّمَا يَطْلِبُونِي، وَلَوْ قَدْ أَصَابُونِي، لَهَوْا عَنْ طَلَبِ غَيْرِي".

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل؟ لِنَبقى بَعْدَكَ؟ لَا أَرانا اللهُ ذلكَ أَبَدًا. بَدَأَهُم بهذا القول العبّاسُ بن عليّ عليه السلام، ثمّ إنّهم تكلّموا بهذا ونحوه، فقال الحسين عليه السلام: "يا بني عقيل، حسبُكم مِن القَتلِ بمسلم! اِذْهَبُوا، قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ".

قالوا: فما يقولُ الناسُ؟ يقولون: إنّا تَرَكْنا شيخَنا وسيِّدَنا وبني عمومتِنا خير الأعمام، ولم نَرْمِ معهم بسهمٍ، ولم نطعنْ معهم برمحٍ، ولم نَضربْ معهم بسيفٍ، ولا ندري ما صنعوا؟ لَا، والله، لَا نفعل. ولكن تفديكَ أنفسُنا وأموالُنا وأهلونا، ونقاتلُ معكَ حتّى نَرِدَ مَورِدَكَ، فقبّح اللهُ العيشَ بعدَكَ!

فقام إليه مسلم بن عوسجة الأسديّ، فقال: أنحنُ نخلّي عنكَ، ولَمّا نُعذَر إلى اللهِ في أداءِ حقِّك؟ أَمَا والله، حتّى أكسرَ في صدورِهم رِمحي، وأضربَهم بسيفي، ما ثبتَ قائمُه في يدي، ولا أفارقُك، ولو لم يكن معي سلاحٌ أقاتلُهم به، لَقذفتُهم بالحجارةِ دونَك، حتّى أموتَ معَك.

وقال سعيد بن عبد الله الحنفيّ: واللهِ، لَا نُخَلِّيكَ حتّى يعلمَ اللهُ أنّا قد حَفِظْنا غَيبَةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فيكَ. واللهِ، لَو عَلِمْتُ أَنّي أُقتَل، ثمّ أُحْيَا، ثمّ أُحرَق حيًّا، ثمّ أُذَرّ، يُفعَلُ ذلكَ بي سبعينَ مرَّةً، ما فارقتُكَ حتّى ألقى حمامي دونَك، فَكَيفَ لا أفعُل ذلك، وإنّما هي قَتلَةٌ واحدةٌ، ثمّ هِيَ الكرامةُ التي لا انقضاءَ لها أبدًا.

وقال زهير بن القين: واللهِ، لَوَدَدْتُ أَنّي قُتِلْتُ، ثمّ نُشِرتُ، ثمّ قُتِلتُ، حتّى أُقْتَل كذا ألف قَتلةٍ، وأنّ اللهَ يدفعُ بذلكَ القتلِ عَن نفسِك، وعن أَنْفُسِ هؤلاء الفتية من أهل بيتك[80].

وقيل لمحمّد بن بشير الحضرميّ، وهو مع الحسين عليه السلام في كربلاء: قد أُسِرَ ابنُك بثغرِ الريّ. قال: عِنْدَ اللهِ أحتسبُه، ونَفسي، ما كنتُ أحبُّ أنْ يُؤسَرَ، ولا أنْ أبقى بَعدَهُ. فسمع قولَه الحسينُ عليه السلام فقال له: "رحَمِكَ اللهُ! أنتَ في حِلٍّ مِن بَيعَتي، فاعمَلْ في فَكَاكِ ابْنِكَ". قال: أكلَتْنِي السباعُ حَيًّا إنْ فارقْتُك! قال: "فأَعْطِ ابنَكَ هذِهِ الأثْوابَ البرودَ، تَستَعِينُ بها في فِدَاءِ أَخِيهِ". فأعطاهُ خمسةَ أثوابٍ، قيمتُها ألفُ دينارٍ[81].

وتَكَلَّمَ جماعةُ أصحابِه بكلامٍ يشبه بعضَه بعضًا في وجهٍ واحد، فقالوا: واللهِ، لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قُتِلنا، كنّا وفَيْنا وقضَيْنا ما علينا[82].

فقال الحسين عليه السلام، حينئذٍ، لأصحابه: "إِنَّكُم تُقْتَلُونَ غَدًا كُلُّكُمْ، وَلَا يفْلتْ مِنْكُمْ رَجُلٌ".

فقالوا: الحمد لله الذي أكرمَنا بنصرك، وشرّفنا بالقتل معك. أَوَلَا نرضى أنْ نكونَ معكَ في درجتِك يابنَ رسولِ الله؟

فقال: "جزاكم الله خيرًا"، ودعا لهم بخير.

ثمّ قام الحسين عليه السلام وأصحابه الليلَ كلَّه، يصلّون ويستغفرون ويدعون، وباتوا ولهم دويٌّ كدويّ النحل، ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد. ومَرَّ بهم خيلٌ لابنِ سَعْدِ يحرسُهم، وإنّ حُسَينًا عليه السلام ليقرأ: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾[83]، فسمعها من تلك الخيلِ رجلٌ، فقال: نَحْنُ، وربِّ الكَعْبَةِ، الطيِّبون، ميّزنا منكم. فقال له بُرَير بن خضير: يا فاسِق! أنتَ يجعلُكَ اللهُ من الطيِّبين؟ فقال له: مَن أنتَ، ويلك؟ قال: أنا بُرَير بن خضير، فتسابّا[84].

وعَبَر إليهم في تلك الليلة، من عسكر ابن سعد، اثنان وثلاثون رجلًا، وكان أبو الشعثاء الكِنْديّ - وهو يزيد بن زيادٍ - مع ابن سعدٍ، فلما ردّوا الشروطَ على الحسين عليه السلام، صار معه[85]. ومن هؤلاء: جوين بن مالك التميميّ، وزهير بن سليم الأزديّ، والنعمان بن عمرو الأزديّ الراسبيّ، وأخوه الحلاّس[86].

أنصار الإمام الحسين عليه السلام والجيش الأمويّ

اختلفت الروايات في عدد أصحاب الإمام الحسين عليه السلام يوم الطفّ، بين سبعين[87]، واثنين وسبعين[88]، واثنين وثمانين[89]، وسبعة وثمانين[90]، ومئة وخمسة وأربعين[91]، خمسمئة فارس ومئة راجل[92]، وورد في بعض المصادر أنّ عددهم كان ستّين[93]، أو واحد وستّين[94]، غير أنّ أشهر عددٍ لأنصار الإمام عليه السلام يوم الطفّ هو اثنان وسبعون.

وأمّا عدد أفراد الجيش الأمويّ، فقد تفاوتَت الروايات والمتون التاريخيّة في عدد الجيش الأمويّ الذي واجه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء يوم عاشوراء، وهذه الأعداد على الترتيب، من الأقلّ إلى الأكثر، هي: ألف مقاتل[95]، أربعة آلاف[96]، ستّة آلاف[97]، ثمانية آلاف[98]، اثنا عشر ألفًا، ستّة عشر ألفًا[99]، عشرون ألفًا[100]، اثنان وعشرون ألفًا[101]، ثلاثون ألفًا[102]، خمسة وثلاثون ألفًا[103]، أربعون ألفًا[104]، خمسون ألفًا[105]. وكان هؤلاء، كما وصفتهم الروايات التاريخيّة، مِن المزدلِفين إلى الإمام عليه السلام لقتله[106]، ومِن أهل الأهواء والأطماع، ومِن الانتهازيّين[107] والمرتزقة[108] والفسقة والبطّالين[109] والخوارج[110].

والأقرب الأقوى أنَّ عددَ الجيش الأمويّ، الذي واجه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، هو ثلاثون ألفًا, لأنّ هناك رواية عن الإمام الحسن عليه السلام، أنّه خاطب الإمام الحسين عليه السلام قائلًا: "وَلَكِنْ لَا يَوْمَ كَيَوْمِكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! يَزْدَلِفُ إِلَيْكَ ثَلَاثُونَ أَلْفَ رَجُلٍ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أُمَّةِ جَدِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وَيَنْتَحِلُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ، فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى قَتْلِكَ، وَسَفْكِ دَمِكَ، وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِكَ، وَسَبْيِ ذَرَارِيِّكَ وَنِسَائِكَ، وَانْتِهَابِ ثَقَلِكَ..."[111].

 ورواية أخرى عن الإمام زين العابدين عليه السلام، أنّه قال: "وَلَا يَوْمَ كَيَوْمِ الْحُسَيْنِ عليه السلام! ازْدَلَفَ عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ أَلْفَ رَجُلٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كُلٌّ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِدَمِهِ، وَهُوَ بِاللَّهِ يُذَكِّرُهُمْ فَلَا يَتَّعِظُونَ، حَتَّى قَتَلُوهُ بَغْيًا وَظُلْمًا وَعُدْوَانًا..."[112].

ولكنّ الثابت والمشهور أنّ أهل الشام لم يشتركوا في واقعة الطفّ، وأنّ جميع مَن حضر مقتل الحسين من العساكر، وحاربه وتولىّ قَتْلَه، كانوا من أهل الكوفة خاصّة، لم يحضرهم شاميّ[113]، ولكن قد يُستفاد أنّ أفرادًا متفرّقين من أهل الشام قد حضروا كربلاء يوم عاشوراء[114] في جيش ابن زياد، بل لعلّ من غير الممكن أن لا يتحقّق هذا, لأنّه لا بدّ للسلطة المركزيّة في الشام من مراسِلِين وجواسيس شاميّين يعتمدهم يزيد بن معاوية، يواصِلونه بكلِّ جديدٍ عن حركة الأحداث في العراق عامّة، والكوفة خاصّة.

لكنّنا نقطع بأنّ يزيد بن معاوية لم يبعث إلى ابن زياد بأيّة قطعات عسكريّة شاميّة، للمساعدة في مواجهة الإمام الحسين عليه السلام.

 


[1] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج1، ص310.

[2] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين، ص294.

[3] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص231.

[4] المصدر نفسه، ج1، ص230.

[5] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص182.

[6] البلاذريّ، أنساب الأشراف ج3، ص156-157.

[7] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج4، ص104.

[8] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، ص211.

[9] قطب الدين الراونديّ، الخرائج والجرائح، ج1، ص253.

[10] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص398.

[11] أي أسرعوا.

[12] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص70.

[13] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص378.

[14] المصدر نفسه.

[15] الحمويّ، معجم البلدان، ج2، ص78.

[16] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص302-303.

[17] زبالة: منزل بطريق مكّة من الكوفة. الحمويّ، معجم البلدان، ج3، ص129.

[18] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص247-248.

[19] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص303.

[20] السماويّ، إبصار العين، ص94.

[21] السيّد ابن طاووس، اللهوف ص34.

[22] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص304.

[23] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص249 و251.

[24] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص139.

[25] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص134-139.

[26] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج1، ص206.

[27] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، ص211.

[28] ابن نما، مثير الأحزان، ص39.

[29] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص308.

[30] الشيخ المفيد، الإرشاد، ص204.

[31] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص83.

[32] الجوهري، الصحاح، ج3، ص1196، جعجع: كتب عبيدالله بن زياد إلى عمر بن سعد: أن جعجع بحسين. قال الأصمعي: يعني احبسه، وقال ابن الأغرابي: يعني ضيق عليه.

[33] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص308.

[34] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص84.

[35] عاقول الوادي ما اعوجمنه، والأرض العاقول التي لا يُهتَدى إليها.

[36] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص249-251.

[37] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص84.

[38] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص149.

[39] المصدر نفسه.

[40] المصدر نفسه، ج5، ص150.

[41] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص310-309.

[42] البغدادي، مراصد الاطلاع، ج3، ص1154.

[43] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص574.

[44] الحمويّ، معجم البلدان، ج4، ص35-36.

[45] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص308.

[46] ابن منظور، لسان العرب، ج6، ص245.

[47] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص385.

[48] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص309-310.

[49] الحمويّ، معجم البلدان، ج2، ص454. وهي كورة كبيرة، كانت مشتركة بين الريّ وهمذان، فقسمت كورتَين، وتشتمل على قريب تسعين قرية.

[50] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص254.

[51] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص151-153.

[52] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص255.

[53] سبط ابن الجوزيّ، تذكرة الخواصّ، ص233.

[54] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص87.

[55] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص311.

[56] موضع قرب الكوفة على سمت الشام. الحمويّ، معجم البلدان، ج5، ص278.

[57] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص150-151.

[58] "وقد زادكم مئة مئة، وأمرني أن أوفّرها عليكم، وأخرجكم إلى حرب عدوِّه الحسين، فاسمعوا وأطيعوا". العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص385.

[59] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص157-158.

[60] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص254.

[61] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص373-374.

[62] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص386-388.

[63] المصدر نفسه، ج3، ص388.

[64] الهمدانيّ، كتاب الإكليل، ج10، ص87-101.

[65] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص327.

[66] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص255.

[67] بغر: كثر شربه للماء، انظر: الخليل، العين، ج4، ص415.

[68] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص87.

[69] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ج4، ص56.

[70] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص164.

[71] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص312.

[72] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص164-166.

[73] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج1، ص347.

[74] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص87.

[75] البلاذريّ, أنساب الأشراف, ج3, ص 390 – 391.

[76] الشيخ المفيد, الإرشاد, ج2, ص88.

[77] الطبري, تاريخ الأمم والملوك, ج3, ص 315.

[78] الشيخ المفيد, الإرشاد, ج2, ص 91.

[79] الطبريّ, تاريخ الأمم والملوك, ج4, ص 317.

[80] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص91-93.

[81] ابن عساكر, ترجمة الإمام الحسين عليه السلام, ص221.

[82] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص91-93.

[83] سورة آل عمران، الآية 178 - 179.

[84] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص320.

[85] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص137.

[86] السماويّ، إبصار العين، ص186-187 و 194.

[87] الديار بكري، تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس، ج2، ص227.

[88] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص256.

[89] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص98.

[90] ابن العنبريّ، تارخ مختصر الدول، ص110.

[91] ابن نما، مثير الأحزان، ص54.

[92] المسعوديّ، مروج الذهب، ج3، ص703.

[93] الدميريّ، حياة الحيوان، ج1، ص73.

[94] المسعوديّ، إثبات الوصية، ص141.

[95] الشبلنجيّ، نور الإبصار، ص143.

[96] المصدر نفسه.

[97] الشيخاني القادري، الصراط السويّ في مناقب آل النبيّ، ص87.

[98] سبط بن الجوزي، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، ص92.

[99] الشامي، الدرّ النظيم، ص551.

[100] السيّد شرف الدين، الفصول المهمّة، ص175.

[101] ابن العماد الحنبليّ، شذرات الذهب، ج1، ص67.

[102] ابن عنبة، عمدة الطالب، ص192.

[103] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص98.

[104] الإسفرايني، نور العين في مشهد الحسين عليه السلام، ص32.

[105] الحاج الحسيني، أبو جعفر محمد بن أمير، شرح شافية أبي فراس، ج1، ص93.

[106] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص100.

[107] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص303.

[108] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص56.

[109] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص317.

[110] السماويّ، إبصار العين، ص159.

[111] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص101.

[112] المصدر نفسه، ص373-374.

[113] المسعوديّ، مروج الذهب، ج3، ص71.

[114] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص138.




يحفل التاريخ الاسلامي بمجموعة من القيم والاهداف الهامة على مستوى الصعيد الانساني العالمي، اذ يشكل الاسلام حضارة كبيرة لما يمتلك من مساحة كبيرة من الحب والتسامح واحترام الاخرين وتقدير البشر والاهتمام بالإنسان وقضيته الكبرى، وتوفير الحياة السليمة في ظل الرحمة الالهية برسم السلوك والنظام الصحيح للإنسان، كما يروي الانسان معنوياً من فيض العبادة الخالصة لله تعالى، كل ذلك بأساليب مختلفة وجميلة، مصدرها السماء لا غير حتى في كلمات النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) وتعاليمه الارتباط موجود لان اهل الاسلام يعتقدون بعصمته وهذا ما صرح به الكتاب العزيز بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، فصار اكثر ايام البشر عرفاناً وجمالاً (فقد كان عصرا مشعا بالمثاليات الرفيعة ، إذ قام على إنشائه أكبر المنشئين للعصور الإنسانية في تاريخ هذا الكوكب على الإطلاق ، وارتقت فيه العقيدة الإلهية إلى حيث لم ترتق إليه الفكرة الإلهية في دنيا الفلسفة والعلم ، فقد عكس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روحه في روح ذلك العصر ، فتأثر بها وطبع بطابعها الإلهي العظيم ، بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع فلم يكن لهم اتجاه إلا نحو المبدع الأعظم الذي ظهرت وتألقت منه أنوار الوجود)





اهل البيت (عليهم السلام) هم الائمة من ال محمد الطاهرين، اذ اخبر عنهم النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) باسمائهم وصرح بإمامتهم حسب ادلتنا الكثيرة وهذه عقيدة الشيعة الامامية، ويبدأ امتدادهم للنبي الاكرم (صلى الله عليه واله) من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) الى الامام الحجة الغائب(عجل الله فرجه) ، هذا الامتداد هو تاريخ حافل بالعطاء الانساني والاخلاقي والديني فكل امام من الائمة الكرام الطاهرين كان مدرسة من العلم والادب والاخلاق استطاع ان ينقذ امةً كاملة من الظلم والجور والفساد، رغم التهميش والظلم والابعاد الذي حصل تجاههم من الحكومات الظالمة، (ولو تتبّعنا تاريخ أهل البيت لما رأينا أنّهم ضلّوا في أي جانب من جوانب الحياة ، أو أنّهم ظلموا أحداً ، أو غضب الله عليهم ، أو أنّهم عبدوا وثناً ، أو شربوا خمراً ، أو عصوا الله ، أو أشركوا به طرفة عين أبداً . وقد شهد القرآن بطهارتهم ، وأنّهم المطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون ، كما أنعم الله عليهم بالاصطفاء للطهارة ، وبولاية الفيء في سورة الحشر ، وبولاية الخمس في سورة الأنفال ، وأوجب على الاُمّة مودّتهم)





الانسان في هذا الوجود خُلق لتحقيق غاية شريفة كاملة عبر عنها القرآن الحكيم بشكل صريح في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وتحقيق العبادة أمر ليس ميسوراً جداً، بل بحاجة الى جهد كبير، وافضل من حقق هذه الغاية هو الرسول الاعظم محمد(صلى الله عليه واله) اذ جمع الفضائل والمكرمات كلها حتى وصف القرآن الكريم اخلاقه بالعظمة(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، (الآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وتعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو والاغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك) فقد جمعت الفضائل كلها في شخص النبي الاعظم (صلى الله عليه واله) حتى غدى المظهر الاولى لأخلاق رب السماء والارض فهو القائل (أدّبني ربي بمكارم الأخلاق) ، وقد حفلت مصادر المسلمين باحاديث وروايات تبين المقام الاخلاقي الرفيع لخاتم الانبياء والمرسلين(صلى الله عليه واله) فهو في الاخلاق نور يقصده الجميع فبه تكشف الظلمات ويزاح غبار.