أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-08-2015
![]()
التاريخ: 13-3-2019
![]()
التاريخ: 23-1-2019
![]()
التاريخ: 1-08-2015
![]() |
اعلم أنّ لكلّ من الواجب والممكن خواصّ ... نبدأ ببيان خواصّ الواجب وهي أُمور :
1 ـ إنّ إمكانه بالإمكان العام يكفي لثبوته
وجوباً وضرورةً ، ونسمّيه بقاعدة الملازمة ، ولم نرَ مَن ذكرها في خواصّ الواجب مع
أنّها مهمة ومفيدة جداً .
فنقول : الواجب إذا لم يكن بممتنع عقلاً يكون
موجوداً وثابتاً ، بلا حاجة إلى لمّية الثبوت والإثبات ؛ وذلك لاستحالة الإمكان
الخاصّ في حقّه ، فإنّه قسيم للوجوب ... فالممكن الخاصّ لا يوجد إلاّ بعد علّته
ثبوتاً ، ولا يصدق بوجوده إلاّ بعد سببه إثباتاً وإن كان إمكانه معلوماً على كل
تقدير ، فإنّه لا يلازم فعليته ووجوده كما لا يخفى ، وهذا بخلاف الواجب ؛ حيث إنّ
مجرّد إمكانه العام كافٍ في تحقّقه ثبوتاً وإثباتاً ، فالواجب المفروض إمّا ممتنع
أو متحقّق ، وهذا لا يقتضي زيادة إيضاح .
وتجري هذه القاعدة في صفاته الواجبة أيضاً ،
فيقال : القدرة الواجبة ـ مثلاً ـ غير ممتنعة لمبدأ الواجب فهي ثابتة له وهكذا ،
نعم بناءً على القول بإمكان الصفات وزيادتها على الذات ـ كما عليه أُمّة الأشعري ـ
لا مجرى لها فيها .
وقد استدلّ للقاعدة المذكورة أيضاً (1) ، بأنّ
صفاته الذاتية متى صحّت وجبت ؛ وإلاّ لافتقر في اتّصاف الذات بها إلى الغير ،
والافتقار عليه محال .
أقول : استحالة الافتقار ـ بهذا المعنى ـ أخفى من
نفس المدّعى .
1 ـ إنّ الواجب الوجود واجب من جميع الجهات ، قال
في الأسفار (2) : المقصود من هذا أنّ الواجب الوجود ليس فيه جهة إمكانية ، فإنّ
كلّ ما يمكن له بالإمكان العام فهو واجب له .
أقول : الاستدلال عليه بوجوه :
الأوّل : ما تجشّم بإقامته صاحب الأسفار ، وهو :
أنّ الواجب تعالى لو كان له ـ بالقياس إلى صفة كمالية ـ جهة إمكانية بحسب ذاته
بذاته للزم التركيب في ذاته ، وهو محال ، فيلزم أن يكون جهة اتّصافه بالصفة
المفروضة الكمالية وجوباً وضرورةً لا إمكاناً وجوازاً .
أقول : إن أراد بالإمكان اللازم فيه تعالى
الإمكان القياسي ففيه منع لزوم التركيب ، وإلاّ لجرى في الامتناع القياسي أيضاً ،
وقد صرّح نفسه (3) ، بأنّ الامتناع بالقياس إلى الغير يعرض لكل موجود ـ واجباً كان
أو ممكناً ـ بالنسبة إلى عدم معلوله أو عدم علّته .
وحلّه أنّ معنى الإمكان بالقياس ، هو عدم وجوب
الصفة له تعالى بالنظر إلى ذاته المقدّسة ، مع إمكانها بالإمكان العام على ضدّ
مفاد القاعدة ، أعني بها وجوب الواجب من جميع الجهات ، وأين هذا من التركيب ؟ ولذا
لو فرضنا الواجب متعدّداً كان كل واحد ممكناً بالقياس إلى الآخر وإلى معاليله ،
كما ذكره هو أيضاً ، فلا ملازمة بين التركيب والإمكان المذكور .
ثمّ إنّ الأمر في الأفعال أوضح ؛ لأنّا سنبرهن
على تبعيتها للمصالح والأغراض الزائدة على ذاته تعالى ، فلا يجب الفعل بالنسبة إلى
مجرّد ذاته تعالى .
فإن قلت : لا معنى للإمكان القياسي بين العلة
والمعلول .
قلت : نعم ، بيد أنّ المقام ليس من هذا الباب ،
لأنّا نبحث عن الشيء الممكن قبل إيجاده، فنقول مثلاً : إنّ هذا الفعل المعدوم
خارجاً بالفعل الموجود في الذهن ، هل يجب بالنسبة إلى الواجب أم لا ؟ فالاشتباه
إنّما هو من جهة خلط ما في الذهن بما في الخارج فتفطّن .
ومنع الإمكان القياسي في هذه المرتبة أيضاً
مصادرة واضحة ؛ لأنّه المدّعى فتحصّل أنّ جميع ما يمكن أن يتعلّق به قدرته تعالى
ممكن له ـ تعالى ـ بالإمكان القياسي بملاحظة ذاته ولا وجوب له أبداً ، نعم يجب
بالوجوب القياسي والغيري بلحاظ إرادته التابعة للأغراض الزائدة على ذاته تعالى .
وإن أراد من الإمكان القوة والاستعداد ، كما يظهر
من تلميذه اللاهيجي (4) في مقام الاستدلال على إثبات صفاته ، ففيه : أنّه لا يعقل
القوّة في حق الواجب بلا شك ، ولكن إنكار الوجوب المذكور لا يؤدّي إلى لزومها فيه
تعالى ، وقد قال هذا المستدل ـ أي صاحب الأسفار ـ في ربوبيات كتابه رداً على
استدلال المتأخّرين على عينية الصفات مع الذات : الأَوّل إنّا نقول : إنّ هاهنا
اشتباهاً من باب آخذ القبول بمعنى الانفعال الاستعدادي مكان القبول بمطلق الاتّصاف
، والبرهان لا يساعد إلاّ على نفي الأَوّل دون الثاني ... ـ إلى أن قال ـ :
والثاني إنّ الدليل منقوض بالصفات الإضافية له تعالى كالمبدئية والسببية وغيرهما ؛
لجريان الدليل بجميع مقدماته فيهما ، فيلزم إمّا اتّصافه بتلك الصفات ، أو عدم
كونها زائدةً على الذات ، وكلا القولين باطل ... إلخ .
أقول : فعليك بتطبيق كلامه على المقام أيضاً .
وإن أراد من الإمكان العدم ـ كما هو الظاهر من
كلامه في بيان برهانه العرشي على توحيده تعالى ، حيث قال : بل يكون ذاته بذاته
مصدقاً لحصول شيء وفقد شيء آخر من طبيعة الوجود ومراتبه الكمالية ، فلا يكون
واحداً حقيقياً ، والتركيب بحسب الذات والحقيقة ينافي الوجوب الذاتي (5) ... إلخ
بل هذا هو مراده جزماً ـ ففيه : أنّه لا دليل على امتناع مثل هذا التركيب ، بل
نمنع كون هذا تركيباً ، فإنّ التركيب من الوجود والعدم ، أو الوجدان والفقدان ، أو
الوجوب والإمكان ، أو ما شئت فسمِّه ليس تركيباً واقعياً ؛ إذ العدم أو الفقدان
ليس شيئاً له مطابق في الخارج كما هو لائح .
وأمّا ما ذكره السبزواري في حاشيته على المقام ـ
من أنّ شرّ التراكيب هو التركيب من الوجود والعدم ؛ إذا كان العدم عدم الخير
والكمال ؛ إذ العدم سنخ آخر مقابل الوجود .... وأمّا التركيب من وجود ووجود فليس
تركيباً واقعياً ، إذا كان ما به الامتياز في الوجود بما هو وجود عين ما به
الاشتراك ـ فهو من الشعريات .
ثمّ يمكن أن يقال بإرجاع الاحتمال السابق إلى هذا
الاحتمال ، وأنّ المراد بالقوة هو العدم.
ثمّ إنّ هذا الدليل ، وإن كان بظاهره مختصّاً
بالصفات الكمالية ، غير أنّ مراد المستدل تعميمه للصفات الإضافية أيضاً ، والحق
أنّ الأُولى عين ذاته ، وليس للحق جهة إمكانية بالنسبة إليها ... ، وأمّا الثانية
فهي ممكنة له مع قطع النظر عن إعمال قدرته تعالى ، فإنّ ما استدل على القاعدة
المبحوث عنها في المقام غير تام ، كما يظهر من بطلان هذا الوجه والوجوه التالية .
الثاني : ما لعلّه المشهور من أنّ ذاته لو لم تكن
كافيةً فيما له من الصفات ، لكان شيء من صفاته حاصلاً له من غيره ، فيكون وجود ذلك
الغير علّةً لوجود تلك الصفة فيه تعالى ، وعدمه علّةً لعدمها ، وحينئذٍ لا يكون
ذاته تعالى إذا اعتبرت من حيث هي بلا شرط يجب لها الوجود ؛ لأنّها إمّا أن يجب مع
وجود تلك الصفة أو يجب مع عدمها ، فإن كان الوجوب مع وجود الصفة المذكورة ، لم يكن
وجودها من غيره ؛ لحصولها بذات الواجب من حيث هي هي بلا اعتبار حضور الغير ، ولو
جُعلت القضية وصفيةً لم يكن الوجوب له تعالى ذاتياً أزلياً ، وإن كان مع عدمها لم
يكن عدمها من عدم العلة وغيبتها ، ولو جُعلت الضرورة مقيّدةً لم تكن ذاتيةً أزلية
، وإذا لم يجب وجودها بلا شرط لم يكن الواجب لذاته واجباً لذاته ، وهذا خلف .
أقول : في الأسفار زيادة على ذلك أتمّ بها نظم
الاستدلال فلاحظ (6) .
هذا وكونه غير تام ؛ لِما أُورد عليه من النقض
بالنسب والإضافات اللاحقة لذات المبدأ بجريان الحجة المذكورة فيها ، فيلزم أن يكون
تلك الإضافات واجبة الحصول له تعالى بحسب مرتبة ذاته بلا مدخلية الغير فيها ، وأن
يمتنع تجدّدها وتبدّلها عليه تعالى ، مع أنّ ذات الواجب غير كافية في حصولها ؛
لتوقّفها على أُمور متغايرة متجدّدة متعاقبة خارجة عن الذات بالضرورة ، وهذا ممّا
لا خفاء فيه ؛ ولذا اعترف به الشيخ ابن سينا في محكي الشفاء (7) حيث قال : ولا
نبالي بأن يكون ذاته مأخوذةً مع إضافة ما ممكنة الوجود ، فإنّه من حيث هي علة
لوجود زيد ليست بواجبة الوجود بل من حيث ذاته . انتهى .
وقَبِله كثير من الأتباع كما قيل ، فهذه الحجة
أيضاً سقيمة وفيه إشكال آخر أيضاً تركناه مخافة التطويل .
وأمّا ما نسجه في الأسفار في إبرام هذا النقض فهو
أليق بمقام الخطابة ، بل كلّه مغالطة من باب أخذ ما في الذهن مكان ما في الخارج ،
كما نبّهنا عليه سابقاً فلاحظ وتأمل حتى يظهر لك الحال ، نعم لو تمّ قاعدة كون
بسيط الحقيقة كلّ الأشياء لصح بيانه ، كما صحّحه السبزواري بها على ما يظهر من
حاشيته على المقام ، لكنّها مزيّفة جدّاً ...
الثالث : إنّ كلّ ما هو ممكن للواجب من الصفات
توجبه ذاته ، وكلّ ما توجبه ذاته فهو واجب الحصول ، أمّا الكبرى فظاهرة ، وأمّا
الصغرى ؛ فلأنّها لو لم تصدق لكان وجوب وجود بعض الصفات بغير الذات ، فذلك الغير
إن كان واجباً لذاته لزم تعدّد الواجب ، وإن كان ممكناً فإمّا توجبه الذات ، فيلزم
كونها موجبةً للبعض الذي فرضناها غير موجبة إيّاه من الصفات ؛ إذ الموجب للموجب
موجب أَوّلاً ، بل يكون وجوبه بموجب ثانٍ يوجبه وننقل الكلام إليه ، فإمّا أن تذهب
سلسلة الموجبات إلى غير النهاية ، أو ينتهي إلى موجب يوجبه الذات ويلزم خلاف
المفروض ، والحاصل أنّ الذات لو لم توجب الصفات بأسرها لزم أحد الأُمور الممتنعة
من ، تعدّد الواجب ، والتسلسل ، وخلاف المفروض (8) .
أقول : يرد عليه ـ مضافاً إلى ابتنائه على زيادة
الصفات القديمة الباطلة التي تتخيّلها الأشاعرة ـ أنّ لزوم هذه المحاذير إنّما هو
في صورة تحقّق الصفة خارجاً ، وأمّا إن قلنا بعدم تحقّقها له تعالى مع إمكانها فلا
يلزم شيء منها كما ليس بسر ، وأمّا الأفعال فخروجها عن مدلول الدليل المذكور ظاهر
؛ لأنّها تابعة للإرادة دون الذات نفسها ، والعمدة التي يترتّب عليها جملة من
المسائل المختلف فيها ، هو وجوب الأفعال الذي لا دلالة للدليل عليه ، وأمّا وجوب
الصفات وعينيتها مع الذات المقدّسة ، فهو ممّا لا شبهة فيه ...
الرابع : ما ذكره الحكيم اللاهيجي (9) وغيره ، من
أنّه لو لم يجب ما أمكن في حقّه ، لزم افتقاره إمّا إلى نفسه فيلزم أن يكون الله
فاعلاً وقابلاً ، وإمّا إلى غيره فيلزم أيضاً ذلك المحذور لانتهاء غيره إليه .
أقول : بطلان كونه تعالى فاعلاً وقابلاً غير
مبيّن بل مرّ منعه ، بل هو أيضاً حقّق عدم بطلانه في مثل الشقّ الأَوّل في كتبه (10)
، هذا مع أنّه لو تمّ لَما جرى في أفعاله ؛ فإنّ وجوبها بإرادته التابعة للمِلاكات
الواقعية ، فلا يلزم الافتقار .
فتحصل أنّ هذه القاعدة لم تثبت في خواصّ الواجب
القديم .
3 ـ امتناع كونه جزءً للغير ، فالأجزاء إمّا
عقلية تحليلية مثل الجنس والفصل ، وإمّا خارجية مقدارية كأجزاء السكنجبين مثلاً ،
وإمّا غير مقدارية ـ أي معنوية ـ نحو المادة والصورة ، ولا يعقل أن يكون الواجب
جزءً لغيره بجميع هذه المعاني .
أمّا عدم كونه جزءً عقلياً ؛ فلأنّه موجود خارجي
، وأمّا عدم كونه جزءً مقدارياً ؛ فلأنّه ليس بمادي ولا كم له ، فلا يعقل عروض
المقدار له ، وأمّا عدم كونه جزءً معنوياً ؛ فلأنّ المحل ملتمس إلى الصورة في
فعليتها ، والصورة لابدّ لها من مادة تحلها ، فكلاهما لا يناسب الوجوب. وإن شئت
فقل : احتياج الحال إلى محله ، إمّا في الوجود كما إذا كان عرضاً ، أو في التشخّص
إذا كان صورةً ، وعلى كلا التقديرين يكون الحال ممكناً ولا سيما إن تشخّصه ـ تعالى
ـ بنفس وجوده .
وأيضاً تحقّق التركّب بتأثير الأجزاء وتأثّرها
بالضرورة ، والواجب لا يتأثّر من غيره ؛ وأيضاً المركّب إمّا واجب وإمّا ممكن ، لا
يصحّ الأَوّل ... ولامتناع قوام الواجب
بالممكن كما في صورة إمكان الجزء الآخر ، ولا يصحّ الثاني ؛ لاجتماع الوجوب
والإمكان في شيء واحد ؛ ضرورة أنّ المركب نفس الأجزاء ، فتدبّر .
4 ـ استحالة التركيب عليه ، أمّا تركّبه من
الأجزاء الخارجية فبطلانه واضح ؛ ضرورة احتياج المركّب إلى كل جزء بنفسه في تحقّقه
، والجزء غير الكل ، فكل مركّب محتاج إلى غيره في وجوده ، وهذا هو الإمكان المضاد
للوجوب .
وأيضاً الواجب لا يكون متكمّماً فلا مقدار له ،
وأيضاً المركّب لابدّ له من مركّب ـ بالكسر ـ والواجب لا فاعل له .
وأمّا تركّبه من الأجزاء العقلية ـ وإن فرض
بساطته خارجاً ـ فيفسده :
أوّلاً : إنّه لو كان له جنس وفصل لكان جنسه
مفتقراً إلى الفصل لا في مفهومه ومعناه ، بل في أن يوجد ويحصل بالفعل ، فحينئذٍ
نقول : ذلك الجنس لا يخلو إمّا أن يكون وجوداً محضاً أو مهية غير الوجود ، فعلى
الأَوّل يلزم أن يكون ما فرضناه فصلاً لم يكن فصلاً ؛ إذ الفصل ما يوجد به الجنس ،
وهذا إنّما يتصوّر إذا لم يكن حقيقة الجنس حقيقة الوجود ، وعلى الثاني يلزم أن
يكون الواجب ذا مهية ، والحال أنّه نفس الوجود .
ذكره صاحب الأسفار (11) ولعلّه تفصيل ما ذكره
الفارابي في الفصّ السابع من فصوصه .
وثانياً : إنّ المركّب محتاج إلى أجزائه العقلية
فيصير ممكناً ، وتنظّر فيه بعض المتكلّمين (12) فقال : إنّ الممكن هو ما يحتاج في
وجوده الخارجي إلى غيره ، والواجب ما لا يحتاج كذلك ؛ إذاً التقسيم الثلاثي
المتقدّم إنّما هو بملاحظة الوجود الخارجي ، فلو فرض تركّب الوجود من الأجزاء
الذهنية لا يلزم إلاّ احتياجه في التحقّق الذهني إلى أجزائه العقلية ، وهذا لا
ينافي الوجوب .
ويمكن أن يجاب عنه بأنّ تقسيم المفهوم إلى الجهات
الثلاث وإن كان بحسب الوجود الخارجي ، إلاّ أنّ الأجزاء العقلية موجودة في نفس
الأمر ؛ ضرورة عدم كونها من الاختراعيات ، فحينئذٍ يتوقّف وجوده في نفس
الأمر على غيره ، وهذا النحو من الافتقار أيضاً ينافي الوجوب ؛ إذ وجود الواجب
ضروري في حد نفسه ، فافهم .
وقال الفارابي في الفصّ التاسع من فصوصه : وجوب
الوجود لا ينقسم بأجزاء القوام مقدارياً كان أو معنوياً ـ يريد به الصورة والمادة
فقط ، أو مع الجنس والفصل ـ وإلاّ لكان كلّ جزء منه إمّا واجب الوجود فيتكثّر واجب
الوجود ، وإمّا غير واجب الوجود فهو أقدم بالذات من الجملة ، فيكون الجملة أبعد من
الجزء في الوجود . انتهى .
وهذا برهان متين ؛ إذ الواجب أقدم في الوجود من
جميع الممكنات فلا جزء ممكن له ...
5 ـ امتناع كون وجوده واجباً بذاته وبغيره معاً ،
ووجهه ظاهر ؛ ضرورة أنّ الواجب الوجود إنّما يستند وجوب وجوده إلى ذاته لا إلى
غيره أيضاً .
طريق آخر وهو : أنّ الغير الذي يُفرض استناد
الوجوب إليه ، إن كان واجباً ننقل الكلام إليه ، ونسأل عمّا به وجوبه الغيري
ليتسلسل ، وإن كان ممكناً يلزم الدور ؛ ضرورة توقّف وجوده ووجوبه الغيري على
الوجوب الذاتي ، فلو استند وجود الواجب ووجوبه إلى الممكن المذكور لَدار.
وأيضاً الوجوب الغيري يعرض للمعلول ، والمعلول
ممكن ، والمسألة واضحة جداً ، والصحيح أنّها ليست من خواصّ الواجب لجريانها في
الممكن أيضاً كما لا يخفى .
6 ـ تشخّصه بذاته ونفسه ، وإن قلنا بأنّ تشخّص
الموجودات بالعوارض لا بنفس وجوداتها الخاصة ؛ وذلك لأنّ الواجب لو تشخّص بغير
نفسه لاحتاج إلى ذاك الغير ، والوجوب لا يجامع الاحتياج .
وأيضاً إن كان هذا الغير واجباً ننقل الكلام إلى
تشخّصه حتى يتسلسل ، وإن كان ممكناً لزم تقدّم الشيء على نفسه ، وهو محال .
7 ـ تفرّده وعدم تعدّده ، فإنّ التعدّد يستلزم
الإمكان ولا يجامع الوجوب ؛ إذ الواجبان إمّا أن يكونا متساويين في تمام الذات ،
أو متخالفين كذلك ، أو يتشاركان في جهة ويفترقان من جهة ، ولا شق رابع .
والأَوّل باطل ؛ لاستلزام افتقار كلّ منهما إلى
التمييز بما هو خارج عن ذاتيهما ، وبالجملة حالهما حينئذٍ حال فردين من نوع واحد
في الاحتياج إلى المشخّصات الفردية ، وهو عين الإمكان .
قال الفارابي في الفصّ الخامس من فصوصه : ( كل
واحد من أشخاص الماهية المشتركة فيها ليس كونه تلك الماهية ، هو كونه ذلك (13)
الواحد وإلاّ لاستحال تلك الماهية لغير ذلك الواحد، فإذن ليس كونها ذلك الواحد
واجباً لها من ذاتها ، فهي بسبب وهي معلولة ) هذا ، مع أنّ المائز المذكور إن كان
واجباً ننقل الكلام إلى مائزه حتى يتسلسل ، وإن كان ممكناً فلا يصلح للتمييز ؛ إذ
نسبة كل ممكن إلى الواجبين على حد سواء ، فتأمّل جيداً ، مع أنّ وجود الممكن قبل
تشخّص الواجب باطل لكونه دورياً ، كما لا يخفى .
والثاني : فاسد ، فإنّ حقيقة كلّ منهما إن كانت
نقصاً يصير كلّ منهما ممكناً ؛ لأنّ النقص من لوازم الإمكان ولا يكون الواجب إلاّ
كمالاً خالصاً ، وإن كانت كمالاً وبهاءً يلزم خلو كلّ منهما من الكمال ؛ لفرض أنّ
كلاً منهما فاقد في نفسه حقيقة الآخر ، والخلو من الكمال لا يلائم الوجوب ؛ لِما
قلنا من استلزام النقص للإمكان .
وأمّا الثالث : فضعفه جلي ؛ لأنّ التركيب يمتنع
في حقّ الواجب ... وبهذا التقرير اندفع شبهة ابن كمونة ، بل لم يبقَ لها مجال
أصلاً ، فهذا البرهان مع قلّة مؤونته ، ووضوح أركانه ، كثير المعونة جداً ، إلاّ
أنّه متوقّف على استحالة النقص على الواجب ، ولزوم اتّصافه بكل كمال ...
ثمّ إنّ الكلام في هذا المقام طويل الذيل ...
8 ـ في أنّ الواجب ماهيّته إنيّته ، بمعنى أنّه
لا ماهية له سوى الوجود الخاصّ المجرّد عن مقارنة الماهية ، بخلاف الممكن كالإنسان
مثلاً ، فإنّ له ماهية هو الحيوان الناطق ، ووجوداً وهو كونه في الأعيان ،
واستدلّوا عليه بوجوه .
الأوّل : لو لم يكن وجود الواجب عين ذاته يلزم
كونه مع بساطته قابلاً وفاعلاً ؛ لأنّ وجوده ـ لكونه عرضياً لماهيته ـ يكون
معلولاً ؛ لأنّ كلّ عرضي معلول إمّا لمعروضه وإمّا لغيره ، فلو كان معلولاً لغيره
يلزم إمكانه ؛ إذ المعلولية للغير ينافي الواجبية ، فإذن الماهية تكون قابلةً
للوجود من حيث المعروضية ، فاعلةً له من حيث الاقتضاء ، وهذا ـ أي كون الماهية
فاعلةً وقابلةً ـ مستلزم للتركيب .
الثاني : لو كان وجوده زائداً عليه لزم تقدّم
الشيء بوجوده على وجوده ، وبطلانه ضروري.
بيان الملازمة : أنّ الوجود حينئذٍ يحتاج إلى
الماهية احتياج العارض إلى المعروض ، فيكون ممكناً ضرورة احتياجه إلى الغير ،
فيفتقر إلى علّة هي الماهية لا غير ؛ لامتناع افتقار الواجب في وجوده إلى الغير ،
وكلّ علّة فهي متقدّمة على معلولها بالضرورة ، فيكون الماهية متقدّم على وجودها
بوجودها .
أقول : وإن شئت فقل : إنّ الكلام فيما يكون
العلّة فيه علّةً للوجود أو الموجود في الخارج، وبديهة العقل حاكمة بوجوب تقدّمها
عليه بالوجود ، كما أفاده المحقّق الطوسي قدّس سره ، فما تخيّله الرازي الأشعري من
قياس المقام بقابلية الماهية وغيرها مزيّف جداً .
الثالث : لو كان زائداً يلزم إمكان زوال وجود
الواجب وهو ضروري الاستحالة ؛ وذلك لأنّ الوجود إذا كان محتاجاً إلى غيره كان
ممكناً ، وكان جائز الزوال نظراً إلى ذاته وإلاّ لكان واجباً لذاته ، مستقلاً في
حقيقته ، غير متعلّق بالماهية ، وهذا خلف .
الرابع : ما ذكره صاحب التلويحات ، واستحسنه صاحب
الأسفار ، وأوضحه بقوله : إنّه لمّا كان الوجوب والامتناع والإمكان من لوازم
الماهيات والذوات ؛ إذ المنظور إليه في تقسيم الشيء إلى الأُمور الثلاثة حاله في
نفسه مقيساً إلى الوجود ، فلو كان المفروض واجباً معنىً غير نفس الوجود ، يكون
معنىً كلياً له جزئيات بحسب العقل ، ( فإنّ كلّ ما يفصّله الذهن إلى معروض وعارض
وهو الوجود ، كان في مرتبة ذاته مع قطع النظر عن وجوده كلياً لا محالة ، وكلّ ما
له ماهية كلّية فنفس تصوّره ، لا يأبى عن أن يكون له جزئيات غير ما وقع إلاّ لمانع
خارج عن نفس ماهيّته ) .
فتلك الجزئيات إمّا أن يكون جميعها ممتنعةً
لذاتها ، أو واجبةً لذاتها ، أو ممكنةً لذاتها ، والشقوق الثلاثة بأسرها باطلة ؛
إذ الأَوّل ينافي الوجوب والوجود ، والثاني ينافي العدم فيما لم يقع، والثالث
ينافي الوجوب فيما يُفرض واقعاً ، وبطلان شقوق التالي بأسرها مستلزم لبطلان
المقدّم، وهو كون الواجب معنىً غير الوجود .
فإذن ، إن كان في الوجود واجب بالذات ، فليس إلاّ
الوجود الصرف المتأكد المتشخّص بنفسه ، لا يلحقه عموم ولا خصوص ، وإن شئت أن تطلع
على بطلان ما أُورد على هذه الحجّة فلاحظ الأسفار .
الخامس : إنّ الوجود لو كان زائداً على ماهية الواجب
لزم وقوعه تحت مقولة الجوهر، فيحتاج إلى فصل مقوّم فيتركب ذاته ، وهو محال .
السادس : كلّ ما صحّ على الفرد صحّ على الطبيعة
من حيث هي ؛ لأنّ اللابشرط ولا سيما المقسمي عين الفرد ، فصحّة شيء على الفرد عين
الصحّة على الطبيعة ، وكلّ ما امتنع على الطبيعة امتنع على أفرادها ، ولمّا لزم
قول الإمكان على بعض الجواهر ضرورةً ، صحّ وقوع الإمكان على مقولتها لذاتها ، فلو
دخل واجب الوجود تحت مقولة الجوهر ، للزم فيه جهة إمكانية باعتبار الجنس ، فلا
يكون واجب الوجود بالذات ، وهذا خلف ، فكل ما له ماهية زائدة على الوجود فهو إمّا
جوهر أو عرض ، فلا يكون للواجب ماهية كذلك .
قلت هذه الوجوه الستة بتغيير عمّا في الأسفار (14)
.
السابع : لو كان للواجب تعالى ماهية سوى الوجود ـ
ولو كانت ماهيةً بسيطة نوعية ـ لكان زوجاً تركيبياً ، والتالي باطل ، فالمقدّم
مثله .
بيان الملازمة : أنّ الواجب حينئذٍ مجموع الماهية
والوجود لا الماهية فقط ؛ إذ المراد بها ما هي مقابلة للوجود ، فليست من حيث هي
إلاّ هي ، فلا يمكن كونها بلا وجود حقيقة الواجب تعالى وهو ظاهر ، ولا من حيث
كونها ملزومة الوجود بحيث يكون الوجود خارجاً، والحقيقة نفس الماهية اللاموجودة واللامعدومة ، بل مجموع الماهية والوجود حقيقته
تعالى، وهذا لا يرتفع بجعل أحدهما لازماً والآخر ملزوماً ، كما أنّ التركيب لا
يُسلب عن الممكن بجعل الوجود عارضاً والماهية معروضةً أو بالعكس .
الثامن : لو كان له ماهية لم يكن محيطاً بكل
التعيّنات ؛ لأنّ خصوصية أيّة ماهية كانت، لا تجامع خصوصيات الماهيات الأُخر ،
فلابدّ أن يكون هو تعالى وجوداً يجامع كلّ التعيّنات ، وينبسط على كلّ الماهيّات .
التاسع : لو كان له ماهية لزم إمكان تعقّله للبشر
، واللازم باطل عقلاً واتّفاقاً ، فالملزوم مثله .
بيان الملازمة : أنّ سنخ الماهية ممكن التعقّل
والاكتناه أينما تحقّقت ، كما اشتهر أنّ التعريف للماهية وبالماهية ، ولو لم تعقل
بالفعل فلا أقلّ من إمكان التعقّل ، كما أنّ ماهية الإنسان ممكنة التعقّل وإن لم
يعقلها العامّي بالفعل ، ولو فرض أنّ الممكن لم يكن له ماهية لم يمكن تعقّله أيضاً؛
إذ وجوده الخارجي لا يحصل في الذهن وإلاّ لانقلب .
ذكر هذه الوجوه الثلاثة الحكيم السبزواري في
حاشيته على الأسفار (15) في هذا المقام ، وله وجه رابع قرّره في حاشيته على إلهيات
الأسفار ، لكن لم نرَ لزوماً لنقله .
العاشر : لو كان وجوده زائداً عليه ، حتى يكون
ألفاً موجوداً مثلاً ، لم يكن في حدّ ذاته مع قطع النظر عن العارض موجوداً ولا
معدوماً ، كما حقّق في مبحث الماهية ، وكلّما كان كذلك فهو ممكن ؛ لأنّ اتصّافه
بالوجود إمّا بسبب ذاته وهو محال ؛ إذ الشيء ما لم يوجد لم يوجد ، فيلزم تقدّمه
بالوجود على نفسه وهذا خلف ، وإمّا بسبب غيره فيكون معلولاً فلا يكون واجباً بل
ممكناً.
نقله في إلهيات الأسفار ، وربّما يُقرّر (16)
بأنّ اتّصاف الشيء بالوجود لابدّ له من علّة بها يصير متصفاً بالوجود ، فتلك
العلّة إمّا ذات الشيء أو غيرها ، وعلى الأَوّل يلزم تقدّم الشيء على الوجود
بالوجود ؛ ضرورة تقدّم المحتاج إليه على المحتاج بالوجود ، فيلزم التسلسل أو تقدّم
الشيء على نفسه ، وعلى الثاني يلزم إمكان الواجب وهو واضح .
الحادي عشر : لو كان الوجود زائداً لكان ذاته
فاقداً في ذاته للوجود خالياً عنه ، فلم تكن موجوديته نظراً إلى ذاته بذاته ، بل
تحتاج موجوديته إلى غير الذي هو وجوده ، فيلزم إمكانه (17) .
الثاني عشر : إنّه لو كان للواجب ماهية ووجود ،
فإن كان الواجب هو المجموع لزم تركّبه ولو بحسب العقل ، وإن كان أحدهما لزم
احتياجه ؛ ضرورة احتياج الماهية في تحقّقها إلى الوجود ، واحتياج الوجود لعروضه
إلى الماهية ، نقله القوشجي في شرحه على التجريد (18) .
تحليل وتنقيد :
وهذه هي الوجوه التي استدلّوا بها على المدعى ،
وقبل التفتيش فيها لابدّ من إرجاع النظر إلى أصل الدعوى ؛ لتحليلها وتصويرها بصورة
معقولة ، فإنّ المسألة نفسها مجملة محجوبة ، فها هنا موقفان :
الموقف الأَوّل : في تحليل نفس المدعى ، وأنّه ما
هو مقصودهم من نفي الماهية عنه تعالى ، وأنّها عين وجوده ؟
فنقول :
إنّ كل ممكن زوج تركيبي له ماهية ووجود ، أحدهما
تأصلي والآخر اعتباري انتزاعي ، ولا يصح تأصّلهما معاً ؛ لِما ذكره السبزواري في
أوائل شرح منظومته وحاشيتها ، واختلفوا في الأصيل منهما فذهب بعضهم إلى أنّه
الماهية والمنتزع هو الوجود ، فالمجعول بالذات هو الماهية نفسها ، والوجود يُنتزع
من تحقّقها خارجاً ، وذهب الآخرون إلى أنّه الوجود والماهية هي المنتزعة من حدود
الوجود ، وقد استقرّ عليه المذهب من زمن صاحب الأسفار .
بيان ذلك : أنّه لا خلاف يعتد به بين المشّائين
وأهل الإشراق وغيرهم من المحقّقين ، في أنّ الكلّي الطبيعي المعبّر عنه بالماهية
في ألسنة الحكماء ـ أي المقسم للمطلقة والمجرّدة والمخلوطة ـ موجود ، إلاّ أنّ
الخلاف في أنّه بعد جعل الجاعل موجود بالأصالة والوجود واسطة في الثبوت، أو موجود
بالعرض والوجود واسطة في العروض .
والأَوّل هو معنى أصالة الماهية ، والثاني هو
معنى أصالة الوجود ، والمراد من الواسطة بالعروض هو قسم خاصّ منها ، وهو ما لا
تحصّل للمعروض بدون الواسطة ، كما صرّح به السبزواري في حاشية الأسفار (19) ، إذا
تقرّر ذلك فيتّضح لك معنى مسألتنا المبحوث عنها ، وأنّه يختلف باختلاف القولين
المتقدّمين .
أمّا على القول بأصالة الماهية فإليك ـ في تفسير
مقصود المسألة ـ تعبير الدواني الذي هو من المصرّين على أصالتها قال : هذا المعنى
العام المشترك فيه ( يعني به مفهوم الوجود) من المعقولات الثانية ، هو ليس عيناً
بشيء منها حقيقةً ، نعم مصداق حمله على الواجب ذاته بذاته، ومصداق حمله على غيره
ذاته من حيث هو مجعول الغير ، فالمحمول في الجميع زائد بحسب الذهن ، إلاّ أنّ
الأمر الذي هو مبدأ انتزاع المحمول في الممكنات ذاتها ، من حيثية مكتسبة من الفاعل
، وفي الواجب ذاته بذاته ، فإنّه وجود قائم بذاته ، فهو في ذاته بحيث إذا لاحظه
العقل انتزع منه الوجود المطلق بخلاف غيره (20) انتهى .
وهذا هو ظاهر المحقّق اللاهيجي أيضاً في ( گوهر
مراد ) .
وأمّا على القول بأصالة الوجود ، فإليك تقرير
صاحب الأسفار الذي هو كالمؤسس لهذا القول ـ أي أصالة الوجود ـ قال : فقولهم : إنّ
الوجود زائد في الممكن عين في الواجب ، معناه أنّ ذات الممكن وهويّته ليست بحيث
إذا قُطع النظر عن موجده ومقوّمه يكون موجوداً وواقعاً في الأعيان؛ لأنّ الهويات
المعلولية ـ كما مرّ ـ فاقرات الذوات إلى وجود جاعلها وموجدها ، فوجود الممكن حاصل
بالجعل البسيط ، فوجود الجاعل مقوّم للوجود المجعول ، فلو قُطع النظر إلى وجوده عن
جاعله لم يكن وجوده متحقّقاً ـ كما علمت ـ بخلاف الواجب جلّ ذكره ، فإنّه موجود
بذاته لا بغيره، فالممكن لا يتمّ له وجود إلاّ بالواجب ، فوجود الواجب تمام لوجود
غيره ، وهو غني الذات عن وجود ما سواه ، فثبت أنّ الوجود زائد في الممكن عين في
الواجب ، تأمّل فيه فإنّه حقيق بالتدقيق (21) انتهى . وقد ذكره في مبحث عموم علمه
تعالى أيضاً .
وقال في الشوارق : إنّ هذا المعنى هو مراد
الحكماء وهو المطابق للبرهان (22) .
أقول : فعلى هذا تصبح المسألة ـ على رغم اهتمام
الباحثين بها ـ لغواً لا أثر لها ؛ إذ معنى الواجب الوجود هو أن لا يكون له حيثية
تعليلية ، وأنّ ذاته بذاته مصداق لحمل الوجود الاعتباري عليه بلا جهة مكتسبة من
الغير ، أو أنّ وجوده قائم بنفسه لا بغيره ، فليس في هذه المسألة شيء زائد يكون
خاصة للواجب ، بل مفادها تشريح مفهوم الواجب فقط ، فتأمّل .
فإن قال قائل : إنّ الأدلة القائمة على وجود
الواجب تنفي الواسطة في الثبوت ، ولا تتكفل بإبطال الواسطة بالعروض ، بل هو من
ثمرة هذه المسألة .
نقول له : أمّا على القول بأنّه تعالى ماهيّة
مخالفة لسائر الماهيّات فلا مسرح لهذا الكلام ، فإنّ الأدلة المذكور إذا أبطلت
الواسطة في الثبوت ، تبطل الواسطة في العروض أيضاً ، كما هو غير خفي على مَن أمعن
النظر .
وأمّا على القول بأنّه وجود بحت قائم بنفسه ،
فالأدلة المزبورة وإن لم تكن كافيةً لنفي الواسطة في العروض ؛ لاحتمال أن يكون
لوجوده ماهية موجودة ـ كما في الممكن ـ ويحمل الوجود عليها بالواسطة في العروض ،
إلاّ أنّ نفيها غير لازم ، فإذا قيل : إنّ الواجب حقيقته وجود بحت لا علّة له ولا
واسطة في العروض له ، ولكن له ماهية اعتبارية تُنتزع من وجوده ، وهي
موجودة بسبب وجوده ، لا محذور فيه ، فتأمل جيداً
.
الموقف الثاني : في صحة تلك الوجوه وسقمها :
فنقول : أمّا الوجه الأَوّل فيزيّف بمنع استلزام
كونه فاعلاً وقابلاً تركّبه ... وحقّ الجواب أنّه لا علّية في المقام ؛ إذ الوجود
ـ بناءً على أصالة الماهية ـ ليس أمراً متحقّقاً ومتأصّلاً ، بل مفهوم انتزاعي على
الفرض فلا يقع معلولاً كما هو ظاهر جداً .
وأمّا بناءً على أصالته فالماهية شيء اعتباري ،
فلا معنى لتأثّرها من الوجود تأثر المسبّب من سببه . ولعمري إنّ حديث العلّية في
المقام ظاهر البطلان ، ومنه ينبثق ضعف الوجه الثاني أيضاً ؛ لابتنائه على تخيّل
السببية .
وأمّا الوجه الثالث فيفسده أنّ إمكان الوجود
الذاتي لا يستلزم إمكان زواله عن الماهية ؛ لاحتمال وجوبه لها كالزوجية للأربعة ،
وبعبارة صناعية : أنّ الإمكان الذاتي لشيء لا ينافي وجوبه الذاتي على نحو مفاد (
كان الناقصة ) .
وأمّا الوجه الرابع فهو متين ؛ تصويباً لنظر
الحكيم الشيرازي والشيخ السهروردي ، إلاّ أنّ مفاده أنّ حقيقة الواجب هو الوجود لا
الماهية ، فالباحث وإن قال بأصالة الماهية في الممكن ، لكن لابدّ له من القول
بأصالة الوجود في الواجب من جهة هذا الدليل ، وأمّا نفي الماهية المنتزعة عن
الوجود الخاصّ الخارجي ـ كما هو محلّ الكلام ـ فلا نظارة للدليل إليه، فتأمّل .
أمّا الوجه الخامس فهو ممنوع بما لا يخفى على
أهله ، ويلحق به الوجه السادس أيضاً .
وأمّا السابع فضعفه لائح لمنع لزوم التركّب فيه ؛
إذ حقيقة الواجب هو الوجود الخاص فقط أو الماهية فقط ؛ إذ كلّ منهما ـ على القول
بأصالة الآخر ـ أمر اعتباري محض ، فلا موضوع للتركّب أبداً .
وأمّا الثامن فهو ساقط ، فإنّه إن أُريد من
الإحاطة الإحاطة من حيثية القدرة والعلم والفيض ونحوها ، فالملازمة ممنوعة ، وسند
المنع واضح ؛ وإن أُريد منها ما يتضمّنه قاعدة : إنّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء ،
فالتالي غير باطل ... أنّ القاعدة المذكورة باطلة ولو على القول بأصالة الوجود ،
نعم إنّ الله داخل في الأشياء لكن لا كدخول شيء في شي ، كما أنه خارج منها لكن لا
كخروج شيء من شيء ، وتفصيل الكلام في غير المقام .
وأمّا التاسع فلا يتّسع ؛ إذ الماهية وإن كانت ـ
بسنخها ـ قابلةً للاكتناه بها ، إلاّ أنّه ما لم يمنع عنه مانع كما في المقام ؛ إذ
عدم تناهيها يُبطل إمكان تعقّلها واكتناهها للمدرك المحدود ، نعم لو التزمنا بوجود
ممكن غير محدود فنلتزم بإمكان تعقّلها له .
وأمّا العاشر فغير نافع ؛ إذ بناءً على أصالة
الماهية يكون الوجود يُنتزع عنها ، وهي منشأ لانتزاعه ، فكيف لا تكون موجودةً في
نفسها وإن منع من إطلاق لفظ الموجود ؟ فنقول : إنّها بنفسها متحقّقة واجبة الصدق
خارجاً فأنّى يلزم إمكانها ؟ وأمّا التقرير الثاني ففيه : إنّ اتّصاف الماهية
بالوجود لا يحتاج إلى علّة ؛ إذ هو ذاتي لها ، ونعني بالذاتي الذاتي في كتاب
البرهان .
وملخّص الكلام أنّ الوجود ضروري الثبوت للماهية
فهو من لوازمها ، وقد تقرّر أنّ الجعل لا يتعلّق باللوازم استقلالاً ، بل يتعلّق
بها بتبع الجعل المتعلّق بالملزومات ، وإذا كان الملزوم غير قابل للجعل ـ كما في
المقام ـ فلا يكون اللازم أيضاً مجعولاً لا مستقلاً ولا تبعاً ، فمرادنا من ضرورية
الوجود لماهية ، ليس هو الوجوب الغيري كما زعمه المحقّق اللاهيجي، بل الوجوب
الذاتي بنحو مفاد ( كان الناقصة ) ، ومثل هذه الضرورة لا تنافي الإمكان ، بل
المنافي له هو الضرورة بنحو مفاد ( كان التامّة ) وهذا واضح ، وبهذا البيان ينهدم
ما أورده المحقّق المذكور في شوارقه (23) ، والدواني في حواشيه على شرح القوشجي
فتأمّل .
وأمّا الوجه الحادي عشر فيفسده ما أفسد الوجه
العاشر ، ولا ينكره إلاّ القاصر .
وأمّا الوجه الأخير فلا خير فيه عند الخبير بما
تقدّم من النظير والله الهادي .
ويمكن أن يفسّر قولهم : إنّ ماهيّته إنيّته ،
وإنّ للممكن ماهيّة انتزاعية من وجوده ، بأن لا حدّ للواجب بخلاف الممكن فإنّه
محدود ؛ وذلك لأنّ الماهية تنتزع من حدود الوجود ، فما له ماهيّة يكون ذا حدّ
وتناهٍ ، وما ليس له ماهيّة لا حدّ له ولا نهاية له ، قال الحكيم الشيرازي في بعض
كلماته : والوجود الإمكاني لا تعيّن له إلاّ بمرتبة من القصور ودرجة من النزول ،
ينشأ منها الماهية ، وينتزع بحسبها المعاني الإمكانية ... (24) إلخ فتأمّل جيداً .
ونختم المقام بجملة من رواية هشام بن الحكم
المروية في الكافي ، وهي قول السائل للصادق ( عليه السلام ) : فله ـ أي الله تعالى
ـ إنيّة ومائية ؟ قال ( عليه السلام ) : ( نعم لا يثبت الشيء إلاّ بإنيّة ومائية
... إلخ ) (25) ، وللشرّاح حولها كلمات يراجع إليها طالبها والله الهادي .
وأمّا ما نُقل عن جمهور المتكلّمين (26) ، من أنّ
الوجود عرض قائم بالماهية في الواجب والممكن جميعاً قيام الأعراض ، ففيه منع جداً
.
____________________
(1) شرح الباب الحادي عشر / 16.
(2) الأسفار 1 / 122.
(3) الأسفار 1 / 159.
(4) سرمايه إيمان / 32.
(5) الأسفار 1 / 137.
(6) الأسفار 1 / 124.
(7) الأسفار 1 / 126.
(8) شرح الهداية / 149.
(9) لا يحضرني الآن موضع هذا الكلام في كتبه ،
نعم هو مذكور في الصفحة 16 من شمع اليقين لابنه الميرزا حسن .
(10) گوهر مراد / 193.
(11) المجلد الثاني .
(12) شرح القوشجي على التجريد / 52.
(13) في العبارة نوع غموض والمراد واضح .
(14) الأسفار 1 / 96 ـ 108.
(15) الأسفار 1 / 106 ـ 107.
(16) كما نقله في الشوارق 1 / 99.
(17) ذكره بعض محشي الشوارق 1 / 99.
(18) شرح التجريد / 57.
(19) الأسفار 1 / 38.
(20) نقله في الأسفار 2 / 11.
(21) الأسفار 2 / 11.
(22) الشوارق / 105. فبين كلامه هذا وما ذكره في
گوهر مراد / 144 تغاير.
(23) الشوارق 1 / 100.
(24) الأسفار 1 / 187.
(25) الكافي 1 / 84.
(26) الأسفار 1 / 249.
|
|
4 أسباب تجعلك تضيف الزنجبيل إلى طعامك.. تعرف عليها
|
|
|
|
|
أكبر محطة للطاقة الكهرومائية في بريطانيا تستعد للانطلاق
|
|
|
|
|
العتبة العباسية المقدسة تبحث مع العتبة الحسينية المقدسة التنسيق المشترك لإقامة حفل تخرج طلبة الجامعات
|
|
|