أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-05-2015
506
التاريخ: 27-05-2015
533
التاريخ: 27-05-2015
3761
التاريخ: 27-05-2015
924
|
1 ـ المذهب الفقهي
لم يكن لأهل السنّة والجماعة في القرون الأُولى إلى القرن السابع مذهب فقهي خاص يقتفون أثره ، بل كانت لهم مذاهب فقهية مختلفة متشتّتة غير أنّ يد السياسة حصرت المذاهب الفقهية في الأربعة المعروفة وهي : الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي وألغت سائر المذاهب ولم تعترف بها. قال المقريزي : استمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة 665 حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة ، وعودي من تمذهب بغيرها وأنكر عليه ، ولم يول قاض ، ولا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب ، وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدّة ، بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها ، والعمل على هذا إلى اليوم (1) .
وهذه الكلمة الأخيرة ، أعني قوله : وتحريم ما عداها تكشف عن رزية فادحة ألمت بالإسلام حيث إنّ المسلمين قد عاشوا قرابة سبعة قرون ، ومات فيها على دين الإسلام ما لا يحصي عددهم إلاّ خالقهم ولم يسمع أحد في القرنين الأوّلين اسم هذه المذاهب. ثمّ في ما بعدهما كان المسلمون بالنسبة إلى الأحكام الشرعية في غاية من السعة والحرية ، وكان العامي يقلّد من اعتمد من المجتهدين ، وكان المجتهدون يستنبطون الأحكام من الكتاب والسنّة على موازينهم المقررة عندهم في العمل بالكتاب والسنّة ولم يعلم وجه لهذا الحصر وأنّه ليس لأحد من المقلّدين أو الفقيه المجتهد أن يخرج عن حدّ تقليد الأئمّة الأربعة ، فبأي دليل شرعي صار اتّباع المذاهب الأربعة واجباً مخيراً والرجوع إلى غيرها حراماً باتاً مع أنّا نعلم أنّ هذه المذاهب نشرت في ما نشرت من المناطق بالقهر والغلبة من الحكومات الإسلامية ، فالحكومة التي كان يروقها الفقه الحنفي كانت تباشر نشره وتكبت غيره وتسد الطريق أمامه ، والحكومة التي كان يروقها غير الحنفي تعمل مثل عمل الحكومة الأُولى ، وقد أشعلت السياسات الخادعة نيران العداء بين أتباع المذاهب الأربعة طول القرون (2) ، وعاد وعاظ السلاطين ينحتون لكلّ إمام من الأئمّة الأربعة فضائل ومناقب صدرت عن النبي قبل ميلادهم وإمامتهم. (3)
هذا حال الدعامة الأُولى ولا نطيل البحث فيها ، والذي يجب أن يستنتج ممّا ذكرناه هو أنّ من يحلم بخلود الدين وبقاء قوانينه ويرغب في غضاضة الدين وطراوته وصيانته عن الاندراس وغناء المسلمين عن موائد الأجانب ، يجب عليه السعي في فتح باب الاجتهاد ، سواء أُوافق رأي الأئمّة الأربعة أم خالفها. (4)
ونعني به الأُصول التي يعتنقها أهل السنّة في هذا الجيل والأجيال المتقدّمة إلى زمن الإمام أحمد حول المبدأ والمعاد وأسمائه سبحانه وصفاته وما يرجع إلى الإنسان في عاجله وآجله.
ولا شكّ أنّ هذه الأُصول قد دونت ورتبت في الكتب الكلامية للحنابلة بصورة بسيطة ، وفي كتب الأشاعرة بصورة علمية مبرهنة ... والذي نركز عليه هو أنّ هذه الأُصول على اختلاف في عددها وإن صارت عقيدة لأهل السنّة في هذه الأجيال ولكنّها أُصول اجتمعوا عليها منذ تصدّر أحمد ابن حنبل منصة الإمامة في العقائد والمعارف واستخرجها من السنّة ودوّنها في رسائله ، وذكر أنّها عقائد أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنّة المتمسكين بعروتها ، المعروفين بها ، المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي إلى يومنا هذا من علماء الحجاز والشام وغيرهم.
ولكن الحقيقة غير ذلك بل كان المسلمون ، أعني : بهم أصحاب الحديث ، السنّة قبل تصدّر أحمد لمنصة الإمامة في مجال العقائد على فرق وشيع ولم تكن هذه الأُصول برمتها مقبولة عندهم ، وإنّما الإمام أحمد وحدهم على تلك الأُصول وقضى على سائر المذاهب الدارجة بين أهل الحديث أنفسهم ، فنسبة هذه الأُصول إلى إمام الحنابلة أقرب إلى الحقيقة من نسبتها إلى الصحابة والتابعين وتابعي التابعين. والغافل عن تاريخ حياة الإمام وتأثيره في نفوس المسلمين وما كسب بعد الإفراج من العطف والحنان يتخيل أنّ هذه الأُصول مذهب أهل السنّة مع أنّه لم يكن لهذه الأُصول بهذا النحو ، أثر قبله ، بل كان المحدّثون مختلفين في كثير من هذه الأُصول. فصار الإجماع والاتّفاق من جانب الإمام سبباً لتناسي ما كانوا عليه من العقائد.
إنّ الإمام أحمد لمّا ظهر منه الصمود والثبات في طريق العقيدة ( عدم خلق القرآن وقدمه ) وتحمّل المحنة إلى أن أُفرج عنه في أيّام المتوكّل وقرّبه الخليفة إلى بلاطه ، صار ذلك سبباً لشهرته وإمامته في مجال العقائد ، وقد جعلت المحنة من ذلك الرجل الصمود ، بطلاً سامياً تهوي إليه الأفئدة ، وتخضع له الأعناق ، أضف إليه أنّه جنّد بلاط الخليفة جهوده لترويج أفكاره وآرائه ، فعند ذلك صار أحمد إمام السنّة وناصرها ، فصارت السنة ما قاله أحمد ، والبدعة ما هجره أحمد ، وكأنّهم نسوا أو تناسوا ما كان عليه أسلافهم من الفرق المختلفة.
وعلى ضوء هذا فليس المذهب الحنبلي العقائدي ، مذهباً لعامة أهل الحديث واهل السنّة وإنّما هو مذهب الإمام أحمد ، وقد أخذت هذه الأُصول بالانتشار والشيوع عندما انقلب الوضع أيّام المتوكل وبعده لصالحه ، ولولا أنّ المحنة استبطلت الرجل وخلقت منه رجلاً مثالياً شجاعاً في طريق العقيدة ، لكان المذهب السنّي في الناحية العقائدية غير مجمع على هذه الأُصول التي يتخيل أنّها أُصول اتّفق عليها أصحاب النبي والتابعون لهم بإحسان إلى زمن إمامة أحمد.
وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا ـ أي اختلاف آراء أهل الحديث وتشتت مذاهبهم في مجال العقائد ـ فاستمع لما يقوله السيوطي ويذكره في هذا المجال ونحن نأتي بملخّص ما ذكره ذلك المحدّث الخبير وهو يكشف عن وجود المسالك المختلفة والأهواء المتضادة عند أهل الحديث ، وأنّهم لم يكونوا قط على وتيرة واحدة حسبما وحدهم إمام الحنابلة فهم كانوا بين :
مرجئي يرى أنّ العمل ليس جزءاً من الإيمان وأنّه لا تضر معه معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة ، ونقدم إليك بعض أسمائهم من الذين عاشوا قبل إمامة أحمد أو عاصروه ، نظراء :
1 ـ إبراهيم بن طهمان ، 2 ـ أيّوب بن عائذ الطائي ، 3 ـ ذر بن عبد اللّه المرهبي ، 4 ـ شبابة بن سوار ، 5 ـ عبد الحميد بن عبد الرحمن ، 6 ـ أبو يحيى الحماني ، 7 ـ عبد المجيد بن عبد العزيز ، 8 ـ ابن أبي راود ، (صلى الله عليه واله وسلم) ـ عثمان بن غياث البصري ، 10 ـ عمر بن ذر ، 11 ـ عمر بن مرة ، 12 ـ محمد بن حازم ، 13 ـ أبو معاوية الضرير ، 14 ـ ورقاء بن عمر اليشكري ، 15 ـ يحيى بن صالح الوحاظي ، 16 ـ يونس بن بكير.
إلى ناصبي لعلي وأهل بيته الطاهرين : ، نظراء :
1 ـ إسحاق بن سويد العدوي ، 2 ـ بهز بن أسد ، 3 ـ حريز بن عثمان ، 4 ـ حصين بن نمير الواسطي ، 5 ـ خالد بن سلمة الفأفاء ، 6 ـ عبد اللّه بن سالم الأشعري ، 7 ـ قيس بن أبي حازم.
إلى متشيع يحب علياً وأولاده ويرى الولاء فريضة نزل بها الكتاب ويرى الفضيلة لعلي في الإمامة والخلافة ، نظراء :
1 ـ إسماعيل بن أبان ، 2 ـ إسماعيل بن زكريا الخلقاني ، 3 ـ جرير بن عبد الحميد ، 4 ـ أبان بن تغلب الكوفي ، 5 ـ خالد بن محمد القطواني ، 6 ـ سعيد بن فيروز ، 7 ـ أبو البختري ، 8 ـ سعيد بن أشوع ، (صلى الله عليه واله وسلم)ـ سعيد بن عفير ، 10 ـ عباد بن العوام ، 11 ـ عباد بن يعقوب ، 12 ـ عبد اللّه بن عيسى ، 13 ـ ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، 14 ـ عبد الرزاق بن همام ، 15 ـ عبد الملك بن أعين ، 16 ـ عبيد اللّه بن موسى العبسي ، 17 ـ عدي بن ثابت الأنصاري ، 18 ـ علي بن الجعد ، 19 ـ علي بن هاشم بن البريد ، 20 ـ الفضل بن دكين ، 21 ـ فضيل بن مرزوق الكوفي ، 22 ـ فطر بن خليفة ، 23 ـ محمد بن جحادة الكوفي ، 24 ـ محمد بن فضيل بن غزوان ، 25 ـ مالك بن إسماعيل أبو غسان ، 26 ـ يحيى بن الخراز.
إلى قدري ينسب محاسن العباد ومساويهم ومعاصيهم إلى أنفسهم ولا يسند فعلهم إلى اللّه سبحانه ، نظراء :
1 ـ ثور بن زيد المدني ، 2 ـ ثور بن يزيد الحمصي ، 3 ـ حسان بن عطية المحاربي ، 4 ـ الحسن بن ذكوان ، 5 ـ داود بن الحصين ، 6 ـ زكريا بن إسحاق ، 7 ـ سالم بن عجلان ، 8 ـ سلام بن مسكين ، (صلى الله عليه واله وسلم)ـ سيف بن سلمان المكي ، 10 ـ شبل بن عباد ، 11 ـ شريك بن أبي نمر ، 12 ـ صالح بن كيسان ، 13 ـ عبد اللّه بن عمرو ، 14 ـ أبو معمر عبد اللّه بن أبي لبيد ، 15 ـ عبد اللّه بن أبي نجيح ، 16 ـ عبد الأعلى ابن عبد الأعلى ، 17 ـ عبد الرحمن بن إسحاق المدني ، 18 ـ عبد الوارث بن سعيد الثوري ، 19 ـ عطاء بن أبي ميمونة ، 20 ـ العلاء بن الحارث ، 21 ـ عمرو بن زائدة ، 22 ـ عمران بن مسلم القصير ، 23 ـ عمير بن هاني ، 24 ـ عوف الأعرابي ، 25 ـ كهمس بن المنهال ، 26 محمد بن سواء البصري ، 27 ـ هارون بن موسى الأعور النحوي ، 28 ـ هشام الدستوائي ، 29 ـ وهب بن منبه ، 30 ـ يحيى بن حمزة الحضرمي.
إلى جهمي ينفي كلّ صفة للّه سبحانه ويعتقد بخلق القرآن وحدوثه ، نظير : بشر بن السرى.
إلى خارجي ينكر على أمير المؤمنين مسألة التحكيم ويتبرأ منه ومن عثمان ومن طلحة والزبير وأُمّ المؤمنين عائشة ومعاوية وغيرهم ، نظراء :
1 ـ عكرمة مولى ابن عباس ، 2 ـ الوليد بن كثير.
إلى واقفي لا يقول في التحكيم أو في القرآن بشيء من الحدوث والقدم وإنّه مخلوق أو غير مخلوق ، نظير : علي بن هشام.
إلى متقاعد يرى لزوم الخروج على أئمّة الجور ولا يباشره بنفسه ، نظير : عمران ابن حطّان. (5)
إلى غير ذلك من ذوي الأهواء والآراء الذين قضى عليهم الدهر وعلى آرائهم ومذاهبهم بعد ما وصل أحمد بن حنبل إلى قمة الإمامة في العقائد. فصار أهل الحديث مجتمعين تحت الأُصول التي استخرجها أحمد وجعل الكلّ كتلة واحدة ، بعد ما كانوا على سبل شتى.
هذه ملحمة أهل الحديث وقصة مذهبهم الفقهي والعقائدي ، والأسف أنّ المفكّرين من أهل السنّة يتخيّلون أنّ هذه الأُصول التي يدينون بها باسم عقيدة السلف الإسلامية قبل التحاق الأشعري به وباسم عقيدة الإمام الأشعري بعد التحاقه هي نفس الأُصول التي كان عليها المسلمون الأُول إلى زمن الإمام أحمد وزمن الملتحق بهم الشيخ الأشعري.
وهذا التاريخ الواضح يفرض على المفكّرين المتعطّشين لمعرفة الحقّ دراسة هذه الأُصول من رأس حتى لا يعبأوا بما جاء في هذه الكتب ممّا عليه ماركة « عقيدة السلف » أو « عقيدة الصحابة والتابعين » أو تابعي التابعين.
والذي يوضح ذلك هو أنّ كلّ واحد من هذه الأُصول ردّ لمذهب نجم في القرون الأُولى ، فلأجل التبرّي منه صار خلافه شعاراً لمذهب أهل السنّة.
لا شكّ أنّ الفقه المنسوب إلى أحمد هو أحد المذاهب الفقهية المعروفة وتقتفيه جماعة كثيرة في الحجاز ونجد والشامات ، ولكن هذا الفقه المدوّن لا يمت إلى الفقه إلاّ بصلة ضعيفة ، وذلك لأنّ الإمام لم يكن إمام الفقه والاجتهاد بل كان إمام الحديث ، فكان يعد أكبر محدث في عصره ، وأعظم حافظ للسنّة ، وأمّا الاجتهاد بالمعنى المصطلح الذي كان يتمتع به سائر الأئمّة الأربعة ، فلم يكن متوفراً فيه إلاّ ببعض مراتبه الضئيلة التي لا يصحّ عدّه معها أحد الأئمّة الفقهاء ، فإنّ للاجتهاد مؤهّلات وشرائط محررة في محلها ، أعظمها وجود ملكة قدسية يقتدر معها الإنسان على استخراج الفروع عن الأُصول ، وأمّا الإفتاء بالحكم في ضوء النصّ الصريح الوارد فيه فليس إلاّ مرتبة ضعيفة من الاجتهاد ، والاجتهاد المطلق يستدعي ذهناً وقّاداً ، مشققاً للفروع ، ومستخرجاً إيّاها من الأُصول ، إلى غير ذلك ممّا يقوم به أئمّة الفقه ، والمعروف من الإمام أحمد غير ذلك ، فإنّ اجتهاده كان أشبه باجتهاد الأخباريين والمحدّثين الذين يفتون بنصّ الحديث ويتوقفون في غير مورده.
وأمّا المذهب الفقهي الحنبلي الدارج بين الحنابلة فقد جمع أُصوله تلميذ الإمام « الخلاّل » من هنا وهناك ، ومن الفتاوى المتشتتة الموجودة بين أيدي الناس حتى جعله مذهباً للإمام أحمد ، وجاء من جاء بعده فاستثمرها واستغلها حتّى صار مذهباً من المذاهب.
كلام للذهبي
قال : « وقد دوّن عنه كبار تلامذته مسائل وافرة في عدّة مجلدات. ثمّ ذكر أسامي عدّة من تلاميذه الذين جمعوا مسائل الإمام وفتاواه ، وقال : جمع أبو بكر الخلال سائر ما عند هؤلاء من أقوال أحمد وفتاويه وكلامه في العلل والرجال والسند والفروع حتى حصل عنده من ذلك ما لا يوصف كثرة ورحل إلى النواحي في تحصيله وكتب عن نحو من مائة نفس من أصحاب الإمام ، ثمّ كتب كثيراً من ذلك عن أصحاب أصحابه ، وبعضه عن رجل ، عن آخر ، عن آخر ، عن الإمام ، ثمّ أخذ في ترتيب ذلك وتهذيبه وتبويبه ، وعمل كتاب العلم وكتاب العلل وكتاب السنة ، كلّ واحد من الثلاثة في ثلاثة مجلدات » (6).
فلو صحّ ما ذكره الذهبي فهو يعرب عن أنّ الإمام أحمد لم يكن رجلاً متربعاً على منصة دراسة الفقه وأُصوله وقائماً بتربية الفقيه ، وأقصى ما كان يتمتع به هو الإجابة عن الأسئلة التي كانت ترد عليه من العراق وخارجه في ضوء النصوص الموجودة عنده ، فتفرقت الأجوبة طبق الأسئلة في البلاد وجمعها « الخلال » في كتاب خاص.
هذا ما ذكره الذهبي ولكنّ الظاهر عن غير واحد ممّن ترجم الإمام أنّه كان يتحفّظ عن الفتيا ويتزهّد عنه ، ولعلّه يرى مقام الإفتاء أرفع وأعلى من نفسه.
روى الخطيب في تاريخه بالإسناد قال : كنت عند أحمد بن حنبل فسأله رجل عن الحلال والحرام ، فقال له أحمد : سل عافاك اللّه غيرنا. قال الرجل : إنّما نريد جوابك يا أبا عبد اللّه. قال : سل عافاك اللّه غيرنا ، سل الفقهاء ، سل أبا ثور » (7) وهذا يعرب عن أنّ ديدن الإمام في حياته هو التحفّظ والتجنّب عن الإفتاء إلاّ إذا قامت الضرورة أو كان هناك نصوص واضحة في الموضوع. وهذا لا يجتمع مع ما نسب إليه الذهبي من أنّ « الخلال » كتب عنه الكتب التي ذكرها. وهناك تحقيق بارع للشيخ أبي زهرة في كتابه حول حياة ابن حنبل نذكر خلاصة ما جاء فيه :
إنّ أحمد لم يصنّف كتاباً في الفقه يعد أصلاً يؤخذ منه مذهبه ويعد مرجعه ولم يكتب إلاّ الحديث ، وقد ذكر العلماء أنّ له بعض كتابات في موضوعات فقهية ، منها : المناسك الكبير ، والمناسك الصغير ، ورسالة صغيرة في الصلاة كتبها إلى إمام صلّى هو وراءه فأساء في صلاته ، وهذه الكتابات هي أبواب قد توافر فيها الأثر ، وليس فيها رأي أو قياس أو استنباط فقهي بل اتّباع لعمل ، وفهم لنصوص. ورسالته في الصلاة والمناسك الكبير والصغير هي كتب حديث ، وكتبه التي كتبها كلّها في الحديث في الجملة ، وهي المسند والتاريخ والناسخ والمنسوخ والمقدّم والمؤخّر في كتاب اللّه وفضائل الصحابة والمناسك الكبير والصغير والزهد ، وله رسائل يبيّن مذهبه في القرآن والرد على الجهمية والردّ على الزنادقة.
وإذا كان أحمد لم يدوّن في الفقه كتاباً ولم تنشر آراؤه ولم يملها على تلامذته كما كان يفعل أبو حنيفة ، فإنّ الاعتماد في نقل فقهه إنّما هو على عمل تلاميذه فقط ، وهنا نجد أنّ الغبار يثار حول ذلك النقل من نواح متعددة.
إنّ المروي عن ذلك الإمام الأثري ـ الذي كان يتحفّظ في الفتيا فيقيد نفسه بالأثر ، ويتوقف حيث لا أثر ولا نصّ شاملاً عاماً ، ولا يلجأ إلى الرأي إلاّ حين الضرورة القصوى التي تلجئه إلى الإفتاء ـ كثير جدّاً ، والأقوال المروية عنه متضاربة ، وذلك لا يتّفق مع ما عرف عنه من عدم الفتوى إلاّ فيما يقع من المسائل ولا يفرض الفروض ولا يشقّق الفروع ولا يطرد العلل ، ولقد كان يكثر من قول : « لا أدري » ، فهذه الكثرة لا تتفق مع المعروف منه من الإقلال في الفتيا والمعروف عنه من قول : « لا أدري » ، ومع المشهور عنه من أنّه لا يفتي بالرأي إلاّ للضرورة القصوى.
إنّ الفقه المنقول من أحمد قد تضاربت أقواله فيه تضارباً يصعب على العقل أن يقبل نسبة كلّ هذه الأقوال إليه. وافتتح أي كتاب من كتب الحنابلة واعمد إلى باب من أبوابه تجده لا يخلو من عدّة مسائل اختلفت فيها الرواية بين لا ونعم ـ أي بين النفي المجرّد والإثبات المجرّد ـ.
هذه نواح قد أثارت غباراً حول الفقه الحنبلي وإذا أضيف إليها أنّ كثيراً من القدامى لم يعدّوا « أحمد » من الفقهاء ، فابن جرير الطبري لم يعدّه منهم ، و « ابن قتيبة » الذي كان قريباً من عصره جدّاً لم يذكره في عصابة الفقهاء بل عدّه في جماعة المحدثين ، ولو كانت تلك المجموعة الفقهية من أحمد ما ساغ لأُولئك أن يحذفوا أحمد عن سجل الفقهاء (8) .
__________________
1 ـ الخطط المقريزية : ج 2ص 333 و 334 و 344.
2 ـ لاحظ تاريخ حصر الاجتهاد لشيخنا العلاّمة الطهراني : ص 140 والحوادث الجامعة لابن الفوطي : ص216 في حوادث سنة 645 واقرأ فيها ملحمة النزاع بين اتّباع الأئمّة الأربعة ، ولا تنس ما أنشده علي بن الجرجاني عن بعضهم :
مثل الشافعي في العلماء |
|
مثل البدر في نجوم السماء |
قل لمن قاسه بنعمان جهلاً |
|
أيقاس الضياء بالظلماء |
تاريخ بغداد : ج 2ص 69.
3 ـ لاحظ تاريخ بغداد : ج 1ص 41 « مناقب أبي حنيفة » و ج 2ص 69 « مناقب الشافعي » وقد نقل أحاديث في مناقبهما ولم يكن من الإمامين أثر إلاّ في عالم الذر.
4 ـ لاحظ مفاهيم القرآن : ج 3ص 290 ـ 305 تجد فيها بغيتك.
5 ـ تدريب الراوي للسيوطي : ج 1ص 328.
6 ـ سير أعلام النبلاء : ج 11ص 330.
7 ـ تاريخ بغداد : ج 2ص 66.
8 ـ ابن حنبل ، حياته وعصره تأليف محمد أبي زهرة : 168 ـ 171.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|