أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-9-2020
6183
التاريخ: 1-9-2020
4259
التاريخ: 3-9-2020
3280
التاريخ: 2-9-2020
22100
|
قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } [مريم: 41 - 50]
ذكر سبحانه قصة إبراهيم (عليه السلام) فقال { واذكر} يا محمد { فِي الْكِتَابِ} أي: القرآن { إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا} أي: كثير التصديق في أمور الدين عن الجبائي وقيل صادقا مبالغا في الصدق فيما يخبر عن الله تعالى عن أبي مسلم { نبيا} أي: عليا رفيع الشأن برسالة الله تعالى { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} آزر { يا أبت} أي: يا أبي ودخلت التاء للمبالغة في تحقيق الإضافة { لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ} دعاء من يدعوه { ولا يبصر } من يتقرب إليه ويعبده { وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} من أمور الدنيا أي لا يكفيك شيئا فلا ينفعك ولا يضرك { يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ} بالله والمعرفة { مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي} على ذلك واقتد بي فيه { أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} أي: أوضح لك طريقا مستقيما معتدلا غير جائر بك عن الحق إلى الضلال { يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} أي: لا تطعه فيما يدعوك إليه فتكون بمنزلة من عبده ولا شبهة أن الكافر لا يعبد الشيطان ولكن من أطاع شيئا فقد عبده { إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} أي: عاصيا { يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} أي: يصبك عذاب من جهة الله سبحانه لإصرارك على الكفر { فتكون للشيطان وليا} أي: فتكون موكولا إلى الشيطان وهو لا يغني عنك شيئا عن الجبائي وقيل معناه فتكون لا حقا بالشيطان باللعن والخذلان واللاحق يسمى التالي والذي يتلو الشيء والذي يليه سواء عن أبي مسلم وقيل فتكون له قرينا في النار وقيل: معناه فيكون الشيطان ولي نصرتك ولم يقل فيكون الشيطان وليك لأنه أبلغ في الفضيحة وإنما أراد زجره عن موالاة الشيطان لا تحقيق النصرة يعني إذا لم يكن لك إلا نصرته فأنت مخذول لا ناصر لك.
وقد بينا فيما مضى أن الذي يقوله أصحابنا أن هذا الخطاب من إبراهيم (عليه السلام) إنما توجه إلى من سماه الله أبا له لأنه كان جدا لإبراهيم (عليه السلام) لأمه وأن أباه الذي ولده كان اسمه تارخ لإجماع الطائفة على أن آباء نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى آدم (عليه السلام) كلهم مسلمون موحدون ولما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال لم يزل ينقلني الله تعالى من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا والكافر غير موصوف بالطهارة لقوله تعالى { إنما المشركون نجس } { قال} آزر مجيبا لإبراهيم (عليه السلام) حين دعاه إلى الإيمان { أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي} أي: أمعرض أنت عن عبادة آلهتي التي هي الأصنام { يا إبراهيم } وتارك لها وزاهد فيها { لئن لم تنته} أي: لئن لم تمتنع عن هذا { لأرجمنك} بالحجارة عن الحسن والجبائي وقيل لأرمينك بالذنب والعيب وأشتمنك عن السدي وابن جريج وقيل معناه لأقتلنك { واهجرني مليا} أي: فارقني دهرا طويلا عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وقيل مليا سويا سليما عن عقوبتي عن ابن عباس وقتادة وعطاء والضحاك من قولهم فلان ملي بهذا الأمر إذا كان كاملا فيه مضطلعا به { قال} إبراهيم { سلام عليك} سلام توديع وهجر على ألطف الوجوه وهو سلام متاركة ومباعدة منه عن الجبائي وأبي مسلم وقيل هذا سلام إكرام وبر فقابل جفوة أبيه بالبر تأدية لحق الأبوة أي هجرتك على وجه جميل من غير عقوق.
{ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} قيل فيه أقوال ( أحدها ) أنه إنما وعده بالاستغفار على مقتضى العقل ولم يكن بعد قد استقر قبح الاستغفار للمشركين ( وثانيها ) أنه قال سأستغفر لك ربي على ما يصح ويجوز من تركك عبادة الأوثان وإخلاص العبادة لله تعالى عن الجبائي ( وثالثها ) أن معناه سادعوالله أن لا يعذبك في الدنيا عن الأصم { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} أي: بارا لطيفا رحيما عن ابن عباس ومقاتل وقيل إن الله عودني إحسانه وكان لي مكرما وقيل كان عالما بي وبما أبتغيه من مجالدتك لعله يهديك { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: وأتنحى منكم جانبا واعتزل عبادة ما تدعون من دونه من الأصنام { وأدعوا} أي: وأعبد { رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} كما شقيتم بدعاء الأصنام وإنما ذكر عسى على وجه الخضوع وقيل معناه لعله يقبل طاعتي وعبادتي ولا أشقى بالرد فإن المؤمن بين الرجاء والخوف { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: فارقهم وهاجرهم إلى الأرض المقدسة { وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} ولدا { ويعقوب} ولد ولد { كُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} أي: آنسنا وحشته من فراقهم بأولاد كرام على الله وكلا من هذين جعلناه نبيا يقتدى به في الدين { وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} أي: نعمتنا سوى الأولاد النبوة من نعم الدين والدنيا { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} أي: ثناء حسنا في الناس عليا مرتفعا سائرا في الناس وكل أهل الأديان يتولون إبراهيم وذريته ويثنون عليهم ويدعون أنهم على دينهم وقيل: معناه وأعلينا ذكرهم بأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأمته يذكرونهم بالجميل إلى قيام القيامة وقيل هوما يتلى في التشهد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم .
________________
1- تفسير مجمع البيان، الطبرسي ، ج6،ص426-427.
{ واذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا } . المراد بالكتاب هنا القرآن ، والصدق من أكمل الصفات وأفضلها ، والذي نفهمه من وصف إبراهيم بالنبوة بعد وصفه بالصدق انه صادق بطبعه وفطرته وان لم يكن نبيا .
عند تفسير الآية 74 من سورة الأنعام ج 3 ص 212 ذكرنا اختلاف العلماء في المراد من أبي إبراهيم المذكور في القرآن : هل هو الأب الحقيقي ، أوالأب المجازي أي أخوالأب ، وقلنا : انه لا جدوى من هذا النزاع ، وان على المسلم أن يؤمن بنبوة إبراهيم ( عليه السلام ) ، أما الاعتقاد بإسلام أبيه فليس من الدين في شيء ، وبخاصة ان ظاهر القرآن يدل على كفره .
ومهما يكن فإن إبراهيم دعا أباه الحقيقي أوالمجازي إلى الإسلام ، وقال له فيما قال : { يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً } .
كان أبوه يعبد الأصنام ، فاحتج عليه بمنطق العقل والفطرة . . أحجار صماء ، لا تنفع ولا تضر تعبدها وتسجد لها ؟ فأين عقلك وفهمك ؟ .
{ يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا } .
كل الناس الذين يرفضون عبادة الأصنام هم أعلم وأعقل ممن يعبدها ، فكيف الأنبياء الذين يتلقون العلم من اللَّه ؟ . وإذا كان الجهل ببعض الأمور عذرا يتذرع به الجاهل فإن الأصنام هي نفسها لا تدع لمن يعبدها عذرا ولا عاذرا .
{ يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا } . المراد بعبادة الشيطان طاعته لأن من أطاع شيئا فقد عبده ، وعلى هذا فكل من عصى اللَّه في شيء فقد عبد الشيطان { يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا } أي مواليا ، ويجوز أن يكون « وليا » على ظاهره ، ويكون المعنى ان الشيطان هو الموالي لعبدة الأصنام من باب المبالغة ، تماما كما تقول : الناس يتعوذون من الشيطان ، والشيطان يتعوذ من فلان ، وعلى كل تقدير فإن القصد التخويف والتحذير من طاعة الشيطان ومتابعته .
{ قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهْجُرْنِي مَلِيًّا } .
في ذات يوم من أيام دراستنا في النجف كنّا نتحلق نحن التلاميذ حول الأستاذ ، وهو يشرح ويوضح مسألة هامة من مسائل أصول الفقه ، وبعد أن أيقن واطمأن إلى تفهم الجميع ختم الدروس . . ولكن سرعان ما فوجئ باعتراض من أحد التلاميذ ، وكان اعتراضه بعيدا كل البعد عن موضوع الدرس . . فأعرض عنه الأستاذ ، ونظر إلى سائر التلاميذ وقال : كان فيما مضى تلميذ يدرس الصوم وأحكامه ، واستمر في دراسته أكثر من شهر ، وبعد الانتهاء من دراسته ظن الأستاذ ان تلميذه قد أحاط علما بالصوم من كل جهاته ، ولكن التلميذ قال للأستاذ : انك تكلمت وأطلت الشرح عن الصوم ، ولكن لم نفهم هل الصوم في الليل أوفي النهار ؟ .
وهذا بالذات ما حصل لإبراهيم مع أبيه . . فبعد أن أورد له الأدلة بأساليب شتى ، واستعطفه بقوله : يا أبت أربع مرات أجابه بقوله : أراغب أنت عن آلهتي ؟ وهل أنت عازم حقا على أن لا تعبدها معي ؟ فإن كنت على هذا العزم فما لك عندي إلا القتل أوالرجم ، أوتغيب عن عيني ، وتهرب بنفسك .
{ قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا } . أي ان اللَّه عوّده على أن يستجيب له . تقدم نظيره في الآية 114 من سورة التوبة ج 4 ص 110 { وأَعْتَزِلُكُمْ وما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا } . بغض إبراهيم قومه وأهله في اللَّه ، وهجرهم للَّه ، فأبدله سبحانه خيرا منهم ، حيث وهبه اسحق ، ومن بعده يعقوب بن إسحاق ، وشرفهما بالنبوة . وهذا هو المراد بقوله تعالى : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ويَعْقُوبَ وكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا } . وما ترك أحد شيئا من أمور دنياه لاستصلاح دينه إلا عوضه اللَّه خيرا منه .
{ ووَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا } لم يذكر سبحانه نوع الموهوب ، لأن كلمة رحمتنا تومئ إليه ، وكفى بمرضاة اللَّه هبة ونعمة { وجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } .
المراد بلسان الصدق ما يردده الناس جيلا بعد جيل من حسن الثناء على إبراهيم وإسحق وإسماعيل ويعقوب .
وترتكز هذه الآيات على أن من أخلص اللَّه استخلصه اللَّه ، وكان معه أينما كان تماما كما فعل بإبراهيم ( عليه السلام ) .
_______________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 184-185.
تشير الآيات إلى نبذة من قصة إبراهيم (عليه السلام) وهي محاجته أباه في أمر الأصنام بما آتاه الله من الهدى الفطري والمعرفة اليقينية واعتزاله إياه وقومه وآلهتهم فوهب الله له إسحاق ويعقوب وخصه بكلمة باقية في عقبه وجعل له ولأعقابه ذكرا جميلا باقيا مدى الدهر.
قوله تعالى:{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} الظاهر أن الصديق اسم مبالغة من الصدق فهو الذي يبالغ في الصدق فيقول ما يفعل ويفعل ما يقول لا مناقضة بين قوله وفعله، وكذلك كان إبراهيم (عليه السلام) قال بالتوحيد في عالم وثني وهو وحده فحاج أباه وقومه وقاوم ملك بابل وكسر الآلهة وثبت على ما قال حتى ألقي في النار ثم اعتزلهم وما يعبدون كما وعد أباه أول يوم فوهب الله له إسحاق ويعقوب إلى آخر ما عده تعالى من مواهبه.
وقيل: إن الصديق اسم مبالغة للتصديق، ومعناه: أنه كان كثير التصديق للحق يصدقه بقوله وفعله، وهذا المعنى وإن وافق المعنى الأول بحسب المال لكن يبعده ندرة مجيء صيغة المبالغة من المزيد فيه.
والنبي على وزن فعيل مأخوذ من النبإ سمي به النبي لأنه عنده نبأ الغيب بوحي من الله، وقيل: هو مأخوذ من النبوة بمعنى الرفعة سمي به لرفعة قدره.
قوله تعالى:{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} ظرف لإبراهيم حيث إن المراد بذكره وذكر نبئه وقصته كما تقدم نظيره في قوله:{واذكر في الكتاب مريم} وأما قول من قال بكونه ظرفا لقوله:{صديقا} أوقوله:{نبيا} فهو تكلف يستبشعه الطبع السليم.
وقد نبه إبراهيم أباه فيما ألقى إليه من الخطاب أولا أن طريقه الذي يسلكه بعبادة الأصنام لغو باطل، وثانيا أن له من العلم ما ليس عنده فليتبعه ليهديه إلى طريق الحق لأنه على خطر من ولاية الشيطان.
فقوله:{ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} إلخ، إنكار توبيخي لعبادته الأصنام وقد عدل من ذكر الأصنام إلى ذكر أوصافها{ما لا يسمع} إلخ، ليشير إلى الدليل في ضمن إلقاء المدلول ويعطي الحجة في طي المدعى وهوأن عبادة الأصنام لغوباطل من وجهين: أحدهما أن العبادة إظهار الخضوع وتمثيل التذلل من العابد للمعبود فلا يستقيم إلا مع علم المعبود بذلك، والأصنام جمادات مصورة فاقدة للشعور لا تسمع ولا تبصر فعبادتها لغولا أثر لها، وهذا هو الذي أشار إليه بقوله:{لا يسمع ولا يبصر}.
وثانيهما: أن العبادة والدعاء ورفع الحاجة إلى شيء إنما ذلك ليجلب للعابد نفعا أويدفع عنه ضررا فيتوقف ولا محالة على قدرة في المعبود على ذلك، والأصنام لا قدرة لها على شيء فلا تغني عن عابدها شيئا بجلب نفع أودفع ضرر فعبادتها لغولا أثر لها، وهذا هوالذي أشار إليه بقوله:{ولا يغني عنك شيئا}.
وقد تقدم في تفسير سورة الأنعام أن هذا الذي كان يخاطبه إبراهيم (عليه السلام) بقوله:{يا أبت} لم يكن والده وإنما كان عمه أوجده لأمه أوزوج أمه بعد وفاة والده فراجع.
والمعروف من مذهب النحاة في لفظ{يا أبت} أن التاء عوض من ياء المتكلم ومثله{يا أمت} ويختص التعويض بالنداء فلا يقال مثلا قال أبت وقالت أمت.
قوله تعالى:{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} لما بين له بطلان عبادته للأصنام ولغويتها وكان لازم معناه أنه سالك طريق غير سوي عن جهل نبهه أن له علما بهذا الشأن ليس عنده وعليه أن يتبعه حتى يهديه إلى صراط - وهو الطريق الذي لا يضل سالكه لوضوحه - سوي هو في غفلة من أمره، ولذا نكره إذ قال:{أهدك صراطا سويا} ولم يقل: أهدك الصراط السوي كأنه يقول: إذ كنت تسلك صراطا ولا محالة من سلوكه فلا تسلك هذا الصراط غير السوي بجهالة بل اتبعني أهدك صراطا سويا فإني لذوعلم بهذا الشأن.
وفي قوله:{قد جاءني من العلم} دليل على أنه أوتي العلم بالحق قبل دعوته ومحاجته هذه وفيه تصديق ما قدمناه في قصته (عليه السلام) من سورة الأنعام أنه أوتي العلم بالله ومشاهدة ملكوت السماوات والأرض قبل أن يلقى أباه وقومه ويحاجهم.
والمراد بالهداية في قوله:{أهدك صراطا سويا} الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب فإنه شأن الإمام ولم يجعل إماما، بعد وقد فصلنا القول في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى:{ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}: البقرة: 134.
قوله تعالى:{ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} إلى آخر الآيتين الوثنيون يرون وجود الجن - وإبليس من الجن - ويعبدون أصنامهم كما يعبدون أصنام الملائكة والقديسين من البشر، غير أنه ليس المراد بالنهي النهي عن العبادة بهذا المعنى إذ لا موجب لتخصيص الجن من بين معبوديهم بالنهي عن عبادتهم بل المراد بالعبادة الطاعة كما في قوله تعالى:{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} الآية: يس: 60، فالنهي عن عبادة الشيطان نهي عن طاعته فيما يأمر به ومما يأمر به عبادة غير الله.
لما دعاه إلى اتباعه ليهديه إلى صراط سوي أراد أن يحرضه على الاتباع بقلعه عما هو عليه فنبهه على أن عبادة الأصنام ليست مجرد لغو لا يضر ولا ينفع بل هي في معرض أن تورد صاحبها مورد الهلاك وتدخله تحت ولاية الشيطان التي لا مطمع بعدها في صلاح وفلاح ولا رجاء لسلامة وسعادة.
وذلك أن عبادتها - والمستحق للعبادة هو الله سبحانه لكونه رحمانا تنتهي إليه كل رحمة - والتقرب إليها إنما هي من الشيطان وتسويله، والشيطان عصي للرحمن لا يأمر بشيء فيه رضاه وإنما يوسوس بما فيه معصيته المؤدية إلى عذابه وسخطه والعكوف على معصيته وخاصة في أخص حقوقه وهي عبادته وحده، فيه مخافة أن ينقطع عن العاصي رحمته وهي الهداية إلى السعادة وينزل عليه عذاب الخذلان فلا يتولى الله أمره فيكون الشيطان هو مولاه وهو ولي الشيطان وهو الهلاك.
فمعنى الآيتين - والله أعلم - يا أبت لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من عبادة الأصنام لأن الشيطان عصي مقيم على معصية الله الذي هو مصدر كل رحمة ونعمة فهولا يأمر إلا بما فيه معصيته والحرمان عن رحمته، وإنما أنهاك عن معصيته في طاعة الشيطان لأني أخاف يا أبت أن يأخذك شيء من عذاب خذلانه وينقطع عنك رحمته فلا يبقى لتولي أمرك إلا الشيطان فتكون وليا للشيطان والشيطان مولاك.
وقد ظهر مما تقدم: أولا: أن المراد بالعبادة في قوله:{لا تعبد الشيطان} عبادة الطاعة، ولوصف الشيطان - ومعناه الشرير - دخل في الحكم.
وثانيا: وجه تبديل اسم الجلالة من وصف الرحمن في موضعين فإن لوصف الرحمة المطلقة دخلا في الحكمين فإن كونه تعالى مصدرا لكل رحمة ونعمة هو الموجب لقبح الإصرار على معصيته والمصحح للنهي عن طاعة من يقيم على عصيانه، وكذا مصدريته لكل رحمة هو الباعث على الخوف من عذابه الذي يلازم إمساك الرحمة وغشيان النقمة والشقوة.
وثالثا: أن المراد بالعذاب هو الخذلان، أوما هو بمعناه كإمساك الرحمة وترك الإنسان ونفسه، وما ذكره بعضهم أن المراد به العذاب الأخروي لا يساعد عليه السياق.
قوله تعالى:{ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} الرغبة عن الشيء نقيض الرغبة فيه كما في المجمع، والانتهاء: الكف عن الفعل بعد النهي، والرجم: الرمي بالحجارة، والمعروف من معناه القتل برمي الحجارة، والهجر هو الترك والمفارقة، والملي: الدهر الطويل.
وفي الآية تهديد لإبراهيم بأخزى القتل وأذله وهو الرجم الذي يقتل به المطرودون، وفيها طرد آزر لإبراهيم عن نفسه.
قوله تعالى:{ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} الحفي على ما ذكره الراغب: البر اللطيف وهو الذي يتتبع دقائق الحوائج فيحسن ويرفعها واحدا بعد واحد، يقال: حفا يحفو حفى وحفوة، وإحفاء السؤال والإحفاء فيه: الإلحاح والإمعان فيه.
قابل إبراهيم (عليه السلام) أباه فيما أساء إليه وهدده وفيه سلب الأمن عنه من قبله بالسلام الذي فيه إحسان وإعطاء أمن، ووعده أن يستغفر له ربه وأن يعتزلهم وما يدعون من دون الله كما أمره أن يهجره مليا.
أما السلام فهو من دأب الكرام قابل به جهالة أبيه إذ هدده بالرجم وطرده لكلمة حق قالها، قال تعالى:{ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}: الفرقان: 72، وقال:{ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}: الفرقان: 63، وأما ما قيل: إنه كان سلام توديع وتحية مفارقة وهجرة امتثالا لقوله:{واهجرني مليا} ففيه أنه اعتزله وقومه بعد مدة غير قصيرة.
وأما استغفاره لأبيه وهو مشرك فظاهر قوله:{ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} إنه (عليه السلام) لم يكن وقتئذ قاطعا بكونه من أولياء الشيطان أي مطبوعا على قلبه بالشرك جاحدا معاندا للحق عدوا لله سبحانه ولو كان قاطعا لم يعبر بمثل قوله:{إني أخاف} بل كان يحتمل أن يكون جاهلا مستضعفا لوظهر له الحق اتبعه، ومن الممكن أن تشمل الرحمة الإلهية لأمثال هؤلاء قال تعالى:{ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}: النساء: 99، فاستعطفه (عليه السلام) بوعد الاستغفار ولم يحتم له المغفرة بل أظهر الرجاء بدليل قوله:{إنه كان بي حفيا} وقوله تعالى:{ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}: الممتحنة - 4.
ويؤيد ما ذكر قوله تعالى:{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ }: التوبة: 114، فتبريه بعد تبين عداوته دليل على أنه كان قبل ذلك عند الموعدة يرجو أن يكون غير عدو لله مع كونه مشركا، وليس ذلك إلا الجاهل غير المعاند.
ويؤيد هذا النظر قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ - إلى أن قال - لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} إلخ،: الممتحنة: 8.
ومما قيل في توجيه استغفاره لأبيه وهو مشرك أنه وعده الاستغفار واستغفر له بمقتضى العقل فإن العقل لا يأبى عن تجويزه وإنما منع منه النقل ولم يثبت يومئذ المنع عنه شرعا ثم لما حرم ذلك في شرعه تبرأ منه.
وفيه: أنه لا ينطبق على آيات القصة كما يظهر بالتأمل فيما قدمناه.
ومنها: أن معنى استغفاره كان مشروطا بتوبته وإيمانه. وهو كما ترى.
ومنها: أن معنى{سأستغفر لك ربي} سأدعوالله أن لا يعذبك في الدنيا.
وهو كسابقه تقييد من غير مقيد.
ومنها: أنه وعد الدعاء بالمسبب وهو بالاستلزام وعد للدعاء بالسبب فمعنى سأسأل الله أن يغفر لك، سأسأله أن يوفقك للتوبة ويهديك للإيمان فيغفر لك، ويمكن أن يجعل طلب المغفرة كناية عن طلب توفيق التوبة والهداية إلى الإيمان.
وهذا وإن كان أعدل الوجوه لكنه لا يخلوعن بعد لأن في الكلام استعطافا وهوبطلب المغفرة أنسب منه بطلب التوفيق والهداية، تأمل فيه.
ونظير دعائه لأبيه دعاؤه لعامة المشركين في قوله:{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: إبراهيم: 36.
قوله تعالى:{ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} وعد باعتزالهم والابتعاد منهم ومن أصنامهم ليخلوبربه ويخلص الدعاء له رجاء أن لا يكون بسبب دعائه شقيا وإنما أخذ بالرجاء لأن هذه الأسباب من الدعاء والتوجه إلى الله ونحوه ليست بأسباب موجبة عليه تعالى شيئا بل الإثابة والإسعاد ونحوه بمجرد التفضل منه تعالى.
على أن الأمور بخواتمها ولا يعلم الغيب إلا الله فعلى المؤمن أن يسير بين الخوف والرجاء.
قوله تعالى:{ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} إلى آخر الآيتين.
لعل الاقتصار على ذكر إسحاق لتعلق الغرض بذكر توالي النبوة في الشجرة الإسرائيلية ولذلك عقب إسحاق بذكر يعقوب فإن في نسله جما غفيرا من الأنبياء، ويؤيد ذلك أيضا قوله:{وكلا جعلنا نبيا}.
وقوله:{ووهبنا لهم من رحمتنا} من الممكن أن يكون المراد به الإمامة كما وقع في قوله:{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}: الأنبياء: 73، أوالتأييد بروح القدس كما يشير إليه قوله:{ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} الآية: الأنبياء: 73 على ما سيجيء من معناه أومطلق الولاية الإلهية.
وقوله:{ وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} اللسان - على ما ذكروا – هو الذكر بين الناس بالمدح أوالذم وإذا أضيف إلى الصدق فهو الثناء الجميل الذي لا كذب فيه، والعلي هو الرفيع والمعنى وجعلنا لهم ثناء جميلا صادقا رفيع القدر.
___________________
1- تفسير الميزان،الطباطبائي،ج14،ص46-51.
إبراهيم ومنطقه المؤثر والقاطع:
إنتهت قصّة ولادة المسيح(عليه السلام) وقد تضمنت جانباً من حياة أُمّه مريم، وبعدها تزيح هذه الآيات ـ والآيات الآتية ـ الستار عن جانب من حياة بطل التوحيد إِبراهيم الخليل(عليه السلام)، وتؤكّد على أنّ دعوة هذا النّبي الكبير ـ كسائر المرشدين الإِلهيين ـ تبدأ من نقطة التوحيد، فتقول أوّلا: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}.
كلمة (الصدّيق) صيغة مبالغة من الصدق، وتعني الشخص الصادق جدّاً، وذهب البعض الى أنّه الشخص الذي لا يكذب مطلقاً، بل وأسمى من ذلك، وهو أنّه لا يملك القدرة على الكذب، لأنّه اعتاد طيلة حياته على الصدق. ويرى آخرون أن معناها الشخص الذي يصدق عمله كلامه واعتقاده. إِلاَّ أن من الواضح أن جميع هذه المعاني ـ تقريباً ـ ترجع إِلى معنى واحد.
على كل حال، فإنّ هذه الصفة مهمّة إِلى حدّ أنّها ذكرت في الآية ـ محل البحث ـ قبل صفة النّبوة، ولعلها بذلك تكون ممهدة لتلقي النّبوة، وإِذا تجاوزنا ذلك فإِنّ أبرز صفة يلزم وجودها في كل الانبياء وحملة الوحي الإِلهي أن يوصلوا أوامر الله إِلى العباد دون زيادة أو نقصان.
ثمّ تتطرق الآية التي بعدها إِلى شرح محاورته مع أبيه آزر ـ والأب هنا إِشارة إِلى العم، فإنّ كلمة الأب، كما قلنا سابقاً، ترد أحياناً في لغة العرب بمعنى الأب، وأحياناً بمعنى العم(2) ـ فتقول: { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}.
إِنّ هذا البيان القصير القاطع من أحسن أدلة نفي الشرك وعبادة الأوثان، لأنّ أحد بواعث الإِنسان في معرفة الرب هو باعث الربح والخسارة، والضر والنفع، والذي يعبر عنه علماء العقائد بمسألة (دفع الضرر المحتمل). فهو يقول: لماذا تتجه إِلى معبود ليس عاجزاً عن حل مشكلة من مشاكلك وحسب، بل إِنّه لا يملك أصلا القدرة على السمع والبصر. وبتعبير آخر: إِن العبادة يجب أن تكون لمن له القدرة على حل المشاكل، ويدرك عباده وحاجاتهم، سميع بصير، إِلاّ أنّ هذه الأصنام فاقدة لكل ذلك.
إِن إِبراهيم يبدأ في دعوته العامّة بأبية، وذلك لأنّ النفوذ في الأقربين أهم وأولى، كما أن نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر أولا بدعوة عشيرته الأقربين كما جاء في ذلك في الآية (214) من سورة الشعراء: {وأنذر عشيرتك الأقربين}.
بعد ذلك دعاه ـ عن طريق المنطق الواضح ـ إِلى اتباعه، فقال: { يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} فإِنّي قد وعيت أُموراً كثيرة عن طريق الوحي، وأستطيع أن أقول باطمئنان: إِنّي سوف لا أسلك طريق الضلال والخطأ، ولا أدعوك أبداً إِلى هذا الطريق المعوج، فإِنّي أريد سعادتك وفلاحك، فاقبل منّي لتنجو وتخلص من العذاب وتصل بطيّك هذا الصراط المستقيم إِلى المحل المقصود.
ثمّ يعطف نظره إِلى الجانب السلبي من القضية بعدما ذكر بعدها الايجابي ويشير إِلى الآثار التي تترتب على مخالفة هذه الدعوة، فيقول: { يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}.
من الواضح أنّ العبادة هنا لا تعني السجود والصلاة والصوم للشيطان، بل بمعنى الطاعة واتباع الأوامر، وهذا بنفسه يعتبر نوعاً من العبادة.
روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من أصغى إِلى ناطق فقد عبده، فإِن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإِن كان الناطق عن إِبليس فقد عبد إِبليس»(3).
إِن إِبراهيم يريد أن يعلّم أباه هذه الحقيقة، وهي أن الإِنسان لا يمكن أن يكون فاقداً لخط ومنهج في حياته، فإمّا سبيل الله والصراط المستقيم، وإمّا طريق الشيطان العاصي الضال، فيجب عليه أن يفكر بصورة صحيحة ويصمم، وأن يختار ما فيه خيره وصلاحه بعيداً عن العصبية والتقاليد العمياء.
ثمّ يذكره وينبه مرّة أُخرى بعواقب الشرك وعبادة الأصنام المشؤومة، ويقول: { يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}.
إِنّ تعبير إِبراهيم هذا رائع جدّاً، فهو من جانب يخاطب عمّه دائماً بـ (يا أبتِ) وهذا يدل على الأدب واحترام المخاطب، ومن جانب آخر فإنّ قوله (أن يمسك) توحي بأنّ إِبراهيم كان قلقاً ومتأثراً من وصول أدنى أذى إِلى آزر، ومن جهة ثالثة فإِنّ التعبير بـ (عذاب من الرحمن) يشير إِلى أن أمرك نتيجة هذا الشرك وعبادة الأصنام قد بلغ حدّاً بحيث أن الله ـ الذي عمت رحمته الأرجاء ـ سيغضب عليك ويعاقبك، فانظر إِلى عملك الذي تقوم به كم هو خطير وكبير! ومن جهة رابعة، فإنّ عملك سيؤدي بك في النهاية أن تستظل بولاية الشيطان.
نتيجة البعد عن الشرك والمشركين:
مرّت في الآيات السابقة كلمات إِبراهيم(عليه السلام) التي كانت ممتزجة باللطف والمحبّة في طريق الهداية، والآن جاء دور ذكر أجوبة آزر، لكلي تتضح الحقيقة والواقع من خلال مقارنة الكلامين مع بعضهما.
يقول القرآن الكريم: إِنّ حرص وتحرّق إِبراهيم، وبيانه الغني العميق لم ينفذ إِلى قلب آزر، بل إِنّه غضب لدى سماعه هذا الكلام، و { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}.
الملفت للنظر، أنّ آزر لم يكن راغباً حتى في أن يُجري إِنكار الأصنام أو مخالفتها وتحقيرها على لسانه، بل إِنّه قال: أراغب أنت عن هذه الآلهة؟ حتى لا تهان الأصنام! هذا أولا.
ثانياً: إِنّه عندما هدد إِبراهيم، هدده بالرجم، ذلك التهديد المؤكّد الذي يستفاد من لام ونون التوكيد الثقيلة في «لأرجمنَّك» ومن المعلوم أن الرجم من أشد وأسوء أنواع القتل.
ثالثاً: إِنّه لم يكتف بهذا التهديد المشروط، بل إِنّه اعتبر إِبراهيم في تلك الحال وجوداً لا يُحتمل، وقال له {اهجرني ملياً} أي ابتعد عني دائماً، وإِلى الأبد (كلمة «ملياً» ـ حسب قول الراغب في المفردات ـ أخذت من مادة الإِملاء، أي الإِمهال الطويل، وهي تعني هنا أن ابتعد عني لمدّة طويلة، أو على الدوام).
وهذا التعبير المحقِّر جدّاً لا يستعمله إلاّ الاشخاص الاجلاف والقساة ضد مخالفيهم.
بعض المفسّرين لا يرى أن جملة «لأرجمنَّك» تعني الرمي بالحجارة، بل اعتقد أنّها تعني تشويه السمعة والإِتهام، إِلاّ أن هذا التّفسير يبدو بعيداً، وملاحظة سائر آيات القرآن ـ التي وردت بهذا التعبير ـ شاهد على ما قلناه.
لكن، ورغم كل ذلك، فقد سيطر إِبراهيم على أعصابه، كبقية الأنبياء والقادة الإِلهيين، ومقابل هذه الغلظة والحدّة وقف بكل سمو وعظمة، و {قال سلام عليك}.
إِنّ هذا السلام يمكن أن يكون سلام التوديع، وأن إِبراهيم بقوله: {سلام عيك} وما يأتي بعده من كلام يقصد ترك آزر. ويمكن أن يكون سلاماً يقال لفض النزاع، كما نقرأ ذلك في الآية (55) من سورة القصص: { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}.
ثمّ أضاف: {سأستغفر لك ربّي إِنّه كان بي حفياً}. إِن إبراهيم في الواقع قابل خشونة وتهديد آزر بالعكس، ووعده بالإِستغفار وطلب مغفرة الله له.
وهنا يطرح سؤال، وهو: لماذا وعد إبراهيم آزر بالإِستغفار مع أنا نعلم أن آزر لم يؤمن أبداً، ولا يجوز الإِستغفار للمشركين طبقاً لصريح الآية (113) من سورة التوبة؟
وقد ذكرنا جواب هذا السؤال بصورة مفصلة في ذيل تلك الآية في سورة التوبة.
ثمّ يقول: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي الأصنام { وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}.
تبيّن هذه الآية من جهة أدب إِبراهيم في مقابل آزر الذي قال: «اهجرني» فقبل إِبراهيم ذلك. ومن جهة أُخرى فإِنّها تبيّن حزمه في عقيدته، فإِنّ ابتعادي هذا عنك لم يكن من أجل حيادي عن اعتقادي الراسخ بالتوحيد، بل لأنّك لا تملك الأهلية لتقبل الحق، ولذلك فإِني سأثبت على اعتقادي.
ويقول بصورة ضمنية بأنّي إِذا دعوت ربّي فإنّه سيجيب دعوتي، أمّا أنتم المساكين الذين تدعون من هو أكثر مسكنة منكم، فلا يستجاب دعاؤكم مطلقاً، بل ولا يسمع كلامكم أبداً.
لقد وفى إبراهيم بقوله، وثبت على عقيدته بكل صلابة وصمود، وكان دائماً ينادي بالتوحيد، بالرغم من أن كل ذلك المجتمع الفاسد في ذلك اليوم قد وقف ضده وثار عليه، إِلاَّ أنّه لم يبق وحده في النهاية، فقد وجد أتباعاً كثيرين على مر القرون والأعصار، بحيث أنّ كل الموحدين وعباد الله في العالم يفتخرون بوجوده.
يقول القرآن الكريم: { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} فالبرغم من أن الفترة التي وهب الله بها لإِبراهيم إِسحاق، ثمّ يعقوب ـ ابن إِسحاق ـ قد استغرقت زمناً طويلا، إِلاّ أنّ هذه الموهبة العظيمة ـ حيث وهبه ولداً كإِسحاق، وحفيداً كيعقوب، وكل منهما كان نبيّاً سامي المقام ـ كانت نتيجة صبر إِبراهيم(عليه السلام) واستقامته التي أظهرها في طريق محاربة الأصنام، واعتزال المنهج الباطل والإِبتعاد عنه.
وإضافة إِلى ذلك { وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} تلك الرحمة الخاصّة بالمخلصين والمخلصين، والرجال المجاهدين في سبيل الله. وأخيراً { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}.
إِنّ هذا في الحقيقة إِجابة لطلب ودعاء إبراهيم الذي جاء في الآية (84) من سورة الشعراء: { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} فإنّ أُولئك كانوا يريدون طرد وإِبعاد إبراهيم وأسرته من المجتمع الإِنساني، بحيث لا يبقى لهم أي أثر أو خبر، ويُنسون إِلى الأبد. إِلاّ أن الذي حدث بالعكس، فإِنّ الله سبحانه قد رفع ذكرهم نتيجة إيثارهم وتضحيتهم واستقامتهم في أداء الرسالة التي كانت ملقاة على عاتقهم، وجعل أسماءهم تجري على ألسنة شعوب العالم، ويُعرفون كأسوة ونموذج في معرفة الله والجهاد والطهارة والتقوى والمقارعة للباطل.
إِنّ «اللسان» في مثل هذه الموارد يعني الذكر الذي يذكر به الإِنسان بين الناس، وعندما نضيف إِليه كلمة صدق، ونقول: «لسان صدق» فإِنّه يعني الذكر الحسن والذكرى الطيبة بين الناس، وإِذا ما ضممنا إِليها «عليّاً» التي تعني العالي والبارز، فإِنّها ستعني الذكرى الجميلة جدّاً التي تبقى بين الناس عن شخص ما.
ومن المعلوم أن إِبراهيم لا يريد بهذا الطلب أن يحقق أمنية في قلبه، بل كان هدفه أن لا يستطيع الأعداء أن يجعلوا تاريخ حياته، الذي كان تربوياً خارقاً للعادة، في بوتقة النسيان، وأن يمحوا ذكره من الأذهان إِلى الأبد، وهو الأنموذج والأسوة الدائمة للبشرية.
ونقرأ في رواية عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «لسان الصدق للمرء يجعله الله في الناس، خير من المال يأكله ويورثه»(4) وبغض النظر عن الجوانب المعنوية، فإنّ حسن السمعة والذكر الحسن بين الناس يمكن أن يكون أحياناً رأس مال عظيم للإِنسان ولأولاده، وأمامنا شواهد حية على ذلك.
وهنا يمكن أن يبرز سؤال، وهو: كيف لم تذكر هنا موهبة وجود إِسماعيل، مع أن اسم يعقوب، حفيد إِبراهيم، قد ذكر صريحاً؟ وفي مكان آخر من القرآن ذكر وجود إِسماعيل ضمن مواهب إِبراهيم، هناك حيث تقول الآية على لسان إبراهيم: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}(إبراهيم،39).
الجواب أنّه بالإِضافة إِلى أن اسم إِسماعيل قد ورد مستقلا بعد آيتين أو ثلاث، وقد ذكر فيها بعض صفاته البارزة، إلاّ أنّ المقصود هذه الآية هو بيان استمرار النّبوة في أسرة إِبراهيم، وتوضح كيف أن حسن سمعته وذكره الحسن وتاريخه الحافل قد تحقق بواسطة الأنبياء من أسرته، والذين جاؤوا الواحد تلو الآخرين، ومن المعلوم أن كثيراً من الأنبياء هم من أسرة إِسحاق ويعقوب على مر الأعصار والقرون، وإِن كان قد ولد من ذرية إِسماعيل أعظم الأنبياء، أي نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلاّ أن استمرار النبوة كان في أولاد يعقوب، ولذلك نقرأ في الآية (27) من سورة العنكبوت، { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}.
_______________
1- تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص52-59.
2- لقد بحث هذا الموضوع مفصلا ذيل الآية (74) من سورة الأنعام.
3- سفينة البحار، الجزء 2، ص 115 مادة (عبد).
4- أصول الكافي، حسب نقل تفسير نور الثقلين، الجزء 3، ص 339.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|