أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-03-2015
4986
التاريخ: 12-08-2015
1929
التاريخ: 3-03-2015
16097
التاريخ: 3-03-2015
4154
|
لقد كان الحسن بن أحمد بن عبد الغفار المعروف بأبي علي الفارسي من أولئك الأعلام الذين ابتدعوا رهبانية العلم، شأنه في ذلك شأن يونس الضبي من قبله. لقد قضى الفارسي أكثر من نصف قرن في البحث و التدريس و التأليف، لم يشغله عن ذلك تدبير مال، أو مشاغل عيال، لقد كان إماما في اللغة و النحو و القراءات، أخذ عن شيخ القراء أبي بكر بن مجاهد، و درس على الزجاج و سمع من ابن السراج كتاب الأصول، و شرح جمله، و اتصل بأبي بكر بن دريد و كتب عنه مصنفه في الاشتقاق. كما كان على صلة علمية وثيقة بعلماء عصره، أمثال أبي سعيد السيرافي و ابن الخياط(1)، و ابن خالويه(2) و الرماني بيد أن صلته معهم لم تكن صلة مودة و تعاون ذلك أن اعتزازه بعلمه، و مكانته عند السلاطين و الوجهاء جعلته ينظر إلى زملائه بنوع من الاستعلاء، نسبه المؤرخون إلى عوامل الحسد و الغيرة، و الحرص على الاحتفاظ بالصدارة و التفوق.
ص185
فقد رأينا قوله حينما وقف على مسائل الزجاجي «لو سمع الزجاجي كلامنا في النحو لاستحيا أن يتكلم فيه« و كان يسمى السيرافي بابن بهزاد و هو ليس من أحب الأسماء إليه، و قال إنه معلم الصبيان، و إن ابن الخياط لقاء له، لأنه لم يسمع من المبرد و إنما أدرك ثعلبا و قد أضرّ به الصمم فلم يقرأ عليه و أن ابن خالويه قليل التحفظ(3)، و حتى عن الرماني الذي كان أقربهم إليه، قال فيه: «إذا كان النحو ما عند الرماني، فليس عندنا منه شيء، و إذا كان ما عندنا فليس عند الرماني منه شيء»، و ادعى أن الرماني قرأ عليه كتب ابن السراج في حياته(4).
و قد ناقش الدكتور مازن المبارك هذا القول الذي رواه ياقوت الحموي في كتابه عن الرماني(5). أما العلاقة بينه و بين ابن خالويه، فقد كان يطبعها العداء السافر بسبب رده عليه في مسائل الإغفال التي اعترض فيها الفارسي على الزجاج، ثم كتب الفارسي نقض الهاذور في الرد على ابن خالويه. أما تلامذته، فلقد طغت شهرة واحد على جميع الآخرين، ألا و هو أبو الفتح عثمان بن جني، الذي لازمه نحوا من أربعين سنة، و استمد منه أكثر معارفه النحوية و استرشد بتنبيهاته اللغوية، ففي كتاباته في الخصائص، كان كثيرا ما يتحدث عن ملاحظات نبهه إليها و غوامض أثارها له.
و غالبا ما يشير إلى ذلك، ففي كتاب الخصائص يصرح بأنه قد نبهه على نكت من (السلب)(6) و المشابهة بين معاني الإعراب و معاني الشعر(7)، و كان يشيد باهتمامه بالاشتقاق الأكبر(8) و إضافة الاسم إلى المسمى، و المسمى إلى الاسم (9)، و في كل رواياته يتحدث عنه بصفته الشيخ المربي، و المرشد.
و لقد ترك أبو علي أكثر من عشرين كتابا تناولت القراءات، و اللغة و النحو و الصرف، أكثرها على شكل مسائل يضيف عنوانها إلى البلد الذي ألفت فيه مثل المسائل الشيرازية و العسكرية (نسبة إلى معسكر مكرم) و الكرمانية و الحلبية، و له كتاب العوامل المائة.
ص186
و لعل من أهم كتبه كتاب الحجة في علل القراءات السبع، إذ في هذا الكتاب تتجلى سعة معرفته، و قوة شخصيته، و دقة تحليله. و يلاحظ محققو كتاب الحجة أن الأفكار فيه تتزاحم و تتدافع في خطاره، فيفسح لها المجال، و يرخي لها العنان في نوع من التداعي الذي يتدفق دون تنظيم، فتتوالى الاستطرادات، و تتشعب الفروع، حتى صعب على غير المختصين. و هذا ما عبر عنه ابن جني يقول: «لقد كان شيخنا أبو علي عمل كتاب الحجة فأغمضه و أطاله حتى منع كثيرا ممن يدعي العربية فضلا عن القراءة منه، و أجفاهم عنه» (10).
و من أشهر كتبه، الإيضاح، الذي يعتبر ثاني كتاب مدرسي بعد جمل الزجاجي. و قد نال هذا المصنف شهرة كبيرة، و اعتمده الأساتذة و الدارسون و أشادوا به نظما و نثرا. و شرحه النحويون، و من أشهر شراحه عبد القاهر الجرجاني (11)، الذي خصص له ثلاثة شروح منها المقتصد. و يحكي أنه لما قدمه إلى عضد الدولة، قال له: «ما زدت على ما كنا نعرف» فألف له كتاب التكملة، فقال لما رآه (غضب الشيخ و أتى بما لا نفهم نحن و لا هو)(12).
و يقول علي بن أحمد بن خلف النحوي الأندلسي المعروف بابن الباذش في الإيضاح:
يعتقد أكثر المؤرخين أن أبا علي كان معتزليا شيعيا، مستدلين على ذلك بجو العصر الذي عاش فيه، و الاتجاه الثقافي و السياسي السائد في الحواضر التي مارس فيها نشاطه العلمي، كما يستشفون تمذهبه هذا من بعض العبارات و الآراء التي تعارف عليها المعتزلة، فكان يعبر عن اللّه بالقديم، و يكرر كلة العدل، و يؤول الآيات القائلة بأن اللّه تعالى طبع على قلوب العباد، أو ختم عليها، و منها أيضا أراؤه في الشفاعة.
و من أدلة تشيعه الاعتناء الخاص الذي أولاه له الطبرسي في كتاب مجمع البيان، و العلاقة الودية التي كانت تجمعه بالشريف الرضي الذي يقول فيه:
لقد اعتاد الدكتور شوقي ضيف أن يجعل الفارسي في عداد المدرسة البغدادية، مثل ما فعل في شأن الزجاجي، و ابن جني، مرتكزا على اطلاعهم على آراء الكوفيين، و على اجتهاداتهم في اختيار ما يرونه صوابا من أقوال النحويين، لكن نزعتهم البصرية في رأينا أقوى من أن تكون مجرد ميول، فقد كانوا يصرحون بانتمائهم لأئمة المدرسة و يعيرون عنهم بأصحابنا، فيقول ابن جني أنه قد وقع حريق في مدينة السّلام و أصاب مؤلفات الفارسي فذهب جميع علم البصريين (15). و يقول الفارسي في إضافة الضمير إلى الكاف، شوذا مثل قول:
فلا ترى بعلا و لا حلائلا كها و لا كهن إلا حاظلا
ص188
هذا و مع العناية الخاصة التي يعطيها للقياس، بحيث أنه يتابع غالبا أبا عثمان في تصوره للقياس و من المعروف أن المازني يقول إن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب (23). فإنه لا يتصوره إلا على سماع صحيح و مطرد.
ص189
و من الضوابط التي أوضحها في العلاقة بين السماع و القياس، قوله إنه يوجد في كلام العرب، ما هو مطرد في الاستعمال، شاذ في القياس، كما يوجد العكس. و منه ما حذف منه في الضرورة ما لا يستحسن حذفه في حالة السعة فمن القسم الأول قولهم (عسى الغوير أبؤسا) (24) فالقياس يقتضي أن يخبر عن عسى بالمضارع، و يقولون «استحوذ» و القياس أن يقولوا (استحاذ) (25) و لكن العدول عن السماع خطأ فاحش. أم المطرد في القياس الشاذ في الاستعمال فقد مثل له بترك استعمال الماضي من «يدع» و (يذر) (26) و مما استعمل في الضرورة قول الشاعر:
ص190
تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (34) (القلم- الآية 9) ، و أن «أو» تأتي للإضراب في مثل قول جرير:
و كان يجيز في الشعر ترك صرف ما لا ينصرف (36).
و إننا نعتقد أن هذه الاختيارات تدل على «اجتهاد في المذهب» كما يقول الفقهاء، لا على خروج عن الجادة البصرية التي صرح بالانتماء إليها و دافع عن آرائها الأصولية فتراه يقول: «الدليل على أن الفعل مأخوذ من المصدر أن هذه المصادر تقع دالة على جميع ما تحتها، و لا تخص شيئا منه دون شيء، ألا ترى أن الضرب يشمل جميع هذا الحدث، و لا يخص ماضيا منه من حاضر و لا حاضرا من آت و أن هذه الأمثلة تدل على أحداث مخصوصة، و حكم الخاص أن يكون من العام و يستحيل كون العام من الخاص «فهو يدافع على أصل من أصول المذهب البصري بحجج منطق البصريين، و تتلمذ على شيوخها المتأخرين، و عبر عن تفوق الأقدمين بقوله: «نحن بالإضافة إلى من كان قبلنا كبقل في أصول رقل» (و الرقل يعني به النخل) .
و بالرغم مما يمتاز به هذا العالم من ارتفاع الصيت، و علو المكانة، في عصره، فإنه كان عرضة لبعض الانتقادات منها ما جرى بينه و بين ابن خالويه في مسائل الإغفال، و منها اتهامه بتحريف بعض الشواهد مثل ما ذكره عنه ابن هشام نقلا عن الأسود الغندجاني، و ذلك في قول الشاعر:
و إن من أطرف الاعتراضات على أبي علي الفارسي ما ساقه المعري في أسلوبه الساخر ضمن رسالة الغفران، إذ قال: «و كنت رأيت في المحشر شيخا لنا كان يدرس النحو في الدار العاجلة يعرف بأبي علي الفارسي و قد امترس به قوم يطالبونه و يقولون تأولت
ص191
علينا و ظلمتنا، فلما رآني أشار إلي بيده فإذا عنده طبقة منهم يزيد بن الحكم الكلابي و هو يقول: ويحك أنشدت عني هذا البيت برفع «الماء» ، و هو يعني:
و إذا رجل آخر يقول ادعيت على أن الهاء راجعة إلى الدرس في قولي:
و إذا أنهينا الكلام في هذا الفصل عن هذا النحوي الكبير فإننا سنعود إلى آرائه و أفكاره النحوية عند تلميذه العبقري أبي عثمان بن جني.
ص192
____________________
(1) ابن الخياط: محمد بن أحمد بن منصور أبو بكر ابن الخياط النحوي ممن أتقن المذهبين النحويين البصري و الكوفي، أصله من سمرقند و مات ببغداد سنة 320ه، و كان من نظراء الزجاج و مناظريه. أخذ عنه الزجاجي و الفارسي، و له معاني القرآن و النحو الكبير، و هو من مؤسسي المدرسة البغدادية. راجع: معجم الأدباء:2309، ترجمة الألباء:185.
(2) ابن خالويه هو الحسين بن أحمد بن خالويه، أصله من همدان، وفد إلى بغداد سنة 314 ه، و أخذ القراءات عن ابن مجاهد، و اللغة و الأدب عن ابن دريد و أبي بكر الأنباري، و النحو عن نفطويه، و صحب سيف الدولة الحمداني و أدب أبناءه، و له من المتنبي مناظرات معروفة و من أشهر ما كتب: ما ليس من كلام العرب في اللغة، و الجمل في النحو، و البديع في القراءات و إعراب ثلاثين سورة.
(3) معجم الأدباء:820.
(4) معجم الأدباء:813.
(5) الرماني النحوي:73-85.
(6) الخصائص:3 /75.
(7) الخصائص:2 /168.
(8) الخصائص:2 /133.
(9) الخصائص:3 /24.
(10) الحجة في علل القراءات السبع (مقدمة التحقيق) ص 31 عازيا للمحتسب 1 /288.
(11) الجرجاني: إنه أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني (ت 471 ه) ، المشهور أساسا بكتابته في إعجاز القرآن في شرحه لكتاب محمد بن زيد الواسطي، و عرفت نظرياته في النظم البلاغي، من خلال كتابي أسرار البلاغة و دلائل الإعجاز. و هو أيضا من أئمة النحويين، فقد أخذ عن محمد بن الحسين بن عبد الوارث، ابن أخت الفارسي، و كان معجبا بكتب أبي علي الفارسي، و شرح الإيضاح ثلاثة شروح، منها المغنى، و هو في ثلاثين مجلدا، و الإيجاز، و المقتصد، و قد نشر هذا الأخير بتحقيق الدكتور كاظم بحر المرجان في بغداد (دار الرشيد 1982) .
(12) معجم الأدباء:813.
(13) معجم الأدباء:816-817.
(14) ديوان الرضى:1 /445 (نقلا عن مقدمة كتاب الحجة) .
(15) معجم الأدباء:819.
(16) المسائل العسكرية للفارسي:137.
(17) المصدر نفسه:92-93.
(18) المصدر نفسه:136.
(19) المصدر نفسه:136.
(20) الحجة:62.
(21) الخصائص:2 /88.
(22) المصدر نفسه:1 /277.
(23) المصدر نفسه:1 /357.
(24) المسائل العسكرية:146.
(25) المصدر نفسه:144.
(26)) المصدر نفسه:136.
(27) المصدر نفسه:203.
(28) المصدر نفسه:204.
(29) المصدر نفسه:226.
(30) المصدر نفسه:154.
(31) المغني:120.
(32) المصدر نفسه:661-661.
(33) المدارس النحوية (عازيا للهمع) ، ص 259.
(34) المدارس النحوية (عازيا للهمع) ص 260.
(35) المغني، ص 350.
(36) المصدر نفسه، ص91.
(37) المسائل العسكرية:95.
(38) المعري، رسالة الغفران.
(39) الحجة (المقدمة عازية إلى رسالة الغفران) :20-21.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|