المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4890 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية



مناظرة السيد محمد جواد المهري مع الأستاذ عمر الشريف في مسألة إيمان أبي طالب (عليه السلام)  
  
704   09:28 صباحاً   التاريخ: 26-11-2019
المؤلف : الشيخ عبد الله الحسن
الكتاب أو المصدر : مناظرات في العقائد
الجزء والصفحة : ج1 ، 362-375
القسم : العقائد الاسلامية / الحوار العقائدي / * الأولياء والصالحين /

يقول السيد محمد جواد المهري في معرض حديثه عن أيام دراسته في مدرسة الدعية بالكويت في عام 1968 م: في الصف الأول الثانوي كانت لي نقاشات مع معلم مادة الدين، ولكن بما أنني كنت قد دخلت ذلك الجو توا إضافة إلى كون المعلم شيخا حاد الطباع لم تتمخض عن نقاشاتنا المتفرقة أية نتيجة إيجابية ناهيك عن امتناعه عن الخوض في المواضيع المثيرة للاختلاف بعد التفاته إلى وجودي، ومع هذا كانت لي معه أحيانا نقاشات غلبته فيها. مثلا سأله أحد التلاميذ يوما: لماذا تأخذ الماء في كفك عند الوضوء وتسكبه من الرسغ إلى المرفق بينما يسكبه أتباع أحد المذاهب الإسلامية من المرفق إلى الأسفل؟ نفخ الأستاذ لغديه متظاهرا أنه صاحب الحق وقال: الأيدي عادة مليئة بالشعر، وإذا سكب الماء من الأعلى إلى الأسفل قد لا يصل إلى ما تحت الشعر، ولكن إذا سكب من الرسغ إلى الأعلى فالماء يصل إلى ما تحت الشعر قطعا، وهذا أقرب إلى الاحتياط. نهضت على الفور وقلت: اسمح لي يا سيدي! إذن إذا أردت الغسل وجب وضع الرأس على الأرض ورفع الأرجل في الهواء لأن جسم الإنسان ملئ بالشعر، واستنادا إلى الرأي الذي عرضته يجب أن يصل الماء إلى تحت الشعر!!

ارتفع فجأة صوت ضحكات الطلاب، فقال الأستاذ الذي وجد نفسه في وضع محرج للغاية بلهجة عنيفة: لا تناقش عبثا!! فأنت لا زلت أصغر من أن تعطي رأيك في القضايا الفقهية!! وأجلسني بكلامه هذا! إلا أن الطلاب لم يقنعوا أبدا.

وعلى كل حال انقضت السنة الأولى من الثانوية ودخلت في السنة الثانية، كان سني قد ازداد ومطالعتي قد كثرت في هذا المجال خلال العطلة الصيفية، فأصبحت أكثر استعدادا للمواجهة. ومن حسن الصدف أن مدرس مادة الدين كان شابا إلى حد ما وحسن الأخلاق، كنا في أول درس من مادة الدين حين دخل الأستاذ وكان شابا يدعى عمر الشريف .

وبدأ الحديث عن موضوع الهداية في الإسلام، وضمن حديثه تفسير الآية الشريفة: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص: 56] ، قال: إن هذه الآية نزلت في أبي طالب عم الرسول (صلى الله عليه وآله) حيث حضر عند رأسه وهو في اللحظات الأخيرة من حياته وكلما طلب منه التلفظ بالشهادتين، أبى حتى مات كافرا!! فتأثر النبي (صلى الله عليه وآله) لأن عمه الذي يحبه يموت كافرا، لكن الله تعالى أوحى إليه هذه الآية.

الهداية هبة إلهية يمنحها الله لمن يشاء ويسلبها ممن يشاء، فلا تحاول هداية عمك! اضطرم الغضب في نفسي وما عادت لي طاقة على الصبر، فنهضت بغضب وبدون استئذان وصحت: أستاذ! لا بد وأنكم تعتبرون أبا طالب، هذا الرجل المؤمن، كافرا وتأولون بشأنه هذه الآية لأنه والد علي (عليه السلام)، ليس من الإنصاف اتهام شخص قضى عمره في خدمة الإسلام وقدم كل هذا العون للنبي (صلى الله عليه وآله) وللمسلمين بمثل هذه التهمة، واعتباره كافرا مع كونه موحدا حقيقيا وإنسانا كاملا، فمن ذا الذي دافع عن النبي (صلى الله عليه وآله) يوم هب جميع كفار قريش لمحاربته ومحاصرته اقتصاديا، غير أبي طالب (عليه السلام)؟ ابتسم الأستاذ قائلا:

أولا: ليس من الصحيح اتهامنا بمثل هذه التهمة، فنحن نرى عليا من أفضل الناس وأخلصهم، ونعتبره على كل حال أحد خلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله)، فنحن إذن لا عداوة لنا معه حتى نعتبر أباه كافرا، ثم إنه كان شخصا عطوفا وكثير المحبة لمحمد (صلى الله عليه وآله)، ولهذا السبب كان يدافع عنه حتى وإن لم يؤمن بدينه، وهذا الطرح لا ينطوي على أية مشكلة.

قلت: بل ينطوي على مشكلة كبرى، فالرسول (صلى الله عليه وآله) أساسا لا يمكنه التعويل على كافر، أو أن يحظى بحمايته على ذلك النطاق الواسع، ألم تقرأوا قوله تعالى في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [المائدة: 51] .

قال: هذه الآية تعني اليهود والنصارى.

قلت: الواقع أن اليهود والنصارى أهل كتاب، فإن لم يكن تعالى قد أباح له موالاة أهل الكتاب والاستعانة بهم، فهو لا يجيز قطعا اتخاذ مشركي قريش حماة لنا، فضلا عن هذا فقد جاءت في القرآن آية أخرى تنهى عن هذه العلاقات العائلية، وتحذر من موالاة الآباء والإخوة - فما بالك بالأعمام - إذا كانوا كفارا، أو إيجاد صلات وثيقة معهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23].

بل إن الله عز وجل قد نهى المسلمين في ما يربو على الثلاثين موضع عن إيجاد علاقات مع الكفار، فما بالك باتخاذهم حماة وأنصارا، هل يجوز أن يعصي الرسول - وهو مبلغ آيات الله - أوضح أحكام الله ويعصي ربه جهارا؟ إيمان أبي طالب وإذا ما تجاوزنا هذا فثمة أدلة جمة على إيمان أبي طالب، ولعلي لا أستطيع الآن إحصاءها بأجمعها، ولكن حسبنا ما جاء في الكثير من أشعاره، التي يقر فيها برسول الله ونبوته، ويصرح بإيمانه بالله على الرغم من أنه كان يعيش في وضع لا يسمح له بالتجاهر برأيه إلى هذا الحد.

دهش الأستاذ من هذه الآيات القرآنية التي بدا وكأنها لم تطرق سمعه من قبل وتقلب لون وجهه من حال إلى حال وقال: إذا كنت تبغي النقاش فالصف ليس موضعا للنقاش، والصف لا يختص بك حتى تكون أنت المتحدث الوحيد فيه وتستحوذ على وقت نيف وثلاثين من الطلاب! تعال إلى غرفتنا (غرفة المعلمين) للمناظرة في وقت الفرصة.

قلت: لا ينبغي هذا! فإما أنك لا تتحدث في القضايا التي تثير الاختلاف، وإما أنك إذا تحدثت بها ينبغي أن تتوقع ردا عليها، فأنا اليوم إن لم أدافع عن أبي طالب، هذا الإنسان الموحد الطاهر فسيعتقد هؤلاء الطلاب فيه كعقيدتك فيه، وسأخزى يوم القيامة أمام الله ورسوله. إنني مستعد لمناظرتك حيثما شئت وفي أي موضوع من المواضيع العقائدية، ولكن إذا سمح لي الطلاب اليوم بقراءة بيتين من الشعر لأبي طالب (عليه السلام) لكي لا تهتز عقيدتهم فيه.

وفي الحال أيدني الطلاب، وقالوا: يا أستاذ! الحق معه، دعه يدافع عما يعتقد به.

اضطر الأستاذ للصمت وبقي ينتظر.

كنت متجها بكل مشاعري إلى أبي طالب، فاستعنت به وبربه لأكون قادرا على أداء حق سيد مكة ومولاها في أول اجتماع عام وبحضور الكثير من المستمعين، وليتسنى لي الدفاع عن هذه الشخصية المفترى عليها في تاريخ الرسالة.

فقلت: يا أستاذي! ويا أصدقائي! لم يكن أبو طالب بالذي يعتريه أدنى شك بنبوة الرسول (صلى الله عليه وآله)، إذ أن له قصائد كثيرة يمدح فيها الرسول ويشهد برسالته فهو بعد أن أخبر قريش بأن صحيفتكم قد أكلتها الديدان ولم يبق منها سوى اسم الله، وهذا ما أخبرني به ابن أخي محمد، وإذا لم تصدقوا فاذهبوا واستخرجوها من داخل الكعبة، فإن كان قول محمد هذا صحيحا عودوا إلى رشدكم وآمنوا له، وإن يك كاذبا أسلمته لكم فإن شئتم عاقبتموه أو قتلتموه.

قالوا: رضينا بهذا! فذهبوا وجاءوا بالصحيفة ووجدوا كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) صدق.

لكن من ختم الله على قلبه وألقى على بصره وعلى سمعه غشاوة لا يعي الحق، ومن الطبيعي أن يتجاهل هذه المعجزة الكبرى، ومن هنا قالوا لأبي طالب: هذا أيضا سحر آخر مما يأتيه ابن أخيك، وهكذا انغمسوا في ضلالهم.

دنا أبو طالب من بيت الله وتعلق بأستار الكعبة وقال: اللهم انصرنا على القوم الظالمين فقد قطعوا رحمنا وانتهكوا حرمتنا .

ثم أنشد قصيدة طويلة غراء لا أستظهر منها حاليا - وللأسف - سوى بيتين، وأنصح الأخوة بالذهاب إلى مكتبة المدرسة بعد انتهاء هذا الدرس واستخراجها من كتب التاريخ ومطالعتها. نهض أحدهم قائلا: في أي كتاب وردت مثل هذه القصة؟ قلت: قصة الصحيفة معروفة وذكرتها كل كتب التاريخ ويمكنك مراجعة تاريخ اليعقوبي، وسيرة ابن هشام، وتاريخ ابن كثير، وطبقات ابن سعد، وعيون الأخبار لابن قتيبة، وهي بأجمعها من الكتب المعتبرة عند أبناء السنة، وعلى كل حال فقد قال أبو طالب في تلك القصيدة الغراء:

ألا أن خير الناس نفسا ووالدا * إذا عد سادات البرية أحمد

نبي الإله والكريم بأصله * وأخلاقه وهو الرشيد المؤيد .

ألا يكفي أن أبا طالب يعتبر الرسول نبي الإله ؟ أليست هذه شهادة برسالة ونبوة محمد (صلى الله عليه وآله)؟ هذا فضلا عن بيتين من الشعر يصرح فيهما بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) وقد أوردهما البخاري في التاريخ الصغير ، وابن عساكر في تاريخه، وابن حجر في الإصابة وفيهما يمدح رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالقول:

لقد أكرم الله النبي محمدا * فأكرم خلق الله في الناس أحمد

وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد (1) .

ظاهر هذين البيتين وباطنهما واضح وصريح، وفيهما دلالة على عظمة شأن أبي طالب ووفرة علمه وعلو منزلته. قال الأستاذ: هذا البيت ينسب لحسان بن ثابت.

قلت: إنه أخذ هذا البيت عن أبي طالب وضمنه في قصيدته في مدح الرسول، وإذا ما تجاوزنا كل هذا، هناك أيضا قصة استسقاء أبي طالب وعبد المطلب واستعانتهما بالرسول وهو لا زال طفلا، وهي قصة مشهورة، وهذا دليل واضح على إيمانهما له بالنبوة والرسالة الخاتمة من قبل أن تعرض قضية رسالته، فهما كانا يعلمان منذ اليوم الأول ما لهذا الطفل من منزلة وقرب عند الله.

كانت قد مرت على الناس سنتان لا ينزل عليهم الغيث، وأتت عليهم مجاعة، فأخذ أبو طالب هذا الطفل وتوجه به إلى الكعبة وقسم على الله به وقال: اللهم بحق هذا الطفل أنزل علينا غيث رحمتك . لم تمض ساعة إلا وغمامة سوداء قد غطت سماء مكة وأمطرت عليهم مطرا غزيرا حتى خافوا أن يجرف السيل بيت الله. لما تذكر أبو طالب هذه القصة، قال في مدح الرسول:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل

وميزان عدل لا يخيس شعيرة * ووزان صدق وزنه غير هائل (2) .

لم أكن قد أتممت كلامي حتى وجدت الصف كله مصغيا لأشعار أبي طالب ذات المغزى العميق، وهناك رن الجرس فجأة معلنا انتهاء الدرس، وتنفس المدرس الصعداء، ومع هذا فحينما خرجت من الصف التفت إلي باحترام وقال: إنني لأشعر بالارتياح لوجود طالب مثلك بين طلابي له مثل هذه المعرفة بمواضيع العقيدة والتاريخ ويستدل بهذه الطريقة الحسنة، وإني لأفتخر بطالب مثلك، ولكن اعلم إن لجميع هذا الكلام ردود.

قلت: إني على استعداد لمواجهة أي رد أو انتقاد، ولدي جواب على جميع الاعتراضات، وإذا لم تقنع فإني مستعد للكلام معك ثانية. قال: طبعا كلامك عن أبي طالب شيق جدا وينطوي على أمور جديدة بالنسبة لي، ولكن نفس أولئك الذين نقلت عنهم تلك الأبيات لأبي طالب يعتبرونه كافرا! قلت: إن كان هناك من يرى الحق ويدوس عليه، فلا يعني هذا إنك تتبعه على باطله.

قال: تريد أن تقول إن هؤلاء جميعا حاربوا الحق، وأنتم وحدكم دافعتهم عنه؟ ما هذا الكلام يا عزيزي!

قلت: يا أستاذ! إن قول الحق مر، وليس بإمكان كل واحد تحمل هذه المرارة، ثم إنني لا شأن لي بما في كلامهم من تناقضات، بل كنت أبغي فقط الاستشهاد من كتبكم على إيمان أبي طالب ليتضح إنه كان مؤمنا تمام الإيمان، وإذا بقي هناك من ينكر إيمانه يتبين أيضا أنه مخدوع!!

قال: تقول إن فيها تناقضات، هل يمكنك البرهنة على ذلك؟ قلت: الأدلة على ذلك كثيرة! وهذا الدليل كاف بحد ذاته، فأنت تلاحظ مع كثرة الأشعار التي ينقلونها عن أبي طالب في مدح الرسول (صلى الله عليه وآله)، يصورون وبكل جرأة أن هذا الرجل الإلهي كافر، أليس هذا تناقضا؟ قال: أنت تعلم طبعا أن أبا طالب كان يحب محمدا كثيرا، وكان يدافع عنه طوال مدة حياته معه، فما هو المانع في أن يبعث البهجة في نفس ابن أخيه بالأشعار ليقلل إلى حد ما من ألم المصائب التي كانت تترى عليه؟

قلت: يا أستاذ إن المدح والثناء شيء آخر غير الشهادة بالنبوة، فهو هنا لا يثني عليه وكفى! وإنما يشهد له بالنبوة أيضا في مواقف مختلفة، وليس ثمة مجال للكناية والتورية، وفضلا عن هذا ألم يعلن النبي (صلى الله عليه وآله) حرمة زواج المسلمات بالكفار؟ والكل يعلم أن فاطمة بنت أسد كانت من أوائل المسلمات، ومع هذا بقيت مع أبي طالب حتى النهاية ولم يفرقها الرسول عن زوجها.

قال: إن لديك اطلاعا واسعا، ولدي عدة قضايا أود معرفة رأيك فيها، لكن الوقت لا يسمح الآن، أرجو أن يكون لنا من بعد هذا لقاءات منفصلة نتباحث فيها بشكل مفصل، إلى اللقاء. - في أمان الله.

انقضى ذلك اليوم وعدت إلى الدار وحدثت والدي المرحوم بما جرى، فابتهج ودعا لي ثم قال: يا بني إن إيمان أبي طالب كإيمان مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه في عهد النبي موسى (عليه السلام).

أبو طالب كان قد آمن بالرسول منذ البداية وإلا لم يكن ليدافع عنه إلى هذا الحد، بيد أن الرسول ما كان مباحا له وفقا لأمر الله باتخاذه نصيرا له، ولا حتى أن يلقي إليه بالمحبة.

أما أشعار أبي طالب في مدح الرسول صراحة واعترافه بنبوته فكثيرة، وهي منقولة في كتب السنة، ويمكنك مراجعة كتاب أبو طالب مؤمن قريش من تأليف الشيخ عبد الله الخنيزي، واكتب شيئا من تلك الأشعار وخذها إلى أستاذك، ويكفي أبا طالب أنه كان يذب عن الرسول علانية في جميع المواقف والمراحل منذ بداية الدعوة حين جمع الرسول أقرباءه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] وحتى آخر حياته، وكان يقف بوجه كفار قريش ويحامي عن الرسول بكل ما أوتي من قوة، فإن لم يكن قد آمن برسالة الرسول فما كان الدافع من وراء حمايته له بهذه الصورة؟ ألم يكن أبو لهب عم الرسول وكان يحاربه؟ ومنذ الاجتماع الأول الذي جمع فيه الرسول أقاربه ودعاهم - بعد تناول الطعام - إلى الإسلام نهض أبو لهب مستنكرا دعوته فصاح به أبو طالب غاضبا: أسكت يا أعور ما أنت وهذا، ثم قال: لا يقومن أحد، قال: فجلسوا ثم قال للنبي (صلى الله عليه وآله): قم يا سيدي فتكلم بما تحب، وبلغ رسالة ربك، فإنك الصادق المصدق (3).

أي كافر هذا الذي يدافع عن الإسلام بكل ما أوتي من قوة وينبري للذود عن ابن أخيه بيده ولسانه ويحميه من قرابته الكافر، حتى يبلغ رسالة ربه بسهولة، وناصره في شعبه، هو وكل أتباعه يوم كانت كل قريش تحاربه؟! فإن كان شخص كهذا كافرا فأنا أيضا كافر.

شكرت أبي وذهبت لمطالعة كتاب أبو طالب مؤمن قريش ووجدت أن المؤلف قد بذل جهدا شاقا ودافع عن أبي طالب حق الدفاع، ولكن العلامة الأميني كان قد سبقه إلى البحث في سيرة ومواقف أبي طالب على امتداد سبعين صفحة من المجلد السابع من كتابه الغدير ، وهو بحث شيق وثمين.

وعلى كل حال لا بأس بذكر عدة أبيات شعرية أخرى له لغرض إكمال هذه المقالة إلى حد ما، ولكي لا تبقى لدى القارئ أدنى شبهة وليبلغ كل ذي حق حقه. نقل الحاكم في المستدرك أن أبا طالب بعث أبياتا من الشعر للنجاشي حاكم الحبشة يدعوه فيها إلى الإحسان إلى مهاجري الحبشة، وجاء فيها:

ليعلم خيار الناس أن محمدا * وزير لموسى والمسيح بن مريم

أتانا بالهدى مثل ما أتيا به * فكل بأمر الله يهدي ويعصم (4) .

وجاء في أبيات أخرى يخاطب بها رسول الله (صلى الله عليه وآله):

والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة * وابشر بذاك وقر منك عيونا

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي * ولقد دعوت وكنت ثم أمينا

ولقد علمت بأن دين محمد * من خير أديان البرية دينا (5) .

وله أيضا قصيدة لامية طويلة في مدح رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقر في عدة أبيات منها بنبوته ورسالته، نقل منها ابن هشام أربعة وتسعين بيتا (6)، وابن كثير اثنين وتسعين بيتا (7)، وصيغت هذه القصيدة على غرار المعلقات السبعة، وهي في غاية البلاغة والفصاحة ونظمها في وقت هبت فيه قريش كلها لمحاربة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وكانوا يطردون عنه المسلمين بقوة الحراب.

وقد أشاد القسطلاني بفصاحة وبلاغة هذه القصيدة وذكر أنها تضم مائة وعشرة أبيات (8)، ولو لم يكن منهجنا الاختصار لنقلنا هذه القصيدة هنا، ولكن تكفي الإشارة إليها ليرتدع أصحاب الآراء المنحرفة الباطلة عن انتهاك قدسية هذه الشخصية الجليلة، ولكي لا يتهموا هذا المؤمن - الطاهر السريرة وأول المدافعين عن الإسلام - بالكفر، وأن يتوبوا إلى الله من سوء القول فيه. كان أبو طالب سباقا في ميدان الجهاد والاستقامة في عهد الجاهلية الأسود وفي ظلمات أبناء قريش. كان أبو طالب كوكبا زاهرا يقتبس نوره الساطع من الشمس المحمدية المتألقة، وكان صوته المدوي في البطحاء صدى لصيحة النبي في نداء لا إله إلا الله محمد رسول الله . كان أبو طالب شخصية انطلقت عقيدة الإسلام التحررية تحت ظل بريق سيفه البتار، وصدى أشعاره المثيرة ودفاعه المتواصل، فأضاء ظلمة مكة بنوره الباهر.

كان أبو طالب تابعا مطيعا لمحمد (صلى الله عليه وآله)، وكان حبه لصاحب الرسالة يسري في أعماق روحه وجسده، وظل يسير في طريق المحبة حتى اللحظة التي بلغ فيها مرحلة اليقين، ورفعته يد الغيب الإلهية إلى أعلى عليين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) باكيا في رثائه :

يا عم ربيت صغيرا وكفلت يتيما ونصرت كبيرا فجزاك الله عني خيرا (9).

قال اليعقوبي في تاريخه: ولما قيل لرسول الله إن أبا طالب قد مات عظم ذلك في قلبه واشتد له جزعه، ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسر ثلاث مرات (10) ثم دعا له بالخير، وعظم موت أبي طالب على ابن أخيه حتى سمى ذلك العام عام الحزن، فهل يبكي الرسول هكذا على موت كافر - والعياذ بالله -؟

وهل يعطف رسول الله (صلى الله عليه وآله) على كافر، ويبدي له المحبة أكثر من سائر المؤمنين، ويجزع على فقده مع ما أمر به من الغلظة مع الكفار والرأفة بالمؤمنين؟

أعيدوا كتابة التأريخ وامحوا هذه البقع المخزية من صفحاته، كفى انسياقا وراء الأسلاف الأراذل الذين دفعهم بغض وصي رسول الله إلى اتهام أبيه الجليل بتهمة الإلحاد، فيما تاريخ الإسلام حافل بنداءاته الإسلامية، وكان ناصرا مخلصا للرسول سلام الله وصلواته عليه وعلى محبيه، واللعن الدائم على أعدائه إلا من انساقوا في هذا الطريق جهلا، وإذا أدركوا الحق اتبعوه، وعوضوا عما سلف منهم بالتوبة والإنابة إلى سبيل الهداية وإلى الصراط المستقيم (11).

_________________

(1) التاريخ الصغير للبخاري: ج 1 ص 38، البداية والنهاية لابن كثير: ج 2 ص 266، الإصابة لابن حجر العسقلاني: ج 4 ص 115، دلائل النبوة لأبي نعيم: ج 1 ص 41.

(2) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني: ج 2 ص 237 - 238، الخصائص الكبرى: ج 1 ص 86، السيرة الحلبية: ج 1 ص 190.

(3) الغدير للأميني: ج 7 ص 355.

(4) المستدرك للحكام النيسابوري: ج 2 ص 623،.

(5) خزانة الأدب للبغدادي: ج 2 ص 76 وج 9 ص 397، البداية والنهاية لابن كثير: ج 3 ص 42، الإصابة لابن حجر العسقلاني: ج 4 ص 116، تذكرة الخواص لابن الجوزي: ص 7، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14 ص 55.

(6) السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 291 - 299.

(7) البداية والنهاية لابن كثير: ج 3 ص 53 - 57.

(8) إرشاد الساري للقسطلاني: ج 2 ص 238.

(9) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 35، تذكرة الخواص لابن الجوزي: ص 9، الغدير للأميني: ج 7 ص 373.

(10) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 35.

(11) مذكرات المدرسة، للمهري: ص 18 - 30.

 

 




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.