أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-5-2021
2049
التاريخ: 27-11-2019
2935
التاريخ: 27-11-2019
1465
التاريخ: 15-11-2016
2839
|
القول في إسلام أبي بكر وعلي وخصائص كل منهما ( 1 ) وينبغي أن نذكر في هذا الموضع ملخص ما ذكره الشيخ أبو عثمان الجاحظ في كتابه المعروف بكتاب " العثمانية " في تفضيل اسلام أبي بكر على اسلام علي ( عليه السلام ) ، لان هذا الموضع يقتضيه ، لقوله ( عليه السلام ) حكاية عن قريش لما صدق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وهل يصدقك في امرك إلا مثل هذا ! لأنهم استصغروا سنه ، فاستحقروا امر محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث لم يصدقه في دعواه الا غلام صغير السن ، وشبهة العثمانية التي قررها الجاحظ من هذه الشبهة نشأت ، ومن هذه الكلمة تفرعت ، لأن خلاصتها أن أبا بكر أسلم وهو ابن أربعين سنة ، وعلي أسلم ولم يبلغ الحلم ، فكان إسلام أبي بكر أفضل .
ثم نذكر ما اعترض به شيخنا أبو جعفر الإسكافي على الجاحظ في كتابه المعروف ب " نقض العثمانية " ويتشعب الكلام بينهما حتى يخرج عن البحث في الاسلاميين إلى البحث في أفضلية الرجلين وخصائصهما ، فان ذلك لا يخلو عن فائدة جليلة ، ونكتة لطيفة ، لا يليق ان يخلو كتابنا هذا عنها ، ولان كلامهما بالرسائل والخطابة أشبه ، وفي الكتابة أقصد وأدخل ، وكتابنا هذا موضوع لذكر ذلك وأمثاله .
قال أبو عثمان : قالت العثمانية : أفضل الأمة وأولاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قحافة لإسلامه على الوجه الذي لم يسلم عليه أحد في عصره وذلك أن الناس اختلفوا في أول الناس اسلاما ، فقال قوم : أبو بكر ، وقال قوم : زيد بن حارثة ، وقال قوم : خباب بن الأرت . وإذا تفقدنا اخبارهم ، وأحصينا أحاديثهم ، وعددنا رجالهم ونظرنا في صحة أسانيدهم ، كان الخبر في تقدم اسلام أبي بكر أعم ورجاله أكثر ، وأسانيده أصح ، وهو بذاك أشهر ، واللفظ فيه أظهر ، مع الاشعار الصحيحة ، والأخبار المستفيضة في حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعد وفاته ، وليس بين الاشعار والاخبار فرق إذا امتنع في مجيئها ، وأصل مخرجها التباعد والاتفاق والتواطؤ ، ولكن ندع هذا المذهب جانبا ، ونضرب عنه صفحا ، اقتدارا على الحجة ، ووثوقا بالفلج والقوة ، ونقتصر على أدنى نازل في أبي بكر ، وننزل على حكم الخصم .
فنقول : انا وجدنا من يزعم أنه أسلم قبل زيد وخباب ووجدنا من يزعم أنهما أسلما قبله ، وأوسط الأمور أعدلها ، وأقربها من محبة الجميع ، ورضا المخالف ، أن نجعل اسلامهم كان معا ، إذ الاخبار متكافئة والآثار متساوية على ما تزعمون ، وليست احدى القضيتين أولى في صحة العقل من الأخرى ، ثم نستدل على امامة أبي بكر بما ورد فيه من الحديث وبما أبانه به الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من غيره .
قالوا : فمما روي من تقدم اسلامه ما حدث به أبو داود وابن مهدي عن شعبة ، وابن عيينة ، عن الجريري ، عن أبي هريرة ، قال أبو بكر : أنا أحقكم بهذا الامر- يعني الخلافة - ألست أول من صلى .
روى عباد بن صهيب ، عن يحيى بن عمير ، عن محمد بن المنكدر أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : " ان الله بعثني بالهدى ودين الحق إلى الناس كافة ، فقالوا : كذبت ، وقال أبو بكر : صدقت " .
وروى يعلى بن عبيد ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فسأله : من كان أول الناس اسلاما ؟ فقال : أما سمعت قول حسان بن ثابت :
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة *** فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا ( 2 )
الثاني التالي المحمود مشهده *** وأول الناس منهم صدق الرسلا ( 3 )
وقال أبو محجن :
سبقت إلى الاسلام والله شاهد *** وكنت حبيبا بالعريش المشهر ( 4 )
وقال كعب بن مالك :
سبقت أخا تيم إلى دين احمد *** وكنت لدى الغيران في الكهف صاحبا ( 5 )
وروى ابن أبي شيبة ، عن عبد الله بن إدريس ووكيع ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال : قال النخعي : أبو بكر أول من أسلم .
وروى هيثم عن يعلى بن عطاء عن عمرو بن عنبسة ، قال : أتيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو بعكاظ ، فقلت : من بايعك على هذا الأمر ؟ فقال : بايعني حر وعبد فلقد رأيتني يومئذ وأنا رابع الاسلام .
قال بعض أصحاب الحديث : يعني بالحر أبا بكر وبالعبد بلالا .
وروى الليث بن سعد ، عن معاوية بن صالح ، عن سليم بن عامر عن أبي أمامة، قال : حدثني عمرو بن عنبسة ، انه سأل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو بعكاظ ، فقال له : من تبعك ؟ قال : تبعني حر وعبد ، أبو بكر وبلال .
وروى عمرو بن إبراهيم الهاشمي ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أسيد بن صفوان ، صاحب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : لما قبض أبو بكر جاء علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فقال : رحمك الله أبا بكر ! كنت أول الناس اسلاما .
وروى عباد عن الحسن بن دينار ، عن بشر بن أبي زينب ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، قال : إذا لقيت الهاشميين قالوا : علي بن أبي طالب أول من أسلم ، وإذا لقيت الذين يعلمون ، قالوا : أبو بكر أول من أسلم .
قال أبو عثمان الجاحظ : قالت العثمانية : فان قال قائل : فما بالكم لم تذكروا علي بن أبي طالب في هذه الطبقة ، وقد تعلمون كثرة مقدميه والرواية فيه ؟
قلنا : قد علمنا الرواية الصحيحة ، والشهادة القائمة ، انه أسلم وهو حدث غرير ، وطفل صغير ، فلم نكذب الناقلين ، ولم نستطع ان نلحق اسلامه بإسلام البالغين ، لأن المقلل زعم أنه أسلم وهو ابن خمس سنين . والمكثر زعم أنه أسلم وهو ابن تسع سنين ، فالقياس ان يؤخذ بالأوسط بين الروايتين ، وبالأمر بين الأمرين ، وانما يعرف حق ذلك من باطله ، بأن نحصي سنيه التي ولي فيها الخلافة ، وسني عمر ، وسني عثمان ، وسني أبي بكر ، ومقام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالمدينة ومقامه بمكة عند إظهار الدعوة ، فإذا فعلنا ذلك صح أنه أسلم وهو ابن سبع سنين ، فالتاريخ المجمع عليه أنه قتل ( عليه السلام ) في شهر رمضان سنة أربعين .
قال شيخنا أبو جعفر الإسكافي ( 6 ) : لولا ما غلب على الناس من الجهل وحب التقليد ، لم تحتج إلى نقض ما احتجت به العثمانية فقد علم الناس كافة ، ان الدولة والسلطان لأرباب مقالتهم ، وعرف كل أحد علو أقدار شيوخهم وعلمائهم وأمرائهم ، وظهور كلمتهم ، وقهر سلطانهم وارتفاع التقية عنهم والكرامة ، والجائزة لمن روى الاخبار والأحاديث في فضل أبي بكر ، وما كان من تأكيد بني أمية لذلك ، وما ولده المحدثون من الأحاديث طلبا لما في أيديهم ، فكانوا لا يألون جهدا في طول ما ملكوا ان يحطوا ذكر علي ( عليه السلام ) وولده ، ويطفئوا نورهم ، ويكتموا فضائلهم ومناقبهم وسوابقهم ، ويحملوا على شتمهم وسبهم ولعنهم على المنابر ، فلم يزل السيف يقطر من دمائهم ، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم ، فكانوا بين قتيل وأسير ، وشريد وهارب ، ومستخف ذليل ، وخائف مترقب ، حتى أن الفقيه والمحدث والقاضي والمتكلم ليتقدم إليه ويتوعد بغاية الايعاد وأشد العقوبة ، أن لا يذكروا شيئا من فضائلهم ، ولا يرخصوا لأحد أن يطيف بهم ، وحتى بلغ من تقية المحدث انه إذا ذكر حديثا عن علي ( عليه السلام ) كنى عن ذكره فقال : قال رجل من قريش وفعل رجل من قريش ، ولا يذكر عليا ( عليه السلام ) ولا يتفوه باسمه .
ثم رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله ، ووجهوا الحيل والتأويلات نحوها ، من خارجي مارق ، وناصبي حنق ، وثابت مستبهم ، وناشئ معاند ومنافق مكذب ، وعثماني حسود ، يعترض فيها ويطعن ، ومعتزلي قد نقض في الكلام ، وأبصر علم الاختلاف ، وعرف الشبه ومواضع الطعن وضروب التأويل قد التمس الحيل في ابطال مناقبه ، وتأول مشهور فضائله ، فمرة يتأولها بما لا يحتمل ، ومرة يقصد ان يضع من قدرها بقياس منتقض ، ولا يزداد مع ذلك إلا قوة ورفعة ، ووضوحا واستنارة ، وقد علمت أن معاوية ويزيد ومن كان بعدهما من بني مروان أيام ملكهم - وذلك نحو ثمانين سنة - لم يدعوا جهدا في حمل الناس على شتمه ولعنه وإخفاء فضائله وستر مناقبه وسوابقه .
روى خالد بن عبد الله الواسطي ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن هلال بن يساف ، عن عبد الله بن ظالم قال : لما بويع لمعاوية أقام المغيرة بن شعبة خطباء يلعنون عليا ( عليه السلام ) ، فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل : ألا ترون إلى هذا الرجل الظالم يأمر بلعن رجل من أهل الجنة .
روى سليمان بن داود ، عن شعبة ، عن الحر بن الصباح ، قال : سمعت عبد الرحمن بن الأخنس ، يقول : شهدت المغيرة بن شعبة خطب فذكر عليا ( عليه السلام ) ، فنال منه .
روى أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا صدقة بن المثنى النخعي عن رياح بن الحارث ، قال : بينما المغيرة بن شعبة بالمسجد الأكبر ، وعنده ناس إذ جاءه رجل يقال له ، قيس بن علقمة ، فاستقبل المغيرة ، فسب عليا ( عليه السلام ) .
روى محمد بن سعيد الأصفهاني ، عن شريك ، عن محمد بن إسحاق ، عم عمرو بن علي بن الحسين ، عن أبيه علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، قال : قال لي مروان : ما كان في القوم ادفع عن صاحبنا من صاحبكم . قلت : فما بالكم تسبونه على المنابر ؟ قال : إنه لا يستقيم لنا الامر إلا بذلك .
روى مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي ، عن ابن أبي سيف قال : خطب مروان والحسن ( عليه السلام ) جالس فنال من علي ( عليه السلام ) ، فقال الحسن : ويلك يا مروان ! أهذا الذي تشتم شر الناس ! قال : لا ، ولكنه خير الناس .
وروى أبو غسان أيضا ، قال : قال عمر بن عبد العزيز : كان أبي يخطب فلا يزال مستمرا في خطبته ، حتى إذا صار إلى ذكر علي وسبه تقطع لسانه ، واصفر وجهه ، وتغيرت حاله ، فقلت له في ذلك ، فقال : أوقد فطنت لذلك ؟ إن هؤلاء لو يعلمون من علي ما يعلمه أبوك ما تبعنا منهم رجل .
وروى أبو عثمان ، قال : حدثنا أبو اليقظان ، قال : قام رجل من ولد عثمان إلى هشام بن عبد الملك يوم عرفة ، فقال : إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب .
وروى عمرو بن القناد ، عن محمد بن فضيل ، عن أشعث بن سوار قال : سب عدي بن أرطأة عليا ( عليه السلام ) على المنبر ، فبكى الحسن البصري ، وقال : لقد سب هذا اليوم رجل إنه لأخو رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الدنيا والآخرة .
وروى عدي بن ثابت عن إسماعيل بن إبراهيم ، قال : كنت أنا وإبراهيم بن يزيد جالسين في الجمعة مما يلي أبواب كندة فخرج المغيرة فخطب ، فحمد الله ، ثم ذكر ما شاء ان يذكر ، ثم وقع في علي ( عليه السلام ) فضرب إبراهيم على فخذي أو ركبتي ، ثم قال : اقبل علي ، فحدثني فإنا لسنا في جمعة ، ألا تسمع ما يقول هذا ؟ عامر بن عبد الله بن الزبير لولده : لا تذكر يا بني عليا إلا بخير ، فان بني أمية لعنوه على منابرهم ثمانين سنة فلم يزده الله بذلك إلا رفعة ، إن الدنيا لم تبن شيئا قط إلا رجعت على ما بنت فهدمته ، وان الدين لم يبن شيئا قط وهدمه .
وروى عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا مطلب بن زياد ، عن أبي بكر بن عبد الله الأصبهاني ، قال : كان دعي لبني أمية يقال له خالد بن عبد الله ، لا يزال يشتم عليا ( عليه السلام ) ، فلما كان يوم جمعة ، وهو يخطب الناس ، قال : والله ان كان رسول الله ليستعمله ، وانه ليعلم ما هو ، ولكنه كان ختنه ، وقد نعس سعيد بن المسيب ففتح عينيه ثم قال : ويحكم ، ما قال هذا الخبيث ؟ ! رأيت القبر انصدع ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : كذبت يا عدو الله .
وروى القناد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر الهمداني ، عن السدي ، قال : بينما انا بالمدينة عند أحجار الزيت ، إذ اقبل راكب على بعير فوقف فسب عليا ( عليه السلام ) فخف به الناس ينظرون إليه ، فبينا هو كذلك إذ اقبل سعد بن أبي وقاص ، فقال : اللهم ان كان سب عبدا لك صالحا فأر المسلمين خزيه ، فما لبث ان نفر به بعيره فسقط ، فاندقت عنقه .
وروى عثمان بن أبي شيبة ، عن عبد الله بن موسى ، عن فطر بن خليفة عن أبي عبد الله الجدلي ، قال : دخلت على أم سلمة رحمها الله فقالت : أيسب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيكم وأنتم أحياء ؟ قلت : وأنى يكون هذا ؟ قالت : أليس يسب علي ( عليه السلام ) ومن يحبه !
وروى العباس بن بكار الضبي ، قال : حدثني أبو بكر الهذلي عن الزهري ، قال : قال ابن عباس لمعاوية : ألا تكف عن شتم هذا الرجل ؟ قال : ما كنت لأفعل حتى يربو عليه الصغير ويهرم فيه الكبير . فلما ولي عمر بن عبد العزيز كف عن شتمه ، فقال الناس : ترك السنة .
قال : وقد روي عن ابن مسعود اما موقوفا عليه أو مرفوعا ، كيف أنتم إذا شملتم فتنة يربو عليها الصغير ويهرم فيها الكبير ، يجرى عليها الناس فيتخذونها سنة ، فإذا غير منها شئ قيل : غيرت السنة .
قال أبو جعفر : وقد تعلمون ان بعض الملوك ربما أحدثوا قولا ، أو دينا لهوى فيحملون الناس على ذلك ، حتى لا يعرفوا غيره كنحو ما اخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة عثمان ، وترك قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب ، وتوعد على ذلك بدون ما صنع هو وجبابرة بني أمية وطغاة بني مروان بولد علي ( عليه السلام ) ، وشيعته ، وانما كان سلطانه نحو عشرين سنة ، فما مات الحجاج حتى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان ، ونشأ أبناؤهم ولا يعرفون غيرها ، لإمساك الآباء عنها ، وكف المعلمون عن تعليمها ، حتى لو قرأت عليهم قراءة عبد الله وأبي ما عرفوها ، ولظنوا بتأليفها الاستكراه والاستهجان ، لألفة العادة وطول الجهالة لأنه إذا استولت على الرعية الغلبة ، وطالت عليهم أيام التسلط وشاعت فيهم المخافة ، وشملتهم التقية ، اتفقوا على التخاذل والتساكت فلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم ، وتنقص من ضمائرهم وتنقض من مرائرهم ، حتى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنة التي كانوا يعرفونها ، ولقد كان الحجاج ومن ولاه ، كعبد الملك والوليد ومن كان قبلهما وبعدهما من فراعنة بني أمية على إخفاء محاسن علي ( عليه السلام ) وفضائل ولده وشيعته ، وإسقاط أقدارهم أحرص منهم على اسقاط قراءة عبد الله وأبي ، لأن تلك القراءات لا تكون سببا لزوال ملكهم ، وفساد امرهم ، وانكشاف حالهم ، وفي اشتهار فضل علي ( عليه السلام ) وولده واظهار محاسنهم بوارهم ، وتسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم ، فحرصوا واجتهدوا في اخفاء فضائله ، وحملوا الناس على كتمانها وسترها ، وأبى الله ان يزيد امره وأمر ولده الا استنارة واشراقا ، وحبهم الا شغفا وشدة ، وذكرهم الا انتشارا وكثرة ، وحجتهم إلا وضوحا وقوة ، وفضلهم إلا ظهورا ، وشأنهم إلا علوا وأقدارهم إلا اعظاما ، حتى أصبحوا بإهانتهم إياهم أعزاء ، وبإماتتهم ذكرهم احياء ، وما أرادوا به وبهم من الشر تحول خيرا ، فانتهى الينا من ذكر فضائله وخصائصه ومزاياه وسوابقه ما لم يتقدمه السابقون ولا ساواه فيه القاصدون ، ولا يلحقه الطالبون ، ولولا أنها كانت كالقبلة المنصوبة في الشهرة ، وكالسنن المحفوظة في الكثرة ، لم يصل الينا منها في دهرنا حرف واحد ، ان كان الامر كما وصفناه .
قال : فاما ما احتج به الجاحظ بإمامة أبي بكر ، بكونه أول الناس اسلاما ، فلو كان هذا احتجاجا صحيحا ، لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة ، وما رأيناه صنع ذلك لأنه اخذ بيد عمر ويد أبي عبيدة بن الجراح ، وقال للناس : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا منهما من شئم ، ولو كان هذا احتجاجا صحيحا لما قال عمر : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها ، ولو كان احتجاجا صحيحا لادعى واحد من الناس لأبي بكر الإمامة في عصره أو بعد عصره بكونه سبق إلى الاسلام ، وما عرفنا أحدا ادعى له ذلك ، على أن جمهور المحدثين لم يذكروا أن أبا بكر أسلم إلا بعد عدة من الرجال ، منهم علي بن أبي طالب ، وجعفر أخوه ، وزيد بن حارثة ، وأبو ذر الغفاري وعمرو بن عنبسة السلمي ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وخباب بن الأرت وإذا تأملنا الروايات الصحيحة ، والأسانيد القوية الوثيقة ، وجدناها كلها ناطقة بان عليا ( عليه السلام ) أول من أسلم .
فأما الرواية عن ابن عباس ان أبا بكر أولهم اسلاما فقد روي عن ابن عباس خلاف ذلك ، بأكثر مما رووا وأشهر ، فمن ذلك ما رواه يحيى بن حماد ، عن أبي عوانة وسعيد بن عيسى ، عن أبي داود الطيالسي ، عن عمرو بن ميمون ، عن ابن عباس ، أنه قال : أول من صلى من الرجال علي ( عليه السلام ) .
وروى الحسن البصري ، قال : حدثنا عيسى بن راشد ، عن أبي بصير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : فرض الله تعالى الاستغفار لعلي ( عليه السلام ) في القرآن على كل مسلم ، بقوله تعالى : ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) ، فكل من أسلم بعد علي فهو يستغفر لعلي ( عليه السلام ) .
وروى سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : السباق ثلاثة ، سبق يوشع بن نون إلى موسى ، وسبق صاحب " يس " إلى عيسى ، وسبق علي بن أبي طالب إلى محمد عليه وعليهم السلام .
فهذا قول ابن عباس في سبق علي ( عليه السلام ) إلى الاسلام ، وهو أثبت من حديث الشعبي وأشهر ، على أنه قد روي عن الشعبي خلاف ذلك من حديث أبي بكر الهذلي وداود بن أبي هند عن الشعبي ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : هذا أول من آمن بي وصدقني وصلى معي .
قال : فأما الأخبار الواردة بسبقه إلى الاسلام المذكورة في الكتب الصحاح والأسانيد الموثوق بها ، فمنها ما روى شريك بن عبد الله عن سليمان بن المغيرة ، عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود أنه قال : أول شئ علمته من امر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اني قدمت مكة مع عمومة لي وناس من قومي ، وكان من أنفسنا شراء عطر ، فأرشدنا ( 7 ) إلى العباس بن عبد المطلب ، فانتهينا إليه ، وهو جالس إلى زمزم فبينا نحن عنده جلوسا ، إذ أقبل رجل من باب الصفا ، وعليه ثوبان أبيضان ، وله وفرة إلى انصاف أذنيه ، جعدة ، أشم أقنى أدعج العينين ، كث اللحية ، براق الثنايا ، ابيض تعلوه حمرة كأنه القمر ليلة البدر ، وعلى يمينه غلام مراهق أو محتلم ، حسن الوجه تقفوهما امرأة ، قد سترت محاسنها ، حتى قصدوا نحو الحجر ، فاستلمه واستلمه الغلام ، ثم استلمته المرأة ، ثم طاف بالبيت سبعا والغلام والمرأة يطوفان معه ، ثم استقبل الحجر ، فقام ورفع يديه وكبر ، وقام الغلام إلى جانبه ، وقامت المرأة خلفهما ، فرفعت يديها ، وكبرت فأطال القنوت ، ثم ركع وركع الغلام والمرأة ، ثم رفع رأسه فأطال ورفع الغلام والمرأة معه يصنعان مثل ما يصنع ، فلما رأينا شيئا ننكره ، لا نعرفه بمكة ، أقبلنا على العباس ، فقلنا : يا أبا الفضل ان هذا الدين ما كنا نعرفه فيكم ، قال : أجل والله ، قلنا : فمن هذا ؟ قال : هذا ابن أخي ، هذا محمد بن عبد الله ، هذا الغلام ابن أخي أيضا ، هذا علي بن أبي طالب وهذه المرأة زوجة محمد ، هذه خديجة بنت خويلد ، والله ما على وجه الأرض أحد يدين بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة .
ومن حديث موسى بن داود ، عن خالد بن نافع ، عن عفيف بن قيس الكندي ، وقد رواه عن عفيف أيضا ، مالك بن إسماعيل النهدي والحسن بن عنبسة الوراق وإبراهيم بن محمد بن ميمونة ، قالوا جميعا : حدثنا سعيد بن جشم ، عن أسد بن عبد الله البجلي ، عن يحيى بن عفيف بن قيس ، عن أبيه ، قال : كنت في الجاهلية عطارا ، فقدمت مكة ، فنزلت على العباس بن عبد المطلب ، فبينا أنا جالس عنده ، أنظر إلى الكعبة ، وقد تحلقت الشمس في السماء أقبل شاب كأن في وجهه القمر ، حتى رمى ببصره إلى السماء فنظر إلى الشمس ساعة ، ثم أقبل حتى دنا من الكعبة ، فصف قدميه يصلي ، فخرج على أثره فتى كأن وجهه صفيحة يمانية ، فقام عن يمينه ، فجاءت امرأة متلفقة في ثيابها ، فقامت خلفهما ، فأهوى الشاب راكعا ، فركعا معه ، ثم أهوى إلى الأرض ساجدا ، فسجدا معه ، فقلت للعباس : يا أبا الفضل ، أمر عظيم ! فقال : أمر والله عظيم ! أتدري من هذا الشاب ؟ قلت : لا ، قال هذا ابن أخي ، هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، أتدري من هذا الفتى ؟ قلت : لا ، قال هذا ابن أخي علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ، أتدري من المرأة ؟ قلت : لا ، قال : هذه ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى ، هذه خديجة زوج محمد هذا ( 8 ) وأن محمدا هذا يذكر أن إلهه إله السماء والأرض ، وأمره بهذا الدين فهو عليه كما ترى ، ويزعم أنه نبي ، وقد صدقه على قوله علي بن عمه هذا الفتى ، وزوجته خديجة ، هذه المرأة ، والله ما أعلم على وجه الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة : قال عفيف : فقلت له : فما تقولون أنتم ؟ قال : ننتظر الشيخ ما يصنع ! يعني أبا طالب أخاه .
وروى عبيد الله بن موسى ، والفضل بن دكين ، والحسن بن عطية قالوا : حدثنا خالد بن طهمان ، عن نافع بن أبي نافع ، عن معقل بن يسار قال : كنت أوصي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال لي : هل لك أن تعود فاطمة ؟ قلت : نعم يا رسول الله ، فقام يمشي متوكئا علي ، وقال : أما أنه سيحمل ثقلها غيرك ويكون اجرها لك قال : فوالله كأنه لم يكن علي من ثقل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شئ ، فدخلنا على فاطمة ( عليها السلام ) ، فقال لها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كيف تجدينك ؟ قالت : لقد طال أسفي ، واشتد حزني ، وقال لي النساء : زوجك أبوك فقيرا لا مال له ! فقال لها : أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما ، وأكثرهم علما ، وأفضلهم حلما ! قالت : بلى رضيت يا رسول الله .
وقد روى هذا الخبر يحيى بن عبد الحميد ، وعبد السلام بن صالح عن قيس بن الربيع ، عن أبي أيوب الأنصاري ، بألفاظه أو نحوها .
وروى عبد السلام بن صالح ، عن إسحاق الأزرق ، عن جعفر بن محمد ، عن آبائه ، ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما زوج فاطمة ، دخل النساء عليها ، فقلن : يا بنت رسول الله ، خطبك فلان وفلان فردهم عنك ، وزوجك فقيرا لا مال له ، فلما دخل عليها أبوها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رأى ذلك في وجهها ، فسألها فذكرت له ذلك ، فقال : يا فاطمة ، ان الله أمرني فأنكحتك أقدمهم سلما ، وأكثرهم علما وأعظمهم حلما ، وما زوجتك إلا بأمر من السماء ، أما علمت أنه أخي في الدنيا والآخرة ! .
وروى عثمان بن سعيد عن الحكم بن ظهير، عن السدي، أن أبا بكر وعمر خطبا فاطمة (عليها السلام)، فردهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: لم أومر بذلك، فخطبها علي (عليه السلام) ، فزوجه إياها ، وقال لها : زوجتك أقدم الأمة اسلاما . . وذكر تمام الحديث. قال : وقد روى هذا الخبر جماعة من الصحابة ، منهم أسماء بنت عميس وأم أيمن وابن عباس وجابر بن عبد الله .
قال: وقد روى محمد بن عبد الله بن أبي رافع ، عن أبيه عن جده أبي رافع ، قال : أتيت أبا ذر بالربذة أودعه فلما أردت الانصراف ، قال لي ولأناس معي : ستكون فتنة فاتقوا الله ، وعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب ، فاتبعوه فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول له : " أنت أول من آمن بي وأول من يصافحني يوم القيامة ، وأنت الصديق الأكبر ، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل ، وأنت يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الكافرين ، وأنت أخي ووزيري ، وخير من أترك بعدي ، تقضي ديني وتنجز موعدي " .
قال : وقد روى ابن أبي شيبة ، عن عبد الله بن نمير ، عن العلاء بن صالح ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله الأسدي ، قال : سمعت علي بن أبي طالب يقول : أنا عبد الله وأخو رسوله ، وأنا الصديق الأكبر ، لا يقولها غيري إلا كذاب ، ولقد صليت قبل الناس سبع سنين .
وروت معاذة بنت عبد الله العدوية ، قالت : سمعت عليا ( عليه السلام ) ، يخطب على منبر البصرة ، ويقول : أنا الصديق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر ، وأسلمت قبل أن يسلم .
وروى حبة بن جوين العرني أنه سمع عليا ( عليه السلام ) يقول : انا أول رجل أسلم مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة ، عن سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن حبة بن جوين .
وروى عثمان بن سعيد الخراز ( 9 ) ، عن علي بن حرار عن علي بن عامر ، عن أبي الحجاف ، عن حكيم مولى زاذان ، قال : سمعت عليا ( عليه السلام ) يقول : صليت قبل الناس سبع سنين وكنا نسجد ولا نركع ، وأول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر ، فقلت : يا رسول الله ، ما هذا ؟ قال : أمرت به .
وروى إسماعيل بن عمرو ، عن قيس بن الربيع ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله ، قال : صلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الاثنين ، وصلى علي يوم الثلاثاء بعده . وفي الرواية الأخرى ، عن أنس بن مالك ، استنبئ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء بعده .
وروى أبو رافع أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صلى أول صلاة صلاها غداة الاثنين ، وصلت خديجة آخر نهار يومها ذلك ، وصلى علي ( عليه السلام ) يوم الثلاثاء غدا ذلك اليوم .
قال وقد روي بروايات مختلفة كثيرة متعددة ، عن زيد بن أرقم وسلمان الفارسي ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، أن عليا ( عليه السلام ) أول من أسلم ، وذكر الروايات والرجال بأسمائهم .
وروى سلمة بن كهيل ، عن رجاله الذين ذكرهم أبو جعفر في الكتاب ، ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : " أولكم ورودا علي الحوض ، أولكم اسلاما ، علي بن أبي طالب " .
وروى ياسين بن محمد بن أيمن ، عن أبي حازم ، مولى ابن عباس عن ابن عباس ، قال : سمعت عمر بن الخطاب وهو يقول : كفوا عن علي بن أبي طالب ، فإني سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول ( 10 ) فيه خصالا ، لو أن خصلة منها في جميع آل الخطاب ، كان أحب لي مما طلعت عليه الشمس ، كنت ذات يوم وأبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة مع نفر من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نطلبه ، فانتهينا إلى باب أم سلمة ، فوجدنا عليا متكئا على نجاف ( 11 ) الباب ، فقلنا : أردنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : هو في البيت ، رويدكم ! فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فسرنا حوله ،
فاتكأ على علي ( عليه السلام ) وضرب بيده على منكبه ، فقال : أبشر يا علي بن أبي طالب إنك مخاصم ، وانك تخصم ( 12 ) الناس بسبع لا يجاريك أحد في واحدة منهن ، أنت أول الناس إسلاما ، وأعلمهم بأيام الله . . . وذكر الحديث .
قال : وقد روى أبو سعيد الخدري ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مثل هذا الحديث .
قال : روى أبو أيوب الأنصاري ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : " لقد صلت الملائكة علي وعلى علي ( عليه السلام ) سبع سنين " ، وذلك أنه لم يصل معي رجل فيها غيره .
قال أبو جعفر : فاما ما رواه الجاحظ من قوله : " انما تبعني حر وعبد " . فإنه لم يسم في هذا الحديث أبا بكر وبلالا وكيف وأبو بكر لم يشتر بلالا إلا بعد ظهور الاسلام بمكة ، فلما أظهر بلال اسلامه عذبه أمية بن خلف ! ولم يكن ذلك حال إخفاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الدعوة ، ولا في ابتداء أمر الاسلام ، وقد قيل : إنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) انما عنى بالحر علي بن أبي طالب ، وبالعبد زيد بن حارثة . وروى ذلك محمد بن إسحاق ، قال : وقد روى إسماعيل بن نصر الصفار ، عن محمد بن ذكوان ، عن الشعبي ، قال : قال الحجاج للحسن ، وعنده جماعة من التابعين وذكر علي بن أبي طالب : ما تقول أنت يا حسن ؟ فقال : ما أقول ! هو أول من صلى إلى القبلة ، وأجاب دعوة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وان لعلي منزلة من ربه وقرابة من رسوله ، وقد سبقت له سوابق لا يستطيع ردها أحد . فغضب الحجاج غضبا شديدا وقام عن سريره ، فدخل بعض البيوت وأمر بصرفنا .
قال الشعبي : وكنا جماعة ما منا إلا من نال من علي ( عليه السلام ) مقاربة للحجاج ، غير الحسن بن أبي الحسن ( رحمه الله ) .
وروى محرز بن هشام ، عن إبراهيم بن سلمة ، عن محمد بن عبيد الله ، قال : قال رجل للحسن : ما لنا لا نراك تثني على علي وتقرظه ؟ قال : كيف وسيف الحجاج يقطر دما ! أنه لأول من أسلم ، وحسبكم بذلك ! قال : فهذه الأخبار .
واما الاشعار المروية فمعروفة كثيرة منتشرة ، فمنها قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مجيبا للوليد بن عقبة بن أبي معيط :
وان ولي الأمر بعد محمد *** علي وفي كل المواطن صاحبه
وصي رسول الله حقا وصنوه *** وأول من صلى ومن لان جانبه
وقال خزيمة بن ثابت في هذا :
وصي رسول الله من دون أهله *** وفارسه مذ كان في سالف الزمن
وأول من صلى من الناس كلهم *** سوى خيرة النسوان والله ذو منن
وقال أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس ، حين بويع أبو بكر :
ما كنت أحسب ان الامر منصرف *** عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتهم *** وأعلم الناس بالأحكام والسنن
وقال أبو الأسود الدؤلي يهدد طلحة والزبير :
وان عليا لكم مصحر *** يماثله الأسد الأسود
أما إنه أول العابدين *** بمكة والله لا يعبد !
وقال سعيد بن قيس الهمداني يرتجز بصفين :
هذا علي وابن عم المصطفى *** أول من أجابه فيما روى
هو الامام لا يبالي من غوى
وقال زفر بن يزيد بن حذيفة الأسدي :
فحوطوا عليا وانصروه فإنه *** وصي وفي الاسلام أول أول
وان تخذلوه والحوادث جمة *** فليس لكم عن أرضكم متحول
قال : والاشعار كالاخبار ، إذا امتنع في مجئ القبيلين التواطؤ والاتفاق ، كان ورودهما حجة .
فأما قول الجاحظ ، فأوسط الأمور ان نجعل اسلامهما معا ، فقد أبطل بهذا ما احتج به لامامة أبي بكر ، لأنه احتج بالسبق وقد عدل الآن عنه .
قال أبو جعفر : ويقال لهم : لسنا نحتاج من ذكر سبق علي ( عليه السلام ) إلا مجامعتكم إيانا على أنه أسلم قبل الناس ، ودعواكم انه أسلم وهو طفل دعوى غير مقبولة إلا بحجة .
فإن قلتم : ودعوتكم انه أسلم وهو بالغ دعوى غير مقبولة إلا بحجة !
قلنا : قد ثبت اسلامه بحكم اقراركم ، ولو كان طفلا لكان في الحقيقة غير مسلم ، لان اسم الايمان والإسلام والكفر الطاعة والمعصية انما يقع على البالغين دون الأطفال والمجانين ، وإذا أطلقتم عليه اسم الاسلام ، فالأصل في الاطلاق الحقيقة ، كيف وقد قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " أنت أول من آمن بي ، وأنت أول من صدقني " ، وقال لفاطمة : " زوجتك أقدمهم سلما - أو قال : اسلاما - " فإن قالوا إنما دعاه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى الاسلام على جهة العرض لا التكليف . قلنا : قد وافقتمونا على الدعاء ، وحكم الدعاء حكم الامر والتكليف ثم ادعيتم ان ذلك كان على وجه العرض ، وليس لكم ان تقبلوا معنى الدعاء ( عن وجهه - = 1 = - ) إلا لحجة .
فان قالوا : لعله كان على وجه التأديب والتعليم كما يعتمد مثل ذلك مع الأطفال .
قلنا : إن ذلك انما يكون إذا تمكن الاسلام باهله ، أو عند النشوء عليه والولادة فيه ، فأما في دار الشرك فلا يقع مثل ذلك لا سيما إذا كان الاسلام غير معروف ولا معتاد بينهم ، على أنه ليس من سنة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دعاء أطفال المشركين إلى الاسلام والتفريق بينهم وبين آبائهم ، قبل أن يبلغوا الحلم .
وأيضا فمن شأن الطفل اتباع أهله ، وتقليد أبيه ، والمضي على منشئه ومولده ، وقد كانت منزلة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حينئذ منزلة ضيق وشدة ووحدة ، وهذه منازل لا ينتقل إليها الا من ثبت الاسلام عنده بحجة ، ودخل اليقين قلبه بعلم ومعرفة . فان قالوا : ان عليا ( عليه السلام ) كان يألف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فوافقه على طريق المساعدة له .
قلنا : انه وان كان يألفه أكثر من أبويه وإخوته وعمومته وأهل بيته ، ولم يكن الألف ليخرجه عما نشأ عليه ، ولم يكن الاسلام مما غذي ( 13 ) به وكرر على سمعه لان الاسلام هو خلع الأنداد والبراءة ممن أشرك بالله ، وهذا لا يجتمع في اعتقاد طفل .
ومن العجب قول العباس لعفيف بن قيس: ننتظر الشيخ وما يصنع فإذا كان العباس وحمزة ينتظران أبا طالب، ويصدران عن رأيه فكيف يخالفه ابنه، ويؤثر القلة على الكثرة، ويفارق المحبوب إلى المكروه، والعز إلى الذل، والأمن إلى الخوف، عن غير معرفة ولا علم بما فيه! فأما قوله : ان المقل يزعم أنه أسلم وهو ابن خمس سنين ، والمكثر يزعم أنه أسلم وهو ابن تسع سنين ، فأول ما يقال في ذلك : ان الاخبار جاءت في سنه ( عليه السلام ) يوم أسلم على خمسة أقسام فجعلناه في قسمين :
القسم الأول : الذين قالوا : أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة . حدثنا بذلك احمد بن سعيد الأسدي ، عن إسحاق بن بشر القرشي عن الأوزاعي ، عن زمرة بن حبيب ، عن شداد بن أوس ، قال : سألت خباب بن الأرت عن اسلام علي ، فقال : أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة ، ولقد رأيته يصلي قبل الناس مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ . . وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الحسن ان أول من أسلم علي بن أبي طالب ، وهو ابن خمس عشرة سنة .
القسم الثاني : الذين قالوا إنه أسلم وهو ابن أربع عشرة سنة رواه أبو قتادة الحراني ، عن أبي حازم الأعرج ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : كنا نعبد الحجارة ، ونشرب الخمر وعلي من أبناء أربع عشرة سنة قائم يصلي مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليلا ونهارا وقريش يومئذ تسافه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما يذب عنه إلا علي ( عليه السلام ) ، وروى ابن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد ، قال : أسلم علي وهو ابن أربع عشرة سنة .
القسم الثالث : الذين قالوا : أسلم وهو ابن احدى عشرة سنة رواه إسماعيل بن عبد الله الرقي ، عن محمد بن عمر ، عن عبد الله بن سمعان ، عن جعفر بن محمد ( عليه السلام ) عن أبيه عن محمد بن علي ( عليه السلام ) ، قال : أول من آمن بالله علي بن أبي طالب ، وهو ابن احدى عشرة سنة ، وهاجر إلى المدينة وهو ابن أربعة ( 14 ) وعشرين سنة .
القسم الرابع : الذين قالوا إنه أسلم وهو ابن عشر سنين رواه نوح بن دراج ، عن محمد بن إسحاق ، قال : أول ذكر آمن وصدق النبوة علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وهو ابن عشر سنين ثم أسلم زيد بن حارثة ، ثم أسلم أبو بكر وهو ابن ست وثلاثين سنة فيما بلغنا .
القسم الخامس : الذين قالوا إنه أسلم وهو ابن تسع سنين رواه الحسن بن عنبسة الوراق عن سليم مولى الشعبي ، عن الشعبي قال : أول من أسلم من الرجال علي بن أبي طالب وهو ابن تسع سنين ، وكان له يوم قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تسع وعشرون سنة .
قال شيخنا أبو جعفر : فهذه الأخبار كما تراها ، فاما ان يكون الجاحظ جهلها أو قصد العناد .
فاما قوله " فالقياس أن نأخذ بأوسط الأمرين من الروايتين " فنقول أنه أسلم وهو ابن سبع سنين ، فان هذا تحكم منه ، ويلزمه مثله في رجل ادعى قبل رجل عشرة دراهم ، فأنكر ذلك وقال : انما يستحق قبلي أربعة دراهم ، فينبغي ان نأخذ الامر المتوسط ويلزمه سبعة دراهم ، ويلزمه في أبي بكر حيث قال قوم : كان كافرا ، وقال قوم : كان اماما عادلا ان نقول : أعدل الأقاويل وسطها وهو منزلة ( 15 ) بين المنزلتين ، فنقول : كان فاسقا ظالما ، وكذلك في جميع الأمور المختلف فيها . فاما قوله : انما يعرف حق ذلك من باطله ، بأن نحصي سني ولاية عثمان وعمر وأبي بكر وسني الهجرة ، ومقام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمكة بعد الرسالة إلى أن هاجر ، فيقال له : لو كانت الروايات باطلة متفقة على هذه التأريخات ، لكان لهذا القول مساغ ، لكن الناس قد اختلفوا في ذلك ، فقيل : ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أقام بمكة بعد الرسالة خمس عشرة سنة ، رواه ابن عباس ، وقيل ثلاث عشرة سنة ، وروي عن ابن عباس أيضا ، وأكثر الناس يرونه . ، وقيل عشر سنين رواه عروة بن الزبير ، وهو قول الحسن البصري وسعيد بن المسيب ، واختلفوا في سن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال قوم : كان ابن خمس وستين وقيل : كان ابن ثلاث وستين وقيل : كان ابن ستين . واختلفوا في سن علي ( عليه السلام ) ، فقيل : كان ابن سبع وستين ، وقيل : كان ابن خمس وستين وقيل ابن ثلاث وستين ، وقيل : كان ابن ستين ، وقيل ابن تسع وخمسين .
فكيف يمكن مع هذه الاختلافات تحقيق هذه الحال ! وانما الواجب ان يرجع إلى اطلاق قولهم : أسلم علي ، فان هذا الاسم لا يكون مطلقا إلا على البالغ ، كما لا يطلق اسم الكافر إلا على البالغ ، على أن ابن احدى عشرة سنة يكون بالغا ويولد له الأولاد ، فقد روت الرواة ان عمرو بن العاص لم يكن أسن من ابنه عبد الله إلا باثنتي عشرة سنة ، وهذا يوجب انه احتلم وبلغ في أقل من احدى عشرة سنة .
وروي أيضا ان محمد [ بن علي ] ( 16 ) بن عبد الله بن العباس ، كان أصغر من أبيه علي بن عبد الله بن العباس بإحدى عشرة سنة ، فيلزم الجاحظ ان يكون عبد الله بن العباس حين مات رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غير مسلم على الحقيقة ، ولا مثاب ولا مطيع بالاسلام ، لأنه كان يومئذ ابن عشر سنين . رواه هشيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وانا ابن عشر سنين .
قال الجاحظ : فان قالوا : فلعله وهو ابن سبع سنين ( 17 ) أو ثماني سنين ( 18 ) ، قد بلغ من فطنته وذكائه وصحة لبه وصدق حدسه ( 19 ) وانكشاف العواقب له وإن لم يكن جرب الأمور ، ولا فاتح الرجال ، ولا نازع الخصوم ، ما يعرف به جميع ما يجب على البالغ معرفته والاقرار به ! قيل ( 20 ) لهم انما نتكلم على ظواهر الأحوال ، وما شاهدنا عليه طبائع الأطفال ، فانا وجدنا حكم ابن سبع سنين أو ثمان - ما لم يعلم باطن امره وخاصة طبعه - حكم الأطفال ، وليس لنا ان نزيل ظاهر حكمه والذي نعرف من حال أبناء جنسه بلعل وعسى ، لأنا وان كنا لا ندري ، لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة ، فلعله قد كان ذا نقص فيها ! هذا على تجويز ان يكون علي ( عليه السلام ) في الغيب ( 21 ) قد أسلم وهو ابن سبع أو ثمان اسلام البالغ ، غير أن الحكم على مجرى أمثاله واشكاله الذين أسلموا وهم في مثل سنه إذا كان اسلام هؤلاء عن تربية الحاضن ، وتلقين القيم ، ورياضة السائس .
فاما عند التحقيق ، فإنه لا تجويز لمثل ذلك ، لأنه لو كان أسلم ، وهو ابن سبع أو ثمان وعرف فضل ما بين الأنبياء والكهنة ، وفرق ما بين الرسل والسحرة ، وفرق ما بين خبر النبي والمنجم ، وحتى عرف كيد الأريب ( 22 ) وموضع الحجة ( 23 ) وبعد غور المتنبي ( 24 ) كيف يلبس على العقلاء ، وتستمال عقول الدهماء ، وعرف الممكن في الطبع من الممتنع ، وما يحدث بالاتفاق مما يحدث بالأسباب ، وعرف قدر القوى وغاية الحيلة ومنتهى التمويه والخديعة ، وما لا يحتمل ان يحدثه الا الخالق سبحانه ، وما يجوز على الله في حكمته مما لا يجوز وكيف التحفظ من الهوى والاحتراس من الخداع ، لكان كونه على هذه الحال وهذه مع فرط الصبا والحداثة وقلة التجارب والممارسة خروجا من العادة ، ومن المعروف مما عليه تركيب هذه الخلقة ، وليس يصل أحد إلى معرفة نبي وكذب متنبئ ، حتى تجتمع فيه هذه المعارف التي ذكرناها ، والأسباب التي وصفناها وفصلناها ، ولو كان علي ( عليه السلام ) على هذه الصفة ومعه هذه الخاصية لكان حجة على العامة وآية تدل على النبوة ، ولم يكن الله عز وجل ليخصه بمثل هذه الأعجوبة إلا وهو يريد أن يحتج بها ، ويجعلها قاطعة لعذر المشاهد وحجة على الغائب . ولولا أن الله أخبر عن يحيى بن زكريا أنه آتاه الحكم صبيا ، وانه أنطق عيسى في المهد ما كانا في الحكم ( ولا في المغيب ) ( 25 ) ، الا كسائر الرسل ، وما عليه جميع البشر . فإذا لم ينطق لعلي ( عليه السلام ) بذلك قرآن ، ولا جاء الخبر به مجئ الحجة القاطعة والمشاهدة القائمة ، فالمعلوم عندنا في الحكم ان طباعه كطباع عميه حمزة والعباس ، وهما أمس بمعدن جماع الخير منه ، أو كطباع جعفر وعقيل من رجال قومه وسادة رهطه . ولو أن انسانا ادعى مثل ذلك لأخيه جعفر أو لعميه حمزة والعباس ، ما كان عندنا في أمره الا مثل ما عندنا فيه ( 26 ) .
أجاب شيخنا أبو جعفر ( رحمه الله ) ، فقال : هذا كله مبني على أنه أسلم وهو ابن سبع أو ثمان ، ونحن قد بينا انه أسلم بالغا ابن خمس عشرة سنة أو ابن أربع عشرة سنة ، على انا لو نزلنا على حكم الخصوم ، وقلنا ما هو الأشهر والأكثر من الرواية ، وهو انه أسلم وهو ابن عشر لم يلزم ما قاله الجاحظ ، لان ابن عشر قد يستجمع عقله ، ويعلم من مبادئ المعارف ما يستخرج به كثيرا من الأمور المعقولة ، ومتى كان الصبي عاقلا مميزا كان مكلفا بالعقليات ، وان كان تكليفه بالشرعيات موقوفا على حد آخر وغاية أخرى ، فليس بمنكر ان يكون علي ( عليه السلام ) وهو ابن عشر قد عقل المعجزة ، فلزمه الاقرار بالنبوة ، وأسلم اسلام عالم عارف ، لا اسلام مقلد تابع ، وان كان ما نسقه الجاحظ وعدده من معرفة السحر والنجوم والفصل بينهما وبين النبوة ، ومعرفة ما يجوز في الحكمة مما لا يجوز ، وما لا يحدثه إلا الخالق ، والفرق بينه وبين ما يقدر عليه القادرون بالقدرة ، ومعرفة التمويه والخديعة والتلبيس والمماكرة ، شرطا في صحة الاسلام لما صح اسلام أبي بكر ولا عمر ولا غيرهما من العرب ، وانما التكليف لهؤلاء بالجمل ومبادئ المعارف لا بدقائقها والغامض منها ، وليس يفتقر الاسلام إلى أن يكون المسلم قد فاتح الرجال وجرب الأمور ونازع الخصوم ، وانما يفتقر إلى صحة الغريزة وكمال العقل وسلامة الفطرة ، ألا ترى ان طفلا لو نشأ في دار لم يعاشر الناس بها ، ولا فاتح الرجال ولا نازع الخصوم ، ثم كمل عقله وحصلت العلوم البديهية عنده ، لكان مكلفا بالعقليات !
فاما توهمه ان عليا ( عليه السلام ) أسلم عن تربية الحاضن ، وتلقين القيم ، ورياضة السائس ، فلعمري ان محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان حاضنه وقيمه وسائسه ، ولكن لم يكن منقطعا عن أبيه أبي طالب ، ولا عن اخوته طالب وعقيل وجعفر ، ولا عن عمومته وأهل بيته ، وما زال مخالطا لهم ، ممتزجا بهم ، مع خدمته لمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فما باله لم يمل إلى الشرك وعبادة الأصنام لمخالطته اخوته وأباه وعمومته وأهله ، وهم كثير ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واحد ! وأنت تعلم أن الصبي إذا كان له أهل ذوو كثرة ، وفيهم واحد يذهب إلى رأي مفرد ، لا يوافقه عليه غيره منهم ، فإنه إلى ذوي الكثرة أميل ، وعن ذي الرأي الشاذ المنفرد أبعد ، وعلى ان عليا ( عليه السلام ) لم يولد في دار الاسلام ، وانما ولد في دار الشرك ، وربي بين المشركين ، وشاهد الأصنام ، وعاين بعينه أهله ورهطه يعبدونها ، فلو كان في دار الاسلام لكان في القول مجال ، ولقيل انه ولد بين المسلمين ، فاسلامه عن تلقين الظئر وعن سماع كلمة الاسلام ومشاهدة شعاره لأنه لم يسمع غيره ولا خطر بباله سواه ، فلما لم يكن ولد كذلك ، ثبت ان اسلامه اسلام المميز العارف ، بما دخل عليه . ولولا أنه كذلك لما مدحه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك ، ولا أرضى ابنته فاطمة لما وجدت من تزويجه بقوله لها : زوجتك أقدمهم اسلاما ولا قرن إلى قوله " وأكثرهم علما وأعظمهم حلما " ، والحلم : العقل ، وهذان الأمران غاية الفضل ، فلولا انه أسلم اسلام عارف عالم مميز لما ضم اسلامه إلى العلم والحلم اللذين وصفه بهما ! وكيف يجوز ان يمدحه بأمر لم يكن مثابا عليه ، ولا معاقبا به لو تركه ، ولو كان اسلامه عن تلقين وتربية لما افتخر هو ( عليه السلام ) ( به ) ( 27 ) على رؤوس الاشهاد ، ولا خطب على المنبر ، وهو بين عدو ومحارب ، وخاذل ومنافق فقال : انا عبد الله وأخو رسوله ، وانا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم ، صليت قبل الناس سبع سنين ، وأسلمت قبل اسلام أبي بكر وآمنت قبل ايمانه ! فهل بلغكم ان أحدا من أهل ذلك العصر أنكر ذلك أو عابه أو ادعاه لغيره ، أو قال له : انما كنت طفلا أسلمت على ( 28 ) تربية محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذلك ، وتلقينه إياك ، كما يعلم الطفل الفارسية والتركية منذ يكون رضيعا ، فلا فخر له في تعلم ذلك ، وخصوصا في عصر قد حارب فيه أهل البصرة والشام والنهروان ، وقد اعتورته الأعداء وهجته الشعراء ، فقال فيه النعمان بن بشير :
لقد طلب الخلافة من بعيد *** وسارع في الضلال أبو تراب
معاوية الامام وأنت منها *** على وتح بمنقطع السراب ( 29 )
وقال فيه أيضا بعض الخوارج :
دسسنا له تحت الظلام ابن ملجم *** جزاء إذا ما جاء نفسا كتابها
أبا حسن خذها على الرأس ضربة *** بكف كريم ، بعد موت ثوابها
وقال عمران بن حطان يمدح قاتله :
يا ضربة من تقي ما أراد بها *** الا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبه *** أوفى البرية عند الله ميزانا
فلو وجد هؤلاء سبيلا إلى دحض حجة فيما كان يفخر به من تقدم اسلامه لبدأوا بذلك ، وتركوا ما لا معنى له . وقد أوردنا ما مدحه الشعراء به من سبقه إلى الاسلام ، فكيف لم يرد على هؤلاء الذين مدحوه بالسبق شاعر واحد من أهل حربه . ولقد قال في أمهات الأولاد قولا خالف فيه عمر ، فذكروه بذلك وعابوه ، فكيف تركوا أن يعيبوه بما كان يفتخر به مما لا فخر فيه عندهم ، وعابوه بقوله في أمهات الأولاد .
ثم يقال له : خبرنا عن عبد الله بن عمر ، وقد أجازه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الخندق ، ولم يجزه يوم أحد ، هل كان يميز ما ذكرته ؟ وهل كان يعلم فرق ما بين النبي والمتنبي ، ويفصل بين السحر والمعجزة إلى غيره مما عددت وفصلت ! فان قال : نعم ، وتجاسر على ذلك ، قيل له : فعلي ( عليه السلام ) بذلك أولى من ابن عمر ، لأنه أذكى وأفطن بلا خلاف بين العقلاء وأنى يشك في ذلك ، وقد رميتم انه لم يميز بين الميزان والعود بعد طول السن ، وكثرة التجارب ، ولم يميز أيضا بين امام الرشد وامام الغي ، فإنه امتنع عن بيعة علي ( عليه السلام ) وطرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك ، كي لا يبيت تلك الليلة بلا امام ، ( كما ) زعم ، لأنه روى عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : " من مات ولا امام له مات ميتة جاهلية " ، وحتى بلغ من احتقار الحجاج له واسترذاله حاله ، ان اخرج رجله من الفراش فقال : إصفق بيدك عليها ، فذلك تمييزه بين الميزان والعود وهذا اختياره في الأئمة ، وحال علي ( عليه السلام ) في ذكائه وفطنته وتوقد حسه ، وصدق حدسه ، معلومة مشهورة ، فإذا جاز ان يصح اسلام ابن عمر ، ويقال عنه إنه عرف تلك الأمور التي سردها الجاحظ ونسقها ، وأظهر فصاحته وتشدقه فيها ، فعلي بمعرفة ذلك أحق ، وبصحة اسلامه أولى .
وان قال : لم يكن ابن عمر يعلم ويعرف ذلك ، فقد أبطل اسلامه ، وطعن في رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث حكم بصحة اسلامه واجازه يوم الخندق ، لأنه ( عليه السلام ) كان قال : لا أجيز الا البالغ العاقل ، ولذلك لم يجزه يوم أحد . ثم يقال له : ان ما نقوله في بلوغ علي ( عليه السلام ) الحد الذي يحسن فيه التكليف العقلي بل يجب - وهو ابن عشر سنين - ليس بأعجب من مجئ الولد لستة أشهر ، وقد صحح ذلك أهل العلم ، واستنبطوه من الكتاب ، وان كان خارجا من التعارف والتجارب والعادة . وكذلك مجئ الولد لسنتين خارج أيضا عن التعارف والعادة ، وقد صححه الفقهاء والناس .
ويروى ان معاذا لما نهى عمر عن رجم الحامل تركها حتى ولدت غلاما قد نبتت ثنيتاه ، فقال أبوه : ابني ورب الكعبة ! فثبت ذلك سنة يعمل بها الفقهاء ، وقد وجدنا العادة تقضي بأن الجارية تحيض لاثنتي عشرة سنة ، وانه أقل سن تحيض فيه المرأة ، وقد يكون في الأقل نساء يحضن لعشر ولتسع ، وقد ذكر ذلك الفقهاء ، وقد قال الشافعي في اللعان : لو جاءت المرأة بحمل وزوجها صبي له دون عشر سنين لم يكن ولدا له ، لأن من لم يبلغ عشر سنين من الصبيان لا يولد له ، وان كان له عشر سنين جاز ان يكون الولد له ، وكان بينهما لعان إذا لم يقر به .
وقال الفقهاء أيضا ، ان نساء تهامة يحضن لتسع سنين ، لشدة الحر في بلادهن . قال الجاحظ : ولو لم يعرف باطل هذه الدعوى من أثر التقوى ، وتحفظ من الهوى ، الا بترك علي ( عليه السلام ) ذكر ذلك لنفسه والاحتجاج به على خصمه ، وقد نازع الرجال وناوى الاكفاء وجامع أهل الشورى ، لكان كافيا ، ومتى لم تصح لعلي عليه السلام هذه الدعوى في أيامه ، ولم يذكرها أهل عصره ، فهي عن ولده أعجز ، ومنهم أضعف !
ولم ينقل ان عليا ( عليه السلام ) احتج بذلك في موقف ، ولا ذكره في مجلس ، ولا قام به خطيبا ، ولا أدلى به واثقا ، لا سيما وقد رضيه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عندكم مفزعا ومعلما ، وجعله للناس اماما .
ولا ادعى له أحد ذلك في عصره ، كما لم يدعه لنفسه ، حتى يقول انسان واحد : الدليل على إمامته ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دعاه إلى الاسلام أو كلفه التصديق قبل بلوغه ، ليكون ذلك آية للناس في عصره ، وحجة له ولولده من بعده ، فهذا كان أشد على طلحة والزبير وعائشة من كل ما ادعاه من فضائله وسوابقه وذكر قرابته ( 30 ) .
قال شيخنا أبو جعفر (رحمه الله): ان مثل الجاحظ مع فضله وعلمه، لا يخفى عليه كذب هذه الدعوى وفسادها، ولكنه يقول ما يقول تعصبا وعنادا، وقد روى الناس كافة، افتخار علي (عليه السلام) بالسبق إلى الاسلام ، وان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) استنبئ يوم الاثنين ، وأسلم علي يوم الثلاثاء ، وانه كان يقول : صليت قبل الناس سبع سنين ، وانه ما زال يقول : أنا أول من أسلم ويفتخر بذلك ، ويفتخر له به أولياؤه ومادحوه وشيعته في عصره وبعد وفاته . والامر في ذلك أشهر من كل شهير ، وقد قدمنا منه طرفا ، وما علمنا أحدا من الناس فيما خلا استخف بإسلام علي ( عليه السلام ) ، ولا تهاون به ، ولا زعم أنه أسلم إسلام حدث غرير ، وطفل صغير . ومن العجب ان يكون مثل العباس وحمزة ينتظران أبا طالب وفعله ، ليصدرا عن رأيه ، ثم يخالفه علي ابنه لغير رغبة ولا رهبة ، يؤثر القلة على الكثرة والذل على العزة من غير علم ولا معرفة بالعاقبة .
وكيف ينكر الجاحظ والعثمانية ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دعاه إلى الاسلام وكلفه التصديق ! وقد روي في الخبر الصحيح انه كلفه في مبدأ الدعوة قبل ظهور كلمة الاسلام وانتشارها بمكة أن يصنع له طعاما ، وان يدعو له بني عبد المطلب ، فصنع له الطعام ، ودعاهم له فخرجوا ذلك اليوم ، ولم ينذرهم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لكلمة قالها عمه أبو لهب ، فكلفه في اليوم الثاني ان يصنع مثل ذلك الطعام وان يدعوهم ثانية ، فصنعه ، ودعاهم فأكلوا ، ثم كلمهم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فدعاهم إلى الدين ، ودعاه معهم لأنه من بني عبد المطلب ثم ضمن لمن يؤازره منهم وينصره على قوله ، ان يجعله أخاه في الدين ، ووصيه بعد موته ، وخليفته من بعده ، فأمسكوا كلهم وأجابه هو وحده ، وقال : أنا أنصرك على ما جئت به ، وأؤازرك وأبايعك ، فقال لهم لما رأى منهم الخذلان ومنه النصر ، وشاهد منهم المعصية ومنه الطاعة ، وعاين منهم الإباء ومنه الإجابة : " هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي " فقاموا يسخرون ويضحكون ، ويقولون لأبي طالب : أطع ابنك فقد أمره عليك ، فهل يكلف عمل الطعام ودعاء القوم صغير مميز وغر غير عاقل ؟ وهل يؤتمن على سر النبوة طفل ابن خمس سنين أو ابن سبع ؟ ! وهل يدعى في جملة الشيوخ والكهول إلا عاقل لبيب ؟ ! وهل يضع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يده في يده ويعطيه صفقة يمينه ، بالاخوة والوصية والخلافة إلا وهو أهل لذلك ، بالغ حد التكليف ، محتمل لولاية الله وعداوة أعدائه ؟ ! وما بال هذا الطفل لم يأنس بأقرانه ، ولم يلصق بأشكاله ، ولم ير مع الصبيان في ملاعبهم بعد اسلامه ، وهو كأحدهم في طبقته ، كبعضهم في معرفته !
وكيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته ، فيقال : دعاه داعي الصبا وخاطر من خواطر الدنيا ( هنا يرد على عمر حين قال لولا أن به دعابة ) وحملته الغرة والحداثة على حضور لهوهم والدخول في حالهم ، بل ما رأيناه إلا ماضيا على اسلامه ، مصمما في أمره محققا لقوله بفعله ، قد صدق اسلامه بعفافه وزهده ، ولصق برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من بين جميع من بحضرته ، فهو أمينه وأليفه في دنياه وآخرته ، وقد قهر شهوته ، وجاذب خواطره ، صابرا على ذلك نفسه ، لما يرجو من فوز العاقبة وثواب الآخرة ، وقد ذكر هو ( عليه السلام ) في كلامه وخطبه بدء حاله ، وافتتاح امره حيث أسلم لما دعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الشجرة ، فأقبلت تخد الأرض ، فقالت قريش : ساحر خفيف السحر ! . فقال علي ( عليه السلام ) : يا رسول الله ، أنا أول من يؤمن بك آمنت بالله ورسوله وصدقتك فيما جئت به ، وانا اشهد ان الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله ، تصديقا لنبوتك ، وبرهانا على صحة دعوتك ، فهل يكون ايمان قط أصح من هذا الايمان وأوثق عقدة ، واحكم مرة ! ولكن حنق العثمانية وغيظهم ، وعصبية الجاحظ وانحرافه مما لا حيلة فيه . ثم لينظر المنصف وليدع الهوى جانبا ، ليعلم نعمة الله على علي ( عليه السلام ) بالإسلام حيث أسلم على الوضع الذي أسلم عليه ، فإنه لولا الألطاف التي خص بها ، والهداية التي منحها ، لما كان إلا كبعض أقارب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد كان ممازجا له كممازجته ، ومخالطا له كمخالطة كثير من أهله ورهطه ، ولم يستجب منهم أحد له إلا بعد حين .
ومنهم من لم يستجب له أصلا ، فان جعفرا ( عليه السلام ) كان ملتصقا به ولم يسلم حينئذ وكان عتبة بن أبي لهب ابن عمه وصهره وزوج ابنته لم يصدقه ، بل كان شديدا عليه وكان لخديجة بنون من غيره ولم يسلموا حينئذ وهم ربائبه ( 31 ) ومعه في دار واحدة وكان أبو طالب أباه في الحقيقة وكافله وناصره ، والمحامي عنه ومن لولاه لم تقم له قائمة ، ومع ذلك لم يسلم في أغلب الروايات وكان العباس عمه وصنو أبيه وكالقرين له في الولادة والمنشأ والتربية ولم يستجب له الا بعد حين طويل ، وكان أبو لهب عمه وكدمه ولحمه ولم يسلم ، وكان شديدا عليه ، فكيف ينسب اسلام علي ( عليه السلام ) إلى الألف والتربية والقرابة واللحمة والتلقين والحضانة والدار الجامعة ، وطول العشرة والانس والخلوة ! وقد كان كل ذلك حاصلا لهؤلاء أو لكثير منهم ، ولم يهتد أحد منهم إذ ذاك بل كانوا بين ( من ) ( 32 ) جحد وكفر ومات على كفره ، ومن أبطأ وتأخر ، وسبق بالاسلام وجاء سكيتا ( 33 ) وقد فاز بالمنزلة غيره .
وهل يدل تأمل حال علي ( عليه السلام ) مع الانصاف إلا على أنه أسلم لأنه شاهد الاعلام ، ورأى المعجزات ، وشم ريح النبوة ورأى نور الرسالة ، وثبت اليقين في قلبه بمعرفة وعلم ونظر صحيح ، لا بتقليد ولا حمية ولا رغبة ولا رهبة ، الا فيما يتعلق بأمور الآخرة .
قال الجاحظ : فلو أن عليا ( عليه السلام ) كان بالغا حيث أسلم ، لكان اسلام أبي بكر وزيد بن حارثة وخباب بن الأرت أفضل من اسلامه لان اسلام المقتضب ( 34 ) الذي لم يعتد به ولم يعوده ، ولم يمرن عليه ، أفضل من اسلام الناشئ ، الذي ربي فيه ، ونشأ وحبب إليه ، وذلك لان صاحب التربية يبلغ حيث يبلغ وقد اسقط الفه عنه مؤونة الروية والخاطر وكفاه علاج القلب واضطراب النفس ، وزيد وخباب وأبو بكر يعانون من وكلفة النظر ومؤونة التأمل ومشقة الانتقال من الدين الذي قد طال إلفهم له ما هو غير خاف . ولو كان علي حيث أسلم بالغا مقتضبا كغيره ممن عددنا ، كان اسلامهم أفضل من اسلامه ، لأن من أسلم وهو يعلم أن له ظهرا كأبي طالب ، وردءا كبني هاشم ، وموضعا في بني عبد المطلب ، ليس كالحليف والمولى ، والتابع والعسيف ( 35 ) وكالرجل من عرض قريش ( 36 ) ، أولست تعلم أن قريشا خاصة وأهل مكة عامة لم يقدروا على أذى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما كان أبو طالب حيا ! أيضا فان أولئك اجتمع عليهم مع فراق الإلف مشقة الخواطر ، وعلي ( عليه السلام ) كان بحضرة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يشاهد الاعلام في كل وقت ، ويحضر منزل الوحي ، فالبراهين له أشد انكشافا ، والخواطر على قلبه أقل اعتلاجا ، وعلى قدر الكلفة والمشقة يعظم الفضل ويكثر الأجر ( 37 ) .
قال أبو جعفر ( رحمه الله ) : ينبغي ان ينظر أهل الانصاف هذا الفضل ، ويقفوا على قول الجاحظ والأصم في نصرة العثمانية واجتهادهم في القصد إلى فضائل هذا الرجل ، وتهجينها ، فمرة يبطلان معناها ، ومرة يتوصلان إلى حط قدرها ، فلينظر في كل باب اعترضا فيه ، أين بلغت حياتهما ، وما صنعا في احتيالهما في قصصهما وسجعهما ! أليس إذا تأملتها علمت أنها ألفاظ ملفقة بلا معنى ، وانها عليها شجى وبلاء ! وإلا فما عسى ان تبلغ حيلة الحاسد ويغني كيد الكائد الشانئ ( 38 ) لمن قد جل قدره عن النقص ، وأضاءت فضائله إضاءة الشمس ! وأين قول الجاحظ من دلائل السماء ، وبراهين الأنبياء وقد علم الصغير والكبير ، والعالم والجاهل ممن بلغه ذكر علي ( عليه السلام ) ، وعلم مبعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ان عليا ( عليه السلام ) لم يولد في دار الاسلام ، ولا غذي في حجر الايمان ، وانما أضافه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى نفسه سنة القحط والمجاعة ، وعمره يومئذ ثماني سنين ، فمكث معه سبع سنين حتى اتاه جبرائيل بالرسالة فدعاه - وهو بالغ كامل العقل - إلى الاسلام ، فأسلم بعد مشاهدة المعجزة ، وبعد اعمال النظر الفكرة ، وان كان قد ورد في كلامه أنه صلى سبع سنين قبل الناس كلهم ، فإنما يعني ما بين الثماني والخمس عشرة ، ولم يكن حينئذ دعوة ولا رسالة ، ولا ادعاء نبوة ، وانما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتعبد على ملة إبراهيم ودين الحنيفية ، ويتحنك ويجانب الناس ، ويعتزل ويطلب الخلوة ، وينقطع في جبل حراء ، وكان علي ( عليه السلام ) معه كالتابع والتلميذ ، فلما بلغ الحلم ، وجاءت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الملائكة وبشرته بالرسالة ، دعاه فأجابه عن نظر ومعرفة بالاعلام المعجزة ، فكيف يقول الجاحظ ان اسلامه لم يكن مقتضبا !
وان كان اسلامه ينقص عن اسلام غيره في الفضيلة لما كان يمرن عليه من التعبد مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأمثاله من المعصومين ، لان العصمة عند أهل العدل لطف يمنع من اختص به من ارتكاب القبيح ، فمن اختص بذلك اللطف كانت الطاعة عليه أسهل ، فوجب ان يكون ثوابه انقص من ثواب من أطاع مع تلك الاطلاف !
وكيف يقول الجاحظ ان اسلامه ناقص عن اسلام غيره ، وقد جاء في الخبر انه أسلم يوم الثلاثاء ، واستنبئ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الاثنين فمن هذه حاله لم تكثر حجج الرسالة على سمعه ، ولا تواترت اعلام النبوة على مشاهدته ، ولا تطاول الوقت عليه لتخف محنته ، ويسقط ثقل تكليفه ، بل بان فضله ، وظهر حسن اختياره لنفسه إذ أسلم في حال بلوغه ، عانى نوازع طبعه ، ولم يؤخر ذلك بعد سماعه . وقد غمر الجاحظ في كتابه هذا ان أبا بكر كان قبل اسلامه مذكورا ، ورئيسا معروفا يجتمع اليه كثير من أهل مكة فينشدون الاشعار ، ويتذاكرون الاخبار ، ويشربون الخمر ، وقد كان سمع دلائل النبوة ، وحجج الرسل ، وسافر إلى البلدان ، ووصلت اليه الاخبار ، وعرف دعوى الكهنة وحيل السحرة ، ومن كان كذلك انكشاف الأمور له أظهر والإسلام عليه أسهل والخواطر على قلبه أقل اعتلاجا ، وكل ذلك عون لأبي بكر على الاسلام ، ومسهل اليه سبيله ، ولذلك لما قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " اتيت بيت المقدس " سأله أبو بكر عن المسجد ومواضعه ، فصدقه وبان له امره ، وخفت مؤونته لما تقدم من معرفته بالبيت ، فخرج إذا اسلام أبي بكر على قول الجاحظ من معنى المقتضب ، وفي ذلك رويتم عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : " ما دعوت أحدا إلى الاسلام إلا وكان له تردد ونبوة ، إلا ما كان من أبي بكر ، فإنه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين إلى المعرفة والإسلام ، فأين هذا واسلام من خلي وعقله وألجئ إلى نظره ، مع صغر سنه ، واعتلاج الخواطر على قلبه ونشأته في ضد ما دخل فيه ، والغالب على أمثاله واقرانه حب اللعب واللهو فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة ، ولم يتأخر اسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية ، فقهر شهوته وغالب
خواطره ، وخرج من عادته وما كان غذي به لصحة نظره ، ولطافة فكره ، وغامض فهمه ، فعظم استنباطه ، ورجح فضله وشرف قدر اسلامه ، ولم يأخذ من الدنيا بنصيب ، ولا تنعم فيها بنعيم حدثا ولا كبيرا ، وحمى نفسه عن الهوى ، وكسر شرة حداثته بالتقوى ، واشتغل بهم الدين عن نعيم الدنيا واشغل هم الآخرة قلبه ووجه اليه رغبته ! فاسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه أحد غيره ، وما سبيله في ذلك الا كسبيل الأنبياء ، ليعلم ان منزلته من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كمنزلة هارون من موسى ، وانه وإن لم يكن نبيا فقد كان في سبيل الأنبياء سالكا ولمنهاجهم متبعا ، وكانت حاله كحال إبراهيم ( عليه السلام ) . فان أهل العلم ذكروا انه لما كان صغيرا جعلته أمه في سرب لم يطلع عليه أحد ، فلما نشأ ودرج وعقل قال لامه : من ربي ؟ قالت : أبوك ، قال : فمن رب أبي ؟ فزبرته ونهرته ، إلى أن طلع من شق السرب ، فرأى كوكبا ، فقال : هذا ربي فلما أفل قال : لا أحب الآفلين ، فلما رأى القمر بازغا قال : هذا ربي هذا أكبر ، فلما أفل قال : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ، فلما رأى الشمس بازغة قال : هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال : يا قوم إني برئ مما تشركون ، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ، وما انا من المشركين ، وفي ذلك يقول الله جل ثناؤه : ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ) ( 39 ) وعلى هذا كان اسلام الصديق الأكبر ( عليه السلام ) لسنا نقول إنه كان مساويا له في الفضيلة ، ولكن كان مقتديا بطريقة علي ما قال الله تعالى : ( ان أولى أناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذي آمنوا والله ولي المؤمنين ) ( 40 ) واما اعتلال الجاحظ بان له ظهرا كأبي طالب وردءا كبني هاشم ، فإنه يوجب عليه أن تكون محنة أبي بكر وبلال وثوابهما وفضل اسلامهما أعظم مما لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لان أبا طالب ظهره . وبني هاشم ردؤه . وحسبك جهلا من معاند لم يستطع حط قدر علي ( عليه السلام ) إلا بحطه من قدر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ! ولم يكن أحد أشد على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من قراباته ، الأدنى منهم فالأدنى ، كأبي لهب عمه وامرأة أبي لهب وهي أم جميل بنت حرب بن أمية واحدى أولاد عبد مناف ، ثم ما كان من عقبة بن أبي معيط ، وهو ابن عمه ، وما كان من النضر بن الحارث ، وهو من بني عبد الدار بن قصي ، وهو ابن عمه أيضا وغير هؤلاء ممن يطول تعدادهم ، وكلهم كان يطرح الأذى في طريقه .
وينقل اخباره ويرميه بالحجارة ويرمي الكرش والفرث عليه ، وكانوا يؤذون عليا ( عليه السلام ) كأذاه ، ويجتهدون في غمه ويستهزئون به ، وما كان لأبي بكر قرابة تؤذيه كقرابة علي ، ولما كان بين علي والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الاتحاد والألف والاتفاق أحجم المنافقون بالمدينة عن اذى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خوفا من سيفه ، ولأنه صاحب الدار والجيش ، وأمره مطاع وقوله نافذ ، فخافوا على دمائهم منه ، فاتقوه ، وامسكوا عن إظهار بغضه ، وأظهروا بغض علي ( عليه السلام ) وشنآنه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حقه في الخبر الذي روي في جميع الصحاح " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق " وقال كثير من أعلام الصحابة ، كما روي في الخبر المشهور بين المحدثين " ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن أبي طالب " . وأين كان ظهر أبي طالب عن جعفر ، وقد أزعجه الأذى عن وطنه وحتى هاجر إلى بلاد الحبشة وركب البحر ، أيتوهم الجاحظ ان أبا طالب نصر عليا وخذل جعفرا !
قال الجاحظ : ولأبي بكر فضيلة في اسلامه انه كان قبل اسلامه كثير الصديق ، عريض الجاه ، ذا يسار وغنى ، يعظم لماله ، ويستفاد من رأيه ، فخرج من عز الغنى وكثرة الصديق إلى ذل الفاقة وعجز الوحدة ، وهذا غير اسلام من لا حراك به ولا عز له ، تابع غير متبوع ، لأن من أشد ما يبتلى الكريم به السب بعد التحية والضرب بعد الهيبة ، والعسر بعد اليسر . ثم كان أبو بكر داعية من دعاة الرسول ، وكان يتلوه في جميع أحواله ، فكان الخوف اليه أشد ، والمكروه نحوه أسرع ، وكان ممن تحسن مطالبته ، ولا يستحيى من أدراك الثأر عنده ، لنباهته ، وبعد ذكره ، والحدث الصغير يزدرى ويحتقر لصغر سنة وخمول ذكره ( 41 ) . قال شيخنا أبو جعفر ( رحمه الله ) : اما ما ذكر من كثرة المال والصديق ، واستفاضة الذكر وبعد الصيت وكبر السن ، فكله عليه لا له وذلك لأنه قد علم أن من سيرة العرب وأخلاقها حفظ الصديق والوفاء بالذمام والتهيب لذي الثروة واحترام ذي السن العالية ، وفي كل هذا ظهر شديد ، وسند وثقة يعتمد عليها عند المحن ، ولذلك كان المرء منهم إذا تمكن من صديقه أبقى عليه ، واستحيى منه ، وكان ذلك سببا لنجاته والعفو عنه ، على أن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) إن لم يكن شهره سنه ، فقد شهره نسبه وموضعه من بني هاشم ، وإن لم يستفض ذكره بلقاء الرجال ، وكثرة الاسفار استفاض بأبي طالب ، فأنتم تعلمون انه ليس تيم في بعد الصيت كهاشم ، ولا أبو قحافة كأبي طالب ، وعلى حسب ذلك يعلو ذكر الفتى على ذي السن ، ويبعد صيت الحدث على الشيخ ، ومعلوم أيضا أن عليا على أعناق المشركين أثقل إذ كان هاشميا ، وان كان أبوه حامي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والمانع لحوزته ، وعلي هو الذي فتح على العرب باب الخلاف ، واستهان بهم ، بما أظهر من الاسلام والصلاة ، وخالف رهطه وعشيرته ، وأطاع ابن عمه فيما لم يعرف من قبل ، ولا عهد له نظير ، كما قال تعالى : ( لتنذر قوما ما انذر آباؤهم فهم غافلون ) ( 42 ) .
ثم كان بعد صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومشتكى حزنه ، وأنيسه في خلوته
وجليسه وأليفه في أيامه كلها ، وكل هذا يوجب التحريض عليه ومعاداة العرب له ، ثم أنتم معاشر العثمانية ، تثبتون لأبي بكر فضيلة بصحبة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مكة إلى يثرب ، ودخوله معه في الغار فقلتم : مرتبة شريفة وحالة جليلة ، إذا كان شريكه في الهجرة وأنيسه في الوحشة ، فأين هذه من صحبة علي ( عليه السلام ) له في خلوته وحيث لا يجد أنيسا غيره ، ليله ونهاره ، أيام مقامه بمكة يعبد الله معه سرا ، ويتكلف له الحاجة جهرا ، ويخدمه كالعبد يخدم مولاه ويشفق عليه ويحوطه ، وكالولد يبر والده ، ويعطف عليه ، ولما سئلت عائشة : من كان أحب الناس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قالت : اما من الرجال فعلي ، واما من النساء ففاطمة .
قال الجاحظ : وكان أبو بكر من المفتونين المعذبين بمكة قبل الهجرة ، فضربه نوفل بن خويلد المعروف بابن العدوية مرتين حتى أدماه وشده مع طلحة بن عبيد الله في قرن ، وجعلهما في الهاجرة عمير بن عثمان بن مرة بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ولذلك كانا يدعيان القرينين ، ولو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيرا ، وبلوغ منزلته شديدا ، ولو كان يوما واحدا لكان عظيما ، وعلي بن أبي طالب رافه وادع ، ليس بمطلوب ولا طالب ، وليس انه لم يكن في طبعه الشهامة والنجدة ، وفي غريزته البسالة في الشجاعة لكنه لم يكن قد تمت أداته ، ولا استكملت آلته ، ورجال الطلب وأصحاب الثأر يغمصون ذا الحداثة ويزدرون بذي الصبا والغرارة إلى أن يلحق بالرجال ، ويخرج من طبع الأطفال ( 43 ) .
قال شيخنا أبو جعفر ( رحمه الله ) : اما القول فممكن والدعوى سهلة ، سيما على مثل الجاحظ ، فإنه ليس على لسانه من دينه وعقله رقيب ، وهو من دعوى الباطل غير بعيد ، فمعناه نزر ، وقوله لغو ، ومطلبه سجع وكلامه لعب ولهو ، يقول الشئ وخلافه ، ويحسن القول وضده ، ليس له من نفسه واعظ ، ولا لدعواه حد قائم ، وإلا فكيف تجاسر على القول بأن عليا حينئذ لم يكن مطلوبا ولا طالبا ، وقد بينا بالأخبار الصحيحة والحديث المرفوع المسند انه كان يوم أسلم بالغا كاملا منابذا بلسانه وقلبه لمشركي قريش ، ثقيلا على قلوبهم وهو المخصوص دون أبي بكر بالحصار في الشعب وصاحب الخلوات برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في تلك الظلمات ، المتجرع لغصص المرار من أبي لهب وأبي جهل وغيرهما ، والمصطلي لكل مكروه والشريك لنبيه في كل أذى ، قد نهض بالحمل الثقيل ، وبان بالأمر الجليل ، ومن الذي كان يخرج ليلا من الشعب على هيئة السارق ويخفي نفسه ، ويضائل شخصه ، حتى يأتي إلى من يبعثه اليه أبو طالب من كبراء قريش ، كمطعم بن عدي وغيره ، فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق والقمح ، وهو على أشد خوف من أعدائهم ، كأبي جهل وغيره ، لو ظفروا به لأراقوا دمه ، أعلي كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب ، أم أبو بكر ؟ وقد ذكر هو ( عليه السلام ) حاله يومئذ ، فقال في خطبة له مشهورة : فتعاقدوا ألا يعاملونا ولا يناكحونا ، وأوقدت الحرب علينا نيرانها ، واضطرونا إلى جبل وعر ، مؤمننا يرجو الثواب ، وكافرنا يحامي عن الأصل ، ولقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم وقطعوا عنهم المارة والميرة ، فكانوا يتوقعون الموت جوعا ، صباحا ومساء ، لا يرون وجها ولا فرجا ، قد اضمحل عزمهم ، وانقطع رجاؤهم ، فمن الذي خلص اليه مكروه تلك المحن بعد محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلا علي ( عليه السلام ) وحده ! وما عسى أن يقول الواصف والمطنب في هذه الفضيلة من تقصي معانيها ، وبلوغ غاية كنهها وفضيلة الصابر عندها ! ودامت هذه المحنة عليهم ثلاث سنين ، حتى انفرجت عنهم بقصة الصحيفة ، والقصة مشهورة .
وكيف يستحسن الجاحظ نفسه أن يقول في علي ( عليه السلام ) انه قبل الهجرة كان وادعا رافها ، لم يكن مطلوبا ولا طالبا ، وهو صاحب الفراش الذي فدى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنفسه ووقاه بمهجته ، واحتمل السيوف ورضخ الحجارة دونه ، وهل ينتهي الواصف وان أطنب والمادح وان أسهب إلى الإبانة عن مقدار هذه الفضيلة ، والايضاح بمزية هذه الخصيصة !
فأما قوله : ان أبا بكر عذب بمكة ، فانا لا نعلم أن العذاب كان واقعا إلا بعبد أو عسيف ( 44 ) ، أو لمن لا عشيرة له تمنعه ، فأنتم في أبي بكر بين امرين : فتارة تجعلونه دخيلا ساقطا ، وهجينا رذيلا ، وتارة تجعلونه رئيسا متبعا ، وكبيرا مطاعا ، فاعتمدوا على أحد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم . ولو كان الفضل في الفتنة والعذاب ، لكان عمار وخباب وبلال وكل معذب بمكة أفضل من أبي بكر ، لأنهم كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه ونزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه ، كقوله تعالى ( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا ) ( 45 ) ، قالوا : نزلت في خباب وبلال ، ونزل في عمار قوله ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ) ( 46 ) .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يمر على عمار وأبيه وأمه ، وهم يعذبون ، يعذبهم بنو مخزوم لأنهم كانوا حلفاءهم فيقول : " صبرا آل ياسر فان موعدكم الجنة " وكان بلال يقلب على الرمضاء ، وهو يقول : أحد أحد ! وما سمعنا لأبي بكر في شئ من ذلك يذكر ، ولقد كان لعلي ( عليه السلام ) عنده يد غراء ان صح ما رويتموه في تعذيبه ، لأنه قتل نوفل بن خويلد وعمير بن عثمان يوم بدر ، ضرب نوفلا فقطع ساقه ، فقال : قد قطع الله كل رحم وصهر إلا من كان تابعا لمحمد ، ثم ضربه أخرى ففاضت نفسه ، وصعد لعمير بن عثمان التميمي ، فوجده يروم الهرب ، وقد ارتج عليه المسلك ، فضربه على شراسيف صدره ، فصار نصفه الأعلى بين رجليه ، وليس ان أبا بكر لم يطلب بثأره منهما ويجتهد ، لكنه لم يقدر على أن يفعل فعل علي ( عليه السلام ) فبان علي ( عليه السلام ) بفعله دونه .
قال الجاحظ : ولأبي بكر مراتب لا يشركه فيها علي ولا غيره وذلك قبل الهجرة ، فقد علم الناس ان عليا ( عليه السلام ) انما ظهر فضله ، وانتشر صيته ، وامتحن ولقي المشاق منذ يوم بدر ، وانه انما قاتل في الزمان الذي استوفى فيه أهل الاسلام ، وأهل الشرك ، وطمعوا في أن يكون الحرب بينهم سجالا ، وأعلمهم الله تعالى ان العاقبة للمتقين ، وأبو بكر كان قبل الهجرة معذبا ومطرودا مشردا ، في الزمان الذي ليس بالإسلام وأهله نهوض ولا حركة ولذلك قال أبو بكر في خلافته : طوبى لمن مات في فأفأة الاسلام ! يقول : في ضعفه ( 47 ) .
قال أبو جعفر ( رحمه الله ) : لا أشك ان الباطل خان ابا عثمان والخطأ أقعده والخذلان أصاره إلى الحيرة ، فما علم وعرف حتى قال ما قال ، فزعم أن عليا ( عليه السلام ) قبل الهجرة لم يمتحن ولم يكابد المشاق ، وانه انما قاسى مشاق التكليف ومحن الابتلاء منذ يوم بدر ، ونسي الحصار في الشعب ، وما مني به منه وأبو بكر وادع رافه ، يأكل ما يريد ، ويجلس مع من يحب ، مخلى سر به طيبة نفسه ، ساكنا قلبه ، وعلي يقاسي الغمرات ، ويكابد الأهوال ويجوع ويظمأ ويتوقع القتل صباحا ومساء ، لأنه كان هو المتوصل المحتال في احضار قوت زهيد من شيوخ قريش وعقلائها سرا ، ليقيم به رمق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبني هاشم ، وهم في الحصار ، ولا يأمن في كل وقت مفاجأة أعداء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالقتل ، كأبي جهل بن هشام وعقبة بن أبي معيط ، والوليد بن مغيرة ، وعتبة بن ربيعة وغيرهم من فراعنة قريش وجبابرتها ، ولقد كان يجيع نفسه ويطعم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) زاده ، ويظمئ نفسه ويسقيه ماءه ، وهو كان المعلل له إذا مرض ، والمؤنس له إذا استوحش ، وأبو بكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم ، ولم يلحقه مما يلحقهم مشقة ، ولا يعلم بشئ من أخبارهم وأحوالهم ، إلا على سبيل الاجمال دون التفصيل ثلاث سنين محرمة معاملتهم ومناكحتهم ومجالستهم ، محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج والتصرف في أنفسهم ، فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة ، ونسي هذه الخصيصة ، ولا نظير لها ، ولكن لا يبالي الجاحظ بعد أن يسوغ له لفظه ، وتنسق له خطابته ، ما ضيع من المعنى ، ورجع عليه من الخطأ !
فأما قوله : واعلموا ان العاقبة للمتقين ، ففيه إشارة إلى معنى غامض قصده الجاحظ - يعني أن لا فضيلة لعلي ( عليه السلام ) في الجهاد ، لأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان اعلمه انه منصور وان العاقبة له - وهذا من دسائس الجاحظ وهمزاته ولمزاته ، وليس
بحق ما قاله لان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اعلم أصحابه جملة ان العاقبة لهم ، ولم يعلم واحدا منهم بعينه انه لا يناله الضرب الشديد ، وعلى ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد اعلم أصحابه قبل يوم بدر - وهو يومئذ في مكة - ان العاقبة لهم كما اعلم أصحابه بعد الهجرة ذلك ، فلا فضيلة لأبي بكر وغيره في احتمال المشاق قبل الهجرة : لاعلامه إياهم بذلك ، فقد جاء في الخبر أنه وعد أبا بكر قبل الهجرة بالنصر ، وانه قال له : أرسلت لهؤلاء بالذبح ، وان الله تعالى سيغنمنا أموالهم ، ويملكنا ديارهم ، فالقول في الموضعين متساو ومتفق .
قال الجاحظ : وان بين المحنة في الدهر الذي صار فيه أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مقرنين لأهل مكة ومشركي قريش ، ومعهم أهل يثرب أصحاب النخيل ، والآطام والشجاعة والصبر والمواساة والايثار والمحاماة والعدد الدثر ، والفعل الجزل ، وبين الدهر الذي كانوا فيه بمكة يفتنون ويشتمون ويضربون ، ويشردون ، ويجوعون ويعطشون مقهورين لا حراك بهم ، وأذلاء ، لا عز لهم ، وفقراء لا مال عندهم ، ومستخفين لا يمكنهم إظهار دعوتهم لفرقا واضحا ، ولقد كانوا في حال أحوجت لوطا وهو نبي إلى أن قال : ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) ( 48 ) ، وقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " عجبت من أخي لوط ، كيف قال : أو آوي إلى ركن شديد ، وهو يأوى إلى الله تعالى " ثم لم يكن ذلك يوما ولا يومين ولا شهرا ولا شهرين ، ولا عاما ولا عامين ، ولكن السنين بعد السنين . وكان أغلظ القوم وأشدهم محنة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبو بكر ، لأنه أقام بمكة ما أقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثلاث عشرة سنة ، وهو أوسط ما قالوا في مقام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( 49 ) قال شيخنا أبو جعفر ( رحمه الله ) : ما نرى الجاحظ احتج لكون أبي بكر أغلظهم وأشدهم محنة ، إلا بقوله : لأنه أقام بمكة مدة مقام الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بها ، وهذه الحجة لا تخص أبا بكر وحده لأن عليا ( عليه السلام ) أقام معه هذه المدة ، وكذلك طلحة وزيد ، وعبد الرحمن وبلال وخباب وغيرهم وقد كان الواجب عليه ان يخص أبا بكر وحده بحجة تدل على أنه كان أغلظ الجماعة وأشدهم محنة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فالاحتجاج في نفسه فاسد . ثم يقال له : ما بالك أهملت امر مبيت علي ( عليه السلام ) على الفراش بمكة ليلة الهجرة ! هل نسيته أم تناسيته ! فإنها المحنة العظيمة والفضيلة الشريفة التي متى امتحنها الناظر ، وأجال فكره فيها ، رأى تحتها فضائل متفرقة ومناقب متغايرة ، وذلك أنه لما استقر الخبر عند المشركين ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مجمع على الخروج من بينهم للهجرة إلى غيرهم قصدوا إلى معالجته ، وتعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه ، وان يضربوه بأسياف كثيرة ، بيد كل صاحب قبيلة من قريش سيف منها ، ليضيع دمه بين الشعوب ، ويتفرق بين القبائل ولا يطلب بنو هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها من بطون قريش وتحالفوا على تلك الليلة واجتمعوا عليها ، فلما علم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذلك من امرهم ، دعا أوثق الناس عنده ، وأمثلهم في نفسه وأبذلهم في ذات الإله لمهجته ، وأسرعهم إجابة إلى طاعته فقال له : ان قريشا قد تحالفت على أن تبيتني هذه الليلة فامض إلى فراشي ، ونم في مضجعي ، والتف في بردي الحضرمي ليروا أني لم أخرج ، واني خارج : إن شاء الله ، فمنعه أولا من التحرز واعمال الحيلة ، وصده عن الاستظهار لنفسه بنوع من أنواع المكايد والجهات التي يحتاط بها الناس لنفوسهم ، وألجأه إلى أن يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذة من أيدي أرباب الحنق والغيظة فأجاب إلى ذلك سامعا مطيعا طيبة بها نفسه ، ونام على فراشه صابرا محتسبا ، واقيا له بمهجته ، ينتظر القتل ، ولا نعلم فوق بذل النفس درجة يلتمسها صابر ، ولا يبلغها طالب ، " والجود بالنفس أقصى غاية الجود " ، ولولا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علم أنه أهل لذلك ، لما أهله ، ولو كان عنده نقص في صبره أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه ، واختير لذلك لكان من اختاره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منقوضا في رأيه ، مضرا في اختياره ، ولا يجوز أن يقول هذا أحد من أهل الاسلام ، وكلهم مجمعون على أن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عمل الصواب وأحسن في الاختيار .
ثم في ذلك - إذا تأمله المتأمل - وجوه من الفضل : منها انه وان كان عنده في موضع الثقة فإنه غير مأمون عليه إلا بضبط السر فيفسد التدبير بإفشائه تلك الليلة إلى من يلقيه إلى الأعداء . ومنها انه كان ضابطا للسر وثقة عند من اختاره ، فغير مأمون عليه الجبن عند مفاجأة المكروه ، ومباشرة الأهوال ، فيفر من الفراش فيفطن لموضع الحيلة ، ويطلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيظفر به .
ومنها انه وان كان ثقة ضابطا للسر ، شجاعا نجدا ، فلعله غير محتمل للمبيت على الفراش ، لان هذا امر خارج عن الشجاعة ان كان قد قامه مقام المكتوف الممنوع ، بل هو أشد مشقة من المكتوف الممنوع ، لان المكتوف الممنوع ، يعلم من نفسه انه لا سبيل له إلى الهرب ، وهذا يجد السبيل إلى الهرب وإلى الدفع عن نفسه ، ولا يهرب ولا يدافع .
ومنها انه وان كان ثقة عنده ، ضابطا للسر شجاعا محتملا للمبيت على الفراش ، فإنه غير مأمون ان يذهب صبره عند العقوبة الواقعة ، والعذاب النازل بساحته ، حتى يبوح بما عنده ، ويصير إلى الاقرار بما يعلمه ، وهو انه اخذ طريق كذا فيطلب فيؤخذ فلهذا قال علماء المسلمين : ان فضيلة علي ( عليه السلام ) تلك الليلة لا نعلم أحدا من البشر قال مثلها ، إلا ما كان من إسماعيل وإبراهيم عند استسلامه للذبح ، ولولا أن الأنبياء لا يفضلهم غيرهم لقلنا : ان محنة علي أعظم ، لأنه قد روي أن إسماعيل قد تلكأ لما امره ان يضطجع ، وبكى على نفسه ، وقد كان أبوه يعلم أن عنده في ذلك وقفة ، ولذلك قال له : ( فانظر ماذا ترى ) ( 50 ) .
وحال علي ( عليه السلام ) بخلاف ذلك ، لأنه ما تلكأ ولا تتعتع ولا تغير لونه ولا اضطربت أعضاؤه ، ولقد ان أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يشيرون عليه بالرأي المخالف لما كان امر به ، وتقدم فيه فيتركه ويعمل بما شاروا به ، كما جرى يوم الخندق في مصانعته الأحزاب بثلث تمر المدينة ، فإنهم أشاروا عليه بترك ذلك ، فتركه وهذه كانت قاعدته معهم ، وعادته بينهم ، وقد كان لعلي ( عليه السلام ) ان يعتل بعلة ، وان يقف ويقول : يا رسول الله ، أكون معك أحميك من العدو ، وأذب بسيفي عنك ، فلست مستغنيا في خروجك عن مثلي ، ونجعل عبدا من عبيدنا في فراشك ، قائما مقامك يتوهم القوم - برؤيته نائما في بردك - انك لم تخرج ، ولم تفارق مركزك ، فلم يقل ذلك ، ولا تحبس ولا توقف ، ولا تلعثم ، وذلك لعلم كل واحد منهما عليهما الصلاة والسلام ان أحدا لا يصبر على ثقل هذه المحنة ، ولا يتورط هذه الهلكة ، إلا من خصه الله تعالى بالصبر على مشقتها ، والفوز بفضيلتها ، وله من جنس ذلك أفعال كثيرة ، كيوم دعا عمرو بن عبد ود المسلمين إلى المبارزة ، فأحجم الناس كلهم عنه ، لما علموا من بأسه وشدته ، ثم كرر النداء ، فقام علي ( عليه السلام ) ، فقال : انا أبرز إليه ، فلما خرج قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " برز الإيمان كله إلى الشرك كله " ، وكيوم أحد حيث حمى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أبطال قريش وهم يقصدون قتله ، فقتلهم دونه حتى قال جبرئيل ( عليه السلام ) : " يا محمد ان هذه هي المواساة " فقال : " إنه مني وأنا منه " فقال جبرئيل : " وانا منكما " .
ولو عددنا أيامه ومقاماته التي شرى فيها نفسه لله تعالى لأطلنا وأسهبنا .
قال الجاحظ : فان احتج محتج على علي ( عليه السلام ) بالمبيت على الفراش ، فبين الغار والفراش ، فرق واضح لان الغار وصحبة أبي بكر للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد نطق به القرآن فصار كالصلاة والزكاة وغيرهما ، مما نطق به الكتاب ، وأمر علي ( عليه السلام ) ونومه على الفراش ، وان كان ثابتا صحيحا ، إلا أنه لم يذكر في القرآن ، وانما جاء مجئ
الروايات والسير وهذا لا يوازن هذا ولا يكايله ( 51 ) .
قال شيخنا أبو جعفر ( رحمه الله ) : هذا فرق غير مؤثر ، لأنه قد ثبت بالتواتر حديث الفراش ، فلا فرق بينه وبين ما ذكر في نص الكتاب ، ولا يجحده إلا مجنون أو غير مخالط لأهل الملة ، أرأيت كون الصلوات خمسا ، وكون زكاة الذهب ربع العشر ، وكون خروج الريح ناقضا للطهارة ، وأمثال ذلك مما هو معلوم بالتواتر حكمه ؟ هل هو مخالف لما نص في الكتاب عليه من الاحكام ! هذا مما لا يقوله رشيد ولا عاقل ، على أن الله تعالى لم يذكر اسم أبي بكر في الكتاب ، وانما قال : ( إذ يقول لصاحبه ) ( 52 ) ، وانما علمنا أنه أبو بكر بالخبر وما ورد في السيرة ، وقد قال أهل التفسير : ان قوله تعالى : ( ويمكر الله والله خير الماكرين ) ( 53 ) كناية عن علي ( عليه السلام ) ، لأنه مكر بهم ، وأول الآية : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) أنزلت في ليلة الهجرة ومكرهم كان توزيع السيوف على بطون قريش ، ومكر الله تعالى هو منام علي ( عليه السلام ) على الفراش ، فلا فرق بين الموقفين في أنهما مذكوران كناية لا تصريحا . وقد روى المفسرون كلهم ان قول الله تعالى : ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) ( 54 ) ، أنزلت في علي ( عليه السلام ) ليلة المبيت على الفراش ، فهذه مثل قوله تعالى : ( إذ يقول لصاحبه ) ، لا فرق بينهما .
قال الجاحظ : وفرق آخر ، وهو انه لو كان مبيت علي ( عليه السلام ) على الفراش ، جاء مجئ كون أبي بكر في الغار لم يكن له في ذلك كبير طاعة ، لان الناقلين نقلوا انه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال له : " نم ، فلن يخلص إليك شئ تكرهه " ولم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في صحبته إياه وكونه معه في الغار مثل ذلك ، ولا قال له : أنفق وأعتق ، فإنك لن تفتقر ولن يصل إليك مكروه ( 55 ) .
قال شيخنا أبو جعفر ( رحمه الله ) ، هذا هو الكذب الصراح والتحريف والادخال في الرواية ما ليس منها ، والمعروف المنقول انه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال له : اذهب فاضطجع في مضجعي ، وتغش ببردي الحضرمي ، فان القوم سيفقدونني ، ولا يشهدون مضجعي فلعلهم إذا رأوك يسكنهم ذلك حتى يصبحوا ، فإذا أصبحت فاغد في أداء أمانتي ، ولم ينقل ما ذكره الجاحظ ، وانما ولده أبو بكر الأصم ، وأخذه الجاحظ ، ولا أصل له ، ولو كان هذا صحيحا لم يصل إليه منهم مكروه ، وقد وقع الاتفاق على أنه ضرب ورمي بالحجارة قبل أن يعلموا من هو حتى تضور ، وانهم قالوا له : رأينا تضورك ، فانا كنا نرمي محمدا لا يتضور ، ولأن لفظة المكروه ان كان قالها إنما يراد بها القتل ، فهب أنه أمن القتل ، كيف يأمن من الضرب والهوان ، ومن أن ينقطع بعض أعضائه ، وبأن سلمت نفسه ! أليس الله تعالى قال لنبيه ( بلغ ما انزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) ( 56 ) .
ومع ذلك فقد كسرت رباعيته وشج وجهه ، وأدميت ساقه ، وذلك لأنها عصمة من القتل خاصة ، وكذلك المكروه الذي أومن علي ( عليه السلام ) منه - ان كان صح ذلك في الحديث - انما هو مكروه القتل .
ثم يقال له: أبو بكر لا فضيلة له أيضا في كونه في الغار لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له : " لا تحزن ان الله معنا " ومن يكن الله معه فهو آمن لا محالة من كل سوء ، فكيف قلت : ولم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في الغار مثل ذلك ! فكل ما يجيب به عن هذا فهو جوابنا عما أورده ، فنقول له : هذا ينقلب عليك في النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأن الله تعالى وعده بظهور دينه وعاقبته أمره ، فيجب على قولك ألا يكون مثابا عند الله . على ما يحتمله من المكروه ولا ما يصيبه من الأذى ، إذ كان قد أيقن بالسلامة والفتح في عدته .
قال الجاحظ: ومن جحد كون أبي بكر صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كفر ، لأنه جحد نص الكتاب ، ثم انظر إلى قوله تعالى : ( ان الله معنا ) ( 57 ) من الفضيلة لأبي بكر ، لأنه شريك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في كون الله تعالى معه وانزال السكينة ، قال كثير من الناس : انه في الآية مخصوص بأبي بكر ، لأنه كان محتاجا إلى السكينة لما تداخله من رقة الطبع البشري ، والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان غير محتاج إليها لأنه يعلم أنه محروس من الله تعالى ، فلا معنى لنزول السكينة عليه ، وهذه فضيلة ثالثة لأبي بكر .
قال شيخنا أبو جعفر ( رحمه الله ) : ان ابا عثمان يجر على نفسه ما لا طاقة له به من مطاعن الشيعة ، ولقد كان في غنية عن التعلق بما تعلق به ، لان الشيعة تزعم أن هذه الآية ، بان تكون طعنا وعيبا على أبي بكر ، أولى من أن تكون فضيلة ومنقبة له ، لأنه لما قال له : " لا تحزن " ، دل على أنه قد كان حزن وقنط واشفق على نفسه ، وليس هذا من صفات المؤمنين الصابرين ، ولا يجوز ان يكون حزنه طاعة ، لان الله تعالى لا ينهي عن الطاعة ، فلو لم يكن ذنبا لم ينه عنه ، وقوله " ان الله معنا " ، أي إن الله عالم بحالنا وما نضمره من اليقين أو الشك ، كما يقول الرجل لصاحبه لا تضمرن سوءا ولا تنوين قبيحا ، فان الله تعالى يعلم ما نسره وما نعلنه .
وهذا مثل قوله تعالى : ( ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ) ( 58 ) أي هو عالم بهم ، واما السكينة فكيف يقول : انها ليست راجعة إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعدها قوله : ( وأيده بجنود لم تروها ) أترى المؤيد بالجنود كان أبا بكر أم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وقوله : انه مستغن عنها ، ليس بصحيح ولا يستغني أحد عن الطاف الله وتوفيقه وتأييده وتثبيت قلبه وقد قال الله تعالى في قصة حنين ( وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم انزل الله سكينته على رسوله ) ( 59 ) .
واما الصحبة فلا تدل إلا على المرافقة والاصطحاب لا غير ، وقد يكون حيث لا ايمان ، كما قال تعالى : ( قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك ) ونحن وان كنا نعتقد اخلاص أبي بكر وايمانه الصحيح السليم وفضيلته التامة ، إلا انا لا نحتج له بمثل ما احتج به الجاحظ من الحجج الواهية ، ولا نتعلق بما يجر علينا دواهي الشيعة ومطاعنها .
قال الجاحظ : وان كان المبيت على الفراش فضيلة ، فأين هي من فضائل أبي بكر أيام مكة ، من عتق المعذبين وانفاق المال وكثرة المستجيبين ، مع فرق ما بين الطاعتين ، لأن طاعة الشاب الغرير والحدث الصغير الذي في عز صاحبه عزه ، ليس كطاعة الحليم الكبير الذي لا يرجع تسويد صاحبه إلى رهطه وعشيرته .
قال شيخنا أبو جعفر ( رحمه الله ) : أما كثرة المستجيبين ، فالفضل فيها راجع إلى المجيب لا إلى المجاب ، على انا قد علمنا أن من استجاب لموسى ( عليه السلام ) أكثر ممن استجاب لنوح ( عليه السلام ) ، وثواب نوح أكثر ، لصبره على الأعداء ، ومقاساة خلافهم وعنتهم ، واما انفاق المال ، فأين محنة الغني من محنة الفقير وأين يعتدل اسلام من أسلم وهو غني ان جاع أكل وان أعيى ركب وان عرى لبس ، قد وثق بيساره واستغنى بماله ، واستعان على نوائب الدنيا بثروته ، ممن لا يجد قوت يومه ، وان وجد لم يستأثر به ، فكان الفقر شعاره ، وفي ذلك قيل : " الفقر شعار المؤمن " ، وقال الله تعالى لموسى " يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا ، فقل مرحبا بشعار الصالحين " ، وفي الحديث : " ان الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام " ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : " اللهم احشرني في زمرة الفقراء " ولذلك أرسل الله محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقيرا ، وكان بالفقر سعيدا فقاسى محنة الفقر ومكابدة الجوع حتى شد الحجر على بطنه ، وحسبك بالفقر فضيلة في دين الله لمن صبر عليه ، فإنك لا تجد صاحب الدنيا يتمناه لأنه مناف لحال الدنيا وأهلها ، وانما هو شعار أهل الآخرة .
واما طاعة علي ( عليه السلام ) وكون الجاحظ زعم أنها كانت لأن في عز محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عزه وعز رهطه بخلاف طاعة أبي بكر ، فهذا يفتح عليه ان يكون جهاد حمزة كذلك ، وجهاد عبيدة بن الحارث ، وهجرة جعفر إلى الحبشة ، بل لعل محاماة المهاجرين من قريش على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كانت لان في دولته دولتهم ، وفي نصرته استجداد ملك لهم وهذا يجر إلى الالحاد ، ويفتح باب الزندقة ، ويفضي إلى الطعن في الاسلام والنبوة .
قال الجاحظ : وعلى انا لو نزلنا إلى ما يريدونه ، جعلنا الفراش كالغار ، وخلصت فضائل أبي بكر في غير ذلك عن معارض .
قال شيخنا أبو جعفر ( رحمه الله ) : قد بينا فضيلة المبيت على الفراش على فضيلة الصحبة في الغار ، بما هو واضح لمن أنصف ، ونزيدها هنا تأكيدا بما لم نذكره فيما تقدم فنقول : إن فضيلة المبيت على الفراش على الصحبة في الغار لوجهين :
أحدهما : ان عليا ( عليه السلام ) قد كان انس بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحصل له بمصاحبته قديما انس عظيم والف شديد ، فلما فارقه عدم ذلك الانس وحصل به أبو بكر ، فكان ما يجده علي ( عليه السلام ) من الوحشة وألم الفرقة موجبا زيادة ثوابه ، لان الثواب على قدر المشقة .
وثانيهما : ان أبا بكر كان يؤثر الخروج من مكة ، وقد كان خرج من قبل فردا فازداد كراهية للمقام ، فلما خرج مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وافق ذلك هوى قلبه ومحبوب نفسه ، فلم يكن له من الفضيلة ما يوازي فضيلة من احتمل المشقة العظيمة ، وعرض نفسه لوقع السيوف ، ورأسه لرضخ الحجارة ، لأنه على قدر سهولة العبادة يكون نقصان الثواب .
قال الجاحظ : ثم الذي لقي أبو بكر في مسجده الذي بناه على بابه في بني جمح فقد كان بنى مسجدا يصلي فيه ، ويدعو الناس إلى الاسلام ، وكان له صوت رقيق ، ووجه عتيق ، وكان إذا قرأ بكى فيقف عليه المارة من الرجال والنساء والصبيان والعبيد ، فلما أوذي في الله ، ومنع من ذلك المسجد ، استأذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الهجرة ، فأذن له ، فاقبل يريد المدينة ، فتلقاه الكناني ( 60 ) ، فعقد له جوارا ، وقال : والله لا ادع مثلك يخرج من مكة فرجع إليها وعاد لصنيعه في المسجد ، فمشت قريش إلى جاره الكناني وأجلبوا عليه فقال له : دع المسجد وادخل بيتك واصنع فيه ما بدا لك ( 61 ) .
قال شيخنا أبو جعفر ( رحمه الله ) : كيف كانت بنو جمح تؤذي عثمان بن مضعون وتضربه ، وهو فيهم ذو سطوة وقدرة ، وتترك أبا بكر يبني مسجدا يفعل فيه ما ذكرتم ، وأنتم الذين رويتم عن ابن مسعود أنه قال " ما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر بن الخطاب " والذي تذكرونه من بناء المسجد : كان قبل اسلام عمر ، فكيف هذا ؟ !
واما ما ذكرتم من رقة صوته وعتاق وجهه فكيف يكون ذلك وقد روى الواقدي وغيره ان عائشة رأت رجلا من العرب خفيف العارضين، معروق الخدين، غائر العينين، اجناء ( 62 ) ، لا يمسك إزاره ، فقالت : ما رأيت أشبه بأبي بكر من هذا ؟ فلا نراها دلت على شئ من الجمال في صفته ! قال الجاحظ : وحيث رد أبو بكر جوار الكناني ، وقال : لا أريد جارا سوى الله ، لقي من الأذى والذل والاستخفاف والضرب ما بلغكم ، وهذا موجود في جميع السير ، وكان آخر ما لقي هو وأهله في امر الغار ، وقد طلبته قريش وجعلت فيه مائة بعير ، كما جعلت في النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلقي أبو جهل أسماء بنت أبي بكر ، فسألها فكتمته فلطمها حتى رمت قرطا كان في اذنها ( 63 ) .
قال شيخنا أبو جعفر ( رحمه الله ) : هذا الكلام وهجر السكران سواء في تقارب المخرج واضطراب المعنى ، وذلك أن قريشا لم تقدر على اذى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأبو طالب حي يمنعه ، فلما مات طلبته لتقتله فخرج تارة إلى بني عامر ، وتارة إلى ثقيف ، وتارة إلى بني شيبان ولم يكن يتجاسر على المقام بمكة إلا مستترا ، حتى أجاره مطعم بن عدي ، ثم خرج إلى المدينة ، فبذلت فيه مائة بعير لشدة حنقها عليه حين فاتها ، فلم تقدر عليه ، فما بالها بذلت في أبي بكر مائة بعير أخرى ، وقد كان رد الجوار ، وبقي بينهم فردا لا ناصر له ولا دافع عنده ، يصنعون به ما يريدون ! اما ان يكون أجهل البرية كلها أو يكون العثمانية أكذب جيل في الأرض وأوقحه وجها ! فهذا مما لم يذكر في سيرة ولا روي في أثر ، ولا سمع به بشر ، ولا سبق الجاحظ به أحد !
قال الجاحظ : ثم الذي كان من دعائه إلى الاسلام وحسن احتجاجه ، حتى أسلم على يديه طلحة والزبير وسعد وعثمان وعبد الرحمن ، لأنه ساعة أسلم دعا إلى الله ورسوله ( 64 ) .
قال شيخنا أبو جعفر ( رحمه الله ) : ما أعجب هذا القول ، إذ تدعي العثمانية لأبي بكر الرفق في الدعاء وحسن الاحتجاج وقد أسلم ومعه في منزله ابنه عبد الرحمن ، فما قدر ان يدخله في الاسلام طوعا برفقه ولطف احتجاجه ، ولا كرها بقطع النفقة عنه وادخال المكروه عليه ، ولا كان لأبي بكر عند ابنه عبد الرحمن من القدر ما يطيعه فيما يأمره به ، ويدعوه إليه ، كما روي أن أبا طالب فقد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوما ، وكان يخاف عليه من قريش ان يغتالوه ، فخرج ومعه ابنه جعفر يطلبان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فوجده قائما في بعض شعاب مكة يصلي ، وعلي ( عليه السلام ) عن يمينه ، فلما رآهما أبو طالب ، قال لجعفر : تقدم وصل جناح ابن عمك ، فقام جعفر عن يسار محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلما صاروا ثلاثة تقدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتأخر الاخوان ، فبكى أبو طالب وقال :
ان عليا وجعفرا ثقتي *** عند ملم الخطوب والنوب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما *** أخي لأمي من بينهم وأبي
والله لا اخذل النبي ولا *** يخذله من بني ذو حسب
فتذكر الرواة ان جعفرا أسلم منذ ذلك اليوم ، لان أباه امره بذلك وأطاع امره ، وأبو بكر لم يقدر على ادخال ابنه عبد الرحمن في الاسلام ، حتى أقام بمكة على كفره ثلاث عشرة سنة وخرج يوم أحد في عسكر المشركين ينادي : انا عبد الرحمن بن عتيق ، هل من مبارز ؟ ثم مكث بعد ذلك على كفره ، حتى أسلم عام الفتح ، وهو اليوم الذي دخلت فيه قريش في الاسلام طوعا وكرها ، ولم يجد أحد منها إلى ترك ذلك سبيلا ! وأين كان رفق أبي بكر وحسن احتجاجه عند أبيه أبي قحافة وهما في دار واحدة ! هلا رفق به ودعاه إلى الاسلام فأسلم ! وقد علمتم انه بقي على الكفر إلى يوم الفتح ، فأحضره ابنه عند النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو شيخ كبير رأسه كالثغامة ( 65 ) ، فنفر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منه ، وقال : غيروا هذا ، فخضبوه ، ثم جاءوا به مرة أخرى ، فأسلم . وكان أبو قحافة فقيرا مدقعا ، سئ الحال ، وأبو بكر عندهم كان مثريا فائض المال ، فلم يمكنه استمالته إلى الاسلام بالنفقة والاحسان ، وقد كانت امرأة أبي بكر أم عبد الله ابنه - واسمها تملة بنت عبد العزى بن أسعد بن عبد ود العامرية - لم تسلم ، وأقامت على شركها بمكة وهاجر أبو بكر وهي كافرة . فلما نزل قوله تعالى ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) ( 66 ) ، فطلقها أبو بكر ، فمن عجز عن ابنه وأبيه وامرأته فهو عن غيرهم من الغرماء أعجز ، ومن لم يقبل منه أبوه وابنه وامرأته لا برفق واحتجاج ، ولا خوفا من قطع النفقة عنهم ، وادخال المكروه عليهم فغيرهم أقل قبولا منه ، وأكثر خلافا عليه !
قال الجاحظ : وقالت أسماء بنت أبي بكر : ما عرفت أبي إلا وهو يدين بالدين ، ولقد رجع إلينا يوم أسلم ، فدعانا إلى الاسلام فما رمنا حتى أسلمنا ، وأسلم أكثر جلسائه ، ولذلك قالوا : من أسلم بدعاء أبي بكر أكثر ممن أسلم بالسيف ، ولم يذهبوا في ذلك إلى العدد بل عنوا الكثرة في القدر ، لأنه أسلم على يديه خمسة من أهل الشورى ، كلهم يصلح للخلافة ، وهم اكفاء علي ( عليه السلام ) ومنازعوه الرياسة والإمامة فهؤلاء أكثر من جميع الناس (67) .
قال شيخنا أبو جعفر ( رحمه الله ) : أخبرونا من هذا الذي أسلم ذلك اليوم من أهل بيت أبي بكر ؟ إذا كانت امرأته لم تسلم ، وابنه عبد الرحمن لم يسلم ، وأبو قحافة لم يسلم ، وأمته أم فروة لم تسلم وعائشة لم تكن قد ولدت في ذلك الوقت ، لأنها ولدت بعد مبعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بخمس سنين ، ومحمد بن أبي بكر ولد بعد مبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بثلاث وعشرين سنة ، لأنه ولد في حجة الوداع وأسماء بنت أبي بكر التي قد روى الجاحظ هذا الخبر عنها يوم بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنت أربعة سنين - وفي رواية من يقول : بنت سنتين - فمن الذي أسلم من أهل بيته يوم أسلم ! نعوذ بالله من الجهل والكذب والمكابرة ! وكيف أسلم سعد والزبير وعبد الرحمن بدعاء أبي بكر وليسوا من رهطه ولا من أترابه ولا من جلسائه ، ولا كانت بينهم قبل ذلك صداقة متقدمة ، ولا انس وكيد ! وكيف ترك أبو بكر عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة لم يدخلهما في الاسلام برفقه وحسن دعائه ، وقد زعمتم انهما كانا يجلسان إليه لعلمه وطريف حديثه ! وما باله لم يدخل جبير بن مطعم في الاسلام ، وقد ذكرتم انه أدبه وخرجه ، ومنه اخذ جبير العلم بأنساب قريش ومآثرها ! فكيف عجز عن هؤلاء الذين عددناهم ، وهم منه بالحال التي وصفنا ، ودعا من لم يكن بينه وبينه انس ولا معرفة ، إلا معرفة عيان ! وكيف لم يقبل منه عمر بن الخطاب ، وقد كان شكله ، وأقرب الناس شبها به في أغلب أخلاقه ! ولئن رجعتهم إلى الانصاف لتعلمن ان هؤلاء لم يكن اسلامهم إلا بدعاء الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لهم ، وعلى يديه أسلموا ، ولو فكرتم في حسن التأتي في الدعاء ، ليصبحن لأبي طالب في ذلك على شركه اضعاف ما ذكرتموه لأبي بكر ، لأنكم رويتم أن أبا طالب قال لعلي ( عليه السلام ) :
يا بني ألزمه ، فإنه لن يدعوك إلا إلى خير ، وقال لجعفر : صل جناح ابن عمك ، فأسلم بقوله ، ولأجله أصفق بنو عبد مناف على نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمكة من بني مخزوم وبني سهم وبني جمح ، ولأجله صبر بنو هاشم على الحصار في الشعب ، وبدعائه وإقباله على محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أسلمت امرأته فاطمة بنت أسد ، فهو أحسن رفقا ، وأيمن نقيبة من أبي بكر وغيره ، وإنما منعه عن الاسلام ان ثبت انه لم يسلم إلا تقية ، وأبو بكر لم يكن له إلا ابن واحد ، وهو عبد الرحمن ، فلم يمكنه أن يدخله في الاسلام ، ولا أمكنه إذ لم يقبل منه الاسلام أن يجعله كبعض مشركي قريش في قلة الأذى لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفيه أنزل ( والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني ان اخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن ان وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين ) ( 68 ) ، وانما يعرف حسن رفق الرجل وتأتيه بان يصلح أولا امر بيته وأهله ثم يدعو الأقرب فالأقرب فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما بعث كان أول من دعا زوجته خديجة ثم مكفوله وابن عمه عليا ( عليه السلام ) ثم مولاه زيدا ، ثم أم درهم فأنفقه في نوائب الاسلام وحقوقه ، ولم يكن خفيف الظهر ، قليل العيال والنسل ، فيكون فاقد جميع اليسارين بل كان ذا بنين وبنات وزوجة وخدم وحشم ، ويعول والديه وما ولدا ، ولم يكن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبل ذلك عنده مشهورا ، فيخاف العار في ترك مواساته ، فكان انفاقه على الوجه الذي لا يجد في غاية الفضل مثله ولقد قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " ما نفعني مال كما نفعني مال أبي بكر " .
قال شيخنا أبو جعفر ( رحمه الله ) : أخبرونا على أي نوائب الاسلام أنفق هذا المال ، وفي أي وجه وضعه ؟ فإنه ليس بجائز ان يخفى ذلك ويدرس حتى يفوت حفظه ، وينسى ذكره ، وأنتم فلم تقفوا على شئ أكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب لعلها لا يبلغ ثمنها في ذلك العصر مائة درهم . وكيف يدعى له الانفاق الجليل ، وقد باع من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعيرين عند خروجه إلى يثرب . وأخذ منه الثمن في مثل تلك الحال ، وروى ذلك جميع المحدثين ، وقد رويتم أيضا انه كان حيث كان بالمدينة غنيا موسرا ، ورويتم عن عائشة انها قالت : هاجر أبو بكر وعنده عشرة آلاف درهم ، وقلتم إن الله تعالى انزل فيه ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ان يؤتوا أولى القربى ) ( 69 ) ، قلتم : هي في أبي بكر ومسطح بن أثاثة ، فأين الفقر الذي زعمتم انه أنفق حتى تخلل بالعباءة ! ورويتم ان لله تعالى في سمائه ملائكة قد تخللوا بالعباءة . وان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رآهم ليلة الاسراء ، فسأل جبرائيل عنهم فقال : هؤلاء ملائكة تأسوا بأبي بكر بن أبي قحافة صديقك في الأرض ، فإنه سينفق عليك ماله ، حتى يخلل عباءة في عنقه ، وأنتم أيضا رويتم ان الله تعالى لما انزل آية النجوى ، فقال : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم ) ( 70 ) الآية لم يعمل بها إلا علي بن أبي طالب وحده ، مع اقراركم بفقره وقلة ذات يده وأبو بكر في الحال التي ذكرنا من السعة امسك عن مناجاته ، فعاتب الله المؤمنين في ذلك ، فقال ( أأشفقتم ان تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم ) ، فجعله سبحانه ذنبا يتوب عليهم منه وهو امساكهم عن تقديم الصدقة فكيف سخت نفسه بانفاق أربعين ألفا ، وامسك عن مناجاة الرسول ، وانما كان يحتاج فيها إلى اخراج درهمين !
واما ما ذكر من كثرة عياله ونفقته عليهم ، فليس في ذلك دليل على تفضيله لان نفقته على عياله واجبة ، مع أن أرباب السيرة ذكروا انه لم يكن ينفق على أبيه شيئا وأنه كان أجيرا لابن جدعان على مائدته يطرد عنها الذبان .
قال الجاحظ : وقد تعلمون ، ما كان يلقى أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ببطن مكة من المشركين ، وحسن صنيع كثير منهم ، كصنيع حمزة حين ضرب أبا جهل بقوسه ففلق هامته ، وأبو جهل يومئذ سيد البطحاء ورئيس الكفر ، وامنع أهل مكة ، وقد عرفتم ان الزبير سل سيفه واستقبل به المشركين لما أرجف ان محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد قتل ، وان عمر بن الخطاب قال حين أسلم " لا يعبد الله سرا بعد اليوم " ، وان سعدا ضرب بعض المشركين بلحي جمل ، فأراق دمه ، فكل هذه الفضائل لم يكن لعلي بن أبي طالب فيها ناقة ولا جمل وقد قال الله تعالى ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين انفقوا من بعد وقاتلوا ) ( 71 ) ، فإذا كان الله تعالى قد فضل من أنفق قبل الفتح ، لأنه لا هجرة بعد الفتح على من أنفق بعد الفتح ، فما ظنكم بمن أنفق من قبل الهجرة ومن لدن مبعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى الهجرة وإلى بعد الهجرة ( 72 ) …..
___________________
( 1 ) ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج 13 / 215 .
( 2 ) ديوانه / 299 ، والعثمانية / 111 .
( 3 ) بعده في الديوان والعثمانية :
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد * طاف العداة به إذ صعد الجبلا
خير البرية اتقاها وأظهرها * الا النبي وأوفاها بما حملا
( 4 ) في الأصول : " المشهرا " ، وأثبت ما في العثمانية ، من أبيات ثلاثة أوردها على قافية الراء المكسورة .
( 5 ) العثمانية / 111 .
( 6 ) هو محمد بن عبد الله أبو جعفر المعروف بالإسكافي ، ذكره الخطيب في تاريخ بغداد 5 :
416 ، وقال عنه : أحد المتكلمين من معتزلة البغداديين ، وله تصانيف مسروقة . . . . وبلغني انه مات في سنة أربعين ومائتين .
( 7 ) د : " فأرشدونا " .
( 8 ) ا : " زوج هذا " .
( 9 ) سأذكر ذلك في مناظرات المأمون مع أئمة السنة .
( 10 ) ساقطة من : أ .
( 11 ) النجاف : هو ما بني ناتئا فوق الباب .
( 12 ) تخصم الناس : تغلبهم في الخصومة .
( 13 ) ب : " عدى " تصحيف ، وأثبت ما في أ .
( 14 ) كذا في النهج وهو خطأ والصحيح : أربع وعشرين . ( المصحح ) .
( 15 ) أ : " أن ننزله " .
( 16 ) ما بين العضادتين غير موجود في شرح النهج لابن أبي الحديد ولكنا نقلناه من كتاب " وفيات الأعيان " لابن خلكان 4 / 274 - 278 . في ترجمة علي بن عبد الله بن العباس ، و 3 / 181 - 188 ترجمة محمد بن علي بن عبد الله بن العباس .
( 17 ) و ( 18 ) ساقط من : أ .
( 19 ) العثمانية : " حسه " .
( 20 ) العثمانية : " قيل " .
( 21 ) العثمانية : " المغيب " .
( 22 ) العثمانية " المريب " .
( 23 ) في الأصول " وفقد التمييز " وأثبت ما في العثمانية .
( 24 ) المصدر السابق .
( 25 ) من العثمانية .
( 26 ) العثمانية 6 - 8 .
( 27 ) تكملة من : أ .
( 28 ) " عن " .
( 29 ) الوتح : القليل .
( 30 ) العثمانية 9 - 12 ، مع تصرف واختصار .
( 31 ) الربائب : أولاد الزوج .
( 32 ) من : أ .
( 33 ) السكيت : الفرس يجئ آخر الحلبة .
( 34 ) المقتضب : غير المستعد للشئ .
( 35 ) العسيف : الأجير .
( 36 ) من عرض قريش : أي من دهمائهم .
( 37 ) العثمانية 22 - 34 ، مع تصرف واختصار كبير .
( 38 ) ب " الثاني " تحريف وصوابه من أ .
( 39 ) الانعام / 75 .
( 40 ) آل عمران / 68 .
( 41 ) العثمانية 25 ، 26 مع تصرف واختصار .
( 42 ) سورة يس : 6 .
( 43 ) العثمانية 27 ، 38 .
( 44 ) العسيف : الأجير .
( 45 ) سورة النحل ، الآية 41 .
( 46 ) سورة النحل ، الآية 106 .
( 47 ) العثمانية : 39 ، 40 مع تصرف واختصار .
( 48 ) سورة هود ، الآية 80 .
( 49 ) العثمانية : 41 .
( 50 ) سورة الصافات : الآية 102 .
( 51 ) العثمانية : 44 .
( 52 ) سورة المائدة ، الآية 67 .
( 53 ) سورة التوبة ، الآية 40 .
( 54 ) سورة الأنفال ، الآية 30 .
( 55 ) سورة البقرة ، الآية 207 .
( 56 ) سورة المائدة ، الآية 67 .
( 57 ) سورة التوبة ، الآية 40 .
( 58 ) سورة المجادلة ، الآية 7 .
( 59 ) سورة التوبة ، الآيتان 25 ، 26 .
( 60 ) الكناني : هو مالك بن الدغنة ، أحد بني الحارث بن بكر بن عبد مناة .
( 61 ) العثمانية 28 ، 29 مع تصرف واختصار .
( 62 ) الاجناء ، من الجنأ وهو ميل الظهر .
( 63 ) العثمانية 29 ، مع تصرف واختصار .
( 64 ) العثمانية : 31 مع تصرف واختصار .
( 65 ) الثغامة : كسحاب : ضرب من النبات أبيض .
( 66 ) سورة الممتحنة ، الآية 10 .
( 67 ) العثمانية 31 - 32 ، مع تصرف واختصار .
( 68 ) سورة الأحقاف ، الآية 17 .
( 69 ) سورة النور ، الآية 22 .
( 70 ) سورة المجادلة ، الآية 12 .
( 71 ) سورة الحديد الآية 10 .
( 72 ) العثمانية 37 ، مع تصرف واختصار .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|