أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-6-2019
3825
التاريخ: 27-6-2019
6907
التاريخ: 29-7-2019
2768
التاريخ: 6-5-2019
41294
|
قال تعالى : {ولَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ ونَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( 130 ) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى ومَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ولكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ والْجَرادَ والْقُمَّلَ والضَّفادِعَ والدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} [الأعراف : 130 - 133] .
قال تعالى : {ولَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ ونَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى ومَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ولكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 130 - 131] .
ثم بين سبحانه ما فعله بآل فرعون ، وأقسم عليه ، فقال : {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين} اللام للقسم ، وقد يقرب الماضي من الحال ، لأنه إذا توقع كون أمر ، فقيل : قد كان دل على قربه من الحال ، وآل الرجل : خاصته الذين يؤول أمره إليهم ، وأمرهم إليه ، ومعناه : ولقد عاقبنا قوم فرعون بالجدوب ، والقحوط {ونقص من الثمرات} أي : وأخذناهم مع القحط واجداب الأرض بنقصان من الثمرات {لعلهم يذكرون} أي : يخافون فيوحدون الله ، فلم يتذكروا . وقيل : لكي يتفكروا في ذلك ، ويرجعوا إلى الحق . قال الزجاج : إنما أخذوا بالضراء ، لأن أحوال الشدة ترق القلوب ، وترغب فيما عند الله ، ألا ترى إلى قوله : {وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض} . وقيل : معناه : لكي تتذكروا أن فرعون لو كان إلاها ، لما كان يستسلم لذلك الضر .
وفي هذه الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة ، وفي أنه سبحانه يريد الكفر ، فإنه بين أنه أراد منهم التذكر والرجوع إلى الله .
{فإذا جاءتهم الحسنة} يعني : الخصب ، والنعمة ، والسعة في الرزق ، والسلامة والعافية {قالوا لنا هذه} أي : إنا نستحق ذلك على العادة الجارية لنا من نعمنا ، وسعة أرزاقنا في بلادنا ، ولم يعلموا أنه من عند الله سبحانه فيشكروه عليه ، ويؤدوا شكر النعمة فيه {وإن تصبهم سيئة} أي : جوع ، وبلاء ، وقحط المطر ، وضيق الرزق ، وهلاك الثمر ، والمواشي ، {يطيروا بموسى ومن معه} أي : يتطيروا ، فأدغمت التاء في الطاء ، وتفسيره : يتشاءموا بهم ، عن الحسن ، ومجاهد ، وابن زيد ، وقالوا : ما رأينا شرا ولا أصابنا بلاء حتى رأيناكم {ألا إنما طائرهم عند الله} معناه إلا إنما الشؤم الذي يلحقهم ، هو الذي وعدوا به من العقاب عند الله ، يفعل بهم في الآخرة ، لا ما ينالهم في الدنيا ، عن الزجاج . وقيل : إن معناه إن الله تعالى هو الذي يأتي بطائر البركة ، وطائر الشؤم ، من الخير والشر ، والنفع والضر ، فلو عقلوا لطلبوا الخير والسلامة من الشر من قبله . وقال الحسن : معناه ألا إن ما تشاءموا به محفوظ عليهم ، حتى يجازيهم الله يوم القيامة . {ولكن أكثرهم لا يعلمون} ولا يتفكرون ليعلموا .
- { وقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ والْجَرادَ والْقُمَّلَ والضَّفادِعَ والدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} [الأعراف : 132 - 133] .
{وقالوا} أي : قال قوم فرعون لموسى {مهما تأتنا به من آية} أي :
أي شئ تأتنا به من المعجزات {لتسحرنا بها} أي : لتموه علينا بها ، حتى تنقلنا عن دين فرعون {فما نحن لك بمؤمنين} أي : مصدقين . أشاروا بهذا القول إلى إصرارهم على الكفر ، وأنهم لا يصدقونه ، وإن أتى بجميع الآيات . ثم زاد الله سبحانه في الآيات ، تأكيدا لأمر موسى عليه السلام ، كما قال :
{فأرسلنا عليهم الطوفان} اختلف فيه ، فقيل : هو الماء الغالب الخارج عن العادة ، الهادم للبنيان ، والقالع للأشجار والزروع ، عن ابن عباس . وقيل : هو الموت الذريع الجارف ، عن مجاهد ، وعطاء . وقيل : هو الطاعون بلغة أهل اليمن ، أرسل الله ذلك على أبكار آل فرعون في ليلة ، فأقعصهن ، فلم يبق منهن انسان ، ولا دابة ، عن وهب بن منبه . وقيل : هو الجدري ، وهم أول من عذبوا به ، وبقي في الأرض عن أبي قلابة . وقيل : هو أمر من الله تعالى ، طاف بهم ، عن ابن عباس ، رواه أبو ظبيان عنه ، ثم قرأ : {فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون} .
{والجراد} هو المعروف {والقمل} : اختلف فيه ، فقيل : هو الدبى ، وهو صغار الجراد الذي لا أجنحة له ، والجراد الطيارة التي لها أجنحة ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وقتادة ، والكلبي . وقيل : القمل بنات الجراد ، عن عكرمة .
وقيل : القمل البراغيث . وقيل : دواب سود صغار ، عن سعيد بن جبير ، والحسن ، وعطاء الخراساني ، ولذلك قرأ الحسن : {والقمل} . وقيل : هو السوس الذي يخرج من الحنطة ، عن سعيد بن جبير {والضفادع والدم آيات مفصلات} أي : معجزات مبينات ظاهرات ، وأدلة واضحات ، عن مجاهد . وقيل : مفصلات ، أي : بعضها منفصل عن بعض {فاستكبروا} أي : تكبروا عن قبول الحق والإيمان بالله {وكانوا قوما مجرمين} : عاصين كافرين .
القصة : قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ومحمد بن إسحاق بن يسار ، ورواه علي بن إبراهيم بإسناده ، عن أبي جعفر ، وأبي عبد الله عليه السلام دخل حديث بعضهم في بعض ، قالوا : .
لما آمنت السحرة ، ورجع فرعون مغلوبا ، وأبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر ، قال هامان لفرعون : إن الناس قد آمنوا بموسى ، فانظر من دخل في دينه ، فاحبسه . فحبس كل من آمن به من بني إسرائيل ، فتابع الله عليهم بالآيات ، وأخذهم بالسنين ، ونقص من الثمرات ، ثم بعث عليهم الطوفان ، فضرب دورهم ومساكنهم ، حتى خرجوا إلى البرية ، وضربوا الخيام ، وامتلأت بيوت القبط ماء ، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة ، وأقام الماء على وجه أراضيهم لا يقدرون على أن يحرثوا .
فقالوا لموسى : أدع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه ، فكشف عنهم الطوفان ، فلم يؤمنوا .
وقال هامان لفرعون : لئن خليت ، بني إسرائيل ، غلبك موسى ، وأزال ملكك ، وأنبت الله لهم في تلك السنة من الكلأ ، والزرع ، والثمر ، ما أعشبت به بلادهم ، وأخصبت ، فقالوا : ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا ، وخصبا ، فأنزل الله عليهم في السنة الثانية عن علي بن إبراهيم ، وفي الشهر الثاني عن غيره من المفسرين الجراد ، فجردت زروعهم ، وأشجارهم ، حتى كانت تجرد شعورهم ، ولحاهم ، وتأكل الأبواب ، والثياب ، والأمتعة ، وكانت لا تدخل بيوت بني إسرائيل ، ولا يصيبهم من ذلك شئ .
فعجوا ، وضجوا ، وجزع فرعون من ذلك جزعا شديدا ، وقال : يا موسى!
أدع لنا ربك أن يكشف عنا الجراد ، حتى أخلي عن بني إسرائيل . فدعا موسى ربه ، فكشف عنه الجراد بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت . وقيل : إن موسى عليه السلام برز إلى الفضاء ، فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب ، فرجعت الجراد من حيث جاءت ، حتى كأن لم يكن قط .
ولم يدع هامان فرعون أن يخلي عن بني إسرائيل ، فأنزل الله عليهم السنة الثالثة في رواية علي بن إبراهيم ، وفي الشهر الثالث عن غيره من المفسرين القمل ، وهو الجراد الصغار ، الذي لا أجنحة له ، وهو شر ما يكون وأخبثه ، فأتى على زروعهم كلها ، واجتثها من أصلها ، فذهبت زروعهم ، ولحس الأرض كلها . وقيل : أمر موسى أن يمشي إلى كثيب أعفر بقرية من قرى مصر تدعى عين الشمس فأتاه فضربه بعصاه ، فانثال عليهم قملا فكان يدخل بين ثوب أحدهم فيعضه ، وكان يأكل أحدهم الطعام ، فيمتلئ قملا .
قال سعيد بن جبير : القمل السوس الذي يخرج من الحبوب ، فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحا ، فلم يرد منها ثلاثة أقفرة ، فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل ، وأخذت أشعارهم وأبشارهم ، وأشفار عيونهم ، وحواجبهم ، ولزمت جلودهم ، كأنه الجدري عليهم ، ومنعتهم النوم والقرار ، فصرخوا وصاحوا .
فقال فرعون لموسى : أدع لنا ربك ، لئن كشفت عنا القمل ، لأكفن عن بني إسرائيل . فدعا موسى حتى ذهب القمل ، بعد ما أقام عندهم سبعة أيام من السبت إلى السبت ، فنكثوا فأنزل الله عليهم في السنة الرابعة ، وقيل في الشهر الرابع الضفادع ، فكانت تكون في طعامهم وشرابهم ، وامتلأت منها بيوتهم ، وأبنيتهم ، فلا يكشف أحد ثوبا ، ولا إناء ، ولا طعاما ، ولا شرابا ، إلا وجد فيه الضفادع ، وكانت تثب في قدورهم ، فتفسد عليهم ما فيها ، وكان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ، ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه ، ويفتح فاه لأكلته ، فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه ، فلقوا منها أذى شديدا .
فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا إلى موسى ، وقالوا : هذه المرة نتوب ولا نعود ، فادع الله أن يذهب عنا الضفادع ، فإنا نؤمن بك ، ونرسل معك بني إسرائيل . فأخذ عهودهم ومواثيقهم ، ثم دعا ربه ، فكشف عنهم الضفادع بعدما أقام عليهم سبعا من السبت إلى السبت . ثم نقضوا العهد وعادوا لكفرهم ، فلما كانت السنة الخامسة ، أرسل الله عليهم الدم ، فسال ماء النيل عليهم دما ، فكان القبطي يراه دما ، والإسرائيلي يراه ماء ، فإذا شربه الإسرائيلي كان ماء ، وإذا شربه القبطي كان دما ، وكان القبطي يقول للإسرائيلي : خذ الماء في فيك ، وصبه في في ، فكان إذا صبه في فم القبطي ، تحول دما .
وإن فرعون اعتراه العطش حتى إنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة ، فإذا مضغها يصير ماؤها في فيه دما ، فمكثوا في ذلك سبعة أيام ، لا يأكلون إلا الدم ، ولا يشربون إلا الدم .
قال زيد بن أسلم : الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف ، فأتوا موسى فقالوا :
أدع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل فلما دفع الله عنهم الدم لم يؤمنوا ، ولم يخلوا عن بني إسرائيل .
_______________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 337-342 .
{ولَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ ونَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} .
كانت مصر تفيض بالخصب والعطاء ، وقد فاخر فرعون بخصبها هذا ، حيث قال : وهذِهِ الأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي . وقال المتنبي عن ثعالبها : فقد بشمن وما تفنى العناقيد . وأخذها اللَّه بالجدب وضيق العيش على عهد فرعون موسى ليرعوي عن غيه ، ويستجيب لدعوة الحق . . وفي بعض الروايات إذا جار الولاة حبس المطر . وسواء أكان هناك علاقة بين ظلم الوالي والجدب على وجه العموم أم لم يكن ، فان اللَّه عاقب آل فرعون لظلمهم لعلهم يذكرون قبل أن يقذف بهم في أعماق اليم .
{فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى ومَنْ مَعَهُ} معه . بهذا المنطق يفسرون الأحداث . . كل ما أصابهم من خير فهم مستحقون له ، لأنهم يتحكمون في رقاب العباد ، وكل ما أصابهم من سوء فسببه من يدعوهم إلى الحق ، أما اللَّه والطبيعة التي خلقها اللَّه فبمعزل عن الخصب والجدب ، فرد اللَّه عليهم بقوله : {أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ولكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .
طائرهم كناية عما أصابهم من الجدب ، وانه بإرادة اللَّه التي تنتهي إليها جميع الأسباب ، وان تطيرهم بموسى خرافة وجهل .
وتسأل : لما ذا قال الحسنة بالتعريف وقال سيئة بالتنكير ؟ .
الجواب : غير بعيد أن يكون تعريف الحسنة إشارة إلى أن خير الطبيعة كالخصب ونحوه كثير ، وان تنكير السيئة إشارة إلى ان شرها كالزلزال والطوفان قليل .
{وقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} . هذا اعتراف صريح بأنهم يرفضون الحق ، وفي الوقت نفسه اعتراف بالعجز عن مواجهته بالحجة والبرهان . . فكان جزاء عنادهم هذا ان ابتلاهم اللَّه بخمسة أنواع من العذاب :
1 - {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ} من مطر السماء ، فأغرق الزرع وأهلك الضرع .
2 - {والْجَرادَ} جاء بعد الطوفان بطبيعة الحال ، وأكل البقية الباقية من كلأهم وزرعهم .
3 - {والْقُمَّلَ} بضم القاف وتشديد الميم دواب صغار كالقردان تركب البعير الهزيل ، وبفتح القاف وتخفيف الميم القمل المعروف ، وكلاهما ينزل البلاء ، وينشر الوباء .
4 - {والضَّفادِعَ} تنغص عليهم الحياة .
5 - {والدَّمَ} . قيل : تحول ماؤهم إلى دم ، ولم يقدروا على الماء العذب ، وقيل : أصيبوا بمرض الرعاف .
__________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 384-385 .
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف : 130] السنون جمع سنة وهي القحط والجدب ، وكان أصله سنة القحط ثم قيل : السنة إشارة إليها ثم كثر الاستعمال حتى تعينت السنة لمعنى القحط والجدب .
والله سبحانه يذكر في الآية - ويقسم - أنه أخذ آل فرعون وهم قومه المختصون به من القبطيين بالقحوط المتعددة ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون .
وهما نوعان من الآيات التي أرسلها الله إلى آل فرعون ، وظاهر السياق أنه أرسل ما أرسل منهما فصلا فصلا ، ولذا جمع السنين ولا يصدق الجمع إلا مع الفصل بين سنة وسنة .
على أنه يقول : {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ} [الأعراف : 131] الآية .
وظاهره الحسنة التي بعد السيئة ثم السيئة التي بعد هذه الحسنة .
قوله تعالى : {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ} إلى آخر الآية .
كانوا إذا جاءهم الخصب ووفور النعمة وسعة الرزق بعد ارتفاع السنة ونقص الثمرات قالوا : ﴿لنا هذه﴾ يريدون به الاختصاص وإنما قلنا : إنهم كانوا يقولون ذلك بعد ارتفاع السنة ونقص الثمرات لأن الإنسان بحسب الطبع لا ينتقل إلى ذكر النعمة بما هي نعمة ، ولا يتنبه لقدرها إلا بعد مشاهدة النقمة التي هي خلافها ، ولا داعي يدعو آل فرعون إلى ذكر النعمة الحسنة وتخصيصها بأنفسهم لو لا أنهم رأوا خلافها وعدوه أمرا بدعا لم يكونوا رأوه قبل ذلك فاطيروا بموسى ومن معه ثم إذا بدلت السيئة حسنة عدوها لأنفسهم فالتطير عند السيئة بحسب الوقوع قبل قولهم في الحسنة : لنا هذه وإن كان الأمر بحسب الطبع على خلاف ذلك بمعنى أنهم لو لم يزعموا ولم يرتكز في نفوسهم من اعتيادهم بالرفاهية ووفور النعمة والخصب أنهم مخصوصون بذلك يملكونه لم يتطيروا بموسى عند نزول المصيبة عليهم فإن من لم تروحه الراحة والعافية لا يتحرج عن خلافهما .
ولعل هذا هو الوجه في تقديمه تعالى اغترارهم بالنعمة قبل تطيرهم عند النقمة ثم ذكر الحسنة بكلمة ﴿إذا﴾ والسيئة بلفظة ﴿إن﴾ حيث قال : {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف : 131] فقد جعل مجيء الحسنة كالأصل الثابت فذكره بإذا والتعريف بلام الجنس ، ثم ذكر إصابة السيئة بطريق الشرط ، ونكر السيئة ليدل على ندرتها وكونها اتفاقية .
والتطير مشتق من الطير باعتبار اشتماله على نسبة من النسب ، وهي نسبة التشؤم فإنهم كانوا يتشأمون ببعض الطيور كالغراب فاشتق منه ما يفيد معنى التشؤم وهو التطير ومعناه التشؤم بالطير حتى سمي مطلق النصيب أو النصيب من الشر والشأمة طائرا .
فقوله تعالى : {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 131] معناه أن نصيبهم من الشر والشؤم الذي يحق به أن يسمى نصيب الشر وهو العذاب ، هو عند الله ، ولكن أكثرهم لا يعلمون لظنهم أن ما تجنيه أيديهم يفوت ويزول ولا يحفظ عليهم .
وربما يذكر للطائر في الآية معان أخر ككتاب الأعمال الذي سماه الله طائرا وغير ذلك لكن الأنسب بالسياق هو الذي تقدم .
قوله تعالى : {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف : 132] مهما من أسماء الشرط معناه أي شيء ، وقولهم هذا إياس منهم لموسى من أن يؤمنوا به وإن أتى بأي آية وفي قولهم : ﴿مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا﴾ استهزاء به حيث سموها آية وجعلوا غرضه منها أن يسحرهم أي إنك تأتينا بالسحر وتسميها آية .
قوله تعالى : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} [الأعراف : 133] .
الطوفان على ما قاله الراغب - كل حادثة تحيط بالإنسان ، وصار متعارفا في الماء المتناهي في الكثرة ، وفي المجمع ، : أنه السيل الذي يعم بتغريقه الأرض وهو مأخوذ من الطوف فيها .
والقمل بالضم والتشديد قيل : كبار القردان ، وقيل : صغار الذباب وبالفتح فالسكون معروف ، والجراد والضفادع والدم معروفة .
والتفصيل تفريق الشيء إلى أجزاء مفصولة منفصلة بعضها عن بعض ، ولازم ذلك تميز كل بعض وظهوره في نفسه فقوله : ﴿آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ﴾ يدل على أنها أرسلت إليهم لا مجتمعة ودفعة بل متفرقة منفصلة بعضها عن بعض ظاهرة في أنها آيات إلهية مقصودة غير اتفاقية ولا جزافية .
ومن الدليل على كون المفصلات بهذا المعنى قوله في الآية التالية : {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا} [الأعراف : 134] الآية .
الظاهر أن الآية كانت تأتيهم عن إخبار من موسى وإنذار ثم إذا نزلت بهم ودهمتهم التجئوا إليه فسألوه أن يدعو لهم لتنكشف عنهم ، وأعطوه عهدا إن كشفت عنهم آمنوا به وأرسلوا معه بني إسرائيل فلما كشفت نكثوا ونقضوا وعلى هذا القياس .
____________________________
1 . تفسير الميزان ، ج8 ، ص 231 - 233 .
قال تعالى : {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 130-131] .
العقوبات التنبيهية :
لقد كان القانون الإلهي العام في دعوة الأنبياء ـ كما قلنا في تفسير الآية (94) من نفس هذه السورة ـ هو أنّهم كلّما واجهوا معارضة كان الله تعالى يبتلي الأقوام المعاندين بأنواع المشاكل والبلايا ، حتى يحسّوا بالحاجة في ضمائرهم وأعماق نفوسهم ، وتستيقظ فيهم فطرة التوحيد المتكسّلة تحت حجاب الغفلة عند الرفاه والرخاء ، فيعودوا إلى الإحساس بضعفهم وعجزهم ، ويتوجهوا إلى المبدأ القادر مصدر جميع النعم .
وفي أوّل آية من الآيتين الحاضرتين إشارة إلى نفس هذا المطلب في قصّة فرعون ، إذ يقول تعالى : {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} .
و «السنين» جمع «سنة» بمعنى العام ، ولكنّها إذا قرنت بلفظة «أخذ» أعطت معنى الابتلاء بالقحط والجدب ، وعلى هذا يكون معنى أخذته السنة هو : أصيب بالقحط والجدب ، ولعل علّة ذلك هي أن أعوام القحط والجدب قليلة بالقياس إلى أعوام الخصب والخير ، وعلى هذا إذا كان المراد من السنة السنين العادية لم يكن ذلك موضوعا جديدا ، ويتبيّن من ذلك أنّ المراد من السنين هي السنين الاستثنائية ، أي سنوات القحط وأعوام الجدب .
وكلمة «آل» كانت في الأصل «أهل» ثمّ قلبت فصارت هكذا ، والأهل بمعنى أقرباء الإنسان وخاصته ، سواء أقرباؤه أو زملاؤه ونظراؤه في المسلك والتفكير وأعوانه .
ومع أنّ القحط والجدب أصابا حاشية فرعون ومؤيديه أجمع ، ولكن الخطاب في الآية موجه إلى خصوص أقربائه وخاصته ، وهو إشارة إلى أن المهم هو أن يستيقظ هؤلاء ، لأنّ بيدهم أزمة الناس ... أن يضلوا الناس ، أو يهدونهم ، ولهذا توجه الخطاب إليهم فقط ، وإن كان البلاء قد أصاب الآخرين أيضا .
ويجب أن لا نستبعد هذه النقطة ، وهي أن الجدب كان يعدّ بلاء عظيما لمصر ، لأنّ مصر كانت بلدا زراعيا ، فكان الجدب مؤذيا لجميع الطبقات ، ولكن من المسلّم أنّ آل فرعون ـ وهم الأصحاب الأصليين للأراضي الزراعية وإنتاجها ـ كانوا أكثر تضررا بهذا البلاء .
ثمّ إنّه يعلم من الآية الحاضرة أنّ الجدب استمر عدّة سنوات ، لأنّ كلمة «سنين» صيغة جمع ، وخاصّة أنّه أضيف إليها عبارة {نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ} لأنّ الجدب المؤقت والعابر يمكن أن يترك شيئا من الأثر في الأشجار ولكن عند ما يكون الجدب طويلا فإنّه يبيد الأشجار أيضا. ويحتمل أيضا أنّه علاوة على الجدب فانّ الفواكه والثمار أصيبت بآفات قاتلة كذلك .
وكأنّ جملة {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} إشارة إلى هذه النقطة ، وهي : أنّ التوجه إلى حقيقة التوحيد موجودة من البداية في الروح الآدمية ، ولكنّه على أثر التربية غير الصحيحة أو بطر النعمة ينساها الإنسان ، وعند حلول البلايا والأزمات يتذكر ذلك مجددا ، ومادة «تذكر» تناسب هذا المعنى.
هذا والجدير بالانتباه أنّ جملة {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} جاءت في ذيل الآية (94) وهي مقدمة أخرى ـ في الحقيقة ـ لأنّ الإنسان يتذكر أوّلا ، ثمّ يخضع ويسلّم ، أو يطلب من الله الصفح والمغفرة.
ولكن بدل أن يستوعب «آل فرعون» هذه الدروس الإلهية ، ويستيقظوا من غفلتهم وغفوتهم العميقة ، أساءوا استخدام هذا الظرف والحالة ، وفسّروها حسب مزاجهم ، فإذا كانت الأحوال مؤاتية ومطابقة لرغبتهم ، وكانوا يعيشون في راحة واستقرار قالوا : إنّ الوضع الحسن هو بسبب جدارتنا ، وصلاحنا {فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ}.
ولكن عند ما تنزل بهم النوائب فإنّهم ينسبون ذلك إلى موسى عليه السلام وجماعته فورا ويقولون هذا من شومهم : {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ}.
و «يطّيروا» مشتقة من مادة «تطيّر» بمعنى التشاؤم ، وأصلها من الطير ، فقد كان العرب غالبا ما يتشاءمون بواسطة الطيور. وربّما تشاءموا بصوت الغراب ، أو بطيران الطير ، فإذا طار من ناحية اليسار اعتبروا ذلك علامة الشقاء والفشل ، وكلمة التطير تعني مطلق التشاؤم .
ولكن القرآن الكريم قال في معرض الردّ عليهم : اعلموا أنّ منشأ كل شؤم وبلاء أصابكم انّما هو من قبل الله ، وأنّ الله تعالى أراد أن تصيبكم نتيجة أعمالكم المشؤومة ، ولكن أكثرهم لا يعلمون {أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .
والجدير بالتأمل أن هذا النمط من التفكير لم يكن خاصا بالفرعونيين ، بل هو أمر نلاحظه بوضوح الآن بين الشعوب المصابة بالأنانية والضلال ، فهي ـ بغية قلب الحقائق ، وخداع ضميرها أو ضمائر الآخرين ـ كلما أصابها نجاح وتقدم اعتبرت ذلك ناشئا من جدارتها وكفاءتها ، وإن لم يكن في ذلك النجاح والتقدم أدنى شيء من تلك الكفاءة والجدارة ، وبالعكس إذا أصابها أي إخفاق وشقاء نسبت ذلك فورا إلى الأجانب وإلى أيادي العدو الخفيّة أو المكشوفة ، وإن كانوا هم بأنفسهم سبب ذلك الشقاء والإخفاق .
يقول القرآن الكريم : إنّ أعداء الرّسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يتوسلون بمثل هذا المنطق أيضا في مقابل رسول الله (كما نقرأ في الآية 78 من سورة النساء) .
وفي مكان آخر يقول : إنّ المنحرفين هم هكذا (كما في سورة فصلت الآية 50) وهذا في الحقيقة هو أحد مظاهر الأنانية واللجاج البارز . (2)
التفاؤل والتشاؤم (الفأل والطيرة) :
مسألة التطيّر والتفاؤل والتشاؤم قد تكون منتشرة في مختلف المجتمعات البشرية ، فيتفاءلون بأمور وأشياء ويعتبرونها دليل النجاح ، ويتشاءمون بأمور وأشياء ويعتبرونها آية الهزيمة والفشل. في حين لا توجد أية علاقة منطقية بين النجاح والإخفاق وبين هذه الأمور ، وبخاصّة في مجال التشاؤم حيث كان له غالبا جانب خرافي غير معقول.
إنّ هذين الأمرين وإن لم يكن لهما أي أثر طبيعي إلّا أنّه يمكن أن يكون لهما أثر نفسي لا ينكر ، وإنّ التفاؤل غالبا يوجب الأمل والتحرك ، والتشاؤم يوجب اليأس والوهن والتراجع.
ولعله لأجل هذا لم ينه في الرّوايات والأحاديث الإسلامية عن التفاؤل ، بينما نهي عن التشاؤم بشدّة ، ففي حديث معروف مروي عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «تفاءلوا بالخير تجدوه» وقد شوهد في أحوال النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الهداة عليهم السلام ـ أنفسهم ـ أنّهم ربّما تفاءلوا بأشياء ، مثلا عند ما كان المسلمون في «الحديبية» وقد منعهم الكفار من الدخول إلى مكّة جاءهم «سهيل بن عمرو» مندوب من قريش ، فلمّا علم النّبي صلى الله عليه وآله وسلم باسمه قال متفائلا باسمه : «قد سهل عليكم أمركم» (3) .
وقد أشار العالم المعروف «الدميري» وهو من كتّاب القرن الثامن الهجري ، في إحدى كتاباته إلى نفس هذا الموضوع ، وقال : إنّما أحب النّبي صلى الله عليه وآله وسلم الفأل لأنّ الإنسان إذا أمل فضل الله كان على خير ، وإن قطع رجاءه من الله كان على شر ، والطيرة فيها سوء ظن وتوقع للبلاء (4) .
ولكن في مجال التشاؤم الذي يسمّيه العرب «التطير» و «الطيرة» ورد في الأحاديث الإسلامية ـ كما أسلفنا ـ ذم شديد ، كما أشير إليه في القرآن الكريم مرارا وتكرارا أيضا ، وشجب بشدّة (5) .
ومن جملة ذلك ما روي عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : «الطيرة شرك» (6) وذلك لأن من يعتقد بالطيرة كأنّه يشركها في مصير الإنسان.
وتشير بعض الأحاديث أنّه إذا كان للطيرة أثر سيء فهو الأثر النفسي ، قال الإمام الصادق عليه السلام : «الطيرة على ما تجعلها ، إن هونتها تهونت ، وإن شددتها تشدّدت ، وإن لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا» (7) .
وورد أنّ طريقة مكافحة الطيرة تتمثل في عدم الاعتناء بها ، فقد روي عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : «ثلاث لا يسلّم منها أحد : الطيرة والحسد والظن. قيل : فما نصنع ؟ قال : إذا تطيرت فامض (أي لا تعتن بها) وإذا حسدت فلا تبغ (أي لا تعمل بوحي منه شيئا) وإذا ظننت فلا تحقق».
والعجيب أنّ مسألة الفأل والطيرة كانت ولا تزال موجودة حتى في البلاد الصناعية المتقدمة ، وفي أوساط من يسمّون بالمثقفين ، بل وحتى النوابغ المعروفين ، ومن جملتها : يعتبر المرور من تحت السلّم عند الغربيين ـ وسقوط المملحة ، وإهداء سكين ، أمورا يتشاءم بها بشدّة .
على أنّ وجود الفأل الجيد ـ كما قلنا ـ ليس مسألة مهمّة ، بل لها غالبا آثار حسنة طيبة ، ولكن يجب مكافحة عوامل التشاؤم وفكرة الطيرة ، ونبذها من الأذهان ، وأفضل وسيلة لمكافحتها هي تقوية روح التوكل ، والثقة بالله والاعتماد عليه كما أشير إلى ذلك في الأحاديث الإسلامية .
- {وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} [الأعراف : 132-133] .
النّوائب المتنوعة :
في هاتين الآيتين أشير إلى مرحلة أخرى من الدروس المنبهة التي لقّنها الله لقوم فرعون ، فعند ما لم تنفع المرحلة الأولى ، يعني أخذهم بالجدب والسنين وما ترتب عليه من الأضرار المالية في إيقاظهم وتنبيههم ، جاء دور المرحلة الثّانية وتمثلت في عقوبات أشدّ ، فأنزل الله عليهم نوائب متتابعة مدمرة ، ولكنّهم ـ وللأسف ـ لم ينتبهوا مع ذلك.
وفي الآية الأولى من الآيات المبحوثة يقول القرآن الكريم من باب المقدمة لنزول النّوائب : إنّهم بقوا يلجّون في إنكار دعوة موسى ، وقالوا : مهما تأتنا من آية وتريد أن تسحرنا بها فإننا لن نؤمن بك : {وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}.
إنّ التعبير بـ «الآية» لعلّه من باب الاستهزاء والسخرية ، لأنّ موسى عليه السلام وصف معاجزه بأنّها آيات الله ، ولكنّهم كانوا يفسرونها بالسحر.
إنّ لحن الآيات والقرائن يفيد أنّ الجهاز الإعلامي الفرعوني الذي كان ـ تبعا لذلك العصر ـ أقوى جهاز إعلامي ، وكان النظام الحاكم في مصر يستخدمه كامل الاستخدام ... إنّ هذا الجهاز الإعلامي قد عبّأ قواه في توكيد تهمة السحر في كل مكان ، وجعلها شعارا عاما ضد موسى عليه السلام ، لأنّه لم يكن هناك تهمة منها أنسب بالنسبة إلى معجزات موسى عليه السلام للحيلولة دون انتشار الدعوة الموسوية ونفوذها المتزايد في الأوساط المصرية.
ولكن حيث أن الله سبحانه لا يعاقب أمّة أو قوما من دون أن يتمّ عليهم الحجّة قال في الآية اللاحقة : نحن أنزلنا عليهم بلايا كثيرة ومتعددة لعلهم يتنبهون ... فقال أولا : {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ} .
وكلمة «الطوفان» مشتقّة من مادة «الطوف» على وزن «خوف» وتعني الشيء الذي يطوف ويدور ، ثمّ أطلقت هذه اللفظة على الحادثة التي تحيط بالإنسان ، ولكنّها أطلقت ـ في اللغة ـ على السيول والأمواج المدمرة التي تأتي على كل شيء في الأغلب ، وبالتالي تدمر البيوت ، وتقتلع الأشجار من جذورها.
ثمّ سلط الجراد على زروعهم وأشجارهم (والجراد).
وقد جاء في الأحاديث أن هجوم أسراب الجراد كان عظيما جدّا إلى درجة أنّها وقعت في أشجارهم وزروعهم أكلا وقضما وإتلافا ، حتى أنّها أفرغتها من جميع الغصون والأوراق ، وحتى أنّها أخذت تؤذي أبدانهم ، بحيث تعالت صيحاتهم واستغاثاتهم .
وكلّما كان يصيبهم بلاء كانوا يلجأون إلى موسى عليه السلام ويسألونه أن يطلب من الله أن يرفع عنهم ذلك البلاء ، فقد فعلوا هذا بعد الطوفان والجراد أيضا ، وقبل موسى عليه السلام ، وارتفع عنهم البلاء ولكنّهم مع ذلك لم يكفّوا عن لجاجهم وتعنتهم .
وفي المرّة الثّالثة سلط عليهم القمل {وَالْقُمَّلَ} .
وأمّا ما هو المراد من «القمل» فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين ، ولكن الظاهر أنّه نوع من الآفات الزراعية التي تصيب الغلات ، وتفسدها وتتلفها .
وعند ما خفت أمواج هذا البلاء ، واستمرّوا في عنادهم سلط الله عليهم في المرحلة الرّابعة ، الضفادع ، فقد تزايد نسل الضفادع تزايدا شديدا حتى أنّه تحول إلى بلاء عظيم عكّر عليهم صفو حياتهم : {وَالضَّفادِعَ} (8) .
ففي كل مكان كانت الضفادع الصغيرة والكبيرة تزاحمهم ، حتى في البيوت والغرف والموائد وأواني الطعام ، بحيث ضاقت عليهم الحياة بما رحبت ، ولكنّهم مع ذلك لم يخضعوا للحق ، ولم يسلّموا.
وفي هذا الوقت بالذات سلّط الله عليهم الدم .
قال البعض : إنّ داء الرعاف (وهو نزيف الدم من الأنف) شاع بينهم كداء عام ، وأصيب الجميع بذلك . ولكن أكثر الرّواة والمفسّرين ذهبوا إلى أن نهر النيل العظيم تغير وصار لونه كلون الدم ، بحيث صار تعافه الطباع ، ولم يعد قابلا للانتفاع .
وقال تعالى في ختام ذلك : إنّ هذه الآيات والمعاجز الباهرة ـ رغم أنّها أظهرت لهم حقانية موسى ـ ولكنّهم استكبروا عن قبول الحق وكانوا مجرمين.{آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} .
وفي بعض الرّوايات نقرأ أن كل واحدة من هذه البلايا كانت تقع في سنة واحدة ، يعني أنّه أصابهم الطوفان في سنة ، والجراد في سنة أخرى ، والآفات الزراعية في سنة ثالثة ، وهكذا. ولكن نقرأ في بعض الرّوايات أنّه كان يفصل بين كل بلاء وآخر شهر واحد لا أكثر وعلى أي حال ، لا شك أنّها كانت تقع بصورة منفصلة ، وفي فواصل زمنية مختلفة (كما يقول القرآن : مفصلات) كي تكون هناك فرصة للتفكر والتنبه واليقظة .
هذا والجدير بالانتباه أنّنا نقرأ في الرّوايات أن هذه البلايا كانت تصيب آل فرعون وقومه خاصّة ، وكان بنو إسرائيل في معزل عن ذلك ، ولا شك أنّ هذا نوع من الإعجاز ، ولكن يمكن أن نبرر قسما من ذلك بتبرير علمي معقول ، لأنّنا نعلم أنّ أجمل نقطة في بلد مثل مصر هي شاطئا النيل وضفتاه ، وكانت هذه الشواطئ والضفاف برمتها تحت تصرف الفرعونيين والقبطيين ومحل سكناهم ، فقصورهم الجميلة الشامخة ، ومزارعهم الخضراء وبساتينهم العامرة ، كانت في هذه الضفاف .
وبطبيعة الحال كان نصيب بني إسرائيل الذين كانوا عبيدا للفرعونيين والقبطيين هي النقاط النائية والصحاري البعيدة الشحيحة الماء .
ومن الطبيعي أنّ الطوفان عند ما يحدث يكون الأقرب إلى الخطر ضفتا النيل وشاطئاه ومن يسكنها ، وكذا عند ما كانت الضفادع تخرج من الماء ، وكذا انقلاب الماء إلى هيئة الدم كان يظهر في مياه الفرعونيين الذين كانوا يسكنون إلى جانب النيل دون بني إسرائيل ، وأمّا الجراد والآفات النباتية فقد كانت تتعرض لها المناطق الزراعية والبساتين الخضراء الوفيرة المحصول في الدرجة الأولى .
كل ما قيل في الآيات السابقة جاء في التوراة أيضا ، ولكن ثمّة فروق واضحة بين محتويات القرآن الكريم وما جاء في التوراة راجع سفر الخروج الفصل السابع إلى العاشر من التوراة) .
_________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 470-478 .
2. ذكر «حسنة» محلاة بالألف واللام و «إذا» وذكر «سيئة» مع (إن) بصورة النكرة إشارة إلى النعم كانت تنزل عليهم بصورة متتابعة ، بينما كانت البلايا تنزل أحيانا .
3. الميزان ، المجلد 19 ، الصحفة 86 .
4. سفينة البحار ، المجلد الثاني ، الصفحة 102 .
5. مثل سورة «يس» الآية (19) ، وسورة النمل الآية (47) ، والآية المطروحة على بساط البحث هنا .
6. الميزان في ذيل الآية المبحوثة هنا .
7. الميزان ، في ذيل الآية المبحوثة هنا .
8. الضّفادع جمع ضفدعة وقد جاء ذكر هذا البلاء في الآية بصورة الجمع ، ولكن البلايا السابقة جاءت في صورة المفرد . ولعل هذا يفيد أن الله سلّط عليهم أنواعا مختلفة من الضفادع .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|