أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-2-2018
862
التاريخ: 4-2-2018
806
التاريخ: 4-2-2018
5209
التاريخ: 13-2-2019
1043
|
حصار المختارة عاصمة صاحب الزنج
حصار مدينة صاحب الزنج :
بعد أن حقق صاحـب الزنـج (*) عدة انتصارات على جيوش الخلافة العباسية وتمكنه من السيطرة علـى الكثيـر مـن المدن مثل الأبلة (**) وعبادان (***) والأهواز سنـة (256هـ) (1) والسيطـرة علـى البصرة سنة (267هـ) (2) وسيطـرتهـم علـى واسـط سنـة(264هـ) (3) وسيطرتهـم علـى رامهرمز(*) (سنة 267هـ) (4) وبعد فشل الكثير من القادة الذين أرسلتهم الخلافة العباسية لصد هجمات الزنج، وجد المعتمد على الله من الضرورة تعيين قائد جديد وشجاع لحرب الزنج، فكان الاختيار على أخيه أبي أحمد الموفق (**) إذ أرسل اليه وأحضره من مكة وعقد له على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن، ثم عقد له على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز وفارس (5) .
وتمكن الموفق من تحقيق أنتصارات عدة على جيوش صاحب الزنج فتمكن من السيطرة على مدينة صاحب الزنج واسمها المنيعة وكذلك مدينته الاخرى وأسمها المنصورة ومدينة طشا واستولى على الاحواز، وأجلى الزنج عنها وكان ذلك سنة (267هـ) (6) .
وبعد أن حقق الموفق هذه الانتصارات على صاحب الزنج وهزيمته لجيوشهم، انسحب صاحب الزنج الى مدينته بنهر أبي الخصيب (7) وأمر الموفق أبنه أبا العباس المعتضد (*) بالمسير الى محاربة صاحب الزنج بنهر أبي الخصيب (**). فسار إليه فحاربه ، وكتب الموفق إلى صاحب الزنج كتاباً يدعوه إلى التوبة والانابة إلى الله تعالى وما ركب في سفك الدماء، وانتهاك المحارم، وأخراب البلاد، واستحلال الفروج والاموال، وأدعاء النبوة والرسالة ، ويبذل له الأمان، فوصل الكتاب إليه ، فقرأه ولم يكتب جوابه، وعندما لم يرد الجواب استعرض الموفق عسكره ، وأصلح آلاته ورتب قواده، ثم سار هو وأبنه ابو العباس في العشرين من رجب الى مدينة صاحب الزنج (8) التي سماها المختارة (***) فأشرف عليها، وتأملها ، فرأى من منعتها وحصانتها بالسور والخنادق المحيطة بها وما وعر من الطرق المؤدية اليها (9) .
اجراءات الموفق :
لقد أعد الموفق من المجانيق والعرادات والقسي الناوكية وسائر الآلات على سورها ما لم ير مثله ممن تقدم من منازعي السلطان، وأمر الموفق أبنه أبا العباس بالتقدم الى سور المدينة ورشق من عليه بالسهام ، ففعل ذلك، ودنا حتى الصق شذواته بمسناة قصر صاحب الزنج (10) وعندما رأى الموفق حصانة موضع صاحب الزنج وكثرة جمعه، علم أنه لا بد من الصبر عليه ومحاصرته وتفريق أصحابه عنه، ببذل الأمان لهم، والإحسان إلى من أناب منهم، والغلظة على من أقام على غيّه منهم، وأمر أبو العباس المعتضد فنودي أن الامان مبسوط للناس أسودهم وأحمرهم إلا الخبيث وأمر بسهام فعلقت فيها رقاع مكتوب فيها من الأمان مثل الذي نودي به، ورمى السهام إلى عسكر الخبيث ، فمالت إليه قلوب أصحاب صاحب الزنج بالرهبة والطمع فيما وعدهم من إحسانه وعفوه، فأتاه في ذلك اليوم جمع كثير يحملهم الشذا اليه فوصلهم وحباهم، وهذه كانت من أنجح المكايد على صاحب الزنج (11) .
كما أسس الموفق في منزلته مدينة سماها الموفقية (*) وأمر بحمل المير في البر والبحر وادرارها إلى معسكره بالموفقية، وكتب إلى عماله في النواحي في حمل الاموال الى بيت ماله في هذه المدينة، وأمرهم بأنفاذ من يصلح للاثبات في الديوان (12) .
وكتب الموفق الى البلاد وخاصة سيراف (*) وجنابا (**) في عمل السميريات والزواريق والشذوات والإكثار منها لضبط الأنهار ، وليقطع الميرة عن صاحب الزنج وأشياعه (13) .
واقام الموفق ينتظر شهراً أو نحوه ، فوردت اليه الميرة متتابعة ، وجهز التجار صنوف التجارات والامتعة وحملوها الى مدينة الموفقية واتخذت بها الاسواق ووردتها مراكب البحر، وبنى بها أبو أحمد المسجد الجامع وأمر الناس بالصلاة فيه، وأتخذ دور الضرب فيها، فضرب فيها الدنانير والدراهم، فجمعت مدينة الموفقية جميع المرافق ، وسيق اليها من صنوف الاشياء، حتى كان ساكنوها لا يفقدون بها شيئاً مما يوجد في الامصار العظيمة القديمة ،وحملت الاموال وأدر للناس العطاء في أوقاته ، فأتسعوا وحسنت أحوالهم، فرغب الناس جميعاً في المصير الى المدينة الموفقية والمقام فيها (14) .
وقام الموفق بترتيب الشذا على فوهات الانهار التي لا يتهيأ للفرسان سلوكها في بنائها والاقبال بها إليه، فورد عليه منها عدد صالح فرتب فيها الرجال.
وأمر الموفق بالتضييق على صاحب الزنج وجماعته وتشديد الحصار عليهم، وقطع الميرة والمنافع عنهم، ورتب الموفق على جميع المسالك القواد وأحكم الامر فيه غاية الإحكام (15) وهذه الإجراءات إقتصادية فلذلك يعدّ الحصار حصاراً عسكرياً واقتصادياً على مدينة صاحب الزنج .
أبو العباس المعتضد قائد لقوة الحصار الاقتصادي :
أصدر الامير أبو أحمد الموفق أمراً بأن يتولى أبو العباس المعتضد قيادة اسطول الشذوات بأجمعه من أجل الأستمرار في الحصار الاقتصادي وقطع كل منفذ تأتي معه الميرة بأنواعها اليهم من كل جهة (16) .
وأول ما بدأ به أبو العباس هو اصلاح الشذوات التي تحتاج إلى الاصلاح، فيما رتب مقاتلتها الرامحة والناشبة الذين تم اختيارهم من قبله، وبعد أن تأكد من استكماله لكل مستلزمات اسطوله ونجاح مهمته بدأ بتوزيع اسطوله على تلك المواضع التي تسلكها شذوات المتمردين من أجل الإيقاع بهم عند ورودها من خلال تلك المواضع والفوهات ،وبالفعل فقد وصلت الشذوات الزنجية على سابق عهدها فبرز إليهم أبو العباس في شذواته ، كما أمر أصحاب الشذوات المؤتمرين بأمرته بالبروز لهم في الوقت نفسه ، وتم رميهم بالسهام ثم تخالطوا فأخذت منهم الرماح طعناً، فيما كانت الحجارة تقذف إليهم، فحلت الهزيمة عليهم، فيما واصل أبو العباس واتباعه ملاحقتهم حتى أدخلوهم نهر أبي الخصيب (17) .
وكان من نتائج حماية ابي العباس لفوهات الانهار وقوة الحصار الاقتصادي على المتمردين ، أن أدرك أعيان الزنج وأتباعهم قوة الجيش العباسي الذي يفرض الحصار ويستعد للهجوم، فاستأمن ليلاً الى عسكر الامير الموفق القائد محمد ابن الحارث العمي الذي كان مسؤولاً عن قوة حماية نهر منكي والسور الذي يلي عسكر الامير الموفق في مجموعة من أتباعه (18) فاستقبله الأمير الموفق وأكرمه ووصله "وخلع عليه وحمله على عدة دواب بخليتها وآلتها وأسنى له الرزق " (19) كما استأمن قائداً آخر من قادة الزنج عرف بالشجاعة هو أحمد البرذعي الذي كان من أشجع رجال صاحب الزنج وأتباعه وثلاثة قادة آخرين هم مديد وابن انكلوية ومنينة، فاحتفى الامير الموفق بهم وخلع عليهم وعلى أتباعهم الذين لحقوا بهم، وبدأت الميرة تنقطع عن صاحب الزنج وأتباعه نتيجة التدابير التي اتخذها أبو العباس ،وسدت عليهم المذاهب (20) .
اجراءات صاحب الزنج:
بعد أن إنقطعت الميرة عن الزنج، فكر صاحب الزنج بالقيام بحملة عسكرية لتوفير الميرة لأصحابه، وقطع الميرة عن عسكر الأمير الموفق بمدينة الموفقية، وبالفعل فقد انتدب أثنين من رؤساء قادته وأقدمهم هما شبل وأبو النداء اللذين كان يعتمد عليهما في تنفيذ المهمات الصعبة لثقته بهما. يرافقهما عشرة آلاف مقاتل من أتباعه زنجاً وغير زنج (21) .
وتتلخص خطة صاحب الزنج بأن تخرج القوة الى ثلاثة محاور في نهر أبي الأسد (*) ونهر الدير (**) ونهر المرأة (***) ومن ثم الخروج من هذه الانهار الثلاثة الى البطيحة وهناك تغير القوة على أهل البطيحة وقراها وتنهب ما فيها من طعام وميرة ، ثم محاولة قطع الميرة عن الجيش العباسي المقيم بالموفقية التي ترد اليه من واسط وبغداد ونواحيها (22) .
ويبدو أنّ الأمير الموفق كانت له جواسيسه الذين بثهم في كل مكان، فقد وصلت إليه الأخبار بنية الزنج وخروجهم الى تلك الجهات، فانتدب مولاه زيرك الذي كان عينه صاحباً لمقدمة أبي العباس، وأمره بالخروج في قوة نهرية من الشذا والسميريات. وفسح المجال له في اختيار الرجال الذين تم حملهم في الزواريق والسفن الخفاف، فيما سارت جماعة أخرى على البر، وتوجه زيرك وقوته إلى نهر الدير لكنـه لـم يجـد لهـم مـن خبـر، فسـار الى ثبق شيريــن (****) ثـم توغـل فـي نهـر عـدي (*) سالكـاً إيـاه وخارجاً منه الى نهر أبن عمر (**).
والتقى الجيش العباسي هناك بالمتمردين، وكانت قوة المتمردين قد ارهبته أول وهلة من كثرتهم ، فصلى مستخيراً الله في قتالهم (23) فرفع بذلك من معنويات مقاتليه ، ثم هجم هجوماً ماحقاً قذف من خلاله الرعب في قلوب الاعداء الذين أنفل جمعهم، ووضع زيرك وأتباعه السلاح فيهم فكانوا بين قتيل وغريق فيما تم أسر عدد كبير منهم، وأغرق عدداً من سفنهم ، كما سيطر على سفن كثيرة قدر عددها بأربعمائة سفينة، ثم أنصرف بجيشه وبغنائمه وأسراه ورؤوس القتلى حتى وصل الموفقية (24) .
نتائج سياسة الموفق :
بعد أن أحكم الأمير الموفق حصاره الاقتصادي على المتمردين، إذ لم يترك لهم منفذاً محتملاً حتى أحكم السيطرة عليه، أخذ حصاره يأتي أكله يوماً بعد يوم. إذ بدأت الأساطيل تحرس الطرق النهرية والخليج العربي وتمنع الميرة من الوصول الى صاحب الزنج ، فيما كثرت بالموفقية ، وبدأت وبصورة تدريجية الندرة في الطعام والميرة يشهد لها في المختارة التي بدأت معاركها تتقرب من موعدها، وكان من شدة الحصار الذي فرضه الموفق وبلائه أن بدأ التذمر بين قادة الزنج وعامتهم بالظهور ، إذ لم يتمكنوا من الظهور بشذواتهم إلى الأنهار ، فيما حاز من استأمن منهم الأمن والإحسان ، واستقر بهم تفكيرهم على أن الاستئمان هو الهاجس الوحيد والمنقذ الذي ينقذهم من وضعهم السيء الذي هم فيه، فمالوا اليه محاولين الهروب من وضعهم هذا لينالوا الأمان الذي أعلنه الأمير الموفق وثبت صدقه فيه (25) .
أما صاحب الزنج فلم يقف مكتوف الأيدي بعد أن أيقن أن في ذلك يمكن هلاكه فأصدر أوامره بحراسة كل منفذ يمكن للمستأمنين ولوجه، كما فرض حراسة على فوهات الانهار لمنع السفن من الخروج منها " واجتهد في سد كل مسلك وطريق وثلمة، لئلا يطمع في الخروج عن مدينته "، وبالنظر لما أتخذه صاحب الزنج من تدابير احترازية تحول دون خروجهم الى الموفقية أضطر من رغب بالاستئمان من القادة إلى مراسلة الأمير الموفق يسألونه الأمان طالبين منه بذل المساعدة في ذاك وأرسال قوة عسكرية يحارب بها صاحب الزنج لتسهيل مهمة خروجهم ، فأرسل الموفق على الفور أبنه أبا العباس على رأس قوة عسكرية ومعه أنجاد رجاله تحملهم الشذا والسميريات والمعابر ، فالتحم الجانبان وظفر اصحاب ابو العباس بالزنج بعد معارك استمرت من الصباح الى العصر ، فأفلح أبو العباس في تخليص المستأمنين الذين كان معهم عدد كبير من الفرسان والرجالة ، إذ ركب الجميع شذواتهم وسفنهم منصرفين الى الموفقية (26) .
وقعة نهر الاتراك :
في طريق عودة جيش أبي العباس مر الجمع على مقربة من مدينة صاحب الزنج حتى وصولهم نهر الاتراك ، وهناك انتبه أبو العباس إلى قلة العسكر الموكلين بحراسة موضع النهر من الزنج وطمعوا فيهم فأنشقوا الى قسمين ، قسم واصل سيره إلى الموفقية ، فيما مال القسم الآخر إلى موضع النهر ، ونزلوا على أرضه ، فيما تسلقت جماعة منهم السور هناك وظفروا بمن عليه من المتمردين ، إلا أنّ صاحب الزنج نذر وأمد فتحاشد الاعداء عند الموضع مما دفع أبو العباس الى الطلب من الأمير الموفق بالمدد الذي وصل اليه فبرز الجميع على المتمردين ملحقين بهم الهزيمة ، إلا أنّ سليمان بن جامع (*) استغل الفرصة فتوغل بجمع كثير من أتباعه صاعداً بالنهر حتى وصل نهر عبد الله بوضع يكونوا مستدبرين الجيش العباسي ، وتقدم إبن جامع وأتباعه من الخلف على جند أبي العباس فرجحت كفة سليمان بن جامع وسيطر الزنج على اعلام ومطارد للجيش العباسي. فنظم ابو العباس انسحاباً منظماً لجماعته حتى وصل الموفقية .
لقد كانت هذه الوقعة بمثابة الشرارة التي أحرقت السهل والعامل المباشر ألذي دفع الأمير الموفق إلى إتخاذ قراره الحاسم ببدء المرحلة الاخيرة من الحرب والعبور الى عاصمة الزنج واقتحامها ، وأمر أبو العباس وسائر القواد بالتأهب للعبور (27).
عبور الموفق مدينة صاحب الزنج :
بعد أن أضعف الموفق قوة صاحب الزنج ، بالتضييق عليه والحصار، ومنعه وصول المير إليه، واستأمان خلق كثير من جماعة صاحب الزنج إليه، عبر الموفق لأربع عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر إلى مدينة صاحب الزنج ، وقصد أبا أحمد موضعاً من السور ووزع قواده على أطراف المدينة ومداخل الأنهار وضم إلى كل واحد منهم من الفعلة جماعة لهدم ما يليهم من السور " وتقدم الى جميعهم الا يزيدوا
على هدم السور ، وألا يدخلوا مدينة الخبيث " ووضع الموفق بكل ناحية من النواحي الرماة وأمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من الفعلة والرجالة الذين يخرجون للمدافعة عنهم، ونتيجة لذلك حدثت ثلم كبيرة في سور المدينة ودخل اصحاب أبي أحمد مدينة المختارة من جميع تلك الثلم ، وجاء أصحاب الخبيث يحاربونهم فهزمهم أصحاب أبي أحمد وخرج كمناؤهم من مواضع يعرفونها ولا يعرفها الآخرون فتحير أصحاب أبي احمد الذين كانوا داخل المدينة ودافعوا عن أنفسهم وتراجعوا نحو دجلة وأنصرف أبو أحمد ومن معه الى الموفقية " وأمر بجمعهم وعذّلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره" وتوعدهم باغلظ العقوبة إن عادوا لخلاف أمره بعد ذلك (28) .
دخول الموفق مدينة صاحب الزنج بالجانب الشرقي :
عزم الموفق على الهجوم على مدينة صاحب الزنج بالجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب ،وذلك بعد أن أمر بجمع السفن والمعابر من دجلة والبطيحة ونواحيها ليضيفها إلى ما في عسكره ، إذ كان ما في عسكره مقصراً عن الجيش لكثرته ، وأحصى ما في الشذا والسميريات والرقيات التي كانت تعبر فيها الخيل، فكانوا زهاء عشرة آلاف ملاح، سوى سفن أهل العسكر التي يحمل فيها الميرة ، وسوى ما كان لكل قائد ومن يحضر من أصحابه من السميريات والزواريق ، فلما تكاملت السفن والمعابر تقدم إلى أبي العباس وإلى قواده وغلمانه في التأهب والاستعداد للقاء عدوهم ، وأمر بتفرقة السفن والمعابر إلى حمل الخيل والرجالة ، وتقدم إلى أبي العباس في أن يكون خروجه في جيشه في الجانب الغربي من نهر أبي الخصيب وضم اليه قواداً من قواد غلمانه في زهاء ثمانية آلاف من أصحابهم، وأمره بالعبور بأصحابه الى الجانب الغربي من نهر أبي الخصيب وأن يأتي هذه الناحية من ورائها، وأمر راشداً مولاه بالخروج في الجانب الشرقي من نهر ابي الخصيب في زهاء عشرين ألفاً من الرجالة والفرسان ، وأمرهم أن يجعلوا سيرهم على شاطىء النهر حتى يوافوا دار صاحب الزنج (29) . فعمل أبو العباس وسائر القواد بما أمروا به، وأبرزوا سفنهم في عشية يوم الاثنين لسبع ليال خلون من ذي القعدة سنة تسع وستين ومئتين، فمشت الرجالة وسارت السفن حتى أنتهوا الى موضع من أسفل العسكر كان الموفق أمر بإصلاحه وتنظيفه وتنقيته مما فيه من خراب ودغل وطم سواقيه واتخذ فيه قصراً وميداناً ، وكان غرضه من ذلك إعلام الفريقين أنه غير راحل حتى يحكم الله بينه وبين صاحب الزنج (30) .
وكان جيش الموفق زهاء خمسين ألفاً من الرجال والفرسان في أحسن زي وأكمل هيئته ، وجعلوا يكبرون ويقرؤون القرآن ويصلون ويوقدون النار، فرأى صاحب الزنج من كثرة الجمع والعدة ما بهر عقله وعقول أصحابه، وركب الموفق الشذا وهي يومئذٍ مئة وخمسون شذا قد شحنها بأنجاد رجاله وغلمانه ومواليه الناشبة والرامحة وزحف الجيش نحو صاحب الزنج وجماعته واشتبكوا وكثر القتل والجراح بين الفريقين ، وصبر أصحاب الموفق وصدقوا القتال فمنّ الله عليهم بالنصر وهزم صاحب الزنج ،ودخل غلمان الموفق داره واخذوا حرمه وولده الذكور والاناث وكانوا أكثر من مئة بين امرأة وصبي، ومضى صاحب الزنج هارباً ، وأتي الموفق بأهل صاحب الزنج واولاده فسيرهم الى بغداد (31) .
قتل صاحب الزنج :
عندما غلب صاحب الزنج على نهر أبي الخصيب وقطعت القناطر والجسور التي عليه، أحدث صاحب الزنج سكراً في النهر من جانبه. وجعل وسط النهر باباً ضيقاً لتحتد جرية الماء فيه، فتمتنع الشذا من دخوله في الجزر ويتعذر خروجها في المد، فرأى الموفق أن جريه لا يتهيأ إلا بقلع هذا السكر فتمكن من خرقه، فلما فرغ من السكر عزم على لقاء صاحب الزنج فأمر باصلاح السفن والآلات والظهر واختار من يثق ببأسه ونجدته بالحرب فارساً وراجلاً لضيق المواضع التي كان يحارب فيها وصعوبتها وكثرة الخنادق والانهار بها، فكانت عدة من تخير من الفرسان زهاء ألفي فارس ومن الرجالة خمسين الف فارس أو يزيدون سوى من غير أهل المطوعة وأهل العسكر، ثم نظم الموفق القواد والغلمان من فوهة نهر أبي الخصيب، وأمر الناس أن يزحفوا بجميعهم إلى صاحب الزنج لا يتقدم بعضهم بعضاً وجعل لهم أمارة الزحف تحريك علم أسود أمر بنصبه على دار أحد القواد بفوهة نهر أبي الخصيب في موضع مشيد عال وأن ينفخ لهم ببوق بعيد الصوت، وكان عبوره يوم الاثنين لثلاث ليال بقين من المحرم سنة سبعين ومئتين (32).
ولما خرج القواد والرجالة من مواضعهم التي أمروا بالخروج منها، واستوى الفرسان والرجالة في أماكنهم، أمر الموفق بتحريك العلم الاسود والنفخ في البوق، فزحف الناس في البر والماء يتلو بعضهم بعضاً فلقيهم الزنج وأشتد القتال وقتل من الفريقين جمع كثير فأنهزم صاحب الزنج وجيشه، وتبعهم أصحاب الموفق فقتلوا منهم ما لا يحصى عدداً وغرق منهم مثل ذلك وحوى الموفق المدينة بأسرها فغنمها أصحابه ،ومضى صاحب الزنج وقواده هاربين الى الموضع الذي كان قد أعده ملجأً اذا غلب على مدينته ، وذلك المكان على النهر المعروف بالسفياني، وجد الموفق في طلب صاحب الزنج وأمعن فتبعه أصحابه وانتهى الموفق الى آخر نهر ابي الخصيب فلقيه البشير بقتل صاحب الزنج وأتاه أحد الغلمان، ومعه رأس صاحب الزنج وعرضه على المستـأمين فعرفوه فخرّ لله ساجداً وسجد معه الناس ، وأمر الموفق برفع رأس صاحب الزنج على قناة فتأمله الناس فعرفوه وكثر التضجيج بالتحميد (33).
_______________
(*) صاحب الزنج: علي بن محمد بن احمد بن عيسى ن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، واكثر الناس يقدحون في هذا النسب وخصوصاً الطالبين ، واتفقوا على انه من عبد القيس وامه أسدية ، ولد في قرية ورزنين .
الطبري، تأريخ الرسل ، ج9، ص 410؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 205ـ206.
(**) الابلة: بلدة على شاطىء دجلة في زاوية الخليج الذي يدخل مدينة البصرة .
ياقوت الحموي، معجم البلدان ، ج1، ص 77.
(***) عبادان: هي موضع تحت البصرة قرب البحر وهي موضع رديء وسبخ وماؤه ملح .
ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج4، ص 74.
(1) الطبري، الرسل والملوك، ج9، ص 471ـ473؛ ابن الاثير، الكامل ، ج7،ص236ـ237.
(2) الطبري، الرسل والملوك، ج9، ص 481ـ488؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص244ـ245؛ ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد (ت656هـ) شرح نهج البلاغة ، دار الرشاد، الحديثة، ( القاهرة ـ 1959) ، مج4، ج8، ص 317؛ ضيف، شوقي، العصر العباسي الثاني ، الطبعة الثانية ، دار المعارف، ( مصر ـ 1973) ، ص 27.
(3) الطبري، الرسل والملوك ، ج9، ص 536ـ540؛ ابن الاثير، الكامل ، ج7، ص 315؛ السامرائي، حسام قوام، المؤسسات الادارية في الدولة العباسية خلال الفترة 247ـ334هـ ، دار الفتح، ( دمشق ـ 1971) ، ص 34.
(*) رامهرمز: هي مدينة مشهورة بنواحي خوزستان تجمع النخل والجوز والاترنج.
ياقوت الحموي، معجم البلدان ، ج3، ص 17.
(4) الطبري، تأريخ الرسل والملوك، ج9، ص 554؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص330ـ331.
(**) الموفق: محمد بن جعفر المتوكل، ولد سنة 229هـ، ولقب بالموفق بالله، توفي سنة 278هـ في بغداد وله سبع واربعون سنة .
الطبري، الرسل والملوك ، ج10، ص 20ـ21؛ ابن الجوزي، المنتظم ، ج5، ص121ـ122؛ ابن الاثير، الكامل ، ج7، ص 441ـ443.
(5) الطبري، الرسل والملوك، ج9، ص 490؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 421؛ ابن خلدون، العبر، ج3، ص 321؛ السامرائي ، المؤسسات الادارية، ص 34؛ فوزي ، الخلافة العباسية في عصر الفوضى العسكرية، ص 52؛ فوزي ، فاروق عمر، التأريخ الاسلامي وفكر القرن العشرين، الطبعة الثانية، مطبعة آفاق عربية، ( بغداد ـ 1985)، ص 334.
(6) الطبري، الرسل والملوك ، ج9، ص 567، 576؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص344ـ350؛ ابن الوردي، تأريخ، ج1، ص 231؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج11، ص 41؛ فوزي، الخلافة في عصر الفوضى ، ص 152؛ الباشا ، حسن، دراسات في تأريخ الدولة العباسية ، دار الاتحاد العربي للطباعة، ( مصرـ 1975)، ص 79 .
(7) الطبري، الرسل والملوك، ج9، ص 581؛ ابن الاثير ، الكامل، ج7، ص 349.
(*) المعتضد: احمد بن محمد بن جعفر المتوكل ولد سنة 242هـ وبويع له بالخلافة سنة 279هـ، توفي سنة 289هـ .
الطبري، الرسل والملوك ، ج10، ص 86؛ ابن الجوزي، المنتظم، ج5، ص 123، ج6، ص 34؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 513.
(**) نهر أبي الخصيب: نهر بالبصرة سمي بذلك نسبة الى مولى ابي جعفر المنصور والذي اسمه مرزوق واقطعه إياه .
ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج5، ص 315.
(8) الطبري، الرسل والملوك، ج9، ص 581؛ ابن الطقطقي ، الفخري، ص 187؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 350؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج11، ص 41؛ فوزي، الخلافة في عصر الفوضى ، ص 152.
(***) المختارة : مدينة بناها علي بن محمد صاحب الزنج وسماها المختارة وحصنها بالخنادق وتقع على الجهة الشرقية لنهر أبي الخصيب في البصرة .
ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، مج 4 ، ج8، ص 343.
(9) الطبري، الرسل والملوك، ج9، ص 581؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 350؛ ابن البطريق، كتاب التاريخ، ص 69؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج11، ص 41؛ ابن خلدون، العبر، ج3، ص 321.
(10) الطبري، الرسل والملوك، ج9، ص 581؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 350.
(11) الطبري، الرسل والملوك، ج9، ص 584ـ585؛ ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، مج4، ج8، ص 349ـ350؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 352؛ ابن الوردي، تأريخ، ج1، ص 231؛ ابن خلدون ، العبر ، ج3، ص 322.
(*) الموفقية: مدينة في البصرة منسوبة الى الموفق أبي أحمد بن المتوكل على الله العباسي .
ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج5، ص 255.
(12) الطبري، الرسل والملوك ، ج9، ص 585؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 352؛ ابن كثير ، البداية والنهاية، ج11، ص 41؛ السامرائي، المؤسسات الادارية، ص 36.
(*) سيراف: مدينة جليلة على ساحل بحر فارس بينها وبين البصرة سبعة أيام .
ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج3، ص 294ـ295.
(**) جنابا: بلدة صغيرة من سواحل فارس بينها وبين سيراف أربعة وخمسون فرسخاً.
ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج2، ص 165ـ167.
(13) الطبري، الرسل والملوك ، ج9، ص 585؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 352؛ ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، مج4، ج8، ص 351؛ السامرائي، المؤسسات الادارية، ص 36.
(14) الطبري، الرسل والملوك ، ج9، ص 587؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 352ـ353؛ ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، مج4، ج8، ص 351؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج11، ص 41.
(15) الطبري، الرسل والملوك، ج9، ص 587؛ ابن الاثير ، الكامل، ج7، ص 353؛ السامرائي، المؤسسات الادارية، ص 36.
(16) الطبري، الرسل والملوك، ج9، ص 592؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 354؛ ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، مج4، ج8، ص 351؛ ابن العماد، شذرات الذهب، ج2، ص 153.
(17) الطبري، الرسل والملوك ، ج9، ص 592؛ ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة ،مج4، ج8، ص 351؛ ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب، ج2، ص 156.
(18) الطبري، الرسل والملوك، ج9، ص 592؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 355( يقول إن أسمه محمد بن الحارث القمي)، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ، مج4، ج8، ص352؛ ابن خلدون، العبر، ج3، ص 322.
(19) الطبري، الرسل والملوك، ج9، ص 593.
(20) المصدر نفسه، ج9، ص 593؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 355.
(21) الطبري، الرسل والملوك ، ج9، ص 593؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 355؛ ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة ، مج4، ج8، ص 352.
(*) نهر أبي الاسد: أحد شعاب دجلة بين المذار ومطارة في طريق البصرة، سمي بهذا الاسم نسبة الى ابي الاسد أحد قواد المنصور .
(**) نهر الدير: نهر كبير بين البصرة ومطارة ، بينه وبين البصرة عشرين فرسخاً ، سمي بذلك لدير كان على فوهته .
(***) نهر المرأة : نهر بالبصرة حفرة أردشير الاصغر أحد ملوك الفرس، وسمي بذلك نسبة الى كامورزاد بنت نوسي بنت عم النوشجان .
ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج5، ص 315، 320، 323.
(22) الطبري، الرسل والملوك، ج9، ص 593؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 355؛ ابن ابي الحديد، نهج البلاغة ، مج4، ج8، ص 352؛ ابن خلدون ، العبر، ج3، ص 322.
(****) ثبق شيرين: نهر بالبصرة، سمي بذلك نسبة الى شيرين جارية أبرويز الملك الفارسي .
(*) نهر عدي: نهر بالبصرة حفره عدي بن ارطأة الفزاري عامل الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز ، وكان قبل حفره خوراً من نهر البصرة .
(**) نهر ابن عمر: نهر بالبصرة منسوب الى عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وهو أول من احتفره .
ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج5، ص 321، 315.
(23) الطبري، الرسل والملوك ، ج9، ص 593؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 355.
(24) الطبري، الرسل والملوك ، ج9، ص 593؛ ابن الاثير ، الكامل ، ج7، ص 355؛ ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، مج4، ج8، ص 352.
(25) الطبري، الرسل والملوك ، ج9، ص 594؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 356؛ احمد، محمد حلمي محمد، الخلافة والدولة في العصر العباسي ، الطبعة الاولى ، مطبعة الرسالة، ( مصر ـ 1959)، ص 104.
(26) الطبري، الرسل واللوك، ج9، ص 594؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 356.
(*) سليمان بن جامع : أحد قادة الزنج ، من موالي بني حنظلة ، أسود ، تم أسره سنة 270هـ، وأمر الموفق بصلبه وحمل رأسه الى الموفقية .
الطبري، الرسل والملوك ، ج9، ص 658.
(27) المصدر نفسه، ج9، ص 595؛ ابن الاثير، الكامل ، ج7، ص 356؛ ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، مج4، ج8، ص 353.
(28) الطبري، الرسل والملوك ، ج9، ص 602ـ603؛ ابن الاثير، الكامل ، ج7، ص 357،365؛ ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، مج4، ج8، ص 357؛ الذهبي، العبر، ج2، ص 37؛ ابو الفداء ، المختصر، ج2، ص 52؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج11، ص 42؛ ابن خلدون ، العبر، ج3، ص 323.
(29) الطبري، الرسل والملوك، ج9، ص 646؛ ابن الاثير ، الكامل، ج7، ص 391ـ392.
(30) الطبري، الرسل والملوك ، ج9، ص 647.
(31) المصدر نفسه، ج9، ص 647؛ ابن الاثير، الكامل، ج7، ص 392؛ ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة ، مج4، ج8، ص 358؛ ابن العماد، شذرات الذهب، ج2،ص 154؛ الذهبي، العبر، ج2، ص 39؛ الذهبي، دول الاسلام ، ج1، ص 118؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج11، ص 43؛ ابن خلدون، العبر، ج3، ص 324.
(32) الطبري، الرسل والملوك ، ج9، ص 655؛ ابن الاثير ، الكامل، ج7، ص 400.
(33) الطبري، الرسل والملوك، ج9، ص 656ـ 660؛ ابن الاثير، الكامل ، ج7، ص401ـ403؛ ابن الوردي، تأريخ، ج1، ص 231؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج11، ص44؛ ابن العماد، شذرات الذهب، ج2، ص 156؛ ابن الطقطقي ، الفخري، ص 187؛ الاعظمي ، علي ظريف ، مختصر تأريخ البصرة، مطبعة الفرات، ( بغداد ـ 1927) ، ص 78؛ علبي، أحمد، ثورة الزنج وقائدها علي بن محمد ، الطبعة الاولى، مطابع فضول الحديثة، ( بيروت ـ 1961) ، ص 126.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|