ردّ الرواية لمنافاة مضمونها لما هو ثابت من التاريخ بالعلم واليقين / المثال الثالث
المؤلف:
السيد علي حسن مطر الهاشمي
المصدر:
منهج نقد المتن في تصحيح الروايات وتضعيفها
الجزء والصفحة:
ص 52 ــ 55
2025-11-02
39
ثالثًا: الرواية الواردة في سهو النبي (صلى الله عليه وآله) وأنّه صلّى إحدى صلاتي العشاء ركعتين.
ونصّ الرواية: عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: صلّى بنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) إحدى صلاتَي العشيّ فصلّى بنا ركعتين ثم سلّم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتّكأ عليها كأنّه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه ووضع خده الأيمن على ظهر كفّه الأيسر وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا: قصرت الصلاة؟ وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلّماه. وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين، قال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لم أنسَ ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم، فتقدّم فصلّى ما ترك(1).
ويُلاحَظ: أنّ أبا هريرة يعطي معلومات مفصّلة ودقيقة لتصرّفات النبي (صلى الله عليه وآله) والحاضرين آنذاك؛ ليؤكّد بذلك أنّه حضر الواقعة وشاهدها عيانًا إِلَّا أَنَّ الواقع التاريخيّ المتيقّن يحتّمُ ردّ هذه الرواية؛ لأنّه يثبت أنَّ ذا اليدين قد استشهد في معركة بدر قبل إسلام أبي هريرة بخمس سنوات.
ذلك «أنّ ذا اليدين المذكور في الحديث إنّما هو ذو الشمالين ابن عبد عمرو حليف بني زهرة، وقد استشهد في بدر، نصّ على ذلك إمام بني زهرة وأعرف النّاس بحلفائهم محمد بن مسلم الزهريّ، كما في (الاستيعاب) و(الإصابة) وشروح الصحيحين كافّة، وهذا هو الذي صرّح به الثوريّ - في أصحّ الروايتين عنه ـ وأبو حنيفة حين تركوا العمل بهذا الحديث، وأفتوا بخلافه.
وقد ارتبك الطحاوي في هذه الأحاديث؛ لبنائه عـلـى صحّتها مع جزمه بما جزم به الزهريّ من أنَّ ذا اليدين إنّما هو ذو الشمالين حليف بني زهرة المستشهد في بدر قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين فلا يمكن اجتماعهما في الصلاة أبدًا لذلك اضطرّ إلى التأويل فحمل قول أبي هريرة في هذه الأحاديث (صلّى بنا) على المجاز وأنّ المراد: صلّى بالمسلمين (2).
والجواب: أنّه قد ثبت عن أبي هريرة النصّ الصريح بحضوره على وجه لا يقبل التأويل أبدًا وحسبك ما أخرجه مسلم في باب السهو في الصلاة والسجود له من صحيحه: عن أبي هريرة قال: بينا أنا أصلّي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلاة الظهر سلّم في الركعتين وساق الحديث فهل يتأتّى التجوّز فيه؟! (3).
أقول: لم يحملهم على التكلّف في توجيه الحديث المذكور وأمثاله إلّا تعاملهم مع الحديث الصحيح سنداً بوصفه حديثاً معلوم الصدور عن النبي (صلى الله عليه وآله)، على الرغم من أنّ البخاري وغيره من أصحاب الكتب الصحاح لم يريدوا بصحّة الحديث هذا المعنى، وتابعهم على ذلك علماء الدراية، فصرّحوا في مصنّفاتهم بأنّهم لا يعنون بالحديث الصحيح ما كان مقطوعاً على غيبه، وأنّه معلوم الصدور من النبي (صلى الله عليه وآله)، وإنّما يريدون به خصوص الحديث الذي ثبتت وثاقة جميع رواته. وتجدر الإشارة بهذه المناسبة إلى الخلط الذي وقع في قول بعض العلماء عن كتابي البخاري ومسلم: «وكتاباهما أصحّ الكتب بعد كتاب الله العزيز» (4)؛ ذلك أنَّ معنى الصحّة في كتاب الله مختلف عن معنى الصحّة في كتابيهما؛ فمعنى صحّة كتاب الله هو كونه معلوم الصدور عنه تعالى، وأمّا صحة كلّ من كتابيهما فمعناها: أنّ رواياته منقولة من قبل الثقات لا أنّها معلومة الصدور.
___________________
(1) صحيح البخاري، الحديث 482.
(2) راجع: إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، القسطلاني، 3/266.
(3) أبو هريرة، شرف الدین، ص 88 - 91.
(4) معرفة أنواع علم الحديث، ابن الصلاح، ص 84.
الاكثر قراءة في مقالات متفرقة في علم الحديث
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة