الميتافيزيقا والوضعية في الفيزياء: صراع المفاهيم وتطور المعرفة
المؤلف:
فيليب فرانك
المصدر:
بين الفيزياء والفلسفة
الجزء والصفحة:
ص94
2025-10-09
187
كثيرون لديهم انطباع بأن التصور الوضعى هو نوع من التشكك؛ لأنه لا يشمل الاعتقاد بإمكان التوصل إلى معرفة العالم الحقيقي. غير أن التشكك ليس مفهوما عمليا وإنما هو حالة ذهنية. ولا عجب أن يكون المرء من أتباع مفهوم ميتافيزيقي وفي نفس الوقت ذا نزعة ارتيابية؛ ومن ثم قد يقول قائل بوجود عالم حقيقي، ولكنه سيبقى للأبد بعيدا عن أن يقتحمه الإنسان بأبحاثه بسبب عجز قدراته بالمثل يمكن لأي فرد أن يكون مؤمناً بالمفهوم الوضعى ومع ذلك يكون مناهضاً تماماً للارتيابية ومتمتعاً بالثقة، وعندئذ يقول: "قريبا جدا سيتيح لنا التقدم العلمى إنشاء عالم فيزيائي متوافق تماما مع المشاهدة، ومن الممكن الارتقاء بهذا التوافق بأي درجة نرغبها".
وبطبيعة الحال سيكون بوسمنا أن نختار عالمًا فيزيائيًا نراه الأمثل، ونسميه "العالم الحقيقي، وذلك دون المساس بالعلم بالمرة. ويمكننا الاستعانة بالمصطلحات الميتافيزيقية. ولا يلحق بالعلم ضرر إلا إذا "نسينا" إن العالم الحقيقي هو واحد من عوالم فيزيائية كثيرة ممكنة. وسوف ننتهى بسهولة إلى النسيان بواسطة المصطلحات الميتافيزيقية. ومن خلال ترابط الكلمات سوف نصل إلى اعتبار أن العالم الحقيقي ذو قيمة مختلفة كلية عن قيمة العالم الفيزيائى. وهنا تبدأ سلسلة طويلة من المشاكل الواضحة المثيرة للبلبلة حال التغلغل في أعماق العلم وعندها تنشأ مسائل على نحو: هل هناك حركة حقيقية للجسم بجانب الحركة المرصودة مباشرة أو المشتقة من الرصد المشاهدة؟ هل المجال الكهرومغنطيسي شيء حقيقى أم هو مجرد وسيلة رياضية لوصف الظواهر المرصودة؟ هل موجات المادة (موجات دی بروی de Broglie Waves) موجات حقيقية" أم هى مجرد خيال هندسى لتمثيل احتمالات وقوع الظواهر المرصودة؟
وفي مجال الفيزياء من السهل نسبيًا على الفيزيائي التحفظ تجاه المشكلات الظاهرية من هذا النوع. ولكن المصطلحات الميتافيزيقية تضلل حتى أبرز الفيزيائيين ، وتقودهم إلى صياغات مشوشة غير واضحة للمسائل عند الاقتراب من المستويات الحدية حيث تتوازى الفيزياء مع علوم أخرى مثل البيولوجيا. وبسبب قلة استخدام الكلمات المشتركة فى نطاق موحد بين علوم مختلفة تنقاد لا محالة إلى مشاكل ظاهرية. فالتعبيرات مثل "آلية تفسير فيزيائي"، ملاءمة الغاية"، "غائية، غائي (موجه نحو غاية"، "يحدده المستقبل"، إلخ، يفهمها الفيزيائى بمعنى يختلف تماماً عما يفهمه رجل الطب أو الطبيب النفساني أو عالم البيولوجيا. ويقود المعنى الميتافيزيقي في التعبير إلى اختلاف معنى "المبادئ"، و "السمات"، واستقلالية الذات"، إلخ الأمر الذي يؤدي بنا عند حدود العلم إلى مشاكل كاذبة محبطة.
من جهة أخرى فإن الوضعية الراديكالية، التى ترى عند التدقيق، أن كل المبادئ تتلخص في بيانات عن الظواهر المشاهدة أو عن التوجيهات بشأن الحصول على مثل هذه البيانات تجعل من اليسير الحصول على نوع موحد من التعبير صالح لكل العلوم، ومن ثم فهى من حيث المبدأ تمكننا من تجنب المشاكل الظاهرية. وهذا هو السبب في جعل المطالبة بلغة علم موحدة ضرورة أساسية لكل أنصار الوضعية الراديكالية، وهو مطلب يظهر أحيانًا تحت مسمى العلم الموحد" أو "اللغة الفيزيائية physicalism" . ولكن معتنقى المفهوم الميتافيزيقى مازال لديهم حجة أخرى ضد الرأى الوضعي إذ يقولون بأن البحث عن "العالم الحقيقي هو الحافز السيكولوجي للبحث العلمي برمته.
فمجرد الرغبة فى خلق نظام مناسب من بين نتائج المشاهدات، لا يمكن أن تمد الباحث بالطاقة والحماس الضروريين للعثور على شيء جديد حقاً، وما كان جاليليو ليواجه بشجاعة أهوال السجن وأخطار التعذيب إلا لاقتناعه بعثوره على النظام الحقيقي الصحيح للعالم وليس مجرد مجموعة البيانات المفيدة. ولا يمكن لأحد أن يكرس حياته من أجل وضع نظام مفيد لما نستنتجه من تكهنات من المشاهدات"، حتى لو تم تفسير فرع كامل من العلم بواسطة المبادئ الوضعية، فالبحث في مجالات جديدة يتطلب إعدادا ميتافيزيقياً لا غنى عنه.
وحيث إنه تبعا لآراء الوضعيين لا توجد افتراضات ميتافيزيقية تماثل بطريقة ما افتراضات الفيزياء، وإنما مجرد أسلوب تعبير ميتافيزيقي فلا مجال إذن للسؤال عن قيمة مثل هذا الافتراض لإيجاد قوانين جديدة ذات قيمة "استكشافية". وإذا أخذنا في الاعتبار مثل هذا الأثر للمبادئ الفيزيائية، لأدركنا أنه لا يثير الإلهام، تبعا لآراء الوضعيين، سوى صوت هذه المبادئ إنه يشبه تأثير صوت سياسي شعبي في جمع من الجمهور، فهو يلهب شعورهم لمجرد سماعهم له، حتى وإن لم يتبينوا قوله لبعد مسافته عنهم. وبهذه المناسبة تذكر الشاعر الألمانى العظيم فردريك شيلر الذي كان يحتفظ في درجه بتفاح فاسد لعله بشم رائحته ينتج شعرًا . ولكن لا يمكن الزعم بأن التفاح الفاسد كان أحد مكونات صورة العالم الشعرية لدى شيلر. وبالمثل، إذا اعتبرنا التأثير المواتي للمفهوم الميتافيزيقى على الإنتاجية في مجال الفيزياء، فمن الصعب الاستنتاج بأن هذا الأسلوب من التعبير، الذي يحمل في طياته عالماً ثالثاً حقيقياً، يمكن أو حتى يجب أن يزج به في صورة العالم الفيزيائي.
ومن جهة أخرى، هناك أمثلة تبين أن الأسلوب الوضعى في التعبير ارتقى مباشرة باكتشاف مبادئ علمية جديدة، وهكذا نشأت نظرية النسبية العامة عندما تساءل اينشتاين كيف يمكن استنتاج تفلطح الأجرام السماوية الدوارة من نظريات الميكانيكا دون ذكر شيء آخر خلاف ما ترصده من دوران هذه الأجسام بالنسبة لأجسام أخرى تجاورها؟".
وكذلك جاءت ميكانيكا الكم الحالية حين طرح هيزنبرج مسألة : كيف يمكن صياغة قوانين انبعاث الضوء من الذرات بالتحدث فقط عن المكونات الملموسة معاملات فوربيه لهذا الإشعاع".
الاكثر قراءة في ميكانيكا الكم
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة