عوالم الكم الزائلة
المؤلف:
ب . ك. و. ديفيس
المصدر:
المكان و الزمان في العالم الكوني الحديث
الجزء والصفحة:
ص147
2025-10-29
7
يجدر بنا أن نذكر أن مطلع هذا القرن قد شهد ، لا ثورة واحدة فقط ، بل ثورتين عظيمتين في تاريخ الفيزياء ، أو بالأحرى في الفكر البشري . فنظريتا النسبية أدخلتا تعديلاً جذرياً في خواص مفاهيم المكان والزمان والمادة في السلم الواسع . وقد صاحب لنسبية نشوء صورة غريبة جديدة غيرت معالم العالم في السلّم الصغير ، وذلك بفضل أعمال بلانك Planck. ألماني ، 15 - 1948) وبور Bohr دانمركي ، 1885 - 1962) وشرود نفر Schrodinger نمساوي ، (1887 - (1961) وديراك P.Dirac (بريطاني) . 1902) وبورن M.Bom (ألماني ، 1882 - (1970) وهايزنبرغ Heisenberg. (الماني ، 1901 - 1976) وكثيرين غيرهم وهذه الصورة هي ، من عدة وجوه ، أكثر عمقاً وأكثر غرابة من النسبية . وهذا المنظر الثوري الجديد لعالم الصغائر ينضوى اليوم في فرع واسع من الفيزياء الحديثة يسمى ميكانيك الكم .
لكن نظرية ميكانيك الكم أصعب ، لسوء الحظ، بكثير وأعظم تجريداً من نظرية النسبية . فهي تمتنع على الأكثرية التي لا تملك الزاد الرياضي الكافي لاستكناه جمالها ودقائقها . وليس من الممكن أن نعرض منها سوى خطوط عريضة غامضة بعض الشيء ، مما يقع ضمن أهداف هذا الكتاب. نود أن يعذرنا القارىء في أننا ، خلال محاولة تبسيط هذا الموضوع ، سنستخدم عبارات وتشبيهات قد لا تتفق بالضبط مع أفكار كل الفيزيائيين حوله . وعلى القارىء أن يحذر من استخلاص عدد كبير من النتائج من عرض لا يبرره سوى هدفه النفعي إن جزءاً من الصعوبة في فهم نظرية الكم سببه أن مفاهيمه وأغراضه لا تستمد من أي حدس فيزيائي دقيق نابع من تجارب الحياة اليومية . فأشياء نظرية النسبية ، كالميقاتيات وأجهزة القياس والانشاءات الهندسية وما الى ذلك ، ذات جذور قوية في مجال الخبرة اليومية. لكن البنية الداخلية للذرة ليس لها شبيه في هذا المجال ... فالعبارات التي مثل جسيمات دائرة حول النواة شائعة الاستعمال في وصف بنية الذرة ، لكنها تعطي الانطباع بأن الفرق الوحيد بين سلوك الذرة وسلوك الجمل الميكانيكية الكبيرة المحسوسة ، كأكر اللعب، فرق في السلم فقط ، وهذا خطأ مؤكد.
لقد تبين منذ أوائل هذا القرن أن قوانين نيوتن الميكانيكية (أو أيضاً نظرية النسبية الخاصة لا تقدم تفسيراً ناجحاً لسلوك الجمل المجهرية ، كالذرات . فالقوانين الرياضية التي تفسر جيداً سلوك أكر اللعب لا تنطبق على الجمل المصغرة . على أن البنية الذرية معروفة بالتجربة أنها تمتلك تناظرات ونظماً من صنعها الخاص المميز ، وأن أبحاثاً قد حصلت لايجاد نوع جديد من التوصيف الرياضي يأخذ في الحسبان هذه الوقائع التجريبية .
وفي أواسط عقد 1920 أصبح هذا الاطار الرياضي ناجزاً وارتفع الى مستوى نظرية في المادة ، شاملة وجديدة ، اكتسبت اسم ميكانيك الكم .
لقد كان نجاح هذه النظرية خارقاً . فمن إنجازاتها أنها قدمت تفسيرات كمية للأمور التالية : بنية الذرة وعمليات التبعثر ، تشكل الجزيئات والروابط الكيميائية بين الذرات ، النشاط الاشعاعي والسلوك الداخلي لنواة الذرة ، تفاعل الأمواج الكهرطيسية مع المادة كما في المفعول (الفوتوكهربائي)، عدد من خواص الأجسام الصلبة والكثير الكثير من التجارب المخبرية . وفي عام 1930 ضم ديراك نظرية الكم ونظرية النسبية وطلع على الناس بفصل من الفيزياء كامل وجديد.
لقد غدت الصفحات الأولى من هذه الفصل نموذجاً يحتذى في العمل العلمي . ومن نظريته الرياضية في الجسيمات المجهرية النسبوية تمكن ديراك من التنبؤ بأشياء جديدة كثيرة . فنموذج الذرة الذي بني في أواسط الثلاثينات يتطلب وجود ثلاثة مكونات أساسية ، أو جسيمات أولية (عنصرية)، البروتون والالكترون والنترون وهو حيادي كهربائياً . واستطاع ديراك أن يبرهن رياضياً في نظريته على أن الالكترون دوام على نفسه بأسلوب يستحيل حدوثه في الأجسام المحسوسة العادية. إن هذا السبين (أي الحركة الدوامية) سمة شائعة جداً في واقع الطيوف الذرية . والأمر الأكثر إثارة هو أن ديراك وجد أيضاً أن معادلته النسبوية تمتلك ، بالاضافة الى الحلول التي تصف الحركة العادية للالكترونات ، حلولاً «مرآتية» يبدو أنها تنبىء عن نوع جديد تماماً من الجسيمات . وعندما اكتشف ديراك حلوله هذه لم يكن أحد يعلم بوجود جسيمات أخرى . لكنه ، وباستخدام حجة فيزيائية ملحوظة ، اقترح آلية يمكن بموجبها أن تتخلق الجسيمات «المرآتية» . ومالبث أن ظهر إلى الوجود، عام 1936 ، أول هذه الجسيمات ، وهو الخيال المرآتي للالكترون - إنه جسيم يساوي الالكترون في الكتلة ويعاكسه في الشحنة الكهربائية. وقد أطلق على هذا القادم الجديد اسم البوزترون، وكان شاهداً حياً لمصلحة ميكانيك ديراك النسبوي.
لم يكن اكتشاف البوزترون سوى أول الغيث. ففي عام 1935 تنبأ الفيزيائي الياباني يوكاوا H.Yukawa ، بالاعتماد على نظرية في البنية النووية، بوجود نوع جسيمي آخر ذي كتلة وسطية بين الالكترون والبروتون، وسمي الميزون meson (أي المتوسط).
وقد كشفت التحريات عن وجود جسيم من هذه العائلة معروف باسم الميون muon، وذلك عام 1937. على أن ميزون يوكاوا لم يكتشف إلا بعد الحرب العالمية الثانية، ويسمى اليوم بيون pion. وبالاضافة للميزونات أوحت السمات الملحوظة في ظاهرة النشاط الاشعاعي بيتا بوجود نوع جسيمي آخر، يدعى النترينو neutriono، ليس له كتلة ولا شحنة لكنه دوام بالاسلوب الذي تصفه نظرية ديراك. إن تفاعل النترينو مع جسيمات أخرى ضعيف نادر جداً - إن معظمها يخترق الكرة الأرضية دون أن يوقفه شيء - مما يجعله أكثر الجسيمات المعروفة تملصاً من كل شيء.
لو اقتصر عدد الأنواع الجسيمية على البروتون والنترون والالكترون والبوزترون والميزونات والنترينوات (يوجد منها نوعان وربما ثلاثة والفوتون (الجسيم الكمومي المصاحب للموجة الكهرطيسية) لظل لدينا بعض الأمل في توصيف العالم بجسيمات أولية حقاً يمكن أن تؤلف اللبنات الأساسية في بناء مادة هذا العالم. على أن ما اكتشف منها ، بعد نهاية الحرب ، أصبح يُعد بالمئات ، وأكثرها جسيمات قصيرة الأجل زائلة (بعضها لا يعيش أكثر من 10 ثانية (!) ورغم أن بعض التناظرات اللا متوقعة قد جلبت بعض الترتيب الى فوضى هذه الكائنات الجديدة، إلا أنه لا يوجد حتى الآن دليل واضح على أنها مصنوعة من مكونات أساسية مشتركة أو أن عددها النوعي غير محدود . وإن البحث عن هذه الجسيمات الجديدة، والتعرف على خواصها ، هما الآن صناعة تستخدم تجهيزات ثمنها ملايين الجنيهات. وهذا الفرع في العلم التجريبي والنظري يعرف اليوم باسم فيزياء الجسيمات الأولية ، رغم المغالطة الواضحة في هذه التسمية.
ولكي نفهم كيف تتخلق هذه الجماعة المربكة من الجسيمات المجهرية نتذكر أن نظرية النسبية الخاصة تحكم ، بواسطة الدستور E=mc ، التحول ذا الاتجاهين بين الكتلة والطاقة. وقد ذكرنا في الفصل الثاني كيف تتزايد كتلة الجسيم الذي نسرعه ، بفضل هذا التحول . وثمة مظهر آخر لتحول الطاقة الى كتلة ، وهو تخلق جسيمات مادية من الطاقة والطاقة اللازمة لهذا التخلق يمكن أن تتوفر بعدة طرائق . وأكثرها شيوعاً هو أن نؤمن أعنف ما نستطيع من التصادم بين جسيمين موجودين. وآلات التسريع الحديثة ، كتلك الموجودة في المركز الأوربي للأبحاث النووية في جنيف، قادرة على انتاج دفقات من الجسيمات المتخلقة م نة من جميع الأنواع بتلك الطريقة .
وبانجاز تجارب من هذا القبيل اكتشف فيزيائيو الجسيمات الأولية أنها ، بشتى أنواعها ، تخضع الى قواعد معينة تماماً عندما تتحول من نوع لآخر . وهذه القواعد تتعين بتتبع علامات الجسيمات ، كالشحنة الكهربائية والسبين مثلا . والعلامات تفيد بأكثر من مجرد التمييز بين الجسيمات المختلفة. فهي غالباً منحفظة عبر تغير عدد الجسيمات ونوعها . فالعلامة المسماة بالعدد الباريوني ، مثلا ، والتي يحملها كل نترون يمكن أن تنتقل الى البروتون عندما يتفكك النترون الى بروتون والكترون ونترينو . لكن الميزون لا يحمل عدداً باريونياً ، وعلى هذا فإن تفكك النترونات أو البروتونات الى ميزونات غير مباح - ولم يحدث قط فعلا . ولدى تخلق جسيم من الطاقة فإن انحفاظ العلامات يستلزم أن يتخلق معه جسيم آخر يحمل علامات مساوية باشارات معاكسة. فالجسيمات المتخلقة من الطاقة تبرز إذن الى الوجود أزواجا . فتخلق البوزترون مثلا لا يمكن أن يحدث إلا إذا صاحبه تخلق الكترون (ذي شحنة وسبين معاكسين).
إن لزوم تناظر العلامة أثناء التخلق (أو الفناء) يستدعي أن يوجد لكل جسيم خيال (مرآتي) ذو علامات مساوية ومعاكسة . فيجب أن يوجد ، لا للإلكترون فقط ، بل وللبروتون وللمنترون وللميزونات . الخ جسيمات مضادة . والأمر كذلك بالفعل . فالبروتون مثلاً يتخلق مصاحباً لتخلق بروتون مضاد له شحنة سالبة وعدد باريوني سالب . ويمكن للبروتون والبوزترون أن يؤلفا معاً ذرة هدروجين مضاد . والخيال المرآتي للمادة يسمى المادة المضادة . وعندما تلتقي مادة مع مادة مضادة فانها تتفانيان وتتحولان من جديد الى طاقة ، الى فوتونات غاما. وعلى هذا فإن جسيمات المادة المضادة لا تعيش طويلا في الوسط الأرضي المليء بالمادة ، ولا في مجرتنا التي تبدو أنها تكاد تكون مصنوعة كلها من المادة المألوفة . وليس معلوماً إذا كان الكون كله مصنوعاً من المادة ، أم يوجد مجرات من المادة المضادة.
وبعد أن أتينا على عرض موجز لبعض النتائج التجريبية التي نجمت عن نظرية الكم أصبحنا على استعداد لمناقشة الطبيعة العجيبة للنظرية نفسها .
إن نمو الميكانيك التقليدي، بفضل نيوتن ، كان يعتمد على خاصية أساسية هي القدرة على التنبؤ . فقد صنع نيوتن مجموعة من المعادلات لتوصيف تطور الجمل المادية الميكانيكي بمرور الزمن . فإذا توفرت معلومات كافية عن حالة الجملة الفيزيائية في لحظة ما أمكن ، مبدئياً وبالحساب ، معرفة ظروفها في الماضي والمستقبل بكل دقة . وكمثال على ذلك تذكر التنبؤ بكسوف الشمس . فجملة الأرض والشمس والقمر يمكن اعتبارها جملة ثلاثة أجسام تتفاعل مباشرة ثم معالجتها بتقريب جيد في الميكانيك النيوتني ، لأن كل الحقول والسرعات ضعيفة . فمعرفة الحالة الراهنة للمنظومة الشمسية تتيح لنا أن نحسب مواعيد الخسوف والكسوف في الماضي والمستقبل.
وهكذا وبموجب ميكانيك نيوتن يكون الكون كالة لا نعجز عن التنبؤ بما يحدث فيها إلا لأننا لا نملك ما يكفي من المعلومات اللازمة لفعل ذلك .
ومع حلول هذا القرن بدأ يظهر عجز ميكانيك نيوتن عن تفسير بعض الخواص المهمة للذرات وتفاعلها مع الاشعاع الكهرطيسي. ومن هنا نشأت البنية الجديدة تماماً المفاهيم ميكانيك الكم. فقد انطلق هذا الميكانيك من إنكار القدرة على التنبؤ في هذا العالم ، بالغاً ما بلغت كمية المعلومات المتوفرة. وبدلاً من اعتبار أن الحالة الراهنة لهذا العالم ستتطور في طريق مرسوم نحو حالة مستقبلية معينة تماماً وناشئة من حالة ماضية معينة تماما) يرى هذا الميكانيك إمكانية حالات مستقبلية وماضية عديدة. فالحالة المستقبلية للجملة الفيزيائية يجب أن تعتبر انضماماً لكل الحالات التي يمكن أن تحصل . وبدلاً من عالم مستقبلي واحد هناك عوالم مستقبلية عديدة جداً ، كل واحد منها يمكن أن يقع ، أو أن لا يقع ، باحتمال معين ، معين جيداً .
إن التنبؤ في الفيزياء ، كما في الاقتصاد ، أصبح بذلك موضوعاً إحصائياً . وسواء تصورنا أن كل العوالم الممكنة تشترك في الوجود على قدم المساواة ، أم أن واحداً منها فقط هو المنتخب في كل لحظة باسلوب عشوائي ، فإن هذه المسألة تثير جدلاً فلسفياً عميقاً . وفي كلتا الحالين يستطيع الفيزيائي أن يحسب توقع أية حالة خاصة الجملة فيزيائية في أية باستخدام قوانين الاحتمال . فمن اليسير مثلا أن نحسب بدقة الاحتمالين النسبيين الإصدار ، أو لعدم إصدار ، جسيم ألفا من ذرة الأورانيوم . نقول إذن إنه ، بعد ألف سنة ، يوجد عالمان ممكنان ، يتميز أولهما بذرة أورانيوم سليمة والثاني بذرة أورانيوم ناقصة لحظة ، باستخدام قوانين الاحتمال . فمن اليسير مثلاً أن نحسب بدقة الاحتمالين النسبيين لاصدار ، أو لعدم إصدار ، جسيم ألفا من ذرة الأورانيوم . نقول إذن إنه ، بعد ألف سنة ، يوجد عالمان ممكنان ، يتميز أولها بذرة أورانيوم سليمة والثاني بذرة أورانيوم ناقصة وجسيم ألفا جديد . ونظرية ميكانيك الكم تقدم وصفة رياضية الحساب احتمال كل من هاتين الامكانيتين .
إذا اعتبرنا المكان - الزمان في سلم صغير لدرجة كافية ، فمن الممكن لأنواع عديدة مختلفة . من العوالم أن تظهر وأن تختفي ثانية ، وكأنها صور شبحية . يشار أحيانا الى هذه التظاهرت الوجيزة باسم العوالم التقديرية ، لأنها حالات زوال لا تلمحها بل نقدرها تقديراً . وحتى في الخلاء التام - في فضاء خال بكل معنى الكلمة - وخلال برهات زمنية قصيرة بما يكفي ، يمكن لكل أنواع الجسيمات أن تأتي الى الوجود وأن تتلاشى من جديد وتزول. إن عمر هذه الجسيمات التقديرية الشبحية قصير لدرجة لا تصدق . فالبروتون التقديري مثلا لا يعيش أكثر من حوالي 10 ثانية ثم يزول . وحل هذا ، لن نستطيع بعد الآن أن نفكر بالخلاء على أساس أنه وخال ، بل على أساس الله محملوه ، بمقدار ما يسع ، بآلاف الأنواع المختلفة . من الجسيمات ، تتشكل وتتفاعل يتزول في بحر يعج بنشاط لا يتوقف . تلك هي صورة المكان - الزمان كما يرسمها ميكانيك الكم ، تموج عنيف وتفاعلات نشيطة.
وليست هذه الصورة الكمومية مجرد نموذج فكري . فكثير من المفعولات الفيزيائية تحدث نتيجة تموج الخلاء هذا. فوجود المواد الناقلة للكهرباء يغير من تموجات الفوتونات (جسيمات الاشعاع الكهرطيسي) ويؤدي الى ظهور قوى تتسلط على النواقل ويمكن قياسها.
إن هذا المفهوم الكمومي الجديد الساحر للمكان - الزمان ناجم عن اندماج ميكانيك الكم والنسبية الخاصة. ومن المتوقع أن يؤدي اندماج ميكانيك الكم والنسبية العامة الى تعديلات جذرية في صورة المكان - الزمان.
وفي السنوات الأخيرة بذل النظريون جهداً كبيراً لفهم طبيعة الجسيمات الأولية في المكان - الزمان المنحني للنسبية العامة. وإن ما أحرز من تقدم طفيف في هذا المجال يؤكد شدة ارتباط الفكرة الحالية عن هذه الجسيمات بالمكان - الزمان المنبسط للنسبية الخاصة ذلك فإن الأبحاث الجارية في الاتحاد السوفييتي وفي الولايات المتحدة توحي بشدة بأن ق الجسيمات الأولية في حقل ثقالي شديد يمكن أن يكون عظيم الأهمية في خواص العالم الكوني في السلّم الكبير . وبالاضافة الى ذلك يوجد ، في ظروف الثقوب السوداء ، ما يوحي بأن مثل هذا التخلق الجسيمي لابد أن يسبب تبخر الثقب ، كما ذكرنا في الفقرة السابقة . ومن الممكن ، في سوية أعمق ، أن نطبق نظرية ميكانيك الكم على الحقل الثقالي نفسه ، وهذا ما ندعوه عادة استكمام المكان - الزمان . والنشاط قائم على قدم وساق في هذا المجال المثير منذ سنوات عديدة . لكن معضلاته الرياضية ، من حيث التقنية والمبدأ معاً ، معقدة وعميقة . فالتثاقل يفصح عن نفسه كقضية هندسية في المكان - الزمان ، ودخول نظرية التثاقل الكمومية يضعنا أمام انضمام عالمين لهما هندستان مختلفتان . والهندسة المتوقعة لابد أن تحسب احتمالياً كالعادة. وهكذا يغدو الخلاء ، مرة أخرى ، مليئاً بالتموجات . لكن البنية الهندسية هي التي تتموج هذه المرة. ففي السلم الأدق من المجهري ، يوجد عوالم هندسية هائلة التشوه والانفتال ، تظهر وتزول ، تتشكل وتتلاشى ، في نشاط لا يتوقف . وثمة اعتقاد شائع، في هذا السلّم المتقزم جداً والذي يبلغ 33-10 من السنتيمتر شکل 4 - 18 . تفتت المكان - الزمان. يقول ويلر بأن المفعولات الكمومية ، في هذا المجال الأدق من المجهري ، عنيفة لدرجة أنها تثقب المكان - الزمان فتجعل له بنية اسفنجية ذات أخاديد وقناطر دودية . وهذا النشاط العنيف تمر به الجسيمات الأدق من الذرية مرور الكرام ، لأن حجمها ، بالنسبة لهذه الثقوب الدودية ، كجحم الشمس بالنسبة للذرة . (أي أصغر من قطر نواة الذرة بمئة مليار مليار مرة (، بأن تموجات المكان - الزمان يُتوقع لها أن تبلغ من العظم درجة تستطيع أن تُحدث تغييرات توبولوجية . وتظهر ، لمن يمكن أن براها ، عوالم فضائية ذات أنفاق وقناطر دودية لا تلبث أن تزول ، مما يعطي المكان - الزمان في هذا السلّم صورة بحر يرغي ويزيد . وفي مثل هذا النوء البحري العاصف يقف الخيال والحدس عاجزين إزاء هذا الارتصاص الثقالي ومتفرداته . وهكذا قد لا تقود هذه الصورة الكمومية إلى شيء. وبدون نظرية كاملة بهذا الخصوص لا يمكن أن يحدث إجماع الحمل هذه الصورة على محمل الجد وكل ما يمكن قوله ، حتى الآن وفي هذا الشأن ، هو أن مفهوم المكان - الزمان المستمر لا يمكن على الأرجح تعميمه على مثل هذه المناطق اللامتناهية الصغر.
إن من أكبر أنصار هذه الهندسة الحركية الكمومية الفيزيائي الأمريكي ويلر J.Wheeler . وقد أوضح أن طاقة كل هذه التموجات عظيمة لدرجة أن شأن الجسيم العنصري الموجود فيها لايزيد عن شأن غيمة في هواء الجو. فنحن ، بالرغم من رؤية الغيمة - كما من رؤية الجسيم - لا نحس لها بأثر يذكر في النشاط الجوي الغامر . وصورة المادة والمكان - الزمان هذه تبدو بعيدة ، بعد الأرض عن السماء ، عن الصورة التي حاول لا يبنتز Leibniz وماخ أن يرسماها للمكان والزمان بمعزل عن المادة . فنظرية الكم الحديثة تجعل المكان - الزمان محور القضية وتجعل المادة مجرد اضطراب في بنية غامرة . ومن الجنون أن نظن أن القضية قد انتهت عند هذا الحد. ومما لاريب فيه أن نظرية ستظهر في المستقبل تعيد بناء المكان - الزمان ونظرية الكم معاً على أسس أمتن بكثير ، وعندئذ سيبزغ مفهوم جديد كلياً للمكان - الزمان . وعلى القارىء ، في الوقت الحاضر ، أن يكتفي بالنظر الى النسبية ونظرية الكم على أنهما بارق من الحقيقة الصادقة يكشف عن وجهين من الوجوه العديدة للقضية الساحرة .
الاكثر قراءة في ميكانيكا الكم
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة