الإحساسُ بالألمِ النفسيِّ أبلَغُ مِن أيِّ شعورٍ آخرَ ...رُبَّما تلتَئِمُ الجِراحُ بأعضائِنا ولَكِنْ يصعُبُ أنْ تشفَى جِراحُ القَلبِ.
جِراحاتُ السِّنانِ لها التِئامٌ... وَلا يَلتامُ ما جَرَحَ اللّسانُ
حينمَا يقِفُ مُقرَّبٌ أمامَكَ ويتَّهِمُكَ بالجُّنونِ والسِّحرِ والسَّفَهِ، ويُحرِّضُ عليكَ الأرحامَ والأقرِباءَ .. ماذا ستفعَلُ؟
يَسخَرُ مِنكَ؟ يستَفِزُّكَ؟ يُثيرُ الشائعاتِ والشُّبهاتِ عليكَ؟ هذا ما لاقاهُ نبيُّنا الكريمُ مِن بعضِ أرحامِهِ كعَمِّهِ أبي لَهَبٍ! وكثيرٍ مِن قَومِهِ!
طِباعُ النّاسِ مُختَلِفَةٌ؛ إذ لا يُمكِنُ ضبطُهُم تحتَ أُسلوبٍ واحدٍ في المُعامَلةِ، فهُناكَ مَن يحمِلُهُ سوءُ تربيَتِهِ وخُبثُ سريرَتِهِ الى الإضرارِ بالآخرينَ، وهذا يستَدعِي أنْ لا نَقِفْ مكتوفي الأيدي دونَ رَدِّ الشَرِّ بالشّرِّ غيرَ أنَّ نبيَنا مُحمّداً يرى غيرَ ذلكَ!
على الرَّغمِ مِن طَعَناتِ الأَلسُنِ فهوَ كانَ يتعرَّضُ لضَربٍ حَقيقيٍّ في وَجهِهِ، وتسيلُ الدّماءُ منهُ لكنّهُ يقولُ: "رَبِّ اغفِرْ لِقومِي فإنَّهُم لا يَعلمُونَ" ..
لا تَظُنُّ أنَّ الأمرَ سَهلٌ على عزيزِ النّفسِ كريمِ الأصلِ كمُحمَّدٍ النبيِّ –صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ-ولكنَّ هدَفَهُ كبيرٌ وحُلْمَهُ أعظَمُ مِن أنْ تَحمِلَهُ دوافعُهُ الشخصيّةُ لمقابَلةِ المُسيئينَ والذين يؤذونَهُ بالمِثلِ! بَل كانَ يتألَّمُ على عَدَمِ إيمانِهِم بدعوَتِهِ!
يقولُ الإمامُ عليٌّ-عليه السَّلامُ-:"آلةُ الرِّئاسةِ سِعَةُ الصَّدرِ" تَروِي كُتبُ السّيَّرِ أنَّ النّبيَّ نصرَهُ اللُه –تعالى-نصراً عزيزاً، وهيّأَ لهُ مِن أسبابِ القُوّةِ والسُّلطةِ ما جعلَهُ مُتَمَكِّناً في البلادِ، ومعَ ذلكَ كانَ واسِعَ الصّدرِ معَ المُسيئينَ وحَليماً بِهِم لا عَن خُنوعٍ أو مَصلَحَةٍ أُخرى وإنما كانَ قاموسَ الأخلاقِ الرفيعَةِ الذي ما إنْ فتَحْتَ جُزءاً منهُ إلا وَوَجَدتَ معنىً يلتَمِعُ عَن التسامُحِ والعَفوِ والحِلمِ والعَطاءِ ...وكُلُّ ما هوَ تجسيدٌ للقِيَمِ الإنسانيّةِ!
يقولُ أحَدُ الصّحابَةِ: "كُنتُ أمشي معَ رسولِ اللهِ -صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّمَ-وعليهِ بُردٌ نجرانيٌّ غَليظُ الحَاشِيةِ، فأدرَكَهُ أعرابيٌّ، فجَبذَهُ بردائهِ جبْذَةً شديدةً، حتى نظرتُ إلى صَفحَةِ عاتِقِ رسولِ اللِه -صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّمَ-قد أثَّرَتْ بِها حاشِيةُ البُرْدِ مِن شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قالَ: يا مُحمَّد! مُرْ لي مِن مالِ اللهِ الذي عِندكَ، فالتفَتَ إليهِ رسولُ اللِه -صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّمَ-ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أمرَ لهُ بعَطاءٍ!"
وتجلّى عَفوُهُ ورحمَتُهُ وكَرَمُهُ معَ أهلِ مَكَّةَ حينَما دخلَها فاتحاً؛ فَلَمْ يُحاسِبْهُم على سُوءِ مُعامَلَتِهِم لهُ إبّانَ بداياتِ دَعوتِهِ، ولا على ما فعَلوهُ بأصحابِهِ وأهلِهِ بل قالَ لَهُم: " اذهبوا فأنتُم الطُّلقاءُ" و سُئِلَتْ إحدى زوجاتِهِ عَن خُلُقِهِ-صلّى اللهُ عليهِ و آلهِ - فقالتْ: "لم يَكُنْ فاحِشًا ولا مُتَفَحِّشًا، ولا صَخَّابًا في الأسواقِ، ولا يَجزِي بالسيِّئة السيِّئةَ، ولكنْ يعفُو ويَصفِحُ".
فكانَ معَ الذينَ يؤذوهُ عَفُوَّاً غفوراً لا يُقابِلُ الإساءةَ بالإساءةِ، ولَطالمَا كانَ يُصَرِّحُ بمنهَجِهِ وسُنَّتِهِ فيقولُ: "ألا أُخبِرُكُم بخيرِ خَلائقِ الدُّنيا والآخِرَةِ؟ العَفوُّ عَمّن ظَلَمَكَ، وتَصِلُ مَن قَطَعَكَ، والإحسانُ إلى مَن أساءَ إليكَ، وإعطاءُ مَن حَرَمَكَ".
صَلَّى عليكَ اللهُ ما صَحِبَ الدُّجَى ... حَادٍ، وحَنَّتْ بِالفَلا وَجْنَاءُ