خطر صامت يهدد الصحة العصبية , يُعد نمو دماغ الطفل من أكثر العمليات الحيوية تعقيدًا وحساسية في جسم الإنسان، إذ تبدأ مراحل تكوينه منذ الحياة الجنينية وتستمر حتى سن المراهقة. خلال هذه الفترة يمر الجهاز العصبي بتغيرات بنيوية وكيميائية دقيقة تشمل تكاثر الخلايا العصبية وتكوين المشابك العصبية وتطور الشبكات المسؤولة عن التعلم والسلوك والذاكرة. أي اضطراب كيميائي خلال هذه المراحل الحرجة قد يؤدي إلى تأثيرات طويلة الأمد لا يمكن عكسها لاحقًا.
يتكوّن دماغ الطفل من مليارات الخلايا العصبية التي تتواصل فيما بينها عبر إشارات كهروكيميائية معقّدة. تعتمد هذه الإشارات على توازن دقيق بين النواقل العصبية مثل الأستيل كولين والدوبامين والسيروتونين. في السنوات الأولى من العمر يكون الحاجز الدموي الدماغي غير مكتمل النضج، مما يسمح لبعض المواد الكيميائية السامة بالوصول مباشرة إلى أنسجة الدماغ والتأثير على الخلايا العصبية في طور النمو.
الأطفال أكثر عرضة للتأثر بالمواد الكيميائية مقارنة بالبالغين لأسباب فسيولوجية وكيميائية متعددة. فمعدل التنفس لديهم أعلى، مما يزيد كمية الملوثات المستنشقة، كما أن أنزيمات إزالة السموم في الكبد لم تكتمل بعد، إضافة إلى أن جلد الطفل أرق وأكثر نفاذية. كما أن سلوكيات الأطفال مثل وضع الأشياء في الفم ولمس الأسطح تزيد من فرص التعرض للمواد الكيميائية الضارة.
من أخطر المواد الكيميائية التي تؤثر على نمو الدماغ الرصاص، وهو سم عصبي قوي يتداخل مع أيونات الكالسيوم داخل الخلايا العصبية، مما يعطّل نقل الإشارات العصبية ويؤثر على تكوين المشابك. أظهرت دراسات عديدة أن التعرض المزمن للرصاص يرتبط بانخفاض معدل الذكاء واضطرابات السلوك وصعوبات التعلم. الزئبق، وبالأخص ميثيل الزئبق، يُعد أيضًا من المواد شديدة السمية للجهاز العصبي، حيث يؤثر على نمو القشرة الدماغية والمخيخ، ويؤدي إلى اضطرابات في التناسق الحركي والقدرات اللغوية.
تُعد المبيدات الحشرية من نوع الفوسفات العضوية من أخطر الملوثات البيئية على الأطفال، إذ تعمل على تثبيط إنزيم الأستيل كولين إستريز المسؤول عن تفكيك الناقل العصبي أستيل كولين، مما يؤدي إلى تراكمه وحدوث خلل في وظائف الجهاز العصبي. كما تُصنّف مركبات الفثالات والبيسفينول A ضمن المواد المُخلِّلة للغدد الصماء، حيث تتداخل مع الهرمونات المنظمة لنمو الدماغ وقد ترتبط باضطرابات الانتباه والسلوك وفرط الحركة.
التأثيرات الصحية للتعرض الكيميائي خلال فترات النمو لا تظهر دائمًا بشكل فوري، بل قد تتجلى بعد سنوات على شكل انخفاض في القدرات الإدراكية أو صعوبات تعلم أو اضطرابات سلوكية، وقد ربطت دراسات وبائية عديدة بين التعرض المبكر للملوثات الكيميائية وزيادة احتمالية الإصابة باضطرابات النمو العصبي. هذا ما يجعل الخطر صامتًا وخفيًا، لكنه شديد الأثر.
تعتمد الوقاية على الوعي الكيميائي وتقليل مصادر التعرض قدر الإمكان، من خلال اختيار منتجات آمنة للأطفال، وتجنب تسخين الطعام في العبوات البلاستيكية، والحد من استخدام المبيدات داخل المنازل، والحرص على تهوية الأماكن المغلقة، وقراءة الملصقات الكيميائية للمنتجات الاستهلاكية. إن حماية دماغ الطفل ليست مسؤولية فردية فقط، بل مسؤولية مجتمعية تتطلب نشر الوعي والاعتماد على المعرفة العلمية.
في الختام، تمثل الصحة الكيميائية للطفل حجر الأساس لصحة المجتمع بأكمله، لأن نمو الدماغ السليم في السنوات الأولى يحدد القدرات العقلية والسلوكية للإنسان طوال حياته. إن إدراك مخاطر التعرض للمواد الكيميائية خلال فترات النمو واتخاذ خطوات وقائية واعية يمكن أن يحمي أجيالًا كاملة من أضرار لا يمكن علاجها لاحقًا.







د.فاضل حسن شريف
منذ 1 ساعة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN