اختتمت الأمانة العامة للعتبة الكاظمية المقدسة سلسلة ندواتها العلمية، المُقامة ضمن فعاليات "الأسبوع الجعفري" تحت شعار: (السلام عليك يا عميد الصادقين)، وبرعاية كريمة من خادم الإمامين الكاظمين الجوادين، الدكتور حيدر حسن الشمّري، وقد شهدت الندوة الختامية تقديم ورقة بحثية متميزة شارك فيها فضيلة الشيخ عماد الكاظمي، بعنوان: (قراءة تربوية في وصايا الإمام جعفر الصادق "عليه السلام")، وسط حضور مبارك من خدّام العتبة المقدسة ونخبة من المهتمين بالشأن العلمي والمعرفي.
وقد تناولت الورقة البحثية أهمية التربية في البناء الإسلامي، بوصفها محوراً أساسياً اعتنت به الشريعة الإسلامية عبر نصوص القرآن الكريم، وأحاديث النبي الأكرم والأئمة الهداة "عليهم السلام"، سواء على مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمع، وتم تسليط الضوء على الدور التربوي العميق الذي نهض به الإمام الصادق "عليه السلام" في بناء الشخصية الإسلامية الإيجابية الواعية، والقيادية في مسيرة الإصلاح التي تسهم في بناء مجتمع واعٍ وقادر على تحقيق قيم العدالة والفضيلة.
وفي سياق استعراض نماذج الوصايا، عُرضت وصية الإمام الصادق "عليه السلام" إلى أحد أبرز أصحابه، واختيار عبد الله بن جندب "رضوان الله عليه"، كنموذج تطبيقي، يُجسّد علاقة الموصي، بالموصى إليه من جهة، ومضامين الوصية من جهة أخرى، حيث اختار شخصية متميزة بالوعي والإيمان لتكون محل ثقته وتلقي تعاليمه، مما يعكس عمق العناية بالموصى إليه.
أما مضمون الوصية، فقد تركز على جملة من المبادئ التربوية والأخلاقية، التي تؤسس لبناء الإنسان الرسالي، وتغرس فيه خصال الورع، الصدق، مراقبة الله، والإخلاص في العمل، مع تحذيره من الغرور والرياء، وقد حث الإمام "عليه السلام" ابن جندب على أن يجعل علاقته بالله فوق كل اعتبار، وأن يكون عمله خالصاً لله، مراقباً لنفسه في كل حال.
واستشهد فضيلته الشيخ الكاظمي نماذج من تلك الوصايا منها: ( يا ابنَ جُنْدَب، حقٌّ على كُلِّ مسلمٍ يعرِفُنا أنْ يَعرضَ عمله في كُلِّ يومٍ وليلةٍ على نفسهِ فيكونَ مُحاسِبَ نفسَهُ، فإنْ رأى حَسَنةً استزادَ منها، وإنْ رأى سيِّئةً استغفرَ منها؛ لئلَّا يَخزى يوم القيامة ).
(يَا ابْنَ جُنْدَبٍ، مَنْ أَصْبَحَ مَهْمُومًا لِسِوَى فَكَاكِ رَقَبَتِهِ فَقَدْ هَوَّنَ عَلَيْهِ الْجَلِيلَ وَرَغِبَ مِنْ رَبِّهِ فِي الرِّبْحِ الْحَقِيرِ، وَمَنْ غَشَّ أَخَاهُ وَحَقَّرَهُ وَنَاوَأَهُ جَعَلَ اللَّهُ النَّارَ مَأْوَاهُ، وَمَنْ حَسَدَ مُؤْمِنًا انْمَاثَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ).
(يَا ابْنَ جُنْدَبٍ، الْمَاشِي فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَالسَّاعِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَاضِي حَاجَتِهِ كَالْمُتَشَحِّطِ بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَمَا عَذَّبَ اللَّهُ أُمَّةً إِلَّا عِنْدَ اسْتِهَانَتِهِمْ بِحُقُوقِ فُقَرَاءِ إِخْوَانِهِمْ).
(يَا ابْنَ جُنْدَبٍ، بَلِّغْ مَعَاشِرَ شِيعَتِنَا وَقُلْ لَهُمْ لَا تَذْهَبَنَّ بِكُمُ الْمَذَاهِبُ فَوَ اللَّهِ لَا تُنَالُ وَلَايَتُنَا إِلَّا بِالْوَرَعِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الدُّنْيَا وَمُوَاسَاةِ الْإِخْوَانِ فِي اللَّهِ، وَلَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ يَظْلِمُ النَّاسَ).
أن هذا التحليل الدقيق للوصايا يكشف عن المنهج التربوي المتكامل الذي انتهجه الإمام جعفر الصادق "عليه السلام"، وطبيعة الخطاب الذي استنهض فيه الطاقات الإيمانية، وهو منهج لا يقتصر على إلقاء المواعظ، بل يتضمن بناء الشخصية الإنسانية القادرة على حمل الرسالة بأمانة، والتفاعل الإيجابي مع تحديات الحياة بروح من الإيمان والبصيرة.
وبهذا الطرح العلمي الرصين، أسدل الستار على سلسلة ندوات علمية ثرية، قدّمت إضافات معرفية مهمة في فهم تراث الإمام الصادق "عليه السلام" ودوره في صناعة الوعي الإنساني والحضاري.