ما بين معرفةٍ وإدراك وطلب علمٍ وموقف، وقف وقفته يتخطّى كلّ عقبة أرادت للجهل أن ينال منه، طلى فكره بذهب علوم الدين بعد أن نشأ وترعرع في كنف أسرة عُرفت واشتهرت بحبّ أهل البيت(عليهم السلام)، فتوارث حبّ العلم من أسلافهم الطهر، فهم ينحدرون من سلالةٍ محمّدية علويّة.
السيد حمدي محمدالجزائري هو ابن تلك العائلة العلويّة البصريّة، وُلد في مدينة البصرة العراقيّة عام 1969م، وتعرّضت عائلته للظلم والاضطهاد من قبل أزلام النظام البعثي المعروف بعدائه لأهل بيت النبيّ(عليهم السلام) ولمحبّيهم، ممّا اضطرّهم أن يتركوا مدينتهم الأمّ ويتوجّهوا صوب كربلاء، إلّا أنّ السيد حمدي الجزائري انتهج منهج جدّه الحسين(عليه السلام) ورفع ولاءه شعاراً رغم كلّ ما كان يتعرّض له في تلك الفترة، ليتّخذ الدراسة الحوزويّة طريقاً لحياته عام 1999م، وبعد سقوط النظام المقبور اتّجه صوب المولى أبي الفضل العبّاس(عليه السلام) ليتسامى في حبّه وخدمته بعد أن شغل منصب مسؤول وحدة الاستفتاءات في قسم الشؤون الدينيّة.
وفي عام 2014م، بعد أن جثم الإرهاب والفساد على صدر أغلب المدن العراقيّة ونال منها، جاءت كفّ فتوى المرجعيّة الدينيّة العُليا بالدفاع الكفائي لتنتشل تلك المدن المنكوبة والمسلوبة، وليكون السيّد محمد الجزائري من الملبّين الأوائل لتلك الفتوى المباركة، ويُشارك إخوته المقاتلين من رجال الدين وطلبة الحوزة العلميّة والمتطوّعين لتعبيد طريق النصر من خلال لجنة الإرشاد والدعم اللوجستيّ التابعة للعتبة العبّاسية المقدّسة، إلّا أنّ سنة 2015م شهدت التحاق السيد محمد كمقاتلٍ في فرقة الإمام علي(عليه السلام) القتاليّة بعد أن وجد في نفسه إلحاحاً لمؤازرة إخوته الذين امتطوا صهوة السواتر، ولم يمنعه ذلك من الاستمرار بما تيسّر له من تقديم معوناتٍ عينيّة ومادّية كالملابس والمواد الغذائيّة، وكذلك السعي من خلال بعض الإخوة المؤمنين بتجهيزهم ببعض النواظير الليليّة والنهارية، وبنادق (m16)، وكاشف متفجّرات.
كان أوّل التحاقٍ له كمقاتل في جبال مكحول، ليقضي بعد ذلك فترة وجيزة في منطقة الحراريات قبل أن يتوجّه برفقة الفرقة الى الصقلاوية (منطقة أبو شجل)، بقي السيد محمد الجزائري مرابطاً برفقة من معه من المتطوّعين قرب الجسر الياباني ما يقرب من الشهرين قبل أن تنطلق عمليّات تحرير منطقة (أبو شجل) طولاً مع الناظم الذي يقطعه الجسر الياباني.
يقول السيد محمد الجزائري: "كانت المعارك شرسة هناك لكون أنّ المنطقة مشجّرة، وكان هجومنا على شكل جيب مجاور للنهر، وفي اليوم السادس من الهجوم الذي صادف (27/1/2016م) وتحديداً بعد صلاة الظهر وأثناء التقدّم التفّ علينا العدوّ الداعشي، بعد قتالٍ استمرّ أكثر من ساعة وكانت المعركة شرسة جدّاً، ولكثافة النيران التي وُجّهت إلينا توسّمت بشرف الإصابة حيث أُصبتُ بطلقٍ ناريّ في بطني وآخر في يدي اليسرى".
المعركة التي تحدّث عنها السيد محمد هي نفس المعركة التي شهدت استشهاد الشيخ البطل هاني الشمري مسؤول محور الصقلاويّة في الفرقة، قبل أن يتدخّل الطيران ويحسم المعركة، إذ تمّ بعد ذلك نقل السيد الجزائري من خلال إحدى المدرّعات العائدة للقوّة المشاركة والتابعة للجيش العراقي، ومن ثمّ تحويله إلى سيارة إسعاف الفرقة ثم إلى وحدة الميدان الطبّية، ليُنقل بعدها إلى مستشفى الجواد العسكريّ بالقرب من منطقة أبي دشير، وبعد العلاجات الأوّلية لقطع النزيف وما شابه تمّ نقله إلى مستشفى الكاظميّة حيث رقد تلك الليلة هناك الى أن علمت الأمانة العامّة للعتبة العبّاسية المقدّسة من خلال فضيلة الشيخ صلاح الكربلائي، حيث تمّ الإيعاز بنقله إلى مدينة كربلاء المقدّسة من قبل سماحة المتولّي الشرعي العلّامة السيد أحمد الصافي (دام عزّه)، بإرسال سيارة إسعاف عائدة الى العتبة المقدّسة تمّ نقله فيها الى مستشفى الكفيل التخصّصي.
ويروي لنا السيد محمد الجزائري: "كان سماحة السيد أحمد الصافي (دام عزّه) هناك للاطمئنان على صحّتي ومجموعة من طلبة العلوم الدينيّة من المدرسة ومن شعبة الاستفتاءات ومجموعة من الأقارب، وبعد إجراء الفحوصات السريعة تبيّن تهشّم عظم ساعدي الأيسر وحرق بعض الأعصاب، فتمّ إجراء عمليّة جراحيّة ليدي وبعد شهر تمّ إجراء عمليّة ثانية مكمّلة للعمليّة الأولى، وبعد ما يقرب من ثلاثة أشهر وقبل تماثلي للشفاء التحقتُ بالقتال مرّة أخرى".
وقبل أن يلتئم جرح السيد محمد عاد ليشارك في معارك شرسة كان أغلبها متداخلاً بحيث لا يفصل بينهم وبين العدوّ إلّا سياج أو غرفة أو حديقة منزل، وفي بعض الأحيان تكون الجبهتين في نفس المنزل، حيث شارك في عمليّات تحرير جزيرة الخالديّة وعمليات تحرير الموصل برفقة لواء علي الأكبر الذي كلّف بمحور جنوب غرب الموصل من منطقة عين الناصر، وعين النصر، ومنطقة السلماني، وإمام حمزة، وأم سيجان وصولاً إلى منطقة اخبيرات التي تكون قريبة من الشارع الرابط بين تلّعفر ومركز الموصل، ليعود بعد ذلك للمشاركة مع فرقة الإمام علي(عليه السلام) القتاليّة في باقي معارك التحرير، ومن بينها منطقة هزيمة الجنوبية، وبوثا وناحية تل عبطة ثمّ تحرير قضاء الخضر، وتحرير بادوش والمناطق التي سبقتها وصولاً إلى تحرير قضاء تلّعفر.
هكذا هم أبناء المرجعيّة الدينيّة العُليا الذين لبّوا نداء الحقّ واستجابوا لفتوى الدفاع الكفائي المقدّسة ودافعوا عن مقدّسات هذه البلاد وأرضها وكرامة شعبها.