أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-7-2016
1297
التاريخ: 1-7-2016
1244
التاريخ: 1-2-2018
1077
التاريخ: 8-2-2018
1116
|
المولى صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي القوامي، المشهور على لسان الناس ب الملا صدرا، وعلى لسان تلامذة مدرسته ب " صدر المتألهين أو صدر المحققين.
شخصيته هو من عظماء الفلاسفة الآلهيين الذين لا يجود بهم الزمن إلا في فترات متباعدة من القرون وهو المدرس الأول لمدرسة الفلسفة الآلهية في القرون الثلاثة الأخيرة في البلاد الاسلامية الامامية، والوارث الأخير للفلسفة اليونانية والاسلامية، والشارح لهما والكاشف عن أسرارهما ولا تزال الدراسة عندنا تعتمد على كتبه، لا سيما الأسفار الذي هو القمة في كتب الفلسفة قديمها وحديثها، والأم لجميع مؤلفاته هو.
وكل من جاء بعد من الفلاسفة في هذه البلاد فان فخر المجلي منهم أن يقال عنه أنه يفهم أسرار كلامه أو أنه من تلاميذه ولو بالواسطة ومن الطريف حقا أن نجد أساتذة فن المعقول كما يسمونه يفتخرون باتصالهم به في سلسلة التلمذة. حتى أن بعضهم يبالغ في أسماء أشخاص هذه السلسلة، كالعناية بسلسلة رواية الحديث.
وأكثر من ذلك أن المحقق الحجة الشيخ محمد حسين الأصفهاني 1296 1361 سمعت عنه أنه كان يقول: لو أعلم أحدا يفهم أسرار كتاب الأسفار لشددت إليه الرحال للتلمذة عليه وإن كان في أقصى الديار. وكأنه يريد أن يفتخر أنه وحده بلغ درجة فهم اسراره أو أنه بلغ درجة من المعرفة أدرك فيها عجزه عن اكتناه مقاصده العالية.
وأزيدك أني من المؤمنين بان صدر المتألهين أحد أقطاب أربعة في الدورة الاسلامية: هو والمعلم الثاني أبو النصر الفارابي المتوفى حدود 304، والشيخ الرئيس ابن سينا 373 427، والخواجا نصير الدين محمد بن الحسن الطوسي 597 673. هؤلاء هم في الرعيل الأول وهم الأصول للفلسفة والمترجم خاتمتهم، والشارح لآرائهم، والمروح لطريقتهم، والأستاذ الأكبر لفنهم. ولولا خوف المغالاة لقلت هو الأول من بينهم الرتبة العلمية، لا سيما في المكاشفة والعرفان.
والرجل نشأ مطاردا متقوما عليه حتى كان يقول عن نفسه: ما كان له رتبة أدنى من آحاد طلبة العلم. ولكنه في أيامه الأخيرة أقبل الناس على فلسفته والتلمذة عليه حتى نبغ من بينهم جماعة منهم صهراه على ابنتيه الحكيم المحدث المشهور ملا محسن الفيض والحكيم الآخر الشيخ عبد الرزاق اللاهيجي الفياض صاحب شوارق الالهام. والفيض والفياض لقبان وضعهما لهما أستاذهما وأبو زوجتيهما صدر المتألهين.
أما بعد حياته فقد بعد صيته وأقبل طلاب الفلسفة إقبالا عظيما على مؤلفاته يتدارسونها ويكتبونها ويتلمذون عليها، وسادت مدرسته الفلسفية ومؤلفاته وطغت على كل مدرسة ومؤلفات أخرى حتى مؤلفات الشيخ ابن سينا والخواجا نصير الدين الطوسي. وبالأخير أي قبل مائة سنة فما بعدها طبعت جميع مؤلفاته في المطابع الحجرية بإيران.
نشأته :
لم نتحقق من التاريخ سنة ولادته، وقد توفي سنة 1050 في البصرة في طريقه للحج امرة السابعة أو بعد رجوعه. وأكبر الظن أنه تجاوز السبعين أو ناهزها، فيكون تولده في الربع الأخير من القرن العاشر الهجري.
وكل ما عرفنا عنه انه تولد في شيراز من والد صالح اسمه إبراهيم بن يحيى القوامي، وقيل: كان أحد وزراء دولة فارس التي عاصمتها شيراز، وانه من عائلة محترمة هي عائلة قوامي. وهذا الوزير لم يولد له ذكر فنذر لله ان ينفق مالا خطيرا على الفقراء وأهل العلم إذا رزق ولدا ذكرا صالحا موحدا، فكان ما أراد في شخص ولده هذا محمد صدر الدين.
فتربى هذا الولد الوحيد لأبويه في حجر والده معززا مكرما، وقد وجهه لطلب العلم. ولما توفي والده الذي لم نتحقق سنة وفاته رحل المترجم لتكميل معارفه إلى أصفهان عاصمة العلم والسلطان يومئذ في عهد الصفوية. ويظهر انه حين انتقل إلى أصفهان كان ذا ثقافة ممتازة، لان أول حضوره كان على الشيخ بهاء الدين العاملي 953 1031. وما تظن انه يحضر درس الشيخ البهائي وهو شيخ الاسلام يومئذ!
فهو من ولعه في طلب العلم أنفق كل ما خلفه والده من المال في تحصيله، وأشرب المذهب استوفي الفلسفي العرفاني الذي كان هو السائد في ذلك العصر، والذي كان يجهر به حتى الشيخ البهائي، فانعكس على نفسية هذا الطلب الذكي. فأولع فيه ولوعا اخذ عليه جميع اتجاهاته، وخلق منه صوفيا عرفانيا وفيلسوفا إلهيا فريدا قل نظيره أو لا نظير له. فقد صرح هو في مقدمة الاسفار بهذا الولع، فقال ص 2: قد صرفت قوتي في سالف الزمان منذ أول الحداثة والريعان في الفلسفة الآلهية بمقدار ما أوتيت من المقدور وبلغ اليه قسطي من السعي الموفور.
ومن اثر ولعه بالفلسفة واتجاهه هذا كان انقطاعه إلى درس فيلسوف عصره السيد الداماد محمد باقر المتوفى سنة 1040، وكان يعظمه كثيرا ومما قاله فيه قوله في شرح أصول الكافي في شرح أول حديث منه: سيدي وسندي وأستاذي واستنادي في المعالم الدينية والعلوم الإلهية والمعارف الحقيقية والأصول اليقينية...
وبهذا ومثله يعبر عنه في كل مناسبة تدعو إلى ذكره.
والذي استنتجه ان صاحبنا صدر المتألهين مرت له في نشأته العلمية ثلاث مراحل رئيسية كونت منه عظيما من جملة عظماء تاريخ الفلسفة:
المرحلة الأولى دور التلمذة، وهو دور البحث وتتبع آراء المتكلمين والفلاسفة ومناقشتهم، ويظهر انه لم ينضج يومئذ مسلكه العرفاني. وذلك ما يشير اليه في مقدمة تفسير سورة الواقعة.
واني كنت سالفا كثير الاشتغال بالبحث والتكرار وشديد المراجعة إلى مطالعة كتب الحكماء والنظار، حتى ظننت اني على شئ فلما انفتحت بصيرتي ونظرت إلى حالي وذلك طبعا بعد المرحلة الأولى هذه رأيت نفسي وان حصلت شيئا من أحوال المبدأ وتنزيهه عن صفات الإمكان والحدثان وشيئا من احكام المعاد لنفوس الانسان فارغة من العلوم الحقيقية وحقائق العيان مما لا يدرك الا بالذوق والوجدان. ويريد من العلوم الحقيقية المكاشفات العرفانية.
وقد أظهر الندم مما فرط في أول عمره في سلوك مسلك اهل البحث، فقال في مقدمة الاسفار ص 4: واني لأستغفر الله مما ضيعت شطرا من عمري من تتبع آراء المتفلسفين والمجادلين من اهل الكلام، وتدقيقاتهم وتعلم جربزتهم في القول وتفننهم في البحث.
ولئن أظهر الندم والأسف على ما ضيع في هذه المرحلة من الوقت، فإنه استفاد منها كثيرا للمرحلة الأخيرة من حياته، وهي دور احتأليف الذي جمع فيه بين المسلك البحثي والمسلك العرفاني، وسنذكره في البحث الآتي.
على أنه في هذه المرحلة لم يسلك مسلكا بحتيا صرفا، بل كان مشوبا بالمسلك العرفاني وان كان بعد لم ينضج عنده، ولذا كان يقول بوحدة الوجود فيها وألف فيها رسالة طرح الكونين في وحدة الوجود على ما سيأتي. ومن هذا القول وأمثاله مما كان لا يتورع من التصريح به والاعلان بتحبيذه كان مضايقا من الناس الذين أشرقوه بريقه جزعا، على ما صرح به في عدة مناسبات في كتبه، ويشير بها إلى هذه المرحلة الأولى بالذات.
فالتجأ إلى أن يفر بنفسه منهم وينتقل إلى:
المرحلة الثانية. وهي دور العزلة والانقطاع إلى العبادة في بعض الجبال النائية، وقيل إنها كهيك من قرى قم وانه استقام في هذه العزلة خمسة عشر عاما. وهي مدة طويلة. وقد حكى لنا قصة هذه الفترة من حياته في مقدمة الاسفار وغيرها، فإنه كما يقول لما رأى الحال على ذلك المنوال من خلو الديار من اهل المعرفة وضياع السير العادلة وإشاعة الآراء الباطلة، ضرب صفحا عن أبناء الزمان والتجأ إلى أن ينزوي في بعض نواحي الديار، منكسر البال منقطع الال متوفرا إلى العبادة، لا على درس يلقيه ولا تأليف يتصرف فيه.
ويعلل عدم توفره على الدرس والتأليف على عادته في التسجيع بان هذه أمور تحتاج إلى تصفية الفكر وتهذيب الخيال عما يوجب الملال والاختلال، وتحتاج إلى فراع البال. ولا تحصل هذه الأشياء لمن يسمع ويرى من أهل الزمان من قلة الانصاف وكثرة الاعتساف، وخفض الأعالي والأفاضل ورفع الأداني والأراذل، وظهور الجاهل والعامي على صورة العالم النحرير وهيئة الحبر الخبير، إلى غير ذلك من القبائح والمفاسد.
وهكذا يتشكى من أبناء زمانه ومثلهم أبناء كل زمان، ولم يبين نوع تلك الاعتسافات التي كان يلاقيها. ولكنها على كل حال أرهقته حتى طفق يرتئي بين ان يصول بيد جذاء وما أدري هل كان يريد أن يعارك أبناء الزمان بالسيف ويجاهدهم؟، أو يصبر على سطحية عمياء. فرأى بالأخير ان الصبر على هاتي أحجى، فصبر، وفي العين قذى وفي الحلق أشجى، اتباعا كما قال لسيرة أمير المؤمنين ع واقتداء به فامسك عن الاشتغال بالناس، واختار العزلة والاستناد مديدا وأمدا بعيدا وقد قلنا إن هذا الأمد البعيد قدر ب " 15 عاما.
وهو في كل هذا الأمد البعيد ليس له شغل وعمل الا العبادة والمجاهدات والرياضات، متوجها توجها غريزيا إلى مسبب الأسباب، ومتضرعا تضرعا جبليا إلى مسهل الأمور الصعاب على حد تعبيره وهو يعتقد ان الانسان يتمكن من الحصول على العلم اللدني والانكشاف اليقيني، بطول المجاهدات والانقطاع إلى الله تعالى، بعد تصفية الباطن ورفع الحجب عن النفس. لذلك قال نتيجة لتلك العزلة: اشتعلت نفسي لطول المجاهدات، والتهب قلبي لكثرة الرياضات التهابا قويا، ففاضت عليها أنوار الملكوت وحلت بها خبايا الجبروت، ولحقتها الأضواء الأحدية وتداركتها الالطاف الآلهية. فاطلعت على اسرار لم أكن اطلعت عليها إلى الآن، وانكشفت لي رموز لم تكن منكشفة هذا الانكشاف من البرهان بل كل ما علمته من قبل بالبرهان عاينته مع زوائد بالشهود والأعيان.... وهكذا يكرر هذا المعنى في كثير من مؤلفاته.
ولما حصلت له هذه الحالة النفسية نتيجة لتلك العزلة انفتح له ان ينتقل إلى:
المرحلة الثالثة. وهي دور التاليف، إذ ألهمه الله تعالى الإفاضة مما شعر به في المرحلة الثانية جرعة للعطاش الطالبين، فبلغ الكتاب اجله، وأراد الله تقديمه وقد كان أجله هكذا يقول. ورأى أن يخرجه من القوة إلى الفعل، ونهضت عزيمته بعد ما كانت قاعدة واهتز الخامد من نشاطه.
فصنف كتابا إلهيا، ويعني به الاسفار. وهو أول كتبه بعد تلك العزلة الطويلة ويظهر انه أشغل في تأليفه وهو لا يزال في موطن عزلته.
ولم يصنف كتابا قبله فيما عثرنا على نصوصه غير ثلاث رسائل، إذ أشار إليها في الاسفار، وهي رسالة طرح الكونين 1: 10 ورسالة حل الاشكالات الفلكية في الإرادة الجزافية 1: 176 ورسالة حدوث العالم 1: 233، وان كان هذا ليس دليلا وحده على سبقها على الاسفار بمجرد الإشارة إليها فيه، لأنه في رسالة الحدوث أيضا يشير إلى الاسفار نفسه، والى الشواهد الربوبية مع أنه قيل إنه آخر مؤلفاته، وذلك ص 22 من الرسالة.
ولعله يدخل الإشارة إلى كتبه الأخرى بعد تأليف الكتاب بمدة، فذكر الإشارة إلى كتاب في كتاب آخر لا يعنى سبق تأليف ما أشار اليه.
وفيما أظن ان الرسالة الوحيدة التي سبقت تأليف الاسفار ووقعت في المرحلة الأولى، هي رسالة سريان الوجود التي سيأتي ذكرها في مؤلفاته، لاشتمالها على آراء في الوجود عدل عنها في الاسفار، كما أظن انها نفس رسالة طرح الكونين.
وعلى كل حال، فان كتاب الاسفار هو أول مصنفاته في المرحلة الثالثة من حياته وهي مرحلة التاليف. وقد شحنه بكل ما عنده من أفكار وآراء ومكاشفات وشواهد ربوبية وواردات قلبية ومشاعر إلهية. وكل كتاب ألفه وكل رسالة صنعها بعد ذلك فالجميع مجرد منه، ومقتبس من عباراته وآرائه. ولذا قلنا إنه الأم لباقي مؤلفاته، حتى كتب التفسير التي ألفها على ما يظهر لغرض تطبيق فلسفته على القرآن الكريم.
وإذا انتهينا إلى هنا فإنه يحسن بنا ان نتحدث عن مدرسته العلمية التي كان يدعو إليها:
مدرسته العلمية :
ان المترجم يرى ان المعرفة تحصل من طريقين: طريق البحث والتعلم والتعليم الذي يستند على الأقيسة والمقدمات المنطقية، وطريق العلم اللدني الذي يحصل من طريق الالهام والكشف والحدس. وهذا الأخير انما يحصل بسبب تجريد النفس عن شهواتها ولذائذها والتخلص من أدران الدنيا وأوساخها، فتنجلي مرآتها الصقيلة وتنطبع عليها صور حقائق الأشياء كما هي إذ تتحد النفس بالعقل الفعال حينما تحدث لها فطرة ثانية بذلك.
ويرى ان الفرق بين العلمين كالفرق بين علم من يعلم الحلاوة بالوصف وبين علم من يعلمها بالذوق. وان الثاني أقوى واحكم، ويمكن وقوعه، بل هو واقع للأنبياء والأوصياء والأولياء والعرفاء.
قال في مفاتيح الغيب في المشهد الثامن من المفتاح الثالث: ان كثيرا من المنتسبين إلى العلم ينكرون العلم الغيبي الدني الذي يعتمد عليه السلاك والعرفاء. وهو أقوى واحكم من سائر العلوم، قائلين: ما معنى العلم الا الذي يحصل من تعلم أو فكر وروية.
بل ذم مجرد الأنظار البحثية أشد ذم، فقال في الاسفار ج 1 ص 75:... لا على مجرد الأنظار البحثية التي ستلعب بالمعولين عليها الشكر، ويلعن اللاحق منهم فيها السابق، ولم يتصالحوا عليها، بل كلما دخلت أمة لعنت أختها ثم اثنى على كبار الحكماء والأولياء في مشاهداتهم النورية، وذلك في موضوع المثل الأفلاطونية، فقال: واكتفوا فيه بمجرد المشاهدات الصريحة المتكررة التي وقعت لهم فحكوها لغيرهم، لكن يحصل للانسان الاعتماد على ما اتفقوا عليه والجزم بما شاهدوه ثم ذكروه.
وليس لاحد ان يناظرهم فيه. وكيف وإذا اعتبروا أوضاع الكواكب واعداد الأفلاك بناء على ترصد شخص كأبرخس أو اشخاص بوسيلة الحس المثار للغلط والطغيان، فبان يعتبروا أقوال فحول الفلسفة المبتنية على ارصادهم العقلية المكررة التي لا تحتمل الخطأ كان أحرى.
وهذا غاية ما يمكن ان يقال في الثناء على الارصاد العقلية: ليس لاحد ان ينازع فيها! لا تحتمل الخطأ! ان هذا لشئ عجيب!
ولكنه مع قوة عقيدته هذه في المكاشفات العرفانية يرى أنه لا غنى للانسان السالك بأحد الطريقين عن الآخر. وقد كرر ذلك في كتبه وأكده مرة بعد أخرى، فأصر على ضرورة الجمع بينهما كما جمع هو، وتفرد بهذا الجمع فبلغ ما لم يبلغه أحد من فلاسفة العصور الاسلامية.
قال في المبدأ والمعاد ص 278: فأولى ان يرجع إلى طريقتنا في المعارف والعلوم الحاصلة لنا بالممازجة بين طريقة المتألهين من الحكماء والمليين من العرفاء.
ثم قال متبجحا: فان ما تيسر لنا بفضل الله ورحمته وما وصلنا اليه بفضله وجوده من خلاصة اسرار المبدأ والمعاد مما لست أظن ان قد وصل اليه أحد ممن اعرفه من شيعة المشائين ومتأخريهم دون أئمتهم ومتقدميهم كأرسطو ومن سبقه. ولا أزعم ان كان يقدر على اثباته بقوة البحث والبرهان شخص من المعروفين بالمكاشفة والعرفان من مشائخ الصوفية من سابقيهم ولاحقيهم.
إذن لا المشاؤون بلغوا ما بلغه بالمكاشفة، ولا الاشراقيون والعرفاء بلغوا ما بلغه بالبحث والبرهان. فهو المتفرد بجمعه بين مسلك الطائفتين والتوفيق بينهما.
ثم قال ليؤكد سر تفوقه في منهجه: وظني ان هذه المزية انما حصلت لهذا العبد المرحوم من الأمة المرحومة، من الواهب العظيم والجواد الرحيم، لشدة اشتغاله بهذا المطلب العالي وكثرة احتماله من الجهلة والأرذال وقلة شفقة الناس في حقه وعدم التفاتهم إلى جانبه، حتى أنه كان في الدنيا مدة مديدة كأنه يشير إلى دور العزلة كئيبا حزينا ما كان له عند الناس رتبة أدنى من آحاد طلبة العلم، ولا عند علمائهم الذين أكثرهم أشقى من الجهال قدر أقل تلاميذهم.
وصرح هو مرة في الاسفار 4 161 بجمعه بين الطريقين إذ علل اختلافه مع بعض مشايخ الصوفية في بعض أقوالهم، فقال: لان من عادة الصوفية الاقتصار على مجرد الذوق والوجدان فيما حكموا عليه. واما نحن فلا نعتمد كل الاعتماد على ما لا برهان عليه قطعيا، ولا نذكره في كتبنا الحكمية.
ولم يزل يشنع على من يستعمل أحد المسلكين دون الآخر، كقوله في مفاتيح الغيب ص 3 ومثله في الاسفار ص 4: ولا تشتغل بترهات الصوفية ولا تركن إلى أقاويل المتفلسفة، وهم الذين إذا جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن. وقانا الله وإياك يا خليلي من شر هاتين الطائفتين ولا جمع بيننا وبينهم طرفة عين.
بل عبر في مقدمة تفسير الفاتحة عن الطائفة الأولى بالمبتدعين المضلين، وعن الطائفة الثانية بالمعطلين الضالين. ثم قال: لان كلهم من أولياء الشياطين وأبناء الظلمات وأهل الطاغوت.
إذن فلسفته التي يدعو إليها ويحلف فيها هي الجمع بين طريقة المشائين وطريقة الاشراقيين والتوفيق بينهما. وعلى هذا تبتني مدرسته العلمية تعليمه وارشاده لأبنائه الروحانيين ولأجلها ألف معظم كتبه لا سيما الاسفار، إذ قال في مقدمته آخر ص 3: قد اندمجت فيه العلوم التألهية في الحكمة البحثية، وتدرعت فيه الحقائق الكثيفة بالبينات التعليمية ولا يجد غنى للسالك باحدى الطريقتين عن الأخرى، كما سبق.
وهذه في الحقيقة مدرسة جديدة للفلسفة الأهلية لم يعهد لاحد قبله سلوكها والدعوة إليها صراحة، الا ما قد يظن في أستاذه السيد الداماد، فيكون عنه اخذها فجلاها وبين معالمها فان لم يكن فيها هو المجدد المؤسس فهو الموضح لها المشيد لأركانها المعلن بها.
ثم بعد هذا يرى ان الشرع والعقل متطابقان في جميع المسائل الحكميات الاسفار: ص 75. وأعقب هذا التصريح بقوله: حاشا الشريعة الحقة الإلهية البيضاء ان تكون احكامها مصادمة للمعارف اليقينية الضرورية. وتبا لفلسفة تكون قوانينها غير مطابقة للكتاب والسنة.
وهذه مدرسة أخرى له في المعرفة، وهي التوفيق بين الشرع الاسلامي وبين الفلسفة اليقينية وعلى هذا لم يفتأ يستشهد على كل مسالة حكمية عويصة بالآيات القرآنية والآثار الاسلامية وهو بارع حقا في تطبيق ما يستشهد به منها على فلسفته.
والحق انه في هذه المدرسة مجدد مؤسس أيضا لم يعرف له نظير فيها.
وحاشا ان يكون استشهاده بالأدلة السمعية كما يسميها رياء لغرض دفع عادية المتهمين له بالخروج على الشرع، بل هو دائما يتبجح بأنه لا يرى أحدا يفهم اسرار القرآن الكريم والسنة كما يفهمهما هو، ويبالغ في التوفيق بين فلسفته والدين مبالغة تجعله أبعد ما يكون عن الرياء والدجل، حتى يكاد ان يجعل كتبه الفلسفية تفسيرا للدين، وكتبه الدينية كتفسير القرآن الكريم وشرح أصول الكافي تفسيرا للفلسفة. ولذا نقول إن كتبه في التفسير وشرح الحديث هي امتداد لفلسفته.
والحاصل ان الذي نستوضحه من أسلوبه والتأليف ان له فكرة واحدة يسعى إليها جاهدا في كل ما ألف، وهي ما تلخصها عبارته المتقدمة من أن الشرع والعقل متطابقان ولهذه الفكرة العميقة جزءان أو طرفان:
الطرف الأول تأييد العقل للشرع، والطرف الثاني تأييد الشرع للعقل.
ولكل من الطرفين جعل كتبا: فكتبه الفلسفية ألفها ويستهدف فيها تأييد ما جاء في الشرع الاسلامي بالفلسفة، وكتبه الدينية ألفها ويستهدف فيها تأييد ما جاء في فلسفته بالشرع. فحق ان نعد كتبه الفلسفية كتبا دينية ونعد كتبه الدينية كتبا فلسفية وهذا معنى ما قلناه آنفا ان كتبه الدينية كانت امتدادا لفلسفته.
وهو بهذا الأسلوب من المزج بين الفلسفة والدين والتوفيق بينهما سواء كان مصيبا أو مخطئا كان صاحب مدرسة جديدة أخرى هو المؤسس لها حقا، وان كان الواضع لبذرتها الخواجا نصير الدين الطوسي في التوفيق بين الفلسفة والكلام.
بل في الحقيقة ان فيلسوفنا له مدرسة واحدة هي الدعوة إلى الجمع بين المشائية والإشراقية والإسلام. هذه العناصر الثلاثة هي عمدة أبحاثه ومنهجه العلمي في مؤلفاته جعلت منه مؤسسا لمدرسة جديدة بكل ما لهذه الكلمة من معنى في الفلسفة الإلهية، ويمثلها حق التمثيل من كتبه أسفاره الأربعة.
منهجه العلمي في التاليف :
تبتني فلسفته في كل ما ألف حتى كتبه الدينية التي قلنا انها جزء من فلسفته وامتداد لها على حصر العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية في العلم بالله وبصفاته وملكه وملكوته، والعلم باليوم الآخر ومنازله ومقاماته، لأنه يجد ان الغاية المطلوبة وكم يكرر ذلك في كتبه لا سيما في مقدماتها هي تعليم ارتقاء الانسان من حضيض النقص إلى أوج الكمال الذي لا حد له بالنسبة إلى الانسان خاصة من بين سائر المخلوقات وبيان كيفية سفره إلى الله تعالى، قال في الاسفار عن كتابه 1 9: عرضنا فيه بيان طريق الوصول إلى الحق وكيفية السير إلى الله.
ان هذا الهدف وحده يبتني عليه منهج التاليف في كل كتبه المطولة والمختصرة، وهو قطبها وعليه تدور رحاها. حتى كتبه الدينية التي يعنيه منها تطبيق الشرع على فلسفته، كما سبق آنفا.
ولهذا الهدف حسب تقريره ستة مقاصد: ثلاثة منها كالدعائم والأصول، وثلاثة كاللواحق. وركز مؤلفاته على الدعائم، وهي:
1- معرفة الحق الأول وصفاته وآثاره. وهو فن الربوبيات الذي هو جزء من الفلسفة الكلية. وإذا بحث عن الفلسفة الكلية كما في الاسفار فالبحث عنها انما هو عنده لهذه الغاية ليس إلا.
2- معرفة الصراط المستقيم، ودرجات الصعود اليه تعالى، وكيفية السلوك اليه وهو علم النفس الذي هو جزء من العلم الطبيعي.
وإذا بحث عن العلم الطبيعي كما في الاسفار أيضا فالبحث عنه لهذه الغاية عنده.
3- معرفة المعاد والمرجع اليه تعالى وأحوال الواصلين اليه والى دار رحمته علم المعاد.
هذه الدعائم الثلاث هي محور مؤلفاته عليها تدور ولها تستهدف واما اللواحق فلم يفرد لها تأليفا، وانما يذكرها عرضا وبالتبع في غضون أكثر مؤلفاته، لأنها لواحق تلك الدعائم. وهي:
1- معرفة المبعوثين من عند الله لدعوة الخلق ونجاة النفس، وهم قواد سفر الآخرة ورؤساء القوافل. يعني الأنبياء والأوصياء، بل الأولياء.
2- حكاية أقوال الجاحدين وكشف فضائحهم. وهم قطاع الطريق في سفر الآخرة.
3- تعليم عمارة المنازل والمراحل في ذلك السفر، وكيفية اخذ الزاد والراحلة له، والاستعداد برياضة المركب وعلف الدابة ويقصد بالمركب والدابة النفس وهو الذي يسمى علم الاخلاق.
وهو في تحصيل ذلك الهدف سلك الطريقة المتقدم ذكرها وهي الجمع بين المشائية والإشراقية والإسلام، اي انه يذكر الأدلة المنطقية على مطلوبه، ويذكر مكاشفاته ومشاهداته العرفانية ويستشهد بالأدلة السمعية.
وهذه المنهج يسلكه في أكثر كتبه لا سيما الاسفار أمها، نعم بعض المؤلفات خصه بالمسلك العرفاني، والبعض الآخر بالمسلك البحثي.
اما المختصة بالمسلك العرفاني فهي الشواهد الربوبية والعرشية وأسرار الآيات والواردات القلبية، على ما بينها من الاختلاف في التطويل والاختصار واسماؤها تنم عن ذوقها العرفاني وفي خصوص الأخير الواردات القلبية سلك مسلك الكهان المتحذلقين في التسجيع والتعقير وتلمس الاغراب، كأنما يريد: ان يظهرها بمظهر الإلهامات الإلهية التي ورد بها آمر قلب ودفعت إليها إشارة مشير غيب على حد تعبيره في مقدمة الشواهد ص 3 فامتثل ذلك الامر والمأمور معذور ويبدو انه يريد أن يقول إنه فاقد للاختيار وانه مجبور. فهي تشبه ان تكون عنده من نحو النصوص الدينية والأحاديث القدسية، كما يرى هو ذلك في كلمات ابن عربي قال في مقدمة العرشية: بل هذه قوابس مقتبسة من مشكاة النبوة والولاية مستخرجة من ينابيع الكتاب والسنة. من غير أن تكتسب من مناولة الباحثين ومزاولة صحبة المعلمين.
وسلك في شرحه للهداية الأثيرية وشرحه لآلهيات الشفا مسلك البحث الصرف اتباعا لطريقة المتن. ولذا لما ندت منه بادرة في السلوك العرفاني مرة في شرحه للشفا اعتذر عن ذلك فقال ص 167 من هذا الشرح: وليعذرنا اخوان البحث في الخروج عن طورهم تشوقا إلى طور المكاشفة وتحننا إلى عالم الملكوت ثم هو حينما يسلك الطريقين في تأليفه لا سيما في الاسفار يشرع أولا في البحث على طريقة النظار وأهل البحث ثم يذكر مشاهداته العرفانية ومكاشفاته اليقينية شفقة على المتعلمين كما يقول. وهي عادة الفلاسفة لسهولة التعليم الاسفار ج ص 18 ثم قال ص 19: ونحن أيضا سالكو هذا المنهج في أكثر مقاصدنا الخاصة، حيث سلكنا أولا مسلك القوم في أوائل الأبحاث وأوساطها ثم نفترق عنهم في الغايات، لئلا تنبو الطبايع عما نحن بصدده في أول الامر بل يحصل لهم الاستيناس به، ويقع في اسماعهم كلامنا موقع القبول إشفاقا بهم.
وفي الحقيقة ان هذا المنهج العلمي هو متفرد به بل هو المؤسس لمدرسته كما قلنا. ولم يعهد كالاسفار كتاب جمع بين الطريقين بأوسع ما يمكن من الجمع والتوفيق، فاحتشدت فيه آراء لناس على اختلاف مشاربهم، ومحاسبتها حسابا دقيقا علميا مع نصوع العبارة ورصانتها وسلامتها وحسن أداء المقاصد والصراحة في ايضاحها. والمعهود في كتب الفلسفة الغموض والرمز والتعقيد.
فسهولة التعليم التي أشار إليها بريئة منه كتب الفلسفة المتقدمة عليه، بل المتأخرة عنه، كيف ومن تعاليمهم ان يكتموا آراءهم إلا على فئة خاصة من تلاميذهم يفتحون لهم رموزهم، حيث يجدون منهم استعدادا لفهم مقاصدهم و الاستنارة بها.
وصاحبنا هو أيضا يوصي بهذه الوصية في كتمان مطالبه على الجلود الميتة اتباعا للحكماء الكبار أولي الأيدي والابصار، كما يقول، ولكن يأخذ بها في اتخاذ الرمز والتعقيد والغموض سبيلا لكتمان آرائه لا سيما في الاسفار بل بالغ في تصوير آرائه باختلاف العبارات والتكرار، حسبما أوتي من مقدرة بيانية وحسبما يسعه موضوعه من أدائه بالألفاظ وهو معبر موهوب لعله لم نعهد له نظيرا في عصره وفي غير عصره من أمثاله من الحكماء وإذا كان أستاذه الجليل السيد الداماد يسمى أمير البيان، فان تلميذه ناف عليه وكان أكثر منه براعة وتمكنا من البيان السهل وانما كان امتياز السيد باستعمال المجاز والكنايات والألفاظ المتخيرة والتسجيع ولأجله أعطي هذا اللقب أمير البيان، وتلميذه في نظري أحق به وأولى.
وإن كان هو يرى أن الحقائق لا يمكن فهمها عن مجرد الألفاظ فان الاصطلاحات وطبايع اللغات مختلفة ولقد أحسن جدا في هذا التعبير الحكيم، وتلك حقيقة واقعة معروفة، لكنه لم يدخر وسعا في تقريب مقاصده من مكان قريب وبعيد في كتابه الاسفار، وجاء فيه بأقصى جهد الكاتب البليغ في توضيحها ووفق توفيقا لم يتهيأ لمثله.
فجاء كما قال في مقدمته آخر ص 3 بحمد الله كلاما لا عوج فيه ولا ارتياب ولا لجلجة ولا اضطراب يعتريه، حافظا للأوضاع، رامزا مشبعا في مقام الرمز والاشباع، قريبا من الافهام في نهاية علوه، رفيعا عاليا في المقام مع غاية دنوه.
ثم قال: واستعملت المعاني الغامضة في الألفاظ القريبة من الاسماع.
ثم قال: انظر بعين عقلك إلى معانيه هل تنظر فيه من قصور؟ ثم ارجع البصر كرتين إلى ألفاظه هل ترى فيه من فطور.
وفي الحقيقة أن كتابه الاسفار جدير بهذا الوصف، لا سيما قوله فيه قريبا من الافهام في نهاية علوه فان قربه من الافهام باعتبار سهولة عبارته ورصانتها، ونهاية علوه باعتبار ما حوى من الآراء الدقيقة والأفكار السامية التي هي في مستوى كبار العلماء المنتهين، فإنه كما قال في المبدأ والمعاد عنه ص 3: وانا عملنا لمن له فضل قوة لتحصيل الكمال على وجه أبلغ وأوفر كتابا جامعا لفنون العلوم الكمالية التي هي ميدان لأصحاب الفكر وفيها جولان لأرباب النظر سميناه الاسفار الأربعة.
المآخذ عليه وحدة الوجود كثر التشنيع على هذا الرجل بعد وفاته عند رجال الدين حتى كان اسمه ومؤلفاته مثار السخط والاشمئزاز. ويكفي أن نعرف أن الشيخ احمد الأحسائي المتوفى سنة 1243 كفره الناس لميله إلى بعض آراء المترجم.
ومن المفارقات العجيبة في تلك العصور أن الأحسائي نفسه كان يقول بكفر صاحبنا ويشنع عليه. وبلية الأحسائي كلها أنه قرأ كتبه من دون حضور على أستاذ فلم يفهمها كما يجب، وكان ذكيا معتدا بنفسه، فأصيب بداء الغرور فاشتط من جهته في تأثره بها عقيدة، واشتط من جهة أخرى في بحث آرائه ناقدا. وفي كلتا الجهتين كان متورطا.
بل صاحبنا قد لاقى من العنت في زمانه ما دفعه إلى اعلان تذمره من اهله والسخط عليهم في عدة تصريحات ثائرة عنيفة في أكثر كتبه، لا سيما في مقدماتها. بل الجاه ذلك إلى أن يهرب بنفسه فينزوي في بعض النواحي البعيدة، على ما سبق ومن امض التشنيعات عليه في نظري أن يقال: في صدد الثناء على ولده ميرزا إبراهيم: " وهو في الحقيقة مصداق يخرج الحي من الميت " وعلل ذلك بأنه " كان على ضد طريقة والده في التصوف والحكمة " بينما أن الوالد هذا لا يرى في غير الحكمة والعرفان حياة للنفس الانسانية، بل من يتجرد عن ذلك يقسو عليهم فيعبر عنهم باهل الجلود الميتة. ومن اللازم أن نشير إلى جملة من المؤاخذات البارزة التي سجلت عليه من قبل المترجمين له:
أحدها رأيه في وحدة الوجود:
إن الرأي المعروف بوحدة الوجود على اجماله يعتبر من سمات المتصوفين التي تدفعهم إلى دعوى الشطحات والمواجدة وعلم المغيبات وما إليها، ويعد من أكبر الوصمات فيهم الملازمة لطعنهم بالكفر والزندقة.
وهو يساوق عند الناس مقالة الحلول والتناسخ. وهذه الكلمات وحدها مدعاة لإثارة الشعور بكراهية القائل بها، وللاستنكار لأقواله والتسرع بنسبته إلى الكفر، وأن لم تتحدد معانيها ومفاهيمها بالضبط، ولم تعرف العامة السر في التكفير بها.
قال الشيخ احمد الأحسائي في شرحه للعرشية ناقدا المولى محسن الفيض ص 12: فإذا لم يكن قوله هذا قولا بوحدة الوجود إذن؟.
وموضع الشاهد نقله الاجماع على تكفير معتقد وحدة الوجود.
اما السر في الكفير بها، فقد قيل: أن لازم هذه المقالة أن يكون أمير المؤمنين ع وقاتله ابن ملجم مثلا ممدوحين ناجبين. وكذا موسى وفرعون، والحسين ع ويزيد، وهكذا الخلق كلهم سعيدهم وشقيهم اما لا شقي أو لا سعيد. وقيل: أن لازمها أن يتصف الله تعالى بصفات الممكنات أو تتصف الممكنات بصفات الواجب، أو تكون هو إياها أو هي إياه، فتكون واجبة الوجود أو معبودة، فتصح العبادات لفرعون والأصنام والشمس والقمر وهكذا. قال الشيخ احمد الأحسائي في شرح العرشية ص 17 مخاطبا للمولى محسن الفيض متهكما: قل انا الله، ولا تخف فإنك بالتصريح تستريح وتريح.
وعلى كل حال فقد اقترنت مقالة وحدة الوجود بإطار من صفة المروق من الدين والكفر والزندقة، مع أن لها كما سيأتي عدة معان ربما لا يكون لأحدها تلك اللوازم الباطلة ولا غيرها. ولكن لا صبر للرأي العام على التفكير في ذلك، والتفكيك بين المعاني وتوجيه كلام القائل بها.
ولذلك كان يتحاشى المترجم التعبير بعبارة وحدة الوجود تعبيرا صريحا واضحا اما تلامذة مدرسته فقد بالغوا في تصويره القول بالوحدة على الوجه الذي لا يلزم منه تلك اللوازم الباطلة ولا غيرها وأنه ليس المراد من الوحدة الاتحاد الذي يفهم من ظاهر الكلمة وعندهم أن هذا المعنى لا يفهمه الا الأوحدي من الأذكياء والفضلاء. وإذا انطلى على العامة وأشباه العامة لفظ وحدة الوجود فذلك شان من لا يفهم الاسرار الفلسفية، فيشنع على قائلها. وقال هو في تفسير سورة البقرة ص 278: أن أكثر الناس يتنازعون في مسالة لا يعرفون بعد موضوعها ولا محمولها، فقبل تحرير محل النزاع يخاصم بعضهم بعضا ويكفر بعضهم بعضا ويتندرون بقصة الشيخ محمد كاظم في الروضة الحسينية حينما كان في تعقيبه بعد صلاة الصبح يلعن بتسبيحة كاملة الملا صدر، وكل واحد من جماعة آخرين بتسبيحة كاملة منهم المولى محراب وهو الحكيم المولى محراب علي الأصفهاني من اعلام القرن الثاني عشر. وكان هذا الحكيم صدفة جالسا إلى جنبه يستمع إلى هذه التسبيحات القدسية، وهو لا يعرفه وقيل: أنه جاء متخفيا فارا إلى كربلاء من أصفهان بعد تكفيره فيها فقال للشيخ: لما ذا تلعن هؤلاء؟
أ تعرفهم؟، فقال: لأنهم يقولون بوحدة واجب الوجود فلم يفرق بين وحدة الوجود ووحدة واجب الوجود فقال له ببرودة دم متهكما: حق من مثلك أن يلعن من يقول بوحدة واجب الوجود حتى لا ينتشر مثل هذا الاعتقاد.
وسواء صحت هذه القصة الطريفة أم لم تصح، فإنها ترمز عندهم إلى عدة أشياء: منها عدم تمييز العامة للواضحات واضطهادهم للحكماء بما لا يعرفون ومنها اللوم على الحكماء أن يصرحوا بما لا تتحمله عقول العامة، ويحق عليهم اللعن من هذه الجهة، ومنها أن القول بوحدة الوجود الذي يذهب اليه هؤلاء العرفاء راجع في الحقيقة إلى القول بوحدة واجب الوجود. اي أن التوحيد الحقيقي الذي لا يشاب بالشرك لا يصح الا إذا قلنا بوحدة الوجود، اي أن التوحيد الحقيقي الذي لا يشاب بالشرك لا يصح الا إذا قلنا بوحدة الوجود، لأن التوحيد توحيد في العبادة وتوحيد في الخلق وتوحيد في الوجود. ويعبر عنه صدر المتألهين في كثير من الواقع بالتوحيد الخاص أو توحيد الأخصي. فإذا كان التوحيد كفرا فعلى الاسلام السلام!
بل يقولون: إذا نفينا وحدة الوجود التي يفسرها صدر المتألهين يلزمنا القول بالشرك في الحقيقة. وهو دائما يقول: انما الناس يعبدون أصناما ينحتونها بأوهامهم، ويستشهد بكلام للإمام الباقر ع: كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مصنوع مثلكم مردود إليكم.
ولأجل أن نجلي غرض صدر المتألهين وتلاميذ مدرسته في هذا الباب، نقول: أن الأقوال في المسالة يمكن تصويرها في ثلاثة وجوه:
1- تعدد الوجود والموجود. وهذا هو الذي يتصوره عموم الناس.
2- وحدة الوجود والموجود، وأن التعدد الذي يبدو للعامة في الوجود والموجود انما هو تعدد ظاهري مجازي وفي الحقيقة لا تعدد لكل منهما. وهذا هو المذهب المعروف المنسوب إلى المتصوفة، الذي قال عنه الأحسائي أن العلماء مجمعون على تكفير معتقده باعتبار أنه يفهم منه الحلول أو الاتحاد بين الخلق والمخلوق.
3- وحدة الوجود وتعدد الموجود. وهو المنسوب إلى بعض المتألهين، كما حكاه في الاسفار 1: 16 ورد عليه من عدة وجوه، ولكنه نفسه في رسالة سريان الوجود يظهر منه الميل اليه، ومن هنا نستظهر أن هذه الرسالة ألفها في مرحلته الأولى من حياته العلمية. قال فيها ص 138 عن الممكنات: فهي موجودات متعددة متكثرة في الخارج ولها كثرة حقيقية عينية، فالوجود واحد والموجود متعدد متكثر. هذه الاحتمالات الثلاثة المتصورة كل واحد منها به قائل، ولم يبق الا الاحتمال الرابع وهو تعدد الوجود ووحدة الموجود فليس به قائل لوضوح استحالته.
اما الذي استقر عليه رأي المترجم في كتاب الاسفار وغيره، فلا يتفق مع تلك الأقوال الثلاثة كلها، بل إن لم يكن قولا رابعا فهو جمع بين الأقوال، يعني أنه يقول أن الاحتمالات الأربعة كلها صحيحة ويجب القول بها جمعا. فان الذي يراه أن الوجود متعدد حقيقة، ولكنه في عين الحال الوجود واحد حقيقة والموجود أيضا واحد حقيقة فإن شئت قلت بتعدد الوجود والموجود أو بوحدة الوجود والموجود أو بوحدة الوجود وتعدد الموجود أو بتعدد الوجود ووحدة الموجود فكله صحيح ولكن بشرط الجمع بين هذه الأقوال كلها. وهذا من العجيب حقا، ويبدو أنه متهافت متناقض، غير أنه يصر عليه كل الاصرار ويقول أن فهمه يحتاج إلى فطرة ثانية.
ويرتفع التهافت الظاهر بان يكون معنى الوجود متعددا حقيقة أنها الحقيقة في قبال المجاز اللغوي، ومعنى أن الوجود واحد حقيقة أنها الحقيقة في قبال المجاز العرفاني. قال في المبدأ والمعاد ص 114: ليس اطلاق الوجود على ما سوى الله مجازا لغويا بل عرفانيا عند اهل الله.
ولكن يجد أن العبارة قاصرة عن أداء هذا المقصد لغموضه ودقة مسلكه وبعد غوره، فيشتبه على الأذهان ويختلط عند العقول. ولذا طعنوا في كلام الأكابر بأنه مما يصادم العقل الصريح والبرهان الصحيح.
ونكتة الغموض في هذا المسلك وبعد غوره أنه يرى أن الوحدة في الوجود والموجود عين الكثرة، والكثرة فيهما عين الوحدة. وهذا هو معنى المجاز العرفاني في التعدد، لا أن هويات الممكنات أمور اعتبارية محضة وحقائقها أوهام وخيالات لا تحصل لها إلا بحسب الاعتبار، فان هذا ليس معنى المجاز الذي يراه.
ولما كانت الوحدة عين الكثرة، فان الظاهريين لما نظروا إلى الوجود و الموجود بعين واحدة وهي اليسرى واقتصروا عليها رأوا الكثرة والتعدد.
والمتصوفون لما نظروا إليهما بعين ثانية وهي اليمنى واقتصروا عليها رأوا الوحدة ولم يروا سوى الله اما الكامل الراسخ فهو ذو العينين السليمتين:
ويعلم أن كل ممكن زوج تركيبي له وجهان، وجه إلى نفسه ووجه إلى ربه، فبالعين اليمنى ينظر إلى وجه الحق اي وجه ربه فيعلم أنه الفائض على كل شئ والظاهر في كل شئ فيعود اليه كل خير وكمال وفضيلة وجمال. وبالعين اليسرى ينظر إلى الخلق اي وجه نفسه ويعلم أنه ليس له حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ولا شان الا قابلية الشؤون والتجليات وفي ذواتها اعدام ونقائص، قائلا لسان مقاله طبق لسان حاله:
رق الزجاج ورقت الخمر * فتشابها وتشاكل الامر
فكأنه خمر ولا قدح * وكأنه قدح ولا خمر والسر
في ذلك: أن الوجودات وأن تكثرت وتمايزت الا أنها من مراتب تعينات الحق الأول وظهورات نوره وشؤونات ذاته. لا أنها أمور مستقلة وذوات منفصلة باعتبار أنها معلولة للحق الأول والمعلول طور من أطوار العلة وشان من شؤونها فالوجود الحقيقي ظاهر بذاته بجميع أنواع الظهور ومظهر لغيره، وبه تظهر الماهيات، وله ومعه، وفيه، ومنه. ولولا ظهوره في ذوات الأكوان واظهاره لنفسه بالذات ولها بالعرض لما كانت ظاهرة موجودة بوجه من الوجوه، بل كانت باقية في حجاب العدم وظلمة الاختفاء.
ويستشهد دائما بكلمات أمير المؤمنين ع لأداء هذا الغرض كقوله: هو مع كل شئ لا بمقارنة وفي كلمة أخرى لا بممازجة وغير كل شئ لا بمزايلة وفي حكمة أخرى لا بمباينة لأن وجوده منبسط على جميع الكائنات، وجميع الموجودات انما هي رشحات نوره، وإن كان كل موجود بحدوده العدمية وبقيوده الإمكانية غير الله تعالى. ويضرب لذلك أمثلة في الاسفار لتقريب هذا المعنى يطول ذكرها، كتقريبه بانبساط نور الشمس على المرئيات، وبصورة المرآة وبأمواج البحر.
وعلى كل حال فالمترجم يتفق مع القائلين بتعدد الوجود والموجود من دون تجوز، ولكن لما كان كل وجود معلولا فهو في حد ذاته متعلق بغيره ومرتبط به، فيجب أن تكون ذاته الوجودية ذاتا تعليقة وجوده وجودا تعليقا، لا بمعنى أنه شئ وذلك تكون ذاته الوجودية ذاتا تعلقية وجوده وجودا تعلقيا، لا بمعنى أنه شئ وذلك الشئ موصوف بالتعلق، بل هو بما هو عين معنى التعلق بشئ.
إلى أن يقول: ولا يمكن للعقل أن يشير في المعلول إلى هوية منفصلة عن هوية موجده حتى تكون هناك هويتان مستقلتان في الإشارة العقلية إحداهما مفيضة والأخرى مفاضة.
ويتفق أيضا مع المتصوفة في القول بوحدة الوجود والموجود من دون تجوز، ولكن لا بان يفهم من ذلك الحلول والاتحاد لأن ذلك معناه الاثنينية في أصل الوجود ولا بان يفهم أن الممكنات اعتبارات محضة، كيف وأن لكل منها آثارا مخصوصة واحكاما خاصة ولا نعني بالحقيقة الا ما يكون مبدأ اثر خارجي ولا نعني بالكثرة الا ما يوجب تعدد الاحكام والآثار، فكيف يكون الممكن لا شيئا في الخارج ولا موجودا فيه.
والحاصل إذا ثبت تناهي سلسلة الموجودات إلى حقيقة واحدة بسيطة ظهر أن لجميع الموجودات إلى حقيقة واحدة هي الموجودة لها ذاته بذاته وجود وموجود وموجد. فهو الحقيقة، والباقي شؤونه.
فهذا هو معنى وحدة الوجود والموجود: أن الوجود والموجود المستغني بذاته واحد لا شريك له، وهو الذي يصدق عليه أنه وجود وموجود وموجد بنفس ذاته لا بجعل جاعل وليس هو الا الواجب تعالى. وما سواه فهو محض الفقر والفاقة والتعلق والارتباط بالواجب لا استقلال له في الوجود.
وهذا معنى المجاز العرفاني.
وفي الحقيقة ليس هذا قولا بوحدة الوجود، ولا ينبغي التعبير عنه بوحدة الوجود، كما لم يعبر هو. وانما هو قول بالتوحيد الخاص أو الأخصي ولسنا أعداء لكلمة التوحيد. بل أعداء الاتحاد.
قال في المشاعر ص 83: إياك أن تزل قدمك من استماع هذه العبارات وتتوهم أن نسبة الممكنات اليه تعالى بالحلول أو الاتحاد ونحوهما، هيهات! أن هذه تقتضي الاثنينية في أصل الوجود.
وإذا سلم صاحبنا من هذه المؤاخذة فكل مؤاخذة أخرى يهون امرها، وليس الانسان معصوما من الخطأ.
رأيه في ابن عربي يكثر من النقل عن محيي الدين بن عربي المتوفى سنة 638 في جميع كتبه ولا يذكره الا بالتقديس والتعظيم، كالتعبير عنه بالحكيم العارف والشيخ الجليل المحقق ونحو ذلك. بل في بعض المواضع ما يشعر بان قوله عنده من النصوص الدينية التي يجب التصديق بها ولا يحتمل فيها الخطأ.
هذا رأيه فيه، بينما أن ابن عربي هذا سماه بعض الفقهاء بمميث الدين أو ماحي الدين بل قيل: أن كل من يرى في ابن عربي حسن اعتقاد ويعتقد بآرائه فان الفقهاء لا بد أن يعدوه كافرا ولئن دافع عنه القاضي السيد نور الدين التستري في مجالس المؤمنين وأول كثرا من كلماته، فان صاحب الوضات ص 705 لم يرضه ذلك، وقال: لو كان الامر كذلك لما بقي على وجه الأرض كافر ولا هالك وكان المترجم استشعر هذه المؤاخذة عليه، فاعتذر عن ذلك في شرحه لأصول الكافي الذي له قراء مخصوصون غير قراء كتبه الفلسفية، فقال في مقدمته ص 5: وليعذرني إخواننا أصحاب الفرقة الناجية ما أفعله في أثناء الشرح وتحقيق الكلام وتبيين المرام من الاستشهاد بكلام بعض المشايع المشهورين عند الناس وأن لم يكن مرضي الحال عندهم، نظرا إلى ما قال امامنا أمير المؤمنين ع: لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال وطبعا لم يقصد ببعض المشايخ غير ابن عربي لأنه لا يستشهد بكلام غيره من مشايخ الصوفية الا نادرا جدا.
ولكن هذا الاعتذار، وتبريره بقول أمير المؤمنين ع لم يرفع المؤاخذة عليه في الاستشهاد بكلامه لأنه أولا لم يعتذر عنه في كتاب آخر، وثانيا حينما يخالفه في الرأي كثيرا ما يحاول توجيه كلامه على الوجه الذي يليق به، اكبارا له باعتباره من أعاظم الآلهيين القديسين عنده خذ مثالا لذلك مخالفته في مسالة علم الله، فإنه استعظم عليه أن يقول بثبوت المعدومات فقال في الاسفار معتذرا عنه وذكره بلفظ الجمع باعتباره الممثل لطائفة مشايخ الصوفية: لكن لحسن ظننا بهؤلاء الأكابر لما نظرنا في كتبهم ووجدنا منهم تحقيقات شريفة مطابقة لما أفاضه الله على قلوبنا مما لا شك فيه حملنا ما قالوه ووجهنا ما ذكروه حملا صحيحا ووجيها... ثم ذكر توجيهه لقوله.
وهذا الاعتذار عنه يجعل الاعتذار عن الاستشهاد بأقواله لا قيمة له في نظر من يرى في ابن عربي مميتا للدين أو ماحيا له.
وأعظم من ذلك أنه في مسالة حدوث العالم في السفر الثاني من الاسفار يذكر فصلا فيه بعنوان فصل في نبذ من كلام أئمة الكشف والشهود من اهل هذه الملة البيضاء في حدوث العالم، ص 176. ولا يذكر في هذا الفصل الا كلمات لأمير المؤمنين ع ثم يقول:
واما الكلام اهل التصوف والمكاشفين فينقل عبارات لابن عربي فقط، وحينما يختمها يقول: انتهى كلامه الشريف فعده من أئمة الكشف والشهود وجعله في صف أمير المؤمنين عليه السلام، ووصف كلامه بالشريف يجعله أعظم من أن يصح في الاعتذار بأنه لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قيل.
وهو بعد لا يجعل أحدا من الفلاسفة في رتبته، حتى الشيخ الرئيس والشيخ نصير الدين الطوسي، فإنه لا يتأخر عن نقدهما ولا يتحرج من تفنيد آرائها دون ابن عربي. وقد سمعت كيف كان يتحاشى من مخالفته ويوجه كلامه. وإذا خالفه في بعض نكات البحث فإنه يرقق العبارة بما لا يوجب طعنا فيه راجع الاسفار 4: 161 و 166 على الضد من مخالفته للشيخين الرئيس والطوسي.
وأكبر الظن أن الذي اخذ بمجامع قلب صاحبنا صدر المتألهين من هذا الشيخ اعجابه بآرائه في الوجود التي قال عنها كما تقدم: لما نظرنا في كتبهم وجدنا منهم تحقيقات شريفة مطابقة لما أفض الله على قلوبنا وتغافل عن آرائه الأخرى التي يختلف معه فيها أو لم يطلع عليها على أبعد الفروض. وفي الواقع لا يريد من التعبير بكتبهم الا كتب هذا الشيخ وتلاميذه. ولا يريد من التحقيقات الشريفة الا آراءه في الوجود واحكام الموجودات التي هي أعني هذه الآراء سر فلسفة صاحبنا في جميع مذهبه العرفاني. قال في المشاعر ص 5: ولما كانت مسالة الوجود رأس القواعد الحكمية، ومبنى المسائل الإلهية والقطب الذي تدور عليه رحى علم التوحيد وعلم المعاد وحشر الأرواح والأجساد، وكثير مما تفردنا به باستنباطه وتوحدنا باستخراجه فمن جهل بمعرفة الوجود يسري جهله في أمهات المطالب ومعظماتها والذهول عنها.
وكم يتبجح في كل مناسبة انها لم تنفتح لغيره من ذوي الأبحاث النظار كالشيخ الرئيس وأضرابه، وفي جنب ذلك يستشهد بكلام ابن عربي لتأييد آرائه. قال في الاسفار 4: 124: أن هذه الدقيقة وأمثالها من احكام الموجودات لا يمكن الوصول إليها الا بمكاشفات باطنية... ولا يكفي فيها القواعد البحثية.... ثم قال بعد صفحة عن الشيخ الرئيس: والعجيب أنه كلما انتهى بحثه إلى تحقيق الهويات الوجودية دون الأمور العامة تبلد ذهنه وظهر منه العجز.
وفي موضع آخر من هذا السفر ص 130 يقول ويعني نفسه:
اني اعلم من المشتغلين بهذه الصناعة من كان رسوخه بحيث يعلم من أحوال الوجود أسرارا تقصر الافهام الذكية عن دركها، ولم يوجد مثلها في زبر المتقدمين والمتأخرين من الحكماء والعلماء، لله الحمد وله الشكر.
وبالطبع لا يقصد بزبر المتأخرين ما يشمل زبر ابن عربي كيف وهو لا يفتر من الاستشهاد بأقوال هذا الشيخ في أكثر هذه المجالات تأييدا لآرائه.
موقفه مع الفقهاء :
من الأمور التي سجلت على المترجم تحامله على الفقهاء وتوهينه لهم، بل على كل من اشتغل في العلوم، عدا من لهم رسوخ في الحكمة العرفانية.
قال صاحب المستدرك ج 3 ص: قد أكثر في كتبه من الطعن على الفقهاء وحملة الدين وتجهيلهم وخروجهم من زمرة العلماء.
والحق أن صاحبنا تجاوز الحد في الشكوى الثائرة والنقد القاسي الذي لا يطاق راجع الرسائل الثمان له ص 258 في رسالة الواردات القلبية وفي تفسيره ص 352 في تفسير آية الكرسي، حينما بحث عن مسالة انقطاع العذاب، واستشعر مخالفة كلامه لاجماع الفقهاء اخذ يقارن بين أصحابه أصحاب الشهود والعرفان وبين الفقهاء، فالفقهاء عنده وأن كانوا عالمين باحكام الله الا انهم في معرفة الذات والصفات والأفعال الآلهية كباقي المقلدين من المؤمنين، بخلاف اهل التوحيد الشهودي.
ثم يطلب من خصومه وهم الفقهاء الا يظن أحد منهم في اهل التوحيد الشهودي أن ورعهم في أمور الدين واحتياطهم في عدم القول في مسالة شرعية بمجرد الظن والتخمين يكون أقل من ورع غيرهم واحتياطهم. هيهات! هذا من بعض الظن.
ثم يأخذ بالثناء على اهل التوحيد الشهودي بما يرفع من ضبعهم، ثم يقيسهم بغيرهم وهم من الفقهاء فيقول: وانى يوجد لغيرهم ما كان لهم. وهم في الحقيقة أولياء الله وقوام الدين وفقهاء شريعة سيد المرسلين.
وهنا حتى كلمة الفقهاء يريد أن يسلبها من علماء الفقه ويعطيها لأصحاب الشهود.
وزاد على ذلك حتى جعل كل آية قرآنية، وكل حديث نبوي، في مدح المؤمنين، مختصا باهل الشهود التوحيدي، إلى أن يقول: فالقدح من أحد فيهم في مسالة اعتقادية دينية يدل على قصور رتبة القادح وسوء الفهم وقلة انصافه. وأكد اختصاص صفة المؤمنين بالعرفاء في اسرار الآيات ص 8 بل لا يرى للفقهاء شانا في المعرفة والعلم والدين، إذ هو من جهة ينقدهم في تعظيمهم للفقه، ولا يرى من الجدير بالإنسان أن يصرف عمره فيه، ومن جهة ثانية ينقد تهاونهم بالحكمة والفلسفة وأهلها، مع ما يشكوه مر الشكوى في تحقيرهم له المبدأ والمعاد ص 278 إذ ما كان له عند الناس رتبة أدنى من آحاد طلبة العلم، ولا عند العلماء الذين أكثرهم أشقى من الجهلاء قدر أقل تلاميذهم. وما أقسى كلمته عنهم:
أكثرهم أشقى من الجهلاء.
ولا ندري هل أن تحامل بعضهم عليه في مبدأ أمره هو الذي دفعه إلى تعميم هذا النقد القاسي أو أن تحامله عليهم هو الذي دفعهم إلى نقده وتوهينه.
وعلى كل حال، فهو لم يختص بنقد الفقهاء، بل تجاوز إلى نقد جميع الناس على اختلاف طبقاتهم وطرقهم، من الحكماء أصحاب البحث والمتكلمين إلى المتصوفين والأطباء وعلماء اللغة والمؤرخين. بل اعتبر جميع الناس هالكين، وإن الايمان الحقيقي في غاية الندرة بل لا يوجد في كل عصر إلا واحد أو اثنان أسرار الآيات له ص 7 بل عنده أكثر أهل الاسلام ظاهرا أهل الكفر والشرك باطنا.
ولم يرض أن يشتغل أحد بغير الحكمة العرفانية، وكل ما عداها علوم جزئية غير ضرورية الاشتغال بها مضيعة للعمر وابتعاد عن الوصول إلى النعيم الدائم، فنقد ابن سينا الأسفار ج 4 ص 127 في اشتغاله بالعلوم الجزئية، كاللغة، ودقائق الحساب وفزار نماطيقي وموسيقى وتفاصيل المعالجات في الطب وذكر الأدوية المفردة والمعاجين وأحوال الدريانات والسموم والمراهم والمسهلات ومعالجة الفروح والجراحات.
وكأنه إنما يعدد كل هذه التفاصيل لأجل توهينها في نظر القارئ وتسخيفها، باعتبارها أمورا غير ضرورية والاشتغال بها اشتغال بأمور الدنيا وحبائلها، مع أن ابن سينا في نظره يجب أن يكون معرضا عن الخلق طالبا للخلوة آنسا بالله آيسا عن غيره.
ومن تهكماته في المشتغلين بغير الحكمة العرفانية قوله في أسرار الآيات ص 65: إن كنت من أهله وإلا فغض بصرك عن مطالعة هذا الكتاب يعني أسرار الآيات والتدبر في غوامض القرآن. وعليك بممارسة القصص والأخبار والروايات وعلم السير والأنساب، وتتبع العربية واللغة وتحمل الرواية من غير دراية، وما هو عندك كالنتيجة للكل يعرض بما يذكره الفقهاء في علم الأصول من لزوم دراسة بعض العلوم مقدمة للفقه من البحث عن المسائل الفرعية الخلافية، ونوادر تفريعات الطلاق والعتاق والسلم والرهن والإجارة وقسمة المواريث....
إلى أن يقول: وقد نصب الله لها كسائر الأمور التي هي أدون منزلة منها أقواما يعظمون الأمر فيها ويصرون عليها ويفرحون بها. وكل حزب بما لديهم فرحون. قيمة كل امرئ على قدر همته.
وهكذا ينقم على الفقهاء علمهم، كما ينقم على غيرهم. ولا يرضى بغير الحكمة علما وبغير الحكماء علماء.
وهذا كله غلو مفرط في فلسفته، ولا لوم على الفقهاء ولا على غيرهم إذا كان عندهم موضع التهمة والتجريح وفي الحقيقة لم يقسوا عليه كما قسا هو عليهم.
وإذا أردنا أن نأخذ برأيه كله في هذا الباب لوجب أن نعطل جميع المعارف والعلوم وجميع الأعمال والمكاسب وجميع الأمور المدنية، ليبقى الانسان معتكفا في الكهوف منتظرا للواردات القلبية والمشاهدات العقلية، فيكون على حد تعبيره صوفيا صفا قلبه وحظي ضميره من كل شوب وغرض.
كان المنتظر من صاحبنا كفيلسوف خبر النفس الانسانية ومتطلباتها أن تكون نظرته إلى الانسان الاجتماعي بالطبع غير هذه النظرة الأنانية المتشائمة. والمنتظر منه كمسلم عرف الشريعة الاسلامية وما وضعت للبشر من تكاليف وأنظمة وقوانين أن يكون حكمه على الانسان غير هذا الحكم الرهباني الذي ما انزل الله به من سلطان.
وعلى كل حال، فإنه وهو يعرف أن كل انسان ميسر لما خلق له كما كرر ذلك في كتبه كان يجب أن تكون نظرته إلى أفراد الناس أكثر تقديرا للواقع، وإنصافا في الحكم وحبا في الخير ولا يبرر تحامله على الناس ذلك التحامل القاسي أنه لاقى عنتا منهم أشرقه بريقه، فان هذا ليس من شيمة العلماء الآلهيين الذين يتطلبون صلاح البشر وهدايتهم إلى الله تعالى. فلا ينبغي أن ينتقم لنفسه منهم.
وإذا كان قصده إقلاعهم عما هو عليه وإقبالهم على الحكمة والمعرفة الفلسفية فليس هذا طريق ترغيب البشر وتحبيذ سبل النجاة لهم بالعنف والشتم والتحقير. بل يلزم للمرشد الهادي أن يأخذ بأيدي الناس إلى الخير بالرفق والشفقة والمحبة.
وأكبر الظن أن فيلسوفنا كان مصابا بكبت عنيف نتيجة لحرمان قاس. وهو الذي دفعه فيما أظن إلى العزلة الطويلة في الجبال النائية خمسة عشر عاما كما تحدثنا عنه في الفصول السابقة، ودفعه إلى النفرة من الناس والنظر إليهم بمنظار أسود قاتم.
وإن كنت لم أستطع أن أقف على ظروفه الخاصة، لا حكم على مصدر ذلك الكبت ونوع ذلك الحرمان.
ولعل ذلك الكبت قد رافقه منذ الصغر، وهذا الذي حدد له اتجاهه الفلسفي وطريقته العرفانية الصوفية. وإن كان قد يعتقد هو أن تفكيره وعقله الواعي هو الذي ساقه إلى اختيار هذا السبيل.
وقد نجد ما يشير إلى ذلك الكبت والحرمان إعلانه للتذمر والنقمة والقسوة في النقد كلما وجد لذلك مجالا على الفقهاء على المتكلمين، على الحكماء، على الصوفية. وتكاد تكون أكثر تلك الاندفاعات لا شعورية منبعثة من عقله الباطن.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|