أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-3-2021
2074
التاريخ: 10-6-2021
8716
التاريخ: 5-11-2017
47191
التاريخ: 4-11-2017
3824
|
قال تعالى : {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام : 114 - 117].
قال تعالى : {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام : 114] .
أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهؤلاء الكفار الذين مضى ذكرهم {أفغير الله أبتغي حكما} أي : أطلب سوى الله حاكما ، والحكم والحاكم بمعنى واحد ، إلا أن الحكم أمدح ، لأن معناه من يستحق أن يتحاكم إليه ، فهو لا يقضي إلا بالحق ، وقد يحكم الحاكم بغير حق ، والمعنى : هل يجوز لأحد أن يعدل عن حكم الله رغبة عنه ، أو هل يجوز أن يكون حكم سوى الله يساويه في حكمه ؟
{وهو الذي} يعني : والله الذي {أنزل إليكم الكتاب} أي : القرآن {مفصلا} فصل فيه جميع ما يحتاج إليه ، وقيل : فصل فيه بين الصادق والكاذب في الدين .
وقيل : فصل بين الحلال والحرام ، والكفر والإيمان ، عن الحسن . ومعنى التفصيل : تبيين المعاني بما ينفي التخليط المعمي للمعنى ، وينفي أيضا التداخل الذي يوجب نقصان البيان عن المراد .
{والذين آتيناهم الكتاب} يعني بهم مؤمني أهل الكتاب . والكتاب هو التوراة والإنجيل ، وقيل : يعني بهم كبراء الصحابة ، وأصحاب بدر ، والكتاب : هو القرآن ، عن عطا {يعلمون أنه} أي أن القرآن {منزل من ربك بالحق} يعني بيان الحق أي : يعلمون أن كل ما فيه بيان عن الشيء على ما هو به ، فترغيبه وترهيبه ، ووعده ووعيده ، وقصصه وأمثاله ، وغير ذلك ، جميعه بهذه الصفة . وقيل : إن معنى {بالحق} : بالبرهان الذي تقدم لهم حتى علموه به {فلا تكونن من الممترين} أي :
من الشاكين في ذلك ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والمراد به الأمة ، وقيل : الخطاب لغيره أي : فلا تكن أيها الانسان ، أو أيها السامع . وقيل : الخطاب له صلى الله عليه وآله وسلم ، والمراد به الزيادة في شرح صدره ويقينه ، وطمأنينة قلبه وتسكينه ، كقوله تعالى : {فلا يكن في صدرك حرج منه} عن أبي مسلم .
- {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام : 115] .
ثم بين سبحانه صفة الكتاب المنزل فقال : {وتمت} أي : كملت على وجه لا يمكن أحدا الزيادة فيه ، والنقصان منه {كلمة ربك} أي : القرآن ، عن قتادة ، وغيره ، وقيل : معناه أنزلت شيئا بعد شيء ، حتى كملت على ما تقتضيه الحكمة ، وقيل : إن المراد بالكلمة دين الله كما في قوله : {وكلمة الله هي العليا} عن أبي مسلم . وقيل : المراد بها حجة الله على الخلق {صدقا وعدلا} ما كان في القرآن من الأخبار ، فهو صدق لا يشوبه كذب ، وما فيه من الأمر ، والنهي ، والحكم ، والإباحة والحظر ، فهو عدل {لا مبدل لكلماته} أي : لا مغير لأحكامه عن قتادة ، لأنه وإن أمكن التغيير والتبديل في اللفظ ، كما بدل أهل الكتاب التوراة والإنجيل ، فإنه لا يعتد بذلك . قال : وقد تطلق الكلمة بمعنى الحكم قال سبحانه {وكذلك حقت كلمة ربك} أي : حكم ربك ، ويقال عقوبة ربك .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صفة النساء : {إنهن هوان عندكم ، استحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى} . وقيل : معناه إن القرآن محروس عن الزيادة والنقصان ، فلا مغير لشيء منه ، وذلك أن الله تعالى ضمن حفظه في قوله {وإنا له لحافظون} ولا يجوز أن يعني بالكلمات الشرائع كما عنى بقوله {وصدقت بكلمات ربها} لأن الشرائع ، قد يجوز فيها النسخ والتبديل {وهو السميع} لأقوالكم {العليم} بضمائركم .
- {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام : 116 - 117] .
لما تقدم ذكر الكتاب ، بين سبحانه في هذه الآية ان من تبع غير الكتاب ، ضل وأضل ، فقال : {وإن تطع} يا محمد ، خاطبه صلى الله عليه وآله وسلم والمراد غيره ، وقيل : المراد هو وغيره ، والطاعة هي امتثال الأمر وموافقة المطيع المطاع فيما يريده منه إذا كان المريد فوقه ، والفرق بينها وبين الإجابة أن الإجابة عامة في موافقة الإرادة الواقعة موقع المسألة ، ولا يراعى فيها الرتبة {أكثر من في الأرض} يعني الكفار ، وأهل الضلالة ، وإنما ذكر الأكثر لأنه علم سبحانه أن منهم من يؤمن ويدعو إلى الحق ، ويذب عن الدين ، ولكن هم الأقل ، والأكثر الضلال . {يضلوك عن سبيل الله} أي : عن دينه .
وفى هذا دلالة على أنه لا عبرة في دين الله ومعرفة الحق ، بالقلة والكثرة ، لجواز أن يكون الحق مع الأقل ، وإنما الاعتبار فيه بالحجة دون القلة والكثرة {إن يتبعون الا الظن} أي : ما يتبع هؤلاء المشركون فيما يعتقدونه ، ويدعون إليه إلا الظن {وإن هم الا يخرصون} أي : ما هم إلا يكذبون ، وقيل : معناه أنهم لا يقولون عن علم ، ولكن عن خرص وتخمين . وقال ابن عباس : كانوا يدعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى أكل الميتة ، ويقولون : أتأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل ربكم؟
فهذا ضلالهم {إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله} خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وإن عنى به جميع الأمة .
ويسأل فيقال : كيف جاز في صفة القديم سبحانه أعلم ، مع أنه سبحانه لا يخلو من أن يكون أعلم بالمعنى ممن يعلمه ، أو ممن لا يعلمه ، وكلاهما لا يصح فيه أفعل؟ والجواب : إن المعنى هو أعلم به ممن يعلمه ، لأنه يعلمه من وجوه لا يخفى على غيره ، وذلك أنه يعلم ما يكون منه ، وما كان ، وما هو كائن إلى يوم القيامة ، على جميع الوجوه التي يصح أن يعلم الأشياء عليها ، وليس كذلك غيره ، لأن غيره لا يعلم جميع الأشياء وما يعلمه لا يعلمه من جميع وجوهها ، وأما من هو غير عالم أصلا ، فلا يقال الله سبحانه أعلم منه ، لأن لفظة {أعلم} يقتضي الاشتراك في العلم ، وزيادة لمن وصف بأنه أعلم ، وهذا لا يصح فيمن ليس بعالم أصلا إلا مجازا .
{وهو أعلم بالمهتدين} المعنى : إنه سبحانه أعلم بمن يسلك سبيل الضلال المؤدي إلى الهلاك والعقاب ، ومن يسلك سبيل الهدى المفضي به إلى النجاة والثواب ، وفي هذا دلالة على أن الضلال والإضلال من فعل العبد ، خلاف ما يقوله أهل الجبر . وعلى أنه لا يجوز التقليد واتباع الظن في الدين ، والاغترار بالكثرة ، وإلى هذا أشار أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث قال للحارث الهمداني : {يا حار! الحق لا يعرف بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله} .
_______________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 142-146 .
{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا } . الحكم بفتح الحاء والكاف هو الحاكم الذي يحكم ويفصل بين الناس ، وتتصل هذه الآية بالصراع والعداء بين النبي والمشركين الذين اقترحوا عليه الخوارق ، والمعنى ان النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال للمشركين انكم تتحكمون في طلب المعجزات ، وتقترحون علي الاقتراحات ، وليس لي أن أتعدى حكم اللَّه ، وقد أنزل عليكم القرآن كافيا وافيا بما تحتاجون من معرفة الحق والحلال والحرام ، مغنيا عن غيره بمبادئه وتعاليمه ، مثبتا لصدقه بأسلوبه المعجز ، وشريعته الخالدة ، وأخباره عن كثير من المغيبات ، فطلبكم المزيد ، والحال هذه ، إن هو إلا عناد ومكابرة .
{ والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } . أي ان المنصفين من علماء اليهود والنصارى يعلمون علم اليقين بصدق القرآن ونبوة محمد ( صلى الله عليه وآله ) .
ومر نظيره في الآية 146 من سورة البقرة ج 1 ص 133 {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} معنى الامتراء الشك ، وقال كثير من المفسرين : الخطاب للنبي ، والمراد به غيره على طريق التعريض ، أما نحن فنرى ان الخطاب للنبي ، وهو المراد دون غيره ، مع علمنا بأن النبي لا يشك في القرآن ، بل ومحال عليه أن يشك ، وصح توجه الخطاب إليه على عصمته لأنه من الأعلى إلى من هو دونه ، من اللَّه لا من سواه . وتقدم ذلك أكثر من مرة .
{ وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وعَدْلًا } . المراد بكلمة اللَّه هنا القرآن أو الإسلام الذي أظهره اللَّه على الدين كله ولو كره المشركون ، وهذا هو المراد بتمامه ، أما معنى {صِدْقاً وعَدْلًا} فهو ان القرآن صادق في كل ما قال ، عادل في كل ما حكم وشرع {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ} لأنها صدق وعدل ، وكل ما هو صدق وعدل فهو من صلب الواقع ، ولا شيء يقال له صدق وحق وعدل إذا لم يكن له أساس واقعي ، وهذا الأساس لا يتغير ولا يتبدل ، أي لا تنفك عنه الآثار والنتائج المترتبة عليه { وهُوَ السَّمِيعُ } لما يقولون بما يفعلون ويضمرون .
{ وإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } . كل من دان بدين فإنه يؤمن بصدقه ايمانا مطلقا ، ويتعصب له تعصبا أعمى ، وكل من رأى رأيا فإنه يعتقد بصوابه ، وبأن ما عداه وهم وخيال ، وإذا أحصينا جميع الآراء والمعتقدات ، وقسناها بمقياس اللَّه وميزاته جاءت النتيجة ان أكثر الناس يتبعون الظن الخاطئ ، والحدس الكاذب . .
ومن أجل هذا أمر اللَّه نبيه ان لا يستمع إلى الناس ولا يقرهم على عاداتهم وتقاليدهم ، وان عليه أن يتبع ما أوحاه اللَّه إليه ، لأنه هو طريق الحق والهداية .
وإذا كان أكثر الناس على خطأ فيما يرون ويدينون فلا وزن - إذن - لأقوالهم وأحكامهم على هذا بالهداية ، وذاك بالضلال ، وانما الحكم في ذلك للَّه وحده ، أي لما بينه من الأصول والضوابط في كتابه الحكيم ، وهذا هو المقصود بقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } . ومن تلك الأصول الإلهية التي يتميز بها المحقون عن المبطلين قوله تعالى : {ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وعَمِلَ صالِحاً وقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت - 33] .
___________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 250-253 .
قوله تعالى : {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً} قال في المجمع : ، الحكم والحاكم بمعنى واحد إلا أن الحكم أمدح لأن معناه من يستحق أن يتحاكم إليه فهو لا يقضي إلا بالحق وقد يحكم الحاكم بغير حق . قال : ومعنى التفصيل تبيين المعاني بما ينفي التخليط المعمي للمعنى ، وينفي أيضا التداخل الذي يوجب نقصان البيان عن المراد ، انتهى .
وفي قوله : {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً} تفريع على ما تقدم من البصائر التي جاءت من قبله تعالى ، وقد ذكر قبل ذلك في القرآن أنه كتاب أنزله مبارك مصدق الذي بين يديه من التوراة والإنجيل ، والمعنى : أفغير الله من سائر من تدعون من الآلهة أو من ينتمي إليهم أطلب حكما يتبع حكمه وهو الذي أنزل عليكم هذا الكتاب وهو القرآن مفصلا متميزا بعض معارفه من بعض غير مختلط بعض أحكامه ببعض ، ولا يستحق الحكم إلا من هو على هذه الصفة فالآية كقوله تعالى : {وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [المؤمن : 20] .
وقوله : {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى} [يونس : 35] .
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ} إلى آخر الآية ، رجوع إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله بما يتأكد به يقينه ويزيد في ثبوت قدمه فيما ألقاه إلى المشركين من الخطاب المشعر بأن الكتاب النازل إليه منزل من ربه بالحق ففي الكلام التفات ، وهو بمنزلة المعترضة ليزيد بذلك رسوخ قدمه واطمئنان قلبه وليعلم المشركون أنه على بصيرة من أمره .
وقوله : {بِالْحَقِ} متعلق بقوله : {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} وكون التنزيل بالحق هو أن لا يكون بتنزيل الشياطين بالتسويل أو بطريق الكهانة كما في قوله تعالى : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ ، تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء : 222] أو بتخليط الشياطين بعض الباطل بالوحي الإلهي ، وقد أمن الله رسول من ذلك بمثل قوله : {عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ} [الجن : 28] .
قوله تعالى : {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الكلمة ـ وهي ما دل على معنى تام أو غيره ـ ربما استعملت في القرآن في القول الحق الذي قاله الله عز من قائل من القضاء أو الوعد كما في قوله : {وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [يونس : 19] يشير إلى قوله لآدم عند الهبوط : {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ} [البقرة : 36] وقوله تعالى : {حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} [يونس : 96] يشير إلى قوله تعالى لإبليس : {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص : 85] وقد فسرها في موضع آخر بقوله : {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود : 119] وكقوله تعالى : {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا} [الأعراف : 137] يشير إلى ما وعدهم أنه سينجيهم من فرعون ويورثهم الأرض كما يشير إليه قوله : {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ} [القصص : 5] .
وربما استعملت الكلمة في العين الخارجي كالإنسان مثلا كقوله تعالى : {إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [آل عمران : 45] والعناية فيه أنه عليه السلام خرق عادة التدريج وخلق بكلمة إلهية موجدة قال تعالى : {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران : 59] .
فظاهر سياق الآيات فيما نحن فيه يعطي أن يكون المراد بقوله : {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} كلمة الدعوة الإسلامية وما يلازمها من نبوة محمد صلى الله عليه وآله ونزول القرآن المهيمن على ما تقدم عليه من الكتب السماوية المشتمل على جوامع المعارف الإلهية وكليات الشرائع الدينية كما أشار إليه فيما حكى من دعاء إبراهيم عليه السلام عند بناء الكعبة : {رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة : 129] .
وأشار إلى تقدم ذكره في الكتب السماوية في قوله : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف : 157] وبذلك يشعر قوله في الآية السابقة : {وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ} وقوله : {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ} [البقرة : 146] إلى غير من ذلك الآيات الكثيرة .
فالمراد بتمام الكلمة ـ والله أعلم ـ بلوغ هذه الكلمة أعني ظهور الدعوة الإسلامية بنبوة محمد صلى الله عليه وآله ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب ، مرتبة الثبوت واستقرارها في مستقر التحقق بعد ما كانت تسير دهرا طويلا في مدارج التدريج بنبوة بعد نبوة وشريعة بعد شريعة فإن الآيات الكريمة دالة على أن الشريعة الإسلامية تتضمن جمل ما تقدمت عليه من الشرائع وتزيد عليها بما ليس فيها كقوله تعالى : {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى} [الشورى : 13] .
وبذلك يظهر معنى تمام الكلمة وأن المراد به انتهاء تدرج الشرائع من مراحل النقص إلى مرحلة الكمال ، ومصداقه الدين المحمدي قال تعالى : {وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف : 9] .
وتمام هذه الكلمة الإلهية صدقا هو أن يصدق القول بتحققها في الخارج بالصفة التي بين بها ، وعدلا أن تتصف بالتقسيط على سواء فلا يتخلف بعض أجزائه عن بعض وتزن الأشياء على النحو الذي من شأنها أن توزن به من غير إخسار أو حيف وظلم ، ولذلك بين هذين القيدين أعني {صِدْقاً وَعَدْلاً} بقوله {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ} فإن الكلمة الإلهية إذا لم تقبل تبديلا من مبدل سواء كان المبدل هو نفسه تعالى كأن ينقض ما قضى بتبدل إرادة أو يخلف ميعاده ، أو كان المبدل غيره تعالى كأن يعجزه غيره ويقهره على خلاف ما يريد كانت كلمته صدقا تقع كما قال ، وعدلا لا تنحرف عن حالها التي كانت عليها وصفها الذي وصفت به فالجملة أعني قوله : {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ} بمنزلة التعليل يعلل بها قوله : {صِدْقاً وَعَدْلاً} .
ومن أقوال المفسرين في الآية أن المراد بالكلمة والكلمات القرآن ، وقيل : إن المراد بالكلمة القرآن ، وبالكلمات ما فيه غير الشرائع فإنها تقبل التبديل بالنسخ والله سبحانه يقول : {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ} وقيل : المراد بالكلمة الدين ، وقيل : المراد الحجة ، وقيل : الصدق ما كان في القرآن من الأخبار والعدل ما فيه من الأحكام ، هذا .
وقوله تعالى : {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع المستجيب لما تدعونه بلسان حاجتكم ، العليم بحقيقة ما عندكم من الحاجة ، أو السميع بما يحدث في ملكه بواسطة الملائكة الرسل ، والعليم بذلك من غير واسطة ، أو السميع لأقوالكم ، العليم بأفعالكم .
قوله تعالى : {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} إلى آخر الآية . الخرص الكذب والتخمين ، والمعنى الثاني هو الأنسب بسياق الآية فإن الجملة أعني قوله : {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} والتي قبلها أعني قوله : {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ} واقعتان موقع التعليل لقوله : {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} إلخ ، واتباع الظن والقول بالخرص والتخمين سببان بالطبع للضلال في الأمور التي لا يسوغ الاعتماد فيها إلا على العلم واليقين كالمعارف الراجعة إليه تعالى والشرائع المأخوذة من قبله .
وسير الإنسان وسلوكه الحيوي في الدنيا وإن كان لا يتم دون الركون إلى الظن والاستمداد من التخمين حتى أن الباحث عن علوم الإنسان الاعتبارية والعلل والأسباب التي تدعوه إلى صوغه لها وتقليبها في قالب الاعتبار ، وارتباطها بشئونه الحيوية وأعماله وأحواله لا يكاد يجد مصداقا يركن الإنسان فيه إلى العلم الخالص واليقين المحض اللهم إلا بعض الكليات النظرية التي ينتهي إليها مما يضطر إلى الإذعان بها والاعتماد عليها .
إلا أن ذلك كله فيما يقبل التقريب والتخمين من جزئيات الأمور في الحياة ، وأما السعادة الإنسانية التي فيه فوز هذا النوع وفلاحه ، والشقاء الذي يرتبط به الهلاك الأبدي والخسران الدائم ، وما يتوقف عليه التبصر فيهما من النظر في العالم وصانعه والغرض من إيجاده وما ينتهي إليه الأمر من البعث والنشور وما يتعلق به من النبوة والكتاب والحكم فإن ذلك كله مما لا يقبل الركون إلى الظن والتخمين والله سبحانه لا يرتضي من عباده في ذلك إلا العلم واليقين ، والآيات في ذلك كثيرة جدا كقوله تعالى : {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء : 36] .
ومن أوضحها دلالة هذه الآية التي نحن فيها يبين فيها أن أكثر أهل الأرض لركونهم العام إلى الظن والتخمين لا يجوز طاعتهم فيما يدعون إليه ويأمرون به في سبيل الله وطريق عبوديته لأن الظن ليس مما يكشف به الحق الذي يستراح إليه في أمر الربوبية والعبودية لملازمته الجهل بالواقع وعدم الاطمئنان إليه ، ولا عبودية مع الجهل بالرب وما يريده من عبده .
فهذا هو الذي يقضي به العقل الصريح ، وقد أمضاه الله سبحانه كما في قوله في الآية التالية في معنى تعليل النهي عن الطاعة : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} حيث علل الحكم بعلم الله دون حكم العقل ، وقد جمع سبحانه بين الطريقين جميعا في قوله : {وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً وهذا أخذ بحكم العقل ـ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى} [النجم : 30] وفي ذيل الآية استناد إلى علم الله سبحانه وحكمه .
قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ذكروا أن {أَعْلَمُ} إذا لم يتم بمن ربما أفاد معنى التفضيل وربما استعمل بمعنى الصفة خالية عن التفضيل ، والآية تحتمل المعنيين جميعا فإن أريد حقيقة العلم بالضالين والمهتدين فهو لله سبحانه لا يشاركه فيها أحد حتى يفضل عليه ، وإن أريد مطلق العلم أعم مما كان المتصف به متصفا بذاته أو كان اتصافه به بعطية منه تعالى كان المتعين هو معنى التفضيل فإن لغيره تعالى علما بالضال والمهتدي قدر ما أفاضه الله عليه من العلم .
وتعدي أعلم بالباء في قوله : {أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} يدل على أن قوله : {مَنْ يَضِلُ} منصوب بنزع الخافض والتقدير : {أعلم بمن يضل} ويؤيده ما نقلناه آنفا من آية سورة النجم .
___________________________
1. تفسير الميزان ، ج7 ، ص 278-282 .
قال تعالى : {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام : 114-115] .
هذه الآية في الواقع هي نتيجة الآيات السابقة ، إذ تقول : بعد كل تلك الأدلة والآيات الواضحة التي تؤكّد التوحيد : {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً} (2) ؟ وهو الذي أنزل هذا الكتاب السماوي العظيم الذي فيه كل احتياجات الإنسان التربوية ، وما يميز بين الحق والباطل والنّور والظلمة ، والكفر والإيمان : {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً} .
وليس الرّسول والمسلمون وحدهم يعلمون أنّ هذا الكتاب قد نزل من الله ، بل إنّ أهل الكتاب (اليهود والنصارى) يعلمون ذلك أيضا ، لأنّ علائم هذا الكتاب السماوي قرءوها في كتبهم ويعلمون أنّه نزل من الله بالحق : {وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ} .
وعلى ذلك لم يبق مجال للشك فيه ، وكذلك أنت أيّها النّبي لا تشك فيه أبدا ، {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} .
هنا يبرز هذا السؤال : هل كان النّبي صلى الله عليه وآله وسلم يداخله أدنى شك ليخاطب بمثل هذا القول ؟
والجواب : هو ما سبق أن قلناه في مثل هذه الحالات ، وهو أن المخاطب في الحقيقة هم الناس ، وما مخاطبة النّبي مباشرة إلّا لتوكيد الموضوع وترسيخه ، وليكون التحذير للناس أقوى وأبلغ .
الآية التّالية تقول : {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
«الكلمة» بمعنى القول ، وتطلق على كل جملة وكل كلام مطولا كان أم موجزا ، وقد تطلق على الوعد ، كما في الآية : {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ {الْحُسْنى} عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا} [الأعراف : 136] ، لأنّ الشخص عند ما يعد يتلفظ ببعض الكلمات المتضمنة لمفهوم الوعد .
وقد يأتي بمعنى الدين والحكم والأمر للسبب نفسه .
أمّا بالنسبة لاستعمالها في هذه الآية فقيل إنّها تعني القرآن ، وقيل إنّها دين الله ، وقيل : وعد النصر الذي وعد الله نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم . وليس بين هذه تعارض ، فقد تكون الآية أرادت هذه المعاني جميعا ، ولأنّ الآيات السابقة كانت تشير إلى القرآن ، فتفسير الكلمة بالقرآن أقرب .
فيكون معنى الآية إذن : إنّ القرآن ليس موضع شك بأيّ شكل من الأشكال ، فهو كامل من جميع الجهات ولا عيب فيه ، وكل أخباره وما فيه من تواريخ صدق ، وكل أحكامه وقوانينه عدل .
وربّما يكون معنى «كلمة» هنا هو الوعد الذي جاء في العبارة التّالية {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ} إذ يتكرر هذا التعبير في القرآن الكريم كقوله تعالى : {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود : 119] وقوله سبحانه {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} [الصافات : 171-172] ، في أمثال هذه الآيات تكون الآية التّالية بيانا للوعد الذي ورد من قبل تحت لفظة «كلمة» .
وعلى ذلك يكون معنى الآية : لقد تحقق وعدنا بالصدق وبالعدل ، وهو أنّه ليس لأحد القدرة على تبديل أحكام الله .
وقد تتضمن الآية كل هذه المعاني .
وإذا كانت الآية تعني القرآن ، فذلك لا يتعارض مع كون القرآن لم يكن قد اكتمل نزوله حينذاك ، إذ المقصود هو أن ما نزل منه كان متكاملا ولا عيب فيه .
ويستند بعض المفسّرين إلى هذه الآية لإثبات عدم تحريف القرآن ، لأنّ تعبير {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ} تعني أنّ أحدا لا يستطيع أن يحدث في القرآن تبديلا أو تغييرا ، لا في لفظه ، ولا في إخباره ، ولا في أحكامه ، وأنّ هذا الكتاب السماوي الذي يجب أن يبقى حتى نهاية العالم هاديا للناس سيبقى محفوظا ومصونا من أغراض الخائنين والمحرفين .
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام : 116-117] .
نعلم أنّ آيات هذه السورة نزلت في مكّة ، يوم كان المسلمون قلّة في العدد ، ولعل قلّتهم هذه وكثرة المشركين وعبدة الأصنام كانت مدعاة لتوهم بعضهم أنّه إذا كان دين أولئك باطلا فلم كثر أتباعه؟! وإذا كان دين الإسلام حقّا ، فما سبب قلّة معتنقيه؟
ولدفع هذا التوهم يخاطب الله نبيّه بعد ذكر أحقيّة القرآن في الآيات السابقة قائلا : {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} .
وفي الجملة التّالية يبيّن سبب ذلك ، وهو أنّهم لا يتبعون المنطق والتفكير السليم ، بل هم يتبعون الظنون التي تخالطها الأهواء والأكاذيب ويمتزج بها الخداع والتخمين : {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (3) .
فيكون مفهوم الآية الشريفة أنّ الأكثرية لا يمكن أنّ تكون وحدها الدليل على طريق الحق ، ومن هذا نستنتج أنّه يجب التوجه إلى الله وحده لمعرفة طريق الحق ، حتى لو كان السائرون في هذا الطريق قلّة في العدد .
والدليل على ذلك يرد في الآية التّالية التي تؤكّد على أنّ الله عليم بكل شيء ولا مكان للخطأ في علمه ، فهو أعرف بطريق الهداية ، كما هو أعرف بالضالين وبالسائرين على طريق الهداية : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (4) .
هنا يبرز سؤال : يفهم من الآية أنّ الله سبحانه أعلم بطريق الهداية ، فهل هناك من يعلم طريق الهداية بدون هدى الله حتى كون الله هو الأعلم ؟!
والجواب : إنّ الإنسان قادر ـ بلا شك ـ أن يتوصل بعقله إلى بعض الحقائق ، ويدرك طريق الهداية والضلالة إلى حد ما ، غير أنّ مديّات ضوء العقل لها حدود ، وقد يظل بعض الحقائق خارج نطاق تلك الحدود ، ثمّ إنّ معلومات الإنسان قد يعتورها الخطأ ، فيكون لذلك بحاجة إلى مرشدين وهداة إلهيين ، لذلك فتعبير «الله أعلم» صحيح ، وإن يكن قياسا مع الفارق .
___________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 196-200 .
2. «الحكم» القاضي والحاكم ، وبعضهم يراه مساويا للحاكم من حيث المعنى ، ولكن يرى بعضهم ، ومنهم الشيخ الطوسي رحمه الله ، أنّ الحكم من لا يحكم بغير الحق ، أمّا الحاكم فقد يحكم بكليهما ، ويرى آخرون ، ومنهم صاحب المنار أنّ الحكم من يختاره الطرفان للحكم ، وليس الحاكم كذلك .
3. «الخرص» هو كل قول أطلق عن ظن وتخمين ، وأصله من تخمين كمية الثمر على الأشجار عند استئجار البستان ، وأمثال ذلك ، ثمّ أطلق على كل ظن وتخمين قد يطابق الواقع وقد لا يطابقه ، والكلمة تستعمل في الكذب أيضا ، وقد تكون في الآية بكلا المعنيين .
4. صيغة التفضيل تتعدى عادة بالباء ، فكان المفروض أن يقال «أعلم بمن يضل» ولكن الباء حذفت هنا و «من يضل» منصوبة بنزع الخافض .
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|