المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17761 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24



تفسير آية (20-24) من سورة الانعام  
  
3047   06:32 مساءً   التاريخ: 28-3-2021
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الألف / سورة الأنعام /

قال تعالى : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام : 20 - 24].

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قال تعالى : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام : 20].

ذكر سبحانه أن الكفار بين جاهل ومعاند فقال {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} : وهذا مفسر في سورة البقرة {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} مفسر في هذه السورة ، فإن حملته على أنه صفة للذين الأولى ، فالمعني به أهل الكتاب . وإن حملته على الابتداء ، فإنه يتناول جميع الكفار . وقال أبو حمزة الثمالي : (لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ، قال عمر لعبد الله بن سلام : إن الله تعالى أنزل على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان أهل الكتاب (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) ، كيف هذه المعرفة ؟ قال عبد الله بن سلام : نعرف نبي الله بالنعت الذي نعته الله إذا رأيناه فيكم ، كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه بين الغلمان . وأيم الله الذي يحلف به ابن سلام ، لأنا بمحمد أشد معرفة مني بابني ! فقال له : كيف ؟ قال عبد الله : عرفته بما نعته الله لنا في كتابنا ، فأشهد أنه هو ، فأما ابني فإني لا أدري ما أحدثت أمه . فقال : قد وفقت ، وصدقت ، وأصبت) .

 

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام : 21 - 22].

 

ثم بين سبحانه ما يلزمهم من التوبيخ ، والتهجين ، بالإشراك ، فقال : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} معناه : ومن أكفر ممن اختلق على الله كذبا فأشرك به الآلهة ، عن ابن عباس . وهذا استفهام معناه الجحد أي : لا أحد أظلم منه ، لأن جوابه كذلك ، فاكتفى من الجواب بما يدل عليه {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} أي : بالقرآن ، وبمحمد ومعجزاته {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي : لا يفوز برحمة الله ، وثوابه ، ورضوانه ، ولا بالنجاة من النار ، الظالمون . والظالم ، ههنا هو الكافر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، المكذب بآياته ، الجاحد لها بقوله : ما نصب الله آية على نبوته {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} عنى بهم من تقدم ذكرهم من الكفار ، لأنه سبحانه يحشرهم يوم القيامة من قبورهم إلى موضع الحساب .

{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} اختلف في وجه هذا السؤال ، فقيل : إن المشركين إذا رأوا تجاوز الله تعالى عن أهل التوحيد ، قال بعضهم لبعض : إذا سئلتم فقولوا إنا موحدون . فلما جمعهم الله قال لهم : أين شركاؤكم ؟ . ليعلموا أن الله يعرف أنهم أشركوا به في دار الدنيا ، وأنه لا ينفعهم الكتمان ، عن مقاتل . وقيل : إن المشركين كانوا يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم عند الله ، فقيل لهم يوم القيامة {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أنها تشفع لكم ، توبيخا لهم ، وتبكيتا على ما كانوا يدعونه ، عن أكثر المفسرين . وإنما أضاف الشركاء إليهم ، لأنهم اتخذوها لأنفسهم ، ومعنى {تَزْعُمُونَ} : تكذبون .

قال ابن عباس : (وكل زعم في كتاب الله كذب) . وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطلان مذهب الجبر ، وعلى إثبات المعاد ، وحشر جميع الخلق .

 

{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام : 23 - 24].

 

ثم بين سبحانه جواب القوم عند توجه التوبيخ إليهم ، فقال : {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} اختلف في معنى الفتنة هنا على وجوه أحدها : إن معناه ثم لم يكن جوابهم لأنهم حين سئلوا اختبر ما عندهم بالسؤال ، فلم يكن الجواب عن ذلك الاختبار إلا هذا القول . وثانيها : إن المراد لم يكن معذرتهم {إِلَّا أَنْ قَالُوا} عن ابن عباس ، وقتادة ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام ، وهذا راجع إلى معنى الجواب أيضا . وثالثها : ما قاله الزجاج : إن تأويله حسن لطيف ، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام ، وتصرف العرب في ذلك ، والله عز وجل ، ذكر في هذه الآية الأقاصيص التي جرت من أمر المشركين ، وأنهم مفتتنون بشركهم ، ثم أعلم أنه لم يكن افتتانهم بشركهم ، وإقامتهم عليه ، إلا أن تبرأوا منه ، وانتفوا منه ، فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين ، ومثل ذلك في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا ، فإذا وقع في هلكة ، تبرأ منه ، فتقول له : ما كانت محبتك فلانا ، إلا أن افتتنت منه . فالفتنة هاهنا بمعنى الشرك ، والافتتان بالأوثان . ويؤيد ذلك ما رواه عطا ، عن ابن عباس قال :

(فتنتهم يريد شركهم في الدنيا) وهذا القول في التأويل يرجع إلى حذف المضاف ، لأن المعنى لم يكن عاقبة فتنتهم إلا البراءة منها بقولهم {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}.

ويسأل : فيقال كيف يجوز أن يكذبوا في الآخرة ، ويحلفوا على الكذب والدار ليست بدار تكليف ، وكل الناس ملجؤون فيها إلى ترك القبيح ، لمشاهدة الحقائق ، وزوال عوارض الشبه ، والشكوك ، ولمعرفتهم بالله سبحانه ضرورة ؟ والجواب : إن معناه ما كنا مشركين في الدنيا عند أنفسنا ، وفي اعتقادنا ، وتقديرنا ، وذلك أن المشركين في الدنيا يعتقدون كونهم مصيبين ، فيحلفون على هذا في الآخرة . فعلى هذا يكون قولهم وحلفهم يقعان على وجه الصدق .

وقيل أيضا : إنهم إنما يحلفون على ذلك لزوال عقولهم بما يلحقهم من الدهشة من أهوال القيامة ، ثم ترجع عقولهم ، فيقرون ويعترفون ، ويجوز أن ينسوا إشراكهم في الدنيا بما يلحقهم من الدهشة عند مشاهدة تلك الأهوال .

{انْظُرْ} المعنى يقول الله تعالى عند حلف هؤلاء : أنظر يا محمد {كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} وهذا وإن كان لفظه لفظ الاستفهام ، فالمراد به التنبيه على التعجيب منهم ، ومعناه أنظر إلى إخباري عن افترائهم ، كيف هو ، فإنه لا يمكن النظر إلى ما يوجد في الآخرة ، وإنما كذبهم الله سبحانه في قولهم ، وإن كانوا صادقين عند أنفسهم ، لأن الكذب هو الإخبار بالشيء ، لا على ما هو به علم المخبر بذلك ، أو لم يعلم ، فلما كان قولهم : {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} كذبا في الحقيقة ، جاز أن يقال كذبوا على أنفسهم .

وقيل : معناه أنظر كيف كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا ، لا إنهم كذبوا في الآخرة ، لأنهم كانوا مشركين على الحقيقة ، وإن اعتقدوا أنهم على الحق ، عن الجبائي {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي : ضلت عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها ، ويفترون الكذب بقولهم : (هؤلاء شفعاؤنا عند الله غدا) فذهبت عنهم في الآخرة ، فلم يجدوها ، ولم ينتفعوا بها عن الحسن .

وقيل : إنه عام في كل ما يعبد من دون الله تعالى ، أنها تضل عن عابديها يوم القيامة ، ولا تغني عنهم شيئا ، واختلف أهل العدل في أن أهل الآخرة هل يجوز أن يقع منهم الكذب ؟ فالأصح أنه لا يجوز على ما قلناه ، وقال بعضهم : يجوز ذلك لما يلحقهم من الدهش والحيرة في القيامة ، فإذا استقر أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، فحينئذ لا يجوز أن يقع منهم القبيح والكذب ، ويكون جميعهم ملجئين إلى ترك القبيح ، وبه قال أبو بكر بن الأخشيد وأصحابه . وقال بعضهم : إنه يجوز وقوعه منهم على جميع الأحوال .

___________________________

1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 23-28 .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ} . الذين آتاهم اللَّه الكتاب هم اليهود والنصارى ، وضمير يعرفونه عائد إلى محمد (صلى الله عليه وآله) ، والآية تجابه علماء أهل الكتاب بأنهم يعرفون خاتم الأنبياء حق المعرفة ، تماما كما يعرفون أبناءهم ، ولكنهم يكتمون ما يعرفون وقد تكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها قوله تعالى : {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة - 146] . وقوله : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ والإِنْجِيلِ} [الأعراف - 157] .

{أَولَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ} [الشعراء - 197] . ومر الكلام عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية 146 من سورة البقرة ، و 164 من النساء .

 

فقرة هل الأنبياء كلهم شرقيون ؟ .

وليس من الضروري ليعرف أهل الكتاب صدق محمد (صلى الله عليه وآله) أن يجدوا اسمه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . . فكل من درس الإسلام دراسة جادة وفاحصة يؤمن ايمانا لا يشوبه ريب بأنه الحق والصدق ، وانهما جوهر الإسلام وركيزته وهدفه من كلمة لا إِلهً إِلَّا اللَّهُ التي تعني المساواة بين الناس إلى تقييم الإنسان على أساس العمل والإخلاص ، لا على أساس المال والجاه والنسب ، ومن التكافل الاجتماعي ومسؤولية كل راع عن رعيته إلى دعوة الأمن والسلام ، والتقدم والرخاء ، إلى ما لا نهاية.

{الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} مر تفسيره قريبا في الآية 12 من هذه السورة . {ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} . المراد بالظلم هنا الكفر ، لأن كل من افترى الكذب على اللَّه فهو كافر . . لا فرق إطلاقا بين من جعل له شريكا ، ومن حرف حكما من أحكامه عن عمد وعلم ، ومن ادعى النيابة عن المعصوم ، أو الشفاعة للخلق عند الحق ، وهو يعلم انه مفتر كذاب - كل هؤلاء كفرة فجرة اجماعا وكتابا وسنة . {أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} .

أشارت الجملة الأولى من الآية إلى من يختلق ما لا وجود له ، كمن جعل للَّه شريكا أو ولدا . وتشير هذه الجملة إلى من ينكر الموجود ، كمن يجحده من الأساس ، وحكم الاثنين واحد ، كل منهما ظالم ، وما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع .

{ويَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} . المؤمنون باللَّه على نوعين : منهم من يؤمن بألوهيته وتوحيده ، ويسمون الموحدين ، ومنهم من يؤمن بألوهيته وألوهية غيره ، وهؤلاء أفسدوا ايمانهم بهذه الضميمة ، وصاروا والجاحدين سواء ، لأن جعل المثيل للَّه معناه في الواقع انكار اللَّه من رأس ، إذ المفروض ان اللَّه سبحانه لا شبيه له ولا مثيل : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى - 11].

وسيواجه اللَّه المشركين بهذا السؤال : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ، وتستعينون بهم كما تستعينون باللَّه ، سيواجههم بهذا السؤال على سبيل التوبيخ والتقريع ، لا على سبيل الحقيقة .

وتسأل : لما ذا قال تعالى : أين شركاؤكم ، ولم يقل أين شركائي ، مع العلم بأن الكافرين أضافوا الشركاء إليه ، لا إليهم ؟ .

الجواب : إن الإضافة تصح لأدنى مناسبة ، والمشركون هم الذين ابتدعوا الشرك الذي لا عين له ولا أثر في حقيقة الأمر والواقع .

{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا واللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} . المراد بالفتنة هنا شركهم وافتتانهم بالأوثان ، والمعنى كانت عاقبة الشرك الذي ابتدعوه هي يمينهم الفاجرة انهم ما كانوا مشركين .

وتسأل : إن قوله تعالى حكاية عنهم : {واللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} يتنافى مع قوله : {ولا يَكْتُمُونَ اللَّهً حَدِيثاً} [النساء - 42] . هذا ، إلى أن المعروف ان الإنسان لا يستطيع الكذب يوم القيامة .

الجواب : إن في القيامة العديد من المواقف ، يستطيع الإنسان في بعضها الإنكار ، حيث لم يشهد عليه في هذا الموقف يداه ورجلاه بما كان يعمل ، وعلى هذا الموقف يحمل قوله تعالى : {واللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} . وفي بعض المواقف يعترف بما كان منه ، حيث لا مجال للإنكار ، وعليه يحمل قوله : {ولا يَكْتُمُونَ اللَّهً حَدِيثاً} .

أما القول : إن الإنسان يعجز عن الكذب إطلاقا يوم القيامة فتكذبه الآية 18 من سورة المجادلة : {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ} .

سؤال ثان يتفرع من الجواب عن السؤال الأول ، وهو إذا قدر الإنسان غدا على الكذب ، بل والقسم عليه باللَّه أيضا ، تماما كما هو شأنه في هذه الحياة ، إذا كان الأمر كذلك فما هو الوجه لتسمية الآخرة بدار الصدق ، وتسمية دارنا هذه بدار الكذب ؟ .

الجواب : المراد بهذه التفرقة بين الدارين ان الكذب في هذه الدار قد يدفع عن صاحبه ضرا ، أو يجلب له نفعا ، أما في الدار الآخرة فلا يغنيه عن الصدق شيء . . وبكلمة ان العجز عن الكذب شيء ، والقدرة عليه مع عدم جدواه شيء آخر .

{انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ} . الخطاب موجه للنبي (صلى الله عليه وآله) ، والمراد به العموم ، وهو تعجب من انكارهم الشرك ، وقد ماتوا عليه . . وكل من أنكر ما هو فيه ، أو ادعى ما ليس فيه عامدا متعمدا فقد كذب على نفسه وعلى اللَّه والناس . « وضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ » . وضل عنهم عطف على كذبوا ، والمعنى انظر يا محمد كيف غاب عن المشركين ما كانوا يرجون نصرته وشفاعته .

__________________________

1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 172-175 .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قوله تعالى : {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ} وهذا إخبار عما شهد به الله سبحانه في الكتب المنزلة على أهل الكتاب ، وعلمه علماء أهل الكتاب مما عندهم من كتب الأنبياء من البشارة بعد البشارة بالنبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ووصفه بما لا يعتريه شك ولا يطرأ عليه ريب.

فهم بما استحضروا من نعته صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله يعرفونه بعينه كما يعرفون أبناءهم ، قال تعالى : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ}  [الأعراف : 157] وقال تعالى : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} [الفتح : 29] ، وقال تعالى : {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ}  [الشعراء : 197] .

ولما كان بعض علمائهم يكتمون ما عندهم من بشاراته ونعوته صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ويستنكفون عن الإيمان به بين الله تعالى خسرانهم في أمرهم فقال : {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.

وقد تقدم بعض الكلام في تفسير نظيرة الآية من سورة البقرة (آية 146) وبينا هناك وجه الالتفات من الحضور إلى الغيبة وسيأتي تمام الكلام في سورة الأعراف (آية 156) إن شاء الله تعالى .

قوله تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} الظلم من أشنع الذنوب بل التحليل الدقيق يقضي أن سائر الذنوب إنما هي شنيعة مذمومة بمقدار ما فيها من معنى الظلم ، وهو الانحراف والخروج عن الوسط العدل .

والظلم كما يكبر ويصغر من جهة خصوصيات من صدر عنه الظلم كذلك يختلف حاله بالكبر والصغر من جهة من وقع عليه الظلم أو أريد إيقاعه عليه فكلما جل موقعه وعظم شأنه كان الظلم أكبر وأعظم ، ولا أعز قدرا وأكرم ساحة من الله سبحانه ولا من آياته الدالة عليه ، فلا أظلم ممن ظلم هذه الساحة المنزهة أو ما ينتسب إليها بوجه ، ولا يظلم إلا نفسه .

وقد صدق الله سبحانه هذه النظرة العقلية بقوله : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} أما افتراء الكذب عليه تعالى فبإثبات الشريك له ، ولا شريك له ، أو دعوى النبوة أو نسبة حكم إليه كذبا وابتداعا ، وأما تكذيب آياته الدالة عليه فكتكذيب النبي الصادق في دعواه المقارنة للآيات الإلهية أو إنكار الدين الحق ، ومنه إنكار الصانع أصلا .

والآية تنطبق على المشركين ، وهم أهل الأوثان الذين إليهم وجه الاحتجاج من جهة أنهم أثبتوا لله سبحانه شركاء بعنوان أنهم شفعاء مصادر أمور في الكون ، وإليهم ينتهي تدبير شئون العالم مستقلين بذلك ، ومن جهة أنهم أنكروا آياته تعالى الدالة على النبوة والمعاد .

وربما ألحق بعضهم بذلك القائلين بجواز شفاعة النبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله أو الطاهرين من ذريته أو الأولياء الكرام من أمته فقضى بكون الاستشفاع بهم في شيء من حوائج الدنيا أو الآخرة شركا تشمله الآية وما يناظرها من الآيات الشريفة .

وكأنه خفي عليهم أنه تعالى أثبت الشفاعة إذا قارنت الإذن في كلامه من غير أن يقيده بدنيا أو آخرة ، فقال عز من قائل : {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}  [البقرة : [255] .

على أنه تعالى قال : {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}  [الزخرف : 86] فأثبت الشفاعة حقا للعلماء الشهداء بالحق ، والقدر المتيقن منهم الأنبياء ومنهم النبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ، وقد أثبت الله سبحانه شهادته بقوله : {وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً}  [النساء : 41] ونص على علمه حيث قال : {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ}  [النحل : 89] ، وقال : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ} [الشعراء : 194] وهل يعقل نزول الكتاب الذي هو تبيان كل شيء على قلب من غير علم به ، أو بعثه تعالى إياه شهيدا وليس بشهيد بالحق ؟ وقال الله تعالى : {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ}  [البقرة : 143] ، وقال : {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ}  [آل عمران : 140] ، وقال تعالى : {وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ}  [العنكبوت : 43] فأثبت في هذه الأمة شهداء علماء ولا يثبت إلا الحق .

وقال تعالى في أهل بيته عليه السلام : {إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}  [الأحزاب : 33] فبين أنهم مطهرون بتطهيره ، ثم قال : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}  [الواقعة : 79] فعدهم العلماء بالقرآن الذي هو تبيان كل شيء والمطهرون هم القدر المتيقن من هذه الأمة في الشهادة بالحق التي لا سبيل للغو والتأثيم إليها ، وقد أشبعنا الكلام في معنى الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب فليراجع .

قوله تعالى : {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} الفلاح والفوز والنجاح والظفر والسعادة ألفاظ قريبة المعنى ، ولهذا فسر الراغب الفلاح بإدراك البغية الذي هو معنى السعادة تقريبا ، قال في المفردات : الفلح : الشق ، وقيل الحديد بالحديد يفلح أي يشق ، والفلاح الأكار لذلك والفلاح الظفر وإدراك البغية ، وذلك ضربان دنيوي وأخروي :

فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء والغنى والعز وإياه قصد الشاعر بقوله :

أفلح بما شئت فقد يدرك                  بالضعف وقد يخدع الأريب

وفلاح أخروي ، وذلك أربعة أشياء : بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعز بلا ذل ، وعلم بلا جهل . انتهى ، فمن الممكن أن يقال : إن الفلاح هو السعادة سميت به لأن فيها الظفر وإدراك البغية بشق الموانع الحائلة دون المطلوب .

وهذا معنى جامع ينطبق على موارد الاستعمال كقوله : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون : 1] ، وقوله : {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها}  [الشمس : 9] ، وقوله : {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ}  [المؤمنون : 117] إلى غير ذلك من الموارد .

فقوله : {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ـ وقد أخذ الظلم وصفا ـ معناه أن الظالمين لا يدركون بغيتهم التي تشبثوا لأجل إدراكها بما تشبثوا به فإن الظلم لا يهدي الظالم إلى ما يبتغيه من السعادة والظفر بواسطة ظلمه .

وذلك أن السعادة لن تكون سعادة إلا إذا كانت بغية ومطلوبا بحسب واقع الأمر وخارج الوجود ، ويكون حينئذ الشيء الذي يطلب هذه البغية والسعادة بحسب وجوده طبيعة كونه مجهزا بما يناسب هذه السعادة المطلوبة من الأسباب والأدوات

كالإنسان الذي من سعادته المطلوبة أن يبقى بقاء بوضع البدل مكان ما تحلل من بنيته ثم هو مجهز بجهاز التغذي الدقيق الذي يناسب ذلك ، والأدوات والأسباب الملائمة له ، ثم في المادة الخارجية ما يوافق مزاج بنيته فيأخذها بالأسباب والأدوات المهيأة لذلك ، ثم يصفيه ويبدل صورته إلى ما يشابه صورة المتحلل من بدنه ثم يلصقه ببدنه فيعود البدن تاما بعد نقصانه ، وهذا حكم عام جار في جميع الأنواع الخارجية التي تناله حواسنا ويسعه استقراؤنا من غير تخلف واختلاف البتة .

وعلى هذا يجري نظام الكون في مسيره فلكل غاية مطلوبة وسعادة مقصودة طريق خاص لا يسلك إليها إلا منه ، ولو توصل إليها من غير سببه الذي يألفها النظام أوجب ذلك العطل في السبب وبطلان الطريق ، وفي عطله وبطلانه فساد جميع ما يرتبط ويتعلق به من الأسباب والعلائق كالإنسان الذي فرض توصله إلى إبقاء الوجود من غير طريق التناول والالتقام والهضم فإن ذلك يفضي إلى عطل قوته الغاذية ، وفي عطله انحراف قوتيه المنمية والمولدة مثلا جميعا .

وقد اقتضت العناية الإلهية في هذه الأنواع التي تعيش بالشعور والإرادة أن تعيش بتطبيق أعمالها على ما حصلته من العلم بالخارج فلو انحرفت عن الخارج لعارض ما كان في ذلك بطلان العمل ، ولو تكرر ذلك بطلت الذات كالإنسان المريد للأكل إذا غلط وحسب السم غذاء أو الطين خبزا ونحو ذلك .

وللإنسان عقائد وآراء عامة متولدة من نظام الكون الخارجي يضعها أصلا ويطبق عمله عليها كالعائد الراجعة إلى المبدأ والمعاد ، والأحكام العملية التي يجعلها مقاييس لأعماله من العبادات والمعاملات .

وهذه طرق إلى السعادات الإنسانية بحسب طبعها لا طريق إليها دونها إذا سلكها الإنسان أدرك بغيته وظفر بسعادته ، ولو انحرف عنها إلى غيرها ـ وهو الظلم ـ لم يوصله إلى بغيته ولئن أوصله إليه لم يثبت عليه ، ولم يدم له ذلك فإن سائر الطرق والسبل مربوطة به فتنازعه في ذلك ، وتخالفه وتضاده بجميع ما لها من الوسع والطاقة ، ثم أجزاء الكون الخارجي الذي هو السبب لانتشاء هذه الآراء والأحكام لا توافقه في عمله ، ولا تزال على هذا الحال حتى تقلب له الأمر ، وتفسد عليه سعادته ، وتنغص عليه عيشته .

فالظالم ربما دعته طاغية الشره إلى أن يستعمل ما له من العزة بالإثم والقدرة الكاذبة في الحصول على بغية وسعادة من غير طريقه المشروع ، فيخالف الاعتقاد الحق لتوحيد الله سبحانه ، أو ينازع الحقوق المشروعة فيتعدى إلى أموال الناس فيغصبها ظلما ، أو إلى أعراض الناس فيهتك أستارهم عنوة ، أو إلى دمائهم ونفوسهم فيتصرف فيها من غير حق أو يعصي في شيء من نواميس العبودية لله سبحانه بصلاة أو صوم أو حج أو غيرها ، أو يقترف شيئا من الذنوب المتعلقة بذلك ، كالكذب والفرية والخدعة ونحوها .

يأتي بشيء من ذلك وربما أدرك ما قصده ، وهو طيب النفس بما ظفر به من مطلوبه بحسب زعمه ، وقد ذهب عن خسران صفقته وخيبة مسعاه في دنياه وآخرته .

أما في دنياه فلأن ما سلكه من الطريق إنما هو طريق الهرج والمرج واختلال النظام إذ لو كان طريقا حقا لعم ولو عم أبطل النظام ، ولو بطل النظام بطلت حياة المجتمع الإنساني فالنظام الذي يضمن بقاء النوع الإنساني كائنا ما كان ينازعه فيما حازه بعمله غير المشروع ، ولا يزال على المنازعة حتى يفسد عليه مقتضى عمله ونتيجة سعيه المشئوم عاجلا أو على مهل ولن يدوم ظلمه البتة .

وأما في الآخرة فلأن ظلمه مكتوب في صحيفة عمله ، وهو منقوش في لوح نفسه بما يورد عليها من الأثر ثم هو مجزي به عائش على وتيرته ، وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله .

قال الله تعالى : {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}  [البقرة : 85] ، وقال : {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ، فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} [الزمر : 26] وقال : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ، ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ، ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}  [الحج : 10] إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة .

والآيات ـ كما ترى ـ تشمل المظالم الاجتماعية والفردية فهي تصدق ما تقدم من البحث ، وأشملها مضمونا الآية المبحوث عنها : {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} .

قوله تعالى : {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} إلى آخر الآيتين ، الظرف متعلق بمقدر والتقدير : واذكر يوم (إلخ) ، وقد تعلقت العناية في الكلام بقوله {جَمِيعاً} للدلالة على أن العلم والقدرة لا يتخلفان عن أحد منهم ، فالله سبحانه محيط بجميعهم علما وقدرة سيحصيهم ويحشرهم ولا يغادر منهم أحدا .

والجملة في مقام بيان قوله : {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} كأنه لما قيل : {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} سئل فقيل : وكيف ذلك ؟ فقيل : لأن الله سيحشرهم ويسألهم عن شركائهم فيضلون عنهم ويفقدونهم فينكرون شركهم ويقسمون لذلك بالله كذبا ، ولو أفلح هؤلاء الظالمون في اتخاذهم لله شركاء لم يضل عنهم شركاؤهم ، ولم يكذبوا على أنفسهم بل وجدوهم على ما ادعوا من الشركة والشفاعة ونالوا شفاعتهم .

وقوله : {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} إلخ ، قيل : المراد بالفتنة الجواب أي لم يكن جوابهم إلا أن أقسموا بالله على أنهم ما كانوا مشركين ، وقيل : الكلام على تقدير مضاف والمراد : لم تكن عاقبة افتتانهم بالأوثان إلا أن قالوا (إلخ) ، وقيل : المراد بالفتنة المعذرة ، ولكل من الوجوه وجه .

قوله تعالى : {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} بيان لمحل الاستشهاد فيما قص من حالهم يوم القيامة ، والمراد أنهم سيكذبون على أنفسهم ويفقدون ما افتروا به ، ولو أفلحوا في ظلمهم وسعدوا فيما طلبوا لم ينجر أمرهم إلى فقد ذلك وإنكاره على أنفسهم .

أما كذبهم على أنفسهم فلأنهم لما أقسموا بالله أنهم ما كانوا مشركين أنكروا ما ادعوه في الدنيا من أن لله سبحانه شركاء ، وهم كانوا يصرون عليه ويعرضون فيه عن كل حجة واضحة وآية بينة ظلما وعتوا ، وهذا كذب منهم على أنفسهم .

وأما ضلال ما كانوا يفترونه عنهم فلأن اليوم يوم ينجلي فيه عيانا أن الأمر والملك والقوة لله جميعا ليس لغيره من شيء إلا ذلة العبودية ، والفقر والحاجة من غير أي استقلال قال تعالى : {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ}  [البقرة : 165] ، وقال : {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ}  [المؤمن : 16] وقال : {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}  [الانفطار : 19] .

فيشاهدون عندئذ مشاهدة عيان أن الألوهية لله وحده لا شريك له ، ويظهر لهم أوثانهم وشركاؤهم وهم لا يملكون ضرا ولا نفعا لأنفسهم ولا لغيرهم ، ووجدوا الأوصاف التي أثبتوها لهم من الربوبية والشفاعة وغيرهما إنما هي لله وحده ، وقد كان اشتبه عليهم الأمر فتوهموها لغيره وضل عنهم ما كانوا يفترون .

فإن استمدوا منهم ردوا عليهم ردا لا مطمع معه بعد قال تعالى : {وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ ، وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ}  [النحل : 87] وقال تعالى : {ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [الفاطر : 14] وقال تعالى : {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ ، فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ ، هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ}  [يونس : 30] .

وبالتدبير في هذه الآيات يظهر أن المراد بضلال ما افتروا به هو ظهور حقيقة شركائهم فاقدة لوصف الشركة والشفاعة وتبينهم أن ما ظهر لهم من ذلك في الدنيا لم يكن إلا ظهورا سرابيا كما قال تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ}  [النور : 39] .

فإن قلت : إن الآيات المتعرضة لوصف يوم القيامة ـ كما تقدم ـ ظاهرة في بروز الحقائق وخروجها عن مكمن الخفاء والالتباس الذي هو من لوازم النشأة الأولى الدنيوية كما قال تعالى : {يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ}  [المؤمن : 16] فأي نفع حينئذ لكذبهم ؟ وكيف يكذبون وما أخبروا به من الكذب مشهود خلافه عيانا ؟ وقد قال تعالى : {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ}  [آل عمران : 30].

قلت : كذبهم وحلفهم على الكذب يوم القيامة مما وقع في كلامه تعالى غير مرة ، ومثل الآية قوله تعالى : {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ}  [المجادلة : 18] وليس كذبهم وحلفهم عليه للتوصل به إلى الأغراض الفاسدة وستر الحق كما يتوصل إليها بالكذب في الدنيا فإن الآخرة دار جزاء لا دار عمل واكتساب .

لكنهم لكونهم اعتادوا أن يتفصوا من المخاطرات والمهالك ويجلبوا المنافع إليهم بالأيمان الكاذبة والأخبار المزورة خدعة وغرورا رسخت في نفوسهم ملكة الكذب ، والملكة إذا رسخت في النفس اضطرت النفس إلى إجابتها إلى ما تدعو إليه ، وذلك كما أن البذي الفحاش إذا استقرت في نفسه ملكة السب لا يقدر على الكف عنه وإن عزم عليه والمستكبر اللجوج العنود لا يملك من نفسه أن يتواضع ، وإن خضع في موقف المهلكة والذلة أحيانا فإنما يخضع ظاهرا وبلسانه ، وأما باطنا وفي قلبه فهو على حاله لم يتغير ولن يتغير البتة .

وهذا هو السر في كذبهم يوم القيامة لأنه يوم تبلى فيه السرائر والسريرة المعقودة على الكذب ليس فيها إلا الكذب فيظهر ما استقر فيه كما قال تعالى : {وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً}  [النساء : 42] ونظيره التخاصم الدائر بين أهل الدنيا فإنه يظهر بعينه يوم القيامة بينهم ، وقد قص الله سبحانه ذلك في مواضع كثيرة من كلامه ، وأجمله في قوله :

{إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}  [ص : 64] هذا في أهل العذاب وأما أهل المغفرة والجنة فيظهر منهم هناك ما كان في نفوسهم هاهنا من الصفا والسلامة ، قال تعالى : {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً ، إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً}  [الواقعة : 26] فافهم ذلك .

_________________________

1. تفسير الميزان ، ج7 ، ص 35-44 .

 

تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قال تعالى : {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ} أي أن معرفتهم به لا تقتصر على مبدأ ظهوره ودعوته فحسب ، بل إنّهم يعرفون حتى التفاصيل والخصائص وعلاماته الدقيقة أيضا ، وعليه ، إذ قال جمع من أهل مكّة : إنّهم رجعوا إلى أهل الكتاب فلم يجدوا عندهم علما بالنّبي ، فإنّهم إمّا أن يكونوا قد كذبوا ولم يتحققوا من الأمر ، أو أنّ أهل الكتاب قد أخفوا عنهم الحقائق ولم يطلعوهم عليها ، وهذا الكتمان تشير إليه آيات أخرى من القرآن (لمزيد من التوضيح انظر المجلد الأوّل من هذا التّفسير في ذيل الآية (146) من سورة البقرة).

والآية تعلن في آخر مقاطعها النتيجة النهائية : {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي أنّ الذين لا يؤمنون بالنّبي ـ مع كل ما تحيطه من دلائل وعلامات واضحة ـ هم فقط أولئك الذين خسروا كل شيء في تجارة الحياة .

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام 21-24] .

أشدّ الظّلم :

تواصل هذه الآيات المنهج القرآني في مقارعة الشرك وعبادة الأصنام بشكل شامل ، تقول الآية الاولى بصراحة وبصورة استفهام استنكاري : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} ؟

الجملة الأولى ـ في الواقع ـ إشارة إلى إنكار التوحيد ، والثّانية إشارة إلى إنكار النّبوة ... حقّا لا ظلم أكبر من أن يتخذ المرء قطعة جماد لا قيمة لها ، أو إنسانا ضعيفا مثله شريكا لربّ لا تحدّه ، حدود ، وله الحكم على كل عالم الوجود ، فهذا ظلم من جهات ثلاث : ظلم لذات الله بالقول بوجود شريك له ، وظلم للشخص نفسه بالحط من قدره إلى حد السجود والخضوع لقطعة حجر أو خشب ، وظلم بحق المجتمع الذي يسبب له الشرك والتشتت والتفرق والابتعاد عن روح الوحدة والتوحد.

فلا شك إذن في أنّ أي ظالم ـ وعلى الأخص أولئك الذين لظلمهم جوانب متعددة ـ لا يمكن أن يرى السعادة والفلاح : {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} .

إنّ لفظة «الشّرك» لم ترد صراحة في الآية ، ولكن بأخذ الآيات السابقة واللّاحقة لها بنظر الاعتبار التي تدور حول الشرك ، يتّضح أنّ القصد من كلمة «افتراء» هو القول بوجود شريك لله سبحانه.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يصف في خمسة عشر موضعا بعض الناس بأنّهم من أظلم الناس في سياق الاستفهام : «ومن أظلم ...» أو «فمن أظلم ...» وعلى الرغم من أنّ معظم تلك الآيات تتناول الشرك وعبادة الأصنام وإنكار آيات الله ، أي أنّها تدور حول التوحيد ، فإنّ بعضا آخر منها يدول حول أمور أخرى ، مثل {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة : 144] .

وقول سبحانه {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ} [البقرة : 140] .

هنا يثار هذا السّؤال : كيف يمكن أن تكون كل طائفة من هؤلاء أظلم الناس ، في حين أنّ صفة (الأظلم) لا يمكن أن تنطبق إلّا على طائفة واحدة منها؟

نقول في الجواب : كل هذه الحالات تستقي ـ في الحقيقة ـ من منبع واحد ، وهو الشرك والكفر والعناد. فمنع الناس من ذكر الله في المساجد والسعي في خرابها دليل على الكفر والشرك ، وكتمان الشهادة أي كتمان الحقائق المؤدي إلى حيرة الناس وضلالهم ، هو معلم من معالم الشرك وإنكار وحدانية الله.

الآية التّالية تشير إلى مصير المشركين يوم القيامة مبيّنة أنّهم باعتمادهم على مخلوقات ضعيفة كالأصنام ، لا هم حققوا لأنفسهم الراحة في هذا العالم ، ولا هم ضمنوا ذلك في الحياة الآخرة ، فتقول الآية : {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} ، أين هم ، لماذا لا يأتون اليوم لإنقاذهم؟ لماذا لا يظهر أي حول ولا يبدون أية قوّة؟

ألم تكونوا تتوقعون منهم أن يعينوكم على حل مشكلاتكم؟ فلما ذا ـ إذن ـ لا نرى لهم أثرا ؟

فيستولي على هؤلاء الرعب والخوف ويبهتون ولا يحيرون جوابا ، سوى أن يقسموا بالله إنّهم لم يكونوا مشركين ، ظنا منهم أنّهم هناك أيضا قادرون على إخفاء الحقائق : {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} .

حول معنى «فتنة» ثمّة كلام بين المفسّرين ، منهم من قال : إنّها بمعنى الاعتذار ، وقال آخرون : إنّها بمعنى الجواب : وقالوا أيضا : إنّها الشرك (2).

هنالك احتمال آخر في تفسير هذه الآية ، وهو القول بأنّ «الفتنة» من «الافتتان» أي الوله بالشيء ، فيكون المعنى أن افتتانهم بالشرك وعبادة الأصنام ، بشكل يغشى عقولهم وأفكارهم ، قد أدى إلى أن يدركوا يوم القيامة ـ يوم يزاح الستر ـ خطأهم الكبير ، ويستقبحوا أعمالهم وينكروها تماما.

يقول الراغب في «المفردات» : أن أصل «الفتن» إدخال الذهب النّار لتظهر جودته من رداءته ، فقد يكون هذا المعنى ممّا تفسر به الآية المذكورة ، أي أنّهم عند ما تحيط بهم شدّة يوم القيامة يستيقظون ويقفون على خطأهم ، فينكرون أعمالهم طلبا للنجاة.

الآية الثّالثة ، ومن أجل أن يعتبر الناس بمصير هؤلاء الأفراد تقول : {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ}.

وتنهار المساند التي اختاروا الاستناد عليها وجعلوها شريكة لله ، وخابوا في مسعاهم {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} .

________________________

1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 37-40 .

2. إذا أخذناها على إنّها بمعنى الاعتذار والجواب ، فلا حاجة فيهما للتقدير ، أمّا إذا أخذت بمعنى الشرك ، فينبغي أن نقدر كلمة «نتيجة» أي أنّ نتيجة شركهم كانت أن يقسموا إنّهم لم يكونوا مشركين.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .