المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17644 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر



تفسير آية (12-16) من سورة الانعام  
  
2007   11:44 مساءً   التاريخ: 27-3-2021
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الألف / سورة الأنعام /

قال تعالى : {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام : 12 - 16].

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قال تعالى : {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام : 12 - 13].

 

قال : {قل} يا محمد لهؤلاء الكفار {لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} :

الله الذي خلقهما أم الأصنام ؟ فإن أجابوك فقالوا : الله ، والا ف‍ {قل} أنت {لله} أي : ملكهما وخلقهما ، والتصرف فيهما كيف يشاء له . {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي : أوجب على نفسه الإنعام على خلقه . وقيل : معناه أوجب على نفسه الثواب لمن أطاعه . وقيل : أوجب على نفسه الرحمة بإنظاره عباده ، وإمهاله إياهم ليتداركوا ما فرطوا فيه ، ويتوبوا عن معاصيهم . وقيل : أوجب على نفسه الرحمة لأمة محمد ، بأن لا يعذبهم عند التكذيب ، كما عذب من قبلهم من الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، عند التكذيب ، بل يؤخرهم إلى يوم القيامة ، عن الكلبي .

{لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي : ليؤخرن جمعكم إلى يوم القيامة ، فيكون تفسيرا ل‍ {الرَّحْمَةَ} ، على ما ذكرناه أن المراد به إمهال العاصي ليتوب . وقيل : إن هذا احتجاج على من أنكر البعث والنشور ، ويقول : ليجمعنكم إلى اليوم الذي أنكرتموه ، كما تقول : جمعت هؤلاء إلى هؤلاء ، أي : ضممت بينهم في الجمع ، يريد بجمع آخركم إلى أولكم ، قرنا بعد قرن ، إلى يوم القيامة وهو الذي {لَا رَيْبَ فِيهِ} وقيل : معناه ليجمعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم إلى هذا اليوم الذي يجحدونه ، ويكفرون به ، عن الأخفش .

ويسأل عن هذا فيقال : كيف يحذر المشركين بالبعث ، وهم لا يصدقون به ؟

والجواب : إنه جار مجرى الإلزام ، وأيضا فإنه تعالى إنما ذكر ذلك عقيب الدليل .

ويقال : كيف نفى الريب مطلقا ، فقال : {لَا رَيْبَ فِيهِ} والكافر مرتاب فيه ؟

والجواب : إن الحق حق ، وإن ارتاب فيه المبطل ، وأيضا فإن الدلائل تزيل الشك والريب ، فإن نعم الدنيا تعم المحسن والمسيء ، فلا بد من دار يتميز فيه المحسن من المسيء . وأيضا فقد صح أن التكليف تعريف للثواب ، وإذا لم يمكن إيصال الثواب في الدنيا ، لأن من شأنه أن يكون صافيا من الشوائب ، فلا يكون مقترنا بالتكليف ، لأن التكليف لا يعرى من المشقة ، فلا بد من دار أخرى . وأيضا فإن التمكين من الظلم ، من غير انتصاف في العاجل ، وإنزال الأمراض من غير استحقاق ولا إيفاء عوض في العاجل ، توجب قضية العقل في ذلك أن يكون دار أخرى توفى فيها الأعواض ، وينتصف من المظلوم للظالم .

{الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي : أهلكوها بارتكاب الكفر والعناد {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أي : لا يصدقون بالحق ، ولما ذكر تعالى ملك السماوات والأرض ، عقبه بذكر ما فيهما ، فقال : {وَلَهُ مَا سَكَنَ} أي : وله كل متمكن ساكن {فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} خلقا ، وملكا ، وملكا ، وإنما ذكر الليل والنهار هنا ، وذكر السماوات والأرض فيما قبل ، لأن الأول يجمع المكان ، والثاني يجمع الزمان ، وهما ظرفان لكل موجود ، فكأنه أراد الأجسام والأعراض . وعلى هذا فلا يكون السكون في الآية ما هو خلاف الحركة ، بل المراد به الحلول كما قال ابن الأعرابي : إنه من قولهم : فلان يسكن بلد كذا أي : يحله . وهذا موافق لقول ابن عباس : وله ما استقر في الليل والنهار من خلق ، وقيل : معناه ما سكن في الليل للاستراحة ، وتحرك في النهار للمعيشة . وإنما ذكر الساكن دون المتحرك ، لأنه أعم وأكثر ، ولأن عاقبة التحرك السكون ، ولأن النعمة في السكون أكثر ، والراحة فيه أعم . وقيل : أراد الساكن والمتحرك ، وتقديره وله ما سكن ، وتحرك ، ألا أن العرب قد تذكر أحد وجهي الشيء ، وتحذف الآخر ، لأن المذكور ينبه على المحذوف كقوله تعالى : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل : 81] والمراد : الحر والبرد .

ومتى قيل : لماذا ذكر السكون والحركة من بين سائر المخلوقات ؟ فالجواب لما في ذلك من التنبيه على حدوث العالم ، وإثبات الصانع ، لأن كل جسم لا ينفك من الحوادث التي هي الحركة والسكون ، فإذا لا بد من محرك ومسكن لاستواء الوجهين في الجواز ولما نبه على إثبات الصانع ، عقبه بذكر صفته ، فقال : {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . والسميع : هو الذي على صفة يصح لأجلها أن يسمع المسموعات ، إذا وجدت ، وهو كونه حيا لا آفة به ، ولذلك يوصف به فيما لم يزل ، والعليم : هو العالم بوجوه التدابير في خلقه ، وبكل ما يصح أن يعلم . وإنما جعل الليل والنهار في هذه الآية كالمسكن ، لما اشتملا عليه ، لأنه ليس يخرج منهما شيء ، فجمع كل الأشياء بهذا اللفظ القليل الحروف ، وهذا من أفصح ما يمكن ، كما قال النابغة .

فإنك كالليل الذي هو مدركي        وإن خلت أن المنتأى عنك واسع (2)

فجعل الليل مدركا له ، إذ كان مشتملا عليه .

 

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام : 13 - 15] .

 

{قل} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سبق ذكرهم {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} أي : مالكا ، ومولى . وولي الشيء : مالكه الذي هو أولى من غيره .

والمعنى : لا أتخذ غير الله وليا . إلا أن اخراجه على لفظ الاستفهام أبلغ من سائر ألفاظ النفي {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي : خالقهما ومنشئهما من غير احتذاء على مثال {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} أي : يرزق ولا يرزق . والمراد : يرزق الخلق ، ولا يرزقه أحد . وقيل : إنما ذكر الإطعام ، لأن حاجة العباد إليه أشد ، ولأن نفيه عن الله أدل على نفي شبهه بالمخلوقين ، لأن الحاجة إلى الطعام لا تجوز الا على الأجسام ، واحتج سبحانه بهذا على الكفار ، لأن من خلق السماوات والأرض ، وأنشأ ما فيهما ، وأحكم تدبيرهما ، وأطعم من فيهما ، وهم فقراء إليه ، معلوم أنه الذي ليس كمثله شيء ، وهو القادر ، القاهر ، الغني ، الحي ، فلا يجوز لمن عرف ذلك أن يعبد غيره .

{قل} يا محمد {إِنِّي أُمِرْتُ} أي : أمرني ربي {أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أي : استسلم لأمر الله ورضي بحكمه . وقيل : معناه أمرت أن أكون أول من أخلص العبادة من أهل هذا الزمان ، عن الكلبي . وقيل : أول من أسلم من أمتي ، وآمن بعد الفترة ، عن الحسن . وإنما كان أول ، لأنه خص بالوحي . وقيل : معناه أن أكون أول من خضع ، وآمن ، وعرف الحق من قومي ، وأن أترك ما هم عليه من الشرك .

ونظيره قول موسى : {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف : 143] أي : بأنك لا ترى ممن سألك أن تريه نفسك ، وقول السحرة {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء : 51] بأن هذا ليس بسحر ، وانه الحق أي : أول المؤمنين من السحرة {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} المعنى : أمرت بالأمرين جميعا أي : أمرت بالإيمان ، ونهيت عن الشرك ، وتقديره وقيل لي : لا تكونن من المشركين ، وصار {أُمِرْتُ} بدلا من ذلك ، لأنه حين قال : {أُمِرْتُ} أخبر أنه قيل له ذلك . فقوله : {وَلَا تَكُونَنَّ} معطوف على ما قبله في المعنى . {قل} يا محمد {إِنِّي أَخَافُ} قيل : معناه أوقن ، وأعلم . وقيل : هو من الخوف {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} بترك أمره ، وترك نهيه . وقيل :

بعبادة غيره . وقيل : باتخاذ غيره وليا {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} : يعني يوم القيامة . ومعنى العظيم هنا : أنه شديد على العباد ، وعظيم في قلوبهم .

 

{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام : 16] .

 

{مَنْ يُصْرَفْ} العذاب {عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} الله ، يريد : من غفر له فإنه يثيبه الله لا محالة ، وذكر سبحانه الرحمة مع صرف العذاب ، لئلا يتوهم أنه ليس له إلا صرف العذاب عنه فقط {وَذَلِكَ الْفَوْز} أي : الظفر بالبغية {الْمُبِينُ} الظاهر البين ، ويحتمل أن يكون معنى الآية : إنه لا يصرف العذاب عن أحد الا برحمة الله ، كما روي أن النبي (صلَّ الله عليه وآله وسلم) قال : (والذي نفسي بيده ! ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل . ووضع يده على فوق رأسه وطول صوته) ، رواه الحسن في تفسيره .

____________________________

1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 15-20 .

2 . المنتأى كمنتهى : اسم مكان من انتأى من النأي بمعنى : البعد ، يقول : إنك كالليل الذي يدركني أين كنت ، وإن أبعد في الهرب ، فأذهب إلى أقصى الأرض لسعة ملكك .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ والأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ}. أمر اللَّه نبيه الأكرم أن يسأل مشركي العرب : من يملك السماوات والأرض ؟ . ثم أمره أن يجيب عنهم بأن اللَّه وحده هو مالك الملك ، وجاز أن يكون هو السائل والمجيب لأن كلا من المسؤول والسائل متفقان على الجواب . . فان مشركي العرب كانوا يؤمنون بأن اللَّه خالق الكون ومالكه : {ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت - 61] .

وتسأل : ما دام الأمر كذلك فأي جدوى من السؤال ؟ .

الجواب : ان القصد من السؤال وجوابه استدراج الخصم إلى الاعتراف بإمكان النشر والحشر ، وإقامة الحجة عليه ، لأن اللَّه سبحانه إذا كان هو خالق الكون ومالكه فهو - إذن - قادر على التصرف فيه فناء وإعادة .

{كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}. وأعاد سبحانه هذه الجملة في الآية 54 من هذه السورة . قال المفسرون : أوجب اللَّه على نفسه الرحمة إيجاب فضل وكرم . .

ونحن نؤمن بأن اللَّه ذو فضل وكرم ، وفي الوقت نفسه نؤمن بأن رحمته نتيجة حتمية لغناه في ذاته عن كل شيء ، وافتقار كل شيء إليه تعالى ، لأن المخلوق مفتقر بطبعه إلى عناية الخالق ورحمته افتقار المعلول إلى علته ، والمسبب إلى سببه . .

فرحمة اللَّه بعباده لا تنفك عن ذاته وكماله ، وعلى هذا يكون معنى {كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ان رحمته حتم لذاته القدسية ، تماما كالقدرة والعلم .

{لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ}. وهذا الجمع حتم أيضا ، ولذا وصفه جل ثناؤه بقوله : {لا رَيْبَ فِيهِ}. لأن فيه يقتص للمظلوم من الظالم ، ويجازى المسيء على السيئة بمثلها ، والمحسن على الحسنة بأضعاف مضاعفة من أمثالها ، ولو لا هذا اليوم لذهب الحق هدرا ، وكان الأقدر هو صاحب الأمر والنهي ، وليس خالق الكون ومالكه .

{الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}. قال الزمخشري : لقد اختار الكافرون الخسران ، فهم لذلك غير مؤمنين . والزمخشري من أهل الاعتزال القائلين : الإنسان مخير ، لا مسير . وقال الرازي : إن اللَّه هو الذي قضى بخسرانهم ، ولهذا امتنعوا عن الايمان . والرازي من الأشاعرة القائلين : الإنسان مسير ، لا مخير . وقال آخرون : امتنع الكفار عن الايمان تقليدا لآبائهم .

وفي تصورنا ان الآية تشير إلى حقيقة الإنسان ، وانها تتكون من نفسه وجسمه ، وان كلا منهما جزء متمم للآخر ، وان الإنسان لا يحيا حياة صحيحة إلا إذا عمل لهما معا ، وان من عمل للروح دون المادة ، أو للمادة دون الروح فقد خسر كيانه من الأساس ، ومن خسر كيانه لا يكون من الايمان في شيء .

{ولَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ والنَّهارِ وهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. أي انه تعالى هو المالك لكل شيء . وتسأل : لقد دل على هذا المعنى قوله تعالى في الآية المتقدمة : {قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ والأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ}فما هو الوجه لهذا التكرار ؟

وأجاب المفسرون بأن الآية الأولى استقصت الخلق من حيث الزمان ، والثانية من حيث المكان ، وهما ظرفان لكل موجود ماديا كان ، أو معنويا ، فحصل العموم والشمول بالآيتين جميعا ، وعقّب سبحانه بصفتي السمع والعلم تأكيدا لهذه الإحاطة .

وتقدم أكثر من مرة ان التكرار في القرآن غير عزيز ، ولكن المفسرين يحاولون أن يأتوا بشيء ، وإن لم تدع الحاجة إليه .

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا}؟ وكيف استعين بغيره ، وهو {فاطِرِ السَّماواتِ والأَرْضِ وهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ}. ومن دونه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ}. لأن محمدا (صلَّ الله عليه وآله) هو الداعي الأول إلى الإسلام ، فيكون هو المسلم الأول من أمته ، والا كان من الذين يأمرون ولا يأتمرون . . حاشا من اصطفاه اللَّه لرسالته . {ولا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. ومحال أن يكون منهم ، وإنما صح هذا النهي لأنه موجه من الأعلى إلى من هو دونه ، كما قلنا أكثر من مرة .

{قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. المعصية من النبي محال لمكان العصمة ، ولكن فرض المحال ليس بمحال . . والغرض تقرير أو تأكيد مبدأ المساواة بين الناس جميعا أمام اللَّه ، وانه خلق تعالى الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدا حبشيا ، والنار لمن عصاه ولو كان سيدا قرشيا . . ويأتي الخوف من اللَّه سبحانه على قدر العلم بعظمته : {إِنَّما يَخْشَى اللَّهً مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} [فاطر – 28] وبالأولى الأنبياء .

{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}. كل من يخاف الهول الأكبر يرى النجاة منه رحمة كبرى ، وفوزا لا شيء أعظم منه .

____________________________

1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 166-168 .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قوله تعالى : {قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} شروع في البرهنة على المعاد ، ومحصله أن الله تعالى مالك ما في السماوات والأرض جميعا له أن يتصرف فيها كيف شاء وأراد ، وقد اتصف سبحانه بصفة الرحمة وهي رفع حاجة كل محتاج وإيصال كل شيء إلى ما يستحقه وإفاضته عليه وعدة من عباده ومنهم الإنسان صالحون لحياة خالدة مستعدون لأن يسعدوا فيها فهو بمقتضى ملكه ورحمته سيتصرف فيهم بحشرهم وإعطائهم ما يستحقونه البتة .

فقوله تعالى : {قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} إلخ ، يتضمن إحدى مقدمات الحجة وقوله : {كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} يتضمن مقدمة أخرى ، وقوله : {وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} إلخ ، مقدمة أخرى ثالثة بمنزلة الجزء من الحجة .

فقوله تعالى : {قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} إلخ ، يأمر النبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله أن يسألهم عمن يملك السماوات والأرض وله التصرف فيها بما شاء من غير مانع يمنعه ، وهو الله سبحانه من غير شك لأن غيره حتى الأصنام وأرباب الأصنام التي يدعوها المشركون هي كسائر الخلقة ينتهي خلقها وأمرها إليه تعالى فهو المالك لما في السماوات والأرض جميعا .

ولكون المسئول عنه معلوما بينا عند السائل والمسئول جميعا والخصم معترف به لم يحتج إلى صدور الجواب عن الخصم واعترافه به بلسانه ، وأمر النبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله أن يذكر هو الجواب ويتكفل ذلك لتتم الحجة من غير انتظار ما لجوابهم .

والسؤال عن الخصم ، ومباشرة السائل بنفسه الجواب كلاهما من السلائق البديعة الدائرة في سرد الحجج ، يقول المنعم لمن أنعم عليه فكفر بنعمته : من الذي أطعمك وسقاك وكساك ؟ أنا الذي فعل ذلك بك ومن بها عليك وأنت تجازيني بالكفر .

وبالجملة ثبت بهذا السؤال والجواب أن الله سبحانه هو المالك على الإطلاق فله التصرف فيها بما شاء من إحياء ورزق وإماتة وبعث بعد الموت من غير أن يمنعه من ذلك مانع كدقة في العمل وموت وغيبة واختلال وغير ذلك . وبهذا تمت إحدى مقدمات الحجة فألحقها المقدمة الأخرى وهي قوله : {كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}.

قوله تعالى : {كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} الكتابة هو الإثبات والقضاء الحتم ، وإذ كانت الرحمة ـ وهي إفاضة النعمة على مستحقها وإيصال الشيء إلى سعادته التي تليق به ـ من صفاته تعالى الفعلية صح أن ينسب إلى كتابته تعالى ، والمعنى : أوجب على نفسه الرحمة وإفاضة النعم وإنزال الخير لمن يستحقه .

ونظيره في نسبة الفعل إلى الكتابة ونحوها قوله تعالى : {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}  [ المجادلة : 21 ] وقوله : {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ}  [ الذاريات : 23 ] وأما صفات الذات كالحياة والعلم والقدرة فلا تصح نسبتها إلى الكتابة ونحوها البتة لا يقال : كتب على نفسه الحياة والعلم والقدرة .

ولازم كتابة الرحمة على نفسه ـ كما تقدم ـ أن يتم نعمته عليهم بجمعهم ليوم القيامة ليجزيهم بأقوالهم وأعمالهم فيفوز به المؤمنون ويخسر غيرهم .

ولذلك ذيل بقوله وهو كالنتيجة في الحجة : {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} فأكد المعنى بأبلغ التأكيد : لام القسم ونون التأكيد وقوله : {لا رَيْبَ فِيهِ} .

ثم أشار إلى أن الربح في هذا اليوم للمؤمنين والخسران على غيرهم فقال : {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} .

والحجة التي أقيمت في هذه الآية على المعاد غير ما أقيمت من الحجتين عليه في قوله تعالى : {وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}  [ص : 28 ] فإن الآيتين تقيمان الحجة على المعاد من جهة أن فعله تعالى ليس بباطل بل له غاية ، ومن جهة أن التسوية بين المؤمن والكافر والمتقي والفاجر ظلم لا يليق به تعالى ، وهما في الدنيا لا يتميزان فلا بد من نشأة أخرى يتميزان فيها بالسعادة والشقاوة ، وهذا غير ما في هذه الآية من السلوك إلى المطلوب من طريق الرحمة.

قوله تعالى : {وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} السكون في الليل والنهار هو الوقوع في ظرف هذا العالم الطبيعي الذي يدبر أمره بالليل والنهار ، ويجري نظامه بغشيان النور الساكب من شمس مضيئة ، وعمل التحولات النورية فيه بالقرب والبعد والكثرة والقلة والحضور والغيبة والمسامتة وغيرها .

فالليل والنهار هما المهد العام يربى فيه العناصر الكلية ومواليدها تربية تسوق كل جزء من أجزائها وكل شخص من أشخاصها إلى غايته التي قدرت له ، وتكملها روحا وجسما.

وكما أن للمسكن عاما وخاصا دخلا تاما في كينونة الساكن كالإنسان مثلا يسكن أرضا فيطوف بها في طلب الرزق ، ويرتزق مما يخرج منها من حب وفاكهة وما يتربى فيها من حيوان ، ويشرب من مائها ، ويستنشق من هوائها ، ويفعل وينفعل من كيفيات منطقتها ، وينمو جميع أجزاء جسمه على حسب تقديرها كذلك الليل والنهار لهما الدخل التام في تكون عامة ما يتكون فيهما.

والإنسان من الأشياء الساكنة في الليل والنهار تكون بمشية الله من ائتلاف أجزاء بسيطة ومركبة على صورة خاصة يمتاز وجوده حدوثا وبقاء بحياة تقوم على شعور فكري وإرادة يتهيئان له من قوى له باطنية عاطفية تأمره بجذب المنافع ودفع المضار ، وتدعوه إلى إيجاد مجتمع متشكل فيه ما نراه من تفاصيل التفاهم باللغات والتباني على اتباع السنن والقوانين والعادات في المعاشرات والمعاملات ، واحترام الآراء والعقائد العامة في الحسن والقبح والعدل والظلم والطاعة والمعصية والثواب والعقاب والجزاء والعفو .

وإذا كان الله سبحانه هو الخالق لليل والنهار وما سكن فيهما المتفرد بإيجادها فله ما سكن في الليل والنهار ، وهو المالك الحق لجميع الليل والنهار وسكانهما وما يستعقب وجودها من الحوادث والأفعال والأقوال ، وله النظام الجاري فيها على عجيب سعته فهو السميع لأقوالنا من أصوات وإشارات ، والعليم بأعمالنا وأفعالنا بما لها من صفتي الحسن والقبح ، والعدل والظلم والإحسان والإساءة ، وما تكتسبه النفوس من سعادة وشقاء .

وكيف يمكنه الجهل بذلك وقد نشأ الجميع في ملكه وبإذنه؟ ونحو وجود هذا النوع من الأمور أعني الحسن والقبح والعدل والظلم والطاعة والمعصية ، وكذا اللغات الدالة على المعاني الذهنية كل ذلك أمور علمية لا تحقق لها في غير ظرف العلم ، ولذلك نرى أن الفعل لا يقع منا حسنا ولا قبيحا ولا طاعة ولا معصية ، والصوت المؤلف لا يسمى كلاما إلا إذا علمنا به وقصدنا وجهه.

وكيف يمكن أن يملك شيء علمي في نفسه من حيث كونه كذلك ثم يجهله مالكه ولا يعلم به ؟ (أجد التأمل فيه).

والله سبحانه هو الذي أوجد هذا العالم على عجيب سعته في أجزائه البسيطة والعنصرية والمركبة على نظام يدهش اللب ، ثم خلقنا وأسكننا الليل والنهار ثم كثرنا وأجرى بيننا نظام الاجتماع الإنساني ثم هدانا إلى وضع اللغات ، واعتبار السنن ووضع الاعتبارات ، ولم يزل يصاحبنا ويصاحب سائر الأسباب خطوة خطوة ، ويجارينا وإياها في مسير الليل والنهار لحظة لحظة ، وساق حوادث لا نحصيها حادثة بعد حادثة.

حتى تكلم الواحد منا بكلام فوضع المعنى في قلبه بإلهامه ، وأجرى اللفظ في لسانه بتعريفه ، وأسمع الصوت لمخاطبه بإسماعه ، وسار بمعناه إلى ذهنه بحفظه ، وفهم المعنى لمفكرته بتعليمه ، ثم بعثه لموافقة ما ألقاه إليه المتكلم أو صده عن ذلك بإرادة باعثة له إليه أو كراهة دافعة له عنه ، وهو في جميع هذه المراحل التي تعجز عن الانعقاد عليها أنامل العد والإحصاء قائد وسائق وهاد وحفيظ ورقيب! فكيف يسع لقائل إلا أن يقول : إنه تعالى سميع عليم ، وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم.

وكذا إذا عمل الواحد منا بعمل حسنة كان أو سيئة فهو مولود من أب وأم يولدانه تحت مراقبة الاختيار والإرادة ، وقد انتقل إليهما بعد ما قطع طريقا بعيدا وأمدا مديدا في أصلاب أسباب فاعله ، وأرحام علل أخرى منفعلة إلى أن ينتهي بما الله أعلم به ، ولم يزل سبحانه ينقله بإرادته من حجر إلى حجر ، والأرض قبضته والسماوات بيمينه حتى نزل منزل الاختيار فصاحبه منزلا بعد منزل بإذنه حتى طلع من أفق العين ، وأخذ موضعه من مسكن الليل والنهار ثم لا يزال يجري فيما يتأثر منه من أجزاء الكون كأحد الأسباب الجارية ، والله سبحانه عليه شهيد وبه محيط فكيف يمكن أن يغفل سبحانه عما هذا شأنه؟ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.

ومما تقدم يظهر أن قوله تعالى : {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} بمنزلة النتيجة لقوله : {وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} .

والسمع والعلم وإن كانا معدودين من صفاته تعالى الذاتية التي هي عين الذات المتعالية من غير أن يتفرع على أمر غيرها لكن من العلم وكذا السمع والبصر ما هو صفة فعلية خارجة عن الذات وهي التي يتوقف ثبوتها على تحقق متعلق غير الذات المقدسة كالخلق والرزق والإحياء والإماتة المتوقفة على وجود مخلوق ومرزوق وحي وميت .

والأشياء لما كانت بأنفسها وأعيانها مملوكة محاطة له تعالى فهي إن كانت أصواتا سمع ومسموعة له تعالى ، وإن كانت أنوارا وألوانا بصر ومبصرة له تعالى ، والجميع كائنة ما كانت علم ومعلومة له تعالى ، وهذا النوع من العلم من صفاته الفعلية التي تتحقق عند تحقق الفعل منه تعالى لا قبل ذلك ، ولا يلزم من ثبوتها بعد ما لم تكن تغير في ذاته تعالى وتقدس لأنها لا تعدو مقام الفعل ، ولا يدخل في عالم الذات فالآية في استنتاجها العلم من الملك تريد إثبات العلم الفعلي ، فافهم ذلك .

والآية أعني قوله : {وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} إلخ ، كإحدى مقدمات الحجة المبينة بالآية السابقة فإن الحجة على المعاد وإن تمت بقوله : {قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} لكن النظر الابتدائي الساذج ربما غفل عن كون ملكه تعالى للأشياء مستلزما لعلمه بها وسمعه بما يسمع منها كالأصوات والأقوال .

ولذلك نبه عليه بتكرار ملك السماوات والأرض ، وتفريع السمع والعلم عليه فقال : {وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} ـ وهو في معنى قوله : « له ما في السماوات والأرض ـ وهو السميع العليم » فكانت هذه الآية لذلك بمنزلة مقدمة متممة للحجة المسرودة في الآية السابقة .

والآية ـ على أنا لم نستوف حقها ولن يستوفي ـ من أرق الآيات القرآنية معنى وأدقها إشارة وحجة ، وأبلغها منطقا .

قوله تعالى : {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} شروع في الاحتجاج على وحدانيته تعالى وأن لا شريك له .

والذي يتحصل من تاريخ الوثنية واتخاذ الأصنام والآلهة أنهم كانوا إنما دانوا بذلك وخضعوا للآلهة لأحد أمرين : إما أنهم وجدوا أنفسهم في حاجة إلى أسباب كثيرة في إبقاء الحياة كالتغذي بالطعام واللباس والمسكن والأزواج والأولاد والعشيرة ونحو ذلك ، وعمدتها الطعام الذي حاجة الإنسان إليه أشد من حاجته إلى غيره بحسب النظر الساذج ، وقد اعتقدوا أن لكل صنف من أصناف هذه الحوائج تعلقا بسبب هو الذي يجود لهم بالتمتع من وسيلة رفع تلك الحاجة كالسبب الذي يمطر السماء فينبت المرعى والكلأ لدوابهم ويمنع بالخصب لأنفسهم ، والسبب الذي يدبر أمر السهل والجبل أو يلقي بالمحبة والألفة أو إليه أمر البحر والسفائن الجارية فيه .

ثم وجدوا أن قوتهم لا تفي بالتسلط على تلك الحاجة أو الحوائج الضرورية فاضطروا إلى الخضوع إلى السبب المربوط بحاجتهم واتخاذه إلها ثم عبادته .

وإما لأنهم وجدوا هذا الإنسان الأعزل غرضا لسهام الحوادث محصورا بمكاره وشرور عامة عظيمة لا يقاومها كالسيل والزلزلة والطوفان والقحط والوباء ، وببلايا ومحن أخرى جزئية لا يحصيها كالأمراض والأوجاع والسقوط والفقر والعقم والعدو والحاسد والشانئ وغير ذلك ، ثم وضعوا لها أسبابا قاهرة هي المرسلة لها إليهم ، والقاصمة بها ظهورهم ، والمكدرة لصفوة عيشهم ، وهي مخلوقات علوية كأرباب الأنواع وأرواح الكواكب والأجرام العلوية فاتخذوها آلهة خوفا من سخطهم وعذابهم ، وعبدوها ليستميلوها بالعبادة ويرضوها بالخضوع والاستكانة فيخلصوا بذلك عن المكاره والرزايا ويأمنوا شرورها والمضار النازلة منها إليهم .

والآية أعني قوله : {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} إلخ ، والآيات التالية لها تحتج على المشركين بقلب حجتيهم بعينهما إليهم أي تسلم أصل الحجة وتعدها حقة لكن تبين أن لازمها أن يعبد الله سبحانه وحده ، وينفى عنه كل شريك موضوع .

فقوله تعالى : {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} إشارة إلى الحجة من المسلك الأول ، وهو مسلك الرجاء أن يعبد الإله لأنه منعم فيكون عبادته شكرا لإنعامه سببا لمزيده .

أمر سبحانه نبيه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله أن يبين لهم في صورة الاستفهام والسؤال أن الله سبحانه وحده هو الولي للنعمة التي يتنعم بها الإنسان وغيره لأنه هو الرازق الذي لا يحتاج إلى أن يرزقه غيره يطعم ولا يطعم ، والدليل عليه أنه تعالى هو الذي فطر السماوات والأرض ، وأخرجها من ظلمة العدم إلى نور الوجود ، وأنعم عليها بنعمة التحقق والثبوت ، ثم أفاض عليها بنعم لا يحصيها إلا هو لإبقاء وجودها ، ومنها الإطعام للإنسان وغيره فإن جميع هذه النعم المعدة لبقاء وجود الإنسان وغيره ، والأسباب التي تسوق تلك النعم إلى محال الاستحقاق كل ذلك ينتهي إلى فطرة وإيجاده الأشياء والأسباب ومسبباتها جميعا من صنعه .

فإليه سبحانه يرجع الرزق الذي من أهم مظاهره عند الإنسان الإطعام فيجب أن يعبد الله وحده لأنه هو الذي يطعمنا من غير حاجة إلى إطعام من غيره .

فظهر بما بيناه أولا : أن التعبير عن العبودية والتأله باتخاذ الولي في قوله : {أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} إنما هو لكون الحجة مسوقة من جهة إنعامه تعالى بالإطعام .

وثانيا : أن التعلق بقوله : {فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} إنما هو لبيان سبب انحصار الإطعام به تعالى كما تقدم تقريره ، وربما استفيد ذلك من التعريض الذي في قوله : {وَلا يُطْعَمُ} فإن فيه تعريضا بكون سائر من اتخذوهم آلهة محتاجين كعيسى وغيره إلى إطعام أو ما يجري مجراه .

ومن الممكن أن يستفاد من ذكره في الحجة أنه إشارة إلى مسلك آخر في إقامة الحجة على توحيده تعالى هو أشرف من المسلكين جميعا ، ومحصله أن الله سبحانه هو الموجد لهذا العالم ، وإلى فطرة ينتهي كل شيء فيجب الخضوع له .

ووجه كون هذا المسلك أشرف : هو أن المسلكين الآخرين وإن كانا أنتجا توحيد الإله من جهة أنه معبود لكنهما لا يخلوان مع ذلك من شيء ، وهو أنهما ينتجان وجوب عبادته طمعا في النعمة أو خوفا من النقمة فالمطلوب بالذات هو جلب النعمة أو الأمن من النقمة دونه تعالى وتقدس ، وأما هذا المسلك فإنه ينتج وجوب عبادة الله لأنه الله سبحانه .

وثالثا : أن اختصاص الإطعام من بين نعمه تعالى على كثرتها بالذكر إنما العناية فيه كون الإطعام بحسب النظر الساذج أوضح حوائج الحيوان العائش ومنه الإنسان .

ثم أمر سبحانه بعد تمام الحجة نبيه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله أن يذكر لهم ما يؤيد به هذه الحجة العقلية ، وهو أن الله أمره من طريق الوحي أن يجري في اتخاذ الإله على الطريق الذي يهدي إليه العقل وهو التوحيد ، ونهاه صريحا أن يتخطاه إلى أن يلحق بالمشركين فقال : {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} ثم قال : {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .

بقي هنا أمران :

أحدهما : أن قوله : {أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} إن كان المراد أول من أسلم من بينكم فهو ظاهر فقد أسلم ص قبل أمته ، وإن كان المراد به أول من أسلم من غير تقييد كما هو ظاهر الإطلاق كانت أوليته في ذلك بحسب الرتبة دون الزمان .

وثانيهما : أن نتيجة الحجة لما كانت هي العبودية وهي نوع خضوع وتسليم كان استعمال لفظة الإسلام في المقام أولى من لفظة الإيمان لما فيه من الدلالة على غرض العبادة ، وهو الخضوع .

قوله تعالى : {قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وهذا هو المسلك الثاني من المسلكين اللذين تقدم أن المشركين تعلقوا بهما في اتخاذ الآلهة ، وهو أن عبادة آلهتهم يؤمنهم من شمول سخطها ونزول عذابها .

وقد أخذ سبحانه في الحجة أخوف ما يجب أن يخاف منه من أنواع العذاب وأمره وهو عذاب الساعة التي ثقلت في السماوات والأرض كما أخذ في الحجة الأولى أحوج ما يحتاج إليه الإنسان بحسب بادئ النظر من النعم ، وهو الإطعام .

وقد قيل : {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} دون أن يقال : إن أشركت بربي إشارة إلى ما في قوله تعالى في الآية السابقة : {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} من نهيه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله عن الشرك فأدت الآية أن من الواجب علي عقلا أن أعبد الله وحده لأومن مما أخاف من عذاب يوم عظيم ، وهذا الذي دل عليه العقل دلني عليه الوحي من ربي .

وبهذا تناظر هذه الآية الآية السابقة من جهة إقامة الحجة العقلية أولا ثم تأييده بالوحي من الله سبحانه فافهم ذلك ، وهذا من لطائف إيجاز القرآن الكريم فقد اكتفى في إفادة هذا المعنى على سعته بمجرد وضع قوله : {عَصَيْتُ} موضع أشركت .

قوله تعالى : {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} إلخ ، المعنى ظاهر الآية متممة للحجة المسرودة في الآية السابقة فظاهر الآية السابقة بحسب النظر البسيط إقامة النبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله الحجة في وجوب التوحيد على نفسه بأن الله نهاه عن الشرك فيجب عليه توحيده ليؤمن عذاب الآخرة .

فيلوح لنظر المغفل غير المتدبر أن يرد عليه الحجة بأن النهي لما كان مختصا بك كما تدعيه يختص الخوف ثم وجوب التوحيد أيضا بك فلا تقتضي الحجة وجوب التوحيد ونفي الشريك على غيرك ، وتصير الحجة عليك لا على غيرك .

فأفاد بقوله : {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} أن عذابه مشرف على الجميع محيط بالكل لا مخلص عنه إلا برحمته فعلى كل إنسان أن يخاف من عذاب يومئذ على نفسه ما يخافه النبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله على نفسه فالحجة عامة قائمة على جميع الناس لا خاصة به صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله .

________________________

1. تفسير الميزان ، ج7 ، ص 23-30 .

 

تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الانعام : 12-13] .

يواصل القرآن مخاطبة المشركين ، ففي الآيات السابقة دار الكلام حول التوحيد وعبادة الله الأحد وهنا يدور الحديث عن المعاد ، وبالإشارة إلى مبدأ التوحيد يواصل القول عن المعاد بطريقة رائعة ، هي طريقة السؤال والجواب ، والسائل والمجيب كلاهما واحد ، وهو من الأساليب الأدبية الجميلة.

يتكون الاستدلال هنا على المعاد من مقدمتين :

أوّلا : يقول : {قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}. ثمّ يقول مباشرة : أجب أنت بلسان فطرتهم وروحهم : {قُلْ لِلَّهِ} ، فبموجب هذه المقدمة يكون كل عالم الوجود ملكا لله وبيده وتدبيره .

ثانيا : إنّ الله هو وحده مصدر كل رحمة ، وهو الذي أوجب على نفسه الرحمة ، ويفيض بنعمه على الجميع : {كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} .

أيمكن لربّ هذا شأنه أن يقطع سلسلة حياة البشر نهائيا بالموت فيوقف التكامل واستمرار الحياة ؟ أيتفق هذا مع مبدأ كون الله «فياضا» و «ذا رحمة واسعة» ؟ أيمكن أن يكون قاسيا على عباده بهذا الشكل ، وهو مالكهم ومدبر شؤونهم ، بحيث أنّهم بعد مدّة يفنون ويتبدلون إلى لا شيء ؟

طبعا لا ، إذ أنّ رحمته الواسعة توجب عليه أن يسير بالكائنات ـ وخاصة البشر ـ في طريق التكامل ، بمثل ما يجعل برحمته من البذرة الصغيرة الزهيدة شجرة ضخمة قوية ، أو يحيلها إلى شجيرة ورد جميلة ، كما أنّه بفيض رحمته يبدل النطفة التافهة إلى انسان كامل ، هذه الرحمة نفسها توجب أن يرتدي الإنسان ـ الذي عند امكانية الخلود ـ لباس حياة جديدة بعد موته في عالم أوسع ، تدفعه يد الرحمة في سيره التكاملي الأبدي ، لذلك يقول بعد هاتين المقدمتين : {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ}.

إنّ الآية تبدأ بالاستفهام التقريري الذي يراد به انتزاع الإقرار من السامع ، ولمّا كان هذا الأمر مسلما به بالفطرة ، كما كان المشركون يعترفون بأنّ مالك عالم الوجود ليس الأصنام ، بل الله ، فإنّ الجواب يرد مباشرة ، وهذا أسلوب جميل في عرض مختلف المسائل .

في مواضع أخرى من القرآن يستدل على المعاد بطرق أخرى ، بطريق قانون العدالة ، وقانون التكامل ، والحكمة الإلهية ، ولكن الاستدلال بالرحمة استدلال جديد جاءت به هذه الآية.

في نهاية الآية إشارة إلى مصير المشركين المعاندين وعاقبتهم ، فهؤلاء الذين أضاعوا رأس مال وجودهم في سوق تجارة الحياة ، لا يؤمنون بهذه الحقائق : {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.

ما أعجب هذا التعبير! فقد يخسر المرء أحيانا ثروته أو مركزه أو أي نوع آخر من أنواع رأس المال ، ففي هذه الحالات يكون قد خسر شيئا ، ولكن هذا الشيء الذي خسره لا يكون جزءا من وجوده ، أي أنّه خارج وجوده ، أمّا أعظم الخسائر التي هي في الواقع الخسارة الحقيقية ، فهي عند ما يخسر الإنسان أصل وجوده.

إنّ أعداء الحقيقة والمعاندين يخسرون تماما رأس مال العمر ورأس مال الفكر والعقل والفطرة وجميع المواهب الروحية والجسمية التي كان ينبغي لهم أن يستخدموها في طريق الحقّ للوصول إلى مرحلة التكامل ، وعندئذ لا يبقي رأس المال ولا صاحبه.

لقد ورد هذا التعبير في عدد من آيات القرآن الكريم ، وهي تعبيرات مرعبة عن المصير المؤلم الذي ينتظر منكري الحقيقة والمذنبين الملوثين.

سؤال :

قد يقال : إنّ الحياة الأبدية تكون مصداقا للرّحمة بالنسبة للمؤمنين فقط ، أمّا لغيرهم فهي لا تعدو أن تكون شقاء وتعاسة.

الجواب :

لا شك أنّ الله هو الذي يوفر فرص الرحمة ، فهو الذي خلق الإنسان ، ووهب له العقل ، وأرسل له الأنبياء لقيادته وهدايته ، ومنحه مختلف أنواع النعم ، وفتح أمامه طريقا للحياة الخالدة ، فهذه كلّها ألوان من الرحمة.

والإنسان في غضون مسيرته للوصول إلى ثمرات هذه الرحمة إذا انحرف عن طريق وحول هذه الرحمة إلى عذاب وشقاء ، فإنّ ذلك لا يخرجها عن كونها رحمة ، بل الإنسان هو الملوم على الانحراف عنها وتبديلها إلى عذاب وألم.

الآية الثّانية تكمل في الواقع الآية السابقة ، فالآية السابقة تشير إلى أنّ الله مالك كلّ شيء يستوعبه ظرف «المكان» : {قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} ...؟

أمّا هذه الآية فتشير إلى ملكية الله لما يستوعيه ظرف «الزمان» الوسيع ، وتقول : {وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ}.

في الواقع ، عالم المادة هذا يتحدد بالزمان والمكان ، فكل الكائنات التي تقع ضمن ظرف المكان والزمان ـ أي عالم المادة كله ـ ملك لله.

وليس الليل والنهار مختصين ـ طبعا ـ بالمنظومة الشمسية ، فإنّ لجميع كائنات السماوات والأرض ليلا ونهارا ، بعضها له نهار دائم بلا ليل ، ولبعضها ليل بلا نهار ، ففي الشمس ـ مثلا ـ نهار دائم ، فهناك ضوء دائم بلا ظلام ، وفي بعض الكواكب الخامدة ، التي لا نور فيها ولا تجاوز النجوم ، ليل دائم سرمدي ، وهذه كلّها مشمولة بالآية المذكورة.

لا بدّ هنا أن نلاحظ أنّ «سكن» والسكونة تعني التوقف والاستقرار في مكان ما ، سواء أكان ذلك الموجود الساكن في حالة حركة أو سكون ، نقول مثلا : فلان «ساكن» في المدينة الفلانية ، أي أنّه مستقر هناك ، مع أنّه يمكن أن يكون متحركا في شوارعها.

كما يحتمل أن تقابل «السكون» في هذه الآية «الحركة» ، ولمّا كان السكون والحركة من الحالات النسبية ، فإنّ ذكر أحدهما يغنينا عن ذكر الآخر ، وعليه يصبح معنى الآية هكذا : كل ما هو كائن في الليل والنهار وظرف الزمان ساكنا كان أم متحركا ، ملك لله.

وبهذا يمكن أن تكون الآية إشارة إلى أحد أدلة التوحيد ، لأنّ «الحركة» و «السكون» حالتان عارضتان وحادثتان طبعا ، فلا يمكن أن تكونا قديمتين أزليتين ، لأنّ الحركة تعني وجود الشيء في مكانين مختلفين خلال زمانين ، والسكون يعني وجود الشيء في مكان واحد خلال زمانين ، وعليه فإنّ الالتفات إلى الحالة السابقة كامن في ذات الحركة والسكون. ونحن نعلم أنّ الشيء إذا كانت له حالة سابقة لا يمكن أن يكون أزليا .

نستنتج من هذا الكلام أنّ الأجسام لا تخلو من الحركة والسكون ، وأنّ ما لا يخلو من الحركة والسكون لا يمكن أن يكون أزليا ، وعليه فكل جسم حادث ، وكل حادث لا بدّ من محدث (خالق).

ولكن الله ليس جسما ، فلا حركة له ولا سكون ، ولا زمان ولا مكان ، ولذلك فهو أبدي أزلي .

وفي نهاية الآية ، وبعد ذكر التوحيد ، تشير الآية إلى صفتين بارزتين في الله فتقول : {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، أي أنّ اتساع عالم الوجود ، والكائنات في آفاق الزمان والمكان لا تحول أبدا دون أن يكون الله عليما بأسرارها ، بل إنّه يسمع نجواها ، ويعلم حركة النملة الضعيفة على الصخرة الصمّاء في الليلة الظّلماء في أعماق واد سحيق صامت ، وإنّه ليدرك حاجاتها وحاجات غيرها ، ويعلم ما تفعل.

{قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الانعام : 14-16] .

 

لا ملجأ غير الله !

من المفسّرين من يذكر أنّ سبب نزول الآية هو أنّه جاء جمع من أهل مكّة إلى رسول الله (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) وقالوا : يا محمّد ، إنّك تركت دين قومك ، ولم يكن ذلك إلّا بسبب فقرك ، فاقبل منّا نصف أموالنا تكن غنيا على أن نترك آلهتنا وشأنها وتعود إلى ديننا ، فنزلت هذه الآية ترد عليهم (2) .

سبق أن قلنا : إنّ آيات هذه السورة نزلت مرّة واحدة في مكّة ، كما جاء في الأخبار المروية ، لذلك لا يمكن أن يكون لكل منها سبب نزول خاص ، غير أنّ أحاديث كانت قد جرت قبل نزول هذه السورة بين رسول الله (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) والمشركين وبعض هذه الآيات تشير إلى تلك الأحاديث ، لذلك ليس ثمّة ما يمنع أن تكون أحاديث من هذا القبيل أيضا قد جرت بين رسول الله (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) والمشركين ، فيشير القرآن في هذه الآيات إلى أحاديثهم ويرد عليهم .

على كلّ حال ، الهدف من نزول هذه الآيات هو إثبات التوحيد ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام فالمشركون ، وإن اعتقدوا أنّ الله هو خالق العالم ، كانوا يتخذون من الأصنام ملجأ لأنفسهم ، ولربّما اتخذوا صنما لكل حاجة معينة ، فلهم إله للمطر ، وإله للظلام ، وإله للحرب والسلم ، وإله للرزق ، وهذا هو تعدد الأرباب الذي ساد اليونان القديم .

ولكي يزيل القرآن هذا التفكير الخاطئ ، يأمر رسول الله (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) أن {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} .

فإذا كان هو خالق عالم الوجود كله دون الاستناد إلى قدرة أخرى ، وهو الذي يرزق مخلوقاته ، فما الذي يدعو الإنسان إلى أن يتخذ من دونه وليا وربّا ؟ وإنّ كل الأشياء غيره مخلوقات وهي بحاجة إليه في كل لحظات وجودها ، فكيف يمكن لها أن تقضي حاجة الآخرين ؟

هذه الآية تستعمل كلمة «فاطر» في حديثها عن خالق السموات والأرض ، وأصل «الفطر» و «الفطور» هو الشق ، يروى عن ابن عباس أنّه قال : ما عرفت معنى فاطر السموات والأرض إلّا عند ما رأيت اعرابيين يتنازعان على بئر قال أحدهما : «أنا فطرتها» أي أنا أحدثتها وأوجدتها .

ولكننا اليوم أقدر من ابن عباس على معرفة معنى «فاطر» بالاستعانة بالعلوم الحديثة ، أنّه تعبير ينسجم مع أدق النظريات العلمية الحديثة عن تكون العالم ، لقد أظهرت دراسات العلماء أنّ العالم الكبير (الكون) والعالم الصغير (المنظومة الشمسية) كانت كلها كتلة واحدة تشققت على أثر الانفجارات المتتالية ، وتكونت المجرات والمنظومات والكرات ، وفي الآية (30) من سورة الأنبياء بيان أوضح لهذا الأمر : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما} .

والنقطة الأخرى التي ينبغي ألا نغفل عنها في هذه الآية هو أنّها تقتصر على توكيد اتصاف الله بإطعام مخلوقاته ورزقهم ، ولعل ذلك إشارة إلى أنّ أقوى حاجات الإنسان في حياته المادية هي حاجته إلى «لقمة العيش» كما يقال ، وهذه اللقمة هي التي تحمل الناس على الخضوع لأصحاب المال والقوّة ، وقد يصل خضوعهم لأولئك حدّ العبودية ، ففي هذا يقرر القرآن رزق الناس بيد الله لا بيد هؤلاء ولا بيد الأصنام ، فأصحاب المال والقوّة هم أنفسهم محتاجون إلى الطعام ، وأنّ الله هو وحده الذي يطعم الناس ولا يحتاج إلى طعام.

وفي آيات أخرى نرى القرآن يؤكّد مالكية الله ورزاقيته بإنزال الأمطار وإنبات النباتات ، وذلك لكي يزيل من أذهان البشر كليا فكرة اعتمادهم على مخلوقات مثلهم.

ثمّ للردّ على أولئك المشركين الذين كانوا يدعون رسول الله إلى الانضمام إليهم ، يؤكّد القرآن على ضرورة رفض دعوة هؤلاء انطلاقا من مبدأ نهي الوحي الإلهي عن ذلك ، إضافة إلى نهي العقل : {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) .

لا شك أنّ أنبياء الله والصالحين من أقوامهم سبقوا النّبي الخاتم في استسلامهم لأمر الله وعليه فإن قوله تعالى : {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} يعني أوّل مسلم من أمّة الرسالة الخاتمة.

كما أنّ هذا إشارة إلى أمر تربوي مهم أيضا ، وهو أنّ كل قائد ينبغي أن يكون في تطليق تعاليم دينه قدوة وطليعة ، عليه أن يكون أوّل المؤمنين برسالته ، وأوّل العاملين بها ، وأكثر الناس اجتهادا فيها ، وأسرعهم إلى التضحية في سبيلها.

الآية التّالية فيها توكيد أشدّ لهذا النهي الإلهي عن إتّباع المشركين : {قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (4) أي يأمر الله رسوله أن يقول بأنّه ليس مستثنى من القوانين الإلهية ، وأنّه يخاف ـ إن ركن إلى المشركين ـ عذاب يوم القيامة.

ومن هذه الآية نفهم أيضا أنّ شعور الأنبياء بالمسؤولية يفوق شعور الآخرين بها.

ولكي يتّضح أنّ النّبي (صلَّ‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) لا يستطيع شيئا بغير الاستناد إلى لطف الله ورحمته ، فكل شيء بيد الله وبأمره ، وحتى رسول الله (صلَّ‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) نفسه يترقب بعين الرجاء رحمة الله الواسعة ، ومنه يطلب النجاة والفوز : {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}.

هذه الآيات تبيّن منتهي درجات التوحيد ، وترد على الذين كانوا يرون للأنبياء سلطانا مستقلا عن ارادة الله ، كما فعل المسيحيون عند ما جعلوا من المسيح عليه ‌السلام المخلّص والمنقذ ، فتقول لهم : إنّ الأنبياء أنفسهم يحتاجون إلى رحمة الله مثلكم.

________________________

1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 25-31 .

2. تفسير أبي الفتوح الرازي وتفسير «مجمع البيان» في ذيل تفسير الآية .

3. جملة {إِنِّي أُمِرْتُ ...} من قبيل الخطاب غير المباشر ، وجملة «ولا تكونن» خطاب مباشر ، ولعل هذا الانتقال يقصد به القول بأنّ الابتعاد عن الشرك واستنكاره أهم بكثير من أن يكون المرء أول المسلمين ، ولذا جاء موضوع تجنب الشرك في خطاب مباشر ومؤكد بنون التوكيد الثقيلة .

4. يلاحظ أنّ تركيب عبارة الآية يقتضي أن تأتي جملة «أخاف» بعد جملة «إن عصيت ربى» لأنّها جواب الشرط ، غير أنّ تقديمها يفيد التأكيد على عظم إحساس رسول الله بالمسؤولية أمام أوامر الله تعالى .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .