أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-11-2015
4138
التاريخ: 13-12-2014
4157
التاريخ: 8-4-2017
3760
التاريخ: 13-12-2014
4232
|
روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال : (كان الله ولا شيء معه، فأول ما خلق نور حبيبه محمد (صلى الله عليه واله) قبل خلق الماء والعرش والكرسي والسماوات والأرض واللوح والقلم والجنة والنار والملائكة وادم وحواء بأربعة وعشرين وأربعمائة الف عام، فلما خلق الله تعالى نور نبينا محمد (صلى الله عليه واله) بقي ألف عام بين يدي الله (عز وجل) واقفا يسبحه ويحمده، والحق تبارك وتعالى ينظر اليه ويقول : ياعبدي، انت المراد والمريد، وانت خيرتي من خلقي، وزعتي وجلالي، لولاك ما خلقت الافلاك، من أحبك احبتته، ومن ابغضك ابغضته، فتلألا نوره، وارتفع شعاعه، فخلق الله منه اثني عشر حجابا، أولها حجاب القدرة، ثم حجاب العظمة، ثم حجاب العزة، ثم حجاب الهيبة، ثم حجاب الجبروت، ثم حجاب الرحمة، ثم حجاب النبوة، ثم حجاب الكبرياء، ثم حجاب المنزلة، ثم حجاب الرفعة، ثم حجاب السعادة، ثم حجاب الشفاعة.
ثم ان الله تعالى امر نور رسول الله (صلى الله عليه واله) أن يدخل في حجاب القدرة، فدخل وهو يقول : سبحان العلي الاعلى، وبقي على ذلك اثني عشر الف عام، ثم أمره ان يدخل في حجاب العظمة، فدخل وهو يقول : سبحانه عالم السر, وأخفى احد عشر الف سنة، ثم دخل في حجاب العزة وهو يقول : سبحان الملك المنان، عشر الاف عام، ثم دخل في جاب الهيبة وهو يقول : سبحانه من هو غني لا يفتقر، تسعة الف عام، ثم دخل في حجاب الجبروت وهو يقول : سبحان الكريم الاكرم، ثمانية الاف عام، ثم دخل في حجاب الرحمة وهو يقول : سبحان رب العرش العظيم، سبعة الاف عام، ثم دخل في حجاب النبوة وهو يقول : سبحان ربك رب العزة عما يصفون، ستة الاف عام، ثم دخل في حجاب الكرامة وهو يقول : سبحان العظيم الاعظم، خمسة الاف عام، ثم دخل في حجاب المنزلة وهو يقول : سبحان العظيم الكريم، اربعة الاف عام، ثم دخل حجاب الرفعة وهو يقول : سبحان ذي الملك والملكوت، ثلاث الاف عام، ثم دخل في حجاب السعادة، وهو يقول : سبحان من يزيل الاشياء ولا يزول، ألفي عام، ثم دخل في حجاب الشفاعة وهو يقول : سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ألف عام.
قال الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) : ثم ان الله تعالى خلق من نور محمد (صلى الله عليه واله) عشرين بحرا من نور، في كل بحر علوم لا يعلمها الا الله تعالى، ثم قال لنور محمد (صلى الله عليه واله) : انزل في بحر العز، فنزل، ثم في بحر الصبر، ثم في بحر الخشوع، ثم في بحر التواضع، ثم في بحر الرضا، ثم في بحر الوفاء، ثم في بحر الحلم، ثم في بحر التقى، ثم في بحر الخشية، ثم في بحر الانابة، ثم في بحر العمل، ثم في بحر المزيد، ثم في بحر الهدى، ثم في بحر الصيانة، ثم في بحر الحياء حتى تقلب في عشرين بحرا، فلما خرج من آخر الابحر، قال الله تعالى : يا حبيبي، ويا سيد رسلي، ويا أول مخلوقاتي، ويا آخر رسلي، أنت الشفيع يوم المحشر، فخر النور ساجدا، ثم قام فقطرت منه قطرات كان عددها مائة الف وأربعة وعشرين ألف قطرة، فخلق الله تعالى من كل قطرة من نوره نبيا من الانبياء، فلما تكاملت الانوار صارت تطوف حول نور محمد (صلى الله عليه واله) كما تطوف الحجاج حول بيت الله الحرام، وهم يسبحون الله ويحمدونه ويقولون : سبحان من هو عالم لا يجهل، سبحان من هو حليم لا يجعل، سبحان من هو غني لا يفتقر، فناداهم الله تعالى : تعرفون من أنا؟ فسبق نور محمد (صلى الله عليه واله) قبل الانوار ونادى : انت الله الذي لا اله الا انت وحدك لا شريك لك، رب الارباب، وملك الملوك، فاذا بالنداء قبل الحق : انت صفيي، وأنت حبيبي وخير خلقي، أمتك خير امة اخرجت للناس.
ثم خلق من نور محمد (صلى الله عليه واله) جوهرة وقسمها قسمين، فنظر الى القسم الاول بعين الهيبة فصار ماء عذبا، ونظرا الى القسم الثاني بعين الشفقة فخلق منه العرش فاستوى على وجه الماء، فخلق الكرسي من نور العرش، وخلق من نور الكرسي نور اللوح، وخلق من اللوح القلم، وقال له : اكتب توحيدي، فبقي القلم الف عام سكران من كلام الله تعالى، فلما افاق قال : اكتب، قال : يا رب، وما أكتب؟ قال : اكتب : لا اله الا الله، محمد رسول الله، فلما سمع القلم اسم محمد (صلى الله عليه واله) خر ساجدا وقال : سبحان الواحد القهار، سبحان العظيم الاعظم، ثم رفع رأسه من السجود وكتب :لا اله الا الله، محمد رسول الله، ثم قال : يا رب، ومن محمد الذي قرنت اسمه باسمك وذكره بذكرك؟ قال الله تعالى : يا قلم فلولاه ما خلقتك ولا خلقت خلقي الا لأجله فهو بشير ونذير وسراج منير وشفيع وحبيب فعند ذلك انشق القلم من حلاوة ذكر محمد (صلى الله عليه واله)، ثم قال القلم : السلام عليك يا رسول الله، فقال الله تعالى : وعليك السلام مني ورحمة الله وبركاته، فلأجل هذا صار السلام سنة والرد فريضة، ثم قال الله تعالى : اكتب قضائي وقدري وما أنا خالقه الى يوم القيامة ثم خلق الله ملائكة يصلون على محمد وال محمد ويستغفرون لامته الى يوم القيامة.
ثم خلق الله تعالى من نور محمد (صلى الله عليه واله) الجنة وزينها بأربعة اشياء : التعظيم، والجلالة، والسخاء، والامانة، وجعلها لأوليائه وأهل طاعته، ثم نظر الى باقي الجوهرة بعين الهيبة فذابت، فخلق من دخانها السماوات، ومن زبدها الأرضين، فلما خلق الله تبارك وتعالى الارض صارت تموج بأهلها كالسفينة، فخلق الله الجبال فأرسلها بها، ثم خلق ملكا من أعظم ما يكون في القوة فدخل تحت الارض ثم لم يكن لقدمي الملك قرار، فخلق الله صخرة عظيمة وجعلها تحت قدمي الملك، ثم لم يكن للصخرة قرار، فخلق لها ثورا عظيما لم يقدر احد ان ينظر اليه لعظم خلقه وبريق عيونه حتى لو وضعت البحار كلها في احد منخريه ما كانت الا كخردلة ملقاة في ارض فلاة، فدخل الثور تحت الصخرة وحملها على ظهره وقرونه، واسم ذلك الثور : لهونا، ثم لم يكن لذلك الثور قرار، فخلق الله له حوتا عظيما، واسم ذلك الحوت : بهموت، فدخل الحوت تحت قدمي الثور، فاستقر الثور على ظهر الحوت، فالأرض كلها على كاهل الملك، والملك على الصخر، والصخرة على الثور، والثور على الحوت، والحوت على الماء، والماء على الهواء، والهواء على الظلمة.
ثم انقطع علم الخلائق بما تحت الظلمة، ثم خلق الله العرش من ضيائين : أحدهما الفضل، والثاني العدل، ثم أمر الضياءين فتنفسا بنفسين، فخلق منهما أربعة أشياء : العقل، والحلم، والعلم، والسخاء، ثم خلق من العقل الخوف، وخلق من العلم الرضا، ومن الحلم المودة، ومن السخاء المحبة، ثم عجن هذه الاشياء في طينة محمد (صلى الله عليه واله)، ثم خلق من بعدهم ارواح المؤمنين من امة محمد (صلى الله عليه واله) فلما تكاملت الانوار، سكن نور محمد تحت العرش ثلاثة وسبعين الف عام، ثم انتقل نوره الى الجنة وبقي سبعين الف عام، ثم انتقل الى سدرة المنتهى فبقي سبعين الف عام، ثم انتقل نوره الى السماء السابعة، ثم الى السماء السادسة، ثم الى السماء الخامسة، ثم الى السماء الرابعة، ثم الى السماء الثالثة، ثم الى السماء الثانية، ثم الى السماء الدنيا، فبقي نوره في السماء الدنيا الى ان أراد الله تعالى أن يخلق ادم (عليه السلام) أمر جبرئيل ان ينزل الى الارض، ويقبض منها قبضة، فنزل جبرئيل فسبقه اللعين ابليس فقال للأرض : ان الله تعالى يريد ان يخلق منك خلقا ويعذبه بالنار، فاذا اتتك ملائكته فقولي : اعوذ بالله منكم ان تأخذوا مني شيئا يكون للنار فيه نصيب، فجاءها جبرئيل (عليه السلام) فقالت : اني اعوذ بالذي أرسلك ان تأخذ مني شيئا، فرجع جبرئيل ولم يأخذ منها شيئا، يا رب، قد استعاذت بك مني فرحمتها.
فبعث ميكائيل، فعاد كذلك، ثم امر اسرافيل، فرجع كذلك، فبعث عزرائيل فقال : وانا أعوذ بعزة الله ان أعصي له امرا، فقبض قبضة من اعلاها وأدونها، وابيضها واسودها وأحمرها، واخشنها وانعمها، فلذلك اختلفت اخلاقهم وألوانهم، فمنهم الأبيض والاسود والاصفر.
فقال له الله تعالى : ألم تتعوذ منك الارض بي؟.
فقال : نعم، لكن لم ألتفت له فيها، وطاعتك يا مولاي اولى من رحمتي لها، فقال له الله تعالى : لم لا رحمتها كما رحمها اصحابك؟.
قال : طاعتك الاولى، فقال : اعلم اني اريد ان اخلق منه خلقا انبياء وصالحين وغير ذلك وأجعلك القابض لأرواحهم فبكى عزرائيل، فقال له الحق تعالى : ما يبكيك؟.
قال : اذا كنت كذلك كرهوني هؤلاء الخلائق، فقال : لا تخف اني اخلق لهم عللا فينسبون الموت الى تلك العلل.
ثم بعد ذلك أمر الله تعالى جبرئيل ان يأتيه بالقبضة البيضاء التي كانت اصلا، فأقبل جبرئيل ومعه الملائكة الكروبيون والصافون والمسبحون فقبضوها من موضع ضريحه وهي البقعة المضيئة المختارة من بقاع الارض، فأخذها جبرئيل من ذلك المكان فعجنها بماء التنسيم، وماء التعظيم، وماء التكريم، وماء التكوين، وماء الرحمة، وماء الرضا، وماء العفو، فخلق من الهداية راسه، ومن الشفقة صدره، ومن السخاء كفيه، ومن الصبر فؤاده، ومن العفة فرجه، ومن الشرف قدميه، ومن اليقين قلبه، ومن الطيب انفاسه، ثم خلطها بطينة آدم (عليه السلام)، فلما خلق الله تعالى آدم، أوحى الى الملائكة : {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71، 72] ، فحملت الملائكة جسد ادم (عليه السلام) ووضعوه على باب الجنة، وهو جسد لا روح فيه، والملائكة ينتظرن متى يؤمرون بالسجود، وكان ذلك يوم الجمعة بعد الظهر.
ثم ان الله امر الملائكة بالسجود لادم فسجدوا الا ابليس (لعنه الله)، ثم خلق الله بعد ذلك الروح، فقال لها : ادخلي في هذا الجسم، فرات الروح مدخلا ضيقا فوقفت، فقال لها : ادخلي كرها واخرجي كرها، قال : فدخلت الروح من اليافوخ الى العينين، فجعل ينظر الى نفسه، فسمع تسبيح الملائكة.
فلما وصلت الى الخياشيم عطس آدم (عليه السلام)، فانطقه الله تعالى بالحمد، فقال : الحمد لله، وهي اول كلمة قالها ادم، فقال الحق تعالى : رحمك الله يا ادم، لهذا خلقتك، وهذا لك ولولدك ان قالوا مثل ما قلت، فلذلك صار تسميت العاطس سنة، ولم يكن على ابليس اشد من تسميت العاطس.
ثم ان ادم (عليه السلام) فتح عينيه فرأى مكتوبا على العرش لا اله الا الله، محمد رسول الله، فلما وصلت الروح الى ساقه قبل ان تصل الى قدميه، أراد ان يقوم، فلم يطق، فلذلك قال تعالى : {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] .
وقال الصادق (عليه السلام) : (كانت الروح في راس ادم (عليه السلام) مائة عام، وفي صدره مائة عام، وفي ظهره مائة عام، وفي فخذيه مائة عام، وفي ساقيه وقدميه مائة عام، فلما استوى آدم قائما امر الله الملائكة بالسجود، وكان ذلك بعد الظهر يوم الجمعة، فلم تزل في سجودها الى العصر، فسمع ادم (عليه السلام) من ظهره نشيشا كنشيش الطيور، وتسبيحا وتقدسيا، فقال ادم (عليه السلام) يا رب وما هذا؟ قال : يا ادم، هذا تسبيح محمد العربي سيد الاولين والاخرين.
ثم ان الله تبارك وتعالى خلق من ضلعه الاعوج حواء وقد انامه الله تعالى، فلما انتبه راها عند راسه، فقال : من انت؟ قالت : انا حواء خلقني الله لك، قال : ما أحسن خلقتك، فاوحى الله اليه هذه امتي حواء، وانت عبدي ادم، خلقتكما لدار اسمها جنتي، فسبحاني واحمداني، يا ادم اخطب حواء مني وادفع مهرها الي؟ فقال ادم : وما مهرها يا رب؟ قال : تصلي على حبيبي محمد واله عشر مرات، فقال ادم (عليه السلام) : جزاؤك يا رب على ذلك الحمد والشكر ما بقيت، فتزوجها على ذلك، وكان القاضي الحق، والعاقد جبرئيل، والزوجة حواء، والشهود الملائكة، فواصلها، وكانت الملائكة يقفون من وراء ادم، قال ادم : لأي شيء يا رب تقف الملائكة من ورائي؟ فقال : لينظروا الى نور ولدك محمد (صلى الله عليه واله)، قال : يا رب، اجعله امامي حتى تستقبلني الملائكة، فجعله في جبهته، فكانت الملائكة تقف قدامه صفوفا، ثم سال ادم (عليه السلام) ربه ان يجعله في مكان يراه ادم، فعجله في الاصبع السبابة، فكان نور محمد (صلى الله عليه واله) فيها، ونور علي في الاصبع الوسطى، وفاطمة (عليها السلام) في التي تليها، والحسن (عليه السلام) في الخنصر، والحسين (عليه السلام) في الابهام، وكانت انوارهم كغرة الشمس في قبة الفلك او كالقمر في ليلة البدر.
وكان ادم (عليه السلام) اذا اراد ان يغشى حواء يأمرها ان تتطيب وتتطهر، ويقول لها : يا حواء، الله يرزقك هذا النور، ويخصك به، فهو وديعة الله وميثاقه، فلم يزل نور رسول الله (صلى الله عليه واله) في غرة ادم حتى حملت حواء بشيت، وكانت الملائكة يأتون حواء يهنونها.
فلما وضعته نظرت بين عينيه الى نور رسول الله (صلى الله عليه واله) يشتعل اشتعالا، ففرحت بذلك، وضرب جبرئيل بينها وبينه حجابا من نور غلظه مقدار خمسمائة عام، فلم يزل محجوبا محسوبا حتى بلغ شيت مبالغ الرجال والنور يشرق في غرته.
فلما علم ادم (عليه السلام) ان ولده شيت بلغ مبالغ الرجال قال له : يا بني، اني مفارقك عن قريب فادن مني حتى اخذ عليك العهد والميثاق كما اخذه الله علي من قبلك، ثم رفع ادم راسه نحو السماء، وقد علم الله ما اراد، فامر الله الملائكة ان يمسكوا عن التسبيح ولفت اجنحتها واشرفت سكان الجنان من غرفاتها، وسكن صرير أبوابها، وجريان انهارها، وتصفيق أوراق اشجارها، وتطاولت لسماع ما يقول ادم (عليه السلام) ، ونودي : يا ادم، قل ما انت قائل.
فقال ادم : اللهم رب القدم قبل النفس، ومنير القمر والشمس، خلقتني كيف شئت، وقد اودعتني هذا النور الذي ارى منه هذا الشرف والكرامة، وقد صار لولدي شيت، واني اريد ان اخذ عليه العهد والميثاق كما اخذته علي، اللهم وانت الشاهد عليه، واذا بالنداء من قبل الله تعالى : يا ادم، خذ على ولدك شيت العهد، واشهد عليه جبرئيل وميكائيل والملائكة اجمعين.
قال : فأمر الله تعالى جبرئيل ان يهبط الى الارض في سبعين الفا من الملائكة بايديهم الوية الحمد وبيده حريرة بيضاء وقلم مكون من مشية الله رب العالمين، فأقبل جبرئيل على ادم (عليه السلام) وقال له : يا ادم، ربك قرئك السلام ويقول لك : اكتب على ولدك شيت كتابا واشهد عليه جبرئيل وميكائيل اجمعين، فكتب الكتاب وأشهد عليه، وختمه جبرئيل بخاتمه ودفعه الى شيت، وكسي (عليه السلام) قبل انصرافه حلتين حمراوين اضوا من نور الشمس وأروق من السماء لم يقطعا ولم يفضلا، بل قال لهما الجليل : كونا، فكانتا ثم تفرقا، وقبل شيت العهد وألزمه نفسه، ولم يزل ذلك النور بين عينيه، حتى تزوج المحاولة البيضاء، وكانت بطول حواء، واقترن اليها بخطبة جبرئيل (عليه السلام)، فلما وطئها حملت بأنوش.
فلما حملت به سمعت مناديا ينادي، هنيئا لك يا بيضاء، لقد استودعك الله نور سيد المرسلين، سيد الاولين والاخرين، فلما ولدته اخذ عليه شيت العهد كما اخذ عليه، وانتقل الى ولده، قينان، ومنه الى مهلائيل، ومنه الى ادد، ومنه الى خنوخ، وهو ادريس (عليه السلام) ، ثم اودعه ادريس ولده متوشلخ، واخذ عليه العهد، ثم انتقل الى مالك، ثم الى نوح (عليه السلام) ، ومن نوح الى سام، ومن سام الى ولده أرفخشذ، ثم الى ولده عابر، ثم الى قالع، ثم الى ارغو، ومنه الى شارغ، ومنه الى ناخور، ثم انتقل الى تارخ، ومنه الى ابراهيم (عليه السلام) ، ثم الى اسماعيل، ثم الى قيدار، ومنه الى الهميسع، ثم انتقل الى نبت، ثم الى يشجب، ومنه الى ادد، ومنه الى عدنان، ومنه الى معد، ومنه الى نزار، ومنه الى مضر، ومن مضر الى إلياس، ومن الياس الى مدركه، ومنه الى خزيمة، ومنه الى كنانة، ومن كنانة الى قصي، ومن قصي الى لؤي، ومن لؤي الى غالب، ومنه الى فهر، ومن فهر الى عبد مناف ومن عبد مناف الى هاشم، وانما سمي هاشما لانه هشم الثريد لقوم، وكان اسمه عمرو العلا.
كان نور رسول الله (صلى الله عليه واله) في وجهه، اذا اقبل تضيء منه الكعبة، وتكتسي من نوره نورا شعشعانيا، ويرتفع من وجهه نور الى السماء، وخرج من بطن امه عاتكة بنت مرة بن فالج بن ذكوان، وله ظفيرتان كظفيرتي اسماعيل، يتوقد نورهما الى السماء، فعجب اهل مكة من ذلك، وسارت اليه قبائل العرب من كل جانب، ومجات منه الكهان، ونطقت الاصنام بفضل النبي المختار، وكان هاشم لا يمر بحجر ولا مدر الا ويناديه : أبشر يا هاشم، فانه سيظهر من ذريتك اكرم الخلق على الله تعالى، وأشرف العالمين، محمد خاتم النبيين.
فلما حضرت عبد مناف الوفاة اخذ العهد على هاشم ان يودع نور رسول الله (صلى الله عليه واله) في الارحام الزكية من النساء، فقبل هاشم العهد، وألزمه نفسه، وجعلت الملوك تتطاول الى هاشم ليتزوج منهم، ويبذلون له الأموال الجزيلة، وهو يأبى عليهم، وكان كل يوم يأتي الكعبة ويطوف بها سبعا ويتعلق باستارها، وكان هاشم اذا قصده قاصد اكره، وكان يكسو العريان، ويطعم الجائع، ويفرج عن المعسر، ويوفي عن المديون، ومن اصيب بدم رفع عنه، وكان بابه لا يغلق عن صادر ولا وارد، واذا اولم وليمة او اصطنع طعاما لاحد وفضل منه شيء يأمر به ان يلقى الى الوحوش والطيور، حتى تحدثوا به وبجوده في الافاق، وسوده اهل مكة باجمعهم وشرفوه وعظموه وسلموا اليه مفاتيح الكعبة والسقاية والحجابة والرفادة ومصادر امور الناس ومواردها، وسلموا اليه لواء نزار وقوس اسماعيل (عليه السلام) وقميص ابراهيم (عليه السلام) ونعل شيت وخاتم نوح.
فلما احتوى على ذلك كله ظهر فخره ومجده، وكان يقوم بالحاج ويرعاهم، ويتولى امورهم، ويكرمهم، ولا ينصرفون الا شاكرين، وكان هاشم اذا اهل هلال ذي الحجة يأمر الناس بالاجتماع الى الكعبة، فاذا اجتمعوا قام خطيبا ويقول : معاشر الناس، انتم جيران الله وجيران بيته، وانه سيأتيكم في هذا الموسم زوار بيت الله، وهم اضياف الله، والاضياف هم اولى بالكرامة، وقد خصكم الله تعالى بهم واكرمكم، وانه سيأتونكم شعثا من كل فج عميق، ويقصدونكم من كل مكان سحيق، فأقروهم واحموهم واكرموهم يكرمكم الله تعالى بهم، وكانت قريش تخرج المال الكثير من أموالهم، وكان هاشم ينصب احواض الاديم، ويجعل فيها ماء من ماء زمزم، وعلى باقي الحياض من سائر الابار بحيث يشرب الحاج، وكان من عادته انه يطعمهم قبل التروية بيوم، وكان يحمل لهم الطعام الى منى وعرفة، وكان يثرد لهم اللحم والسمن والتمر ويسقيهم اللبن الى حيث يصدر الناس من منى، ثم يقطع عنهم الضيافة.
وبلغنا انه كان بأهل مكة ضيق وجدب وغلاء، ولم يكن عندهم ما يزودون به الحاج، فبعث هاشم الى نحو الشام أباعر فباعها واشترى بأثمانها كعكا وزيتا، ولم يترك عنده من ذلك قوت يوم واحد، بل بذل ذلك لكه للحاج، فكفاهم جميعهم، وصدر الناس يشكرونه في الافاق، فبلغ خبره الى النجاشي ملك الحبشة، والى قيصر ملك الروم فكاتبوه وراسلوه ان يهدوا له بناتهم رغبة في النور الذي في وجهه، وهو نور محمد (صلى الله عليه واله)؛ لان رهبانهم وكهانهم اعلموهم بان ذلك النور نور رسول الله (صلى الله عليه واله)، فيأبى هاشم عن ذلك، فتزوج من نساء قومه ورزق منهن اولادنا، وكان اولاده الذكور : اسد ومضر وعمرو وصيفي. واما البنات : فصفية ورقية وخلادة والشعثاء، فهذه جملة الذكور والاناث، ونور رسول الله (صلى الله عليه واله) في غرته لم يزل، فعظم ذلك عليه وكبر لديه، فلما كان في بعض الليالي، وقد طاف بالبيت سال الله تعالى ان يرزقه ولدا يكون فيه نور رسول الله (صلى الله عليه واله)، فأخذه النعاس، فمال عن البيت ثم اضطجع، فاتاه آت في منامه يقول : عليك بسلمى بنت عمرو، فانها طاهرة مطهرة الاذيال، فخذها وادفع لها المهر الجزيل، فلن تجد لها مشبها من النساء، فانك ترزق منها ولدا يكون منه النبي (صلى الله عليه واله)، فصاحبها ترشد واسع الى اخذا الكريمة عاجلا.
قال : فانتبه هاشم فزعا مرعوبا، واحضر بني عمه واخاه الطلب، وأخبرهم بما رآه في منامه، وبما قاله الهاتف، فقال له اخوه المطلب : يا بن ام، ان المراة لمعروفة في قومها، كبيرة في نفسها، قد كملت عفة واعتدالا، وهي سلمى بنت عمرو بن لبيد بن حداث بن زيد بن عامر بن غنم بن مازن بن النجار، وهم اقل الاضياف والعفاف، وانت اشرف منهم حسبا، وأكرم منهم نسبا، قد تطاولت اليك الملوك والجبابرة، وان شئت فنحن لك خطاب، فقال لهم : الحاجة لا تقضى الا بصاحبها، وقد جمعت فضلات وتجارة، واريد ان اخرج الى الشام للتجارة ولوصال هذه المراة، فقال له اصحابه : نحن نفرح لفرحك، ونسر لسرورك، وننظر ما يكون من أمرك.
ثم ان هاشما خرج للسفر وخرج معه اصحابه بأسلحتهم، وخرج معه العبيد يقودون الخيل والجمال، وعليها احمال الاديم، وعند خروجه نادى في اهل مكة، فخرجت معه السادات والاكابر، وخرج معه العبيد والنساء لتوديعه، فأمرهم بالرجوع، وسار هو وبنو عمه واخوه المطلب الى يثرب كالأسود، طالبين بني النجار، فلما وصلوا المدية أشرق بنور رسول الله (صلى الله عليه واله) ذلك الوادي من غرة هاشم حتى دخل جملة البيوت، فلما رآهم اهل يثرب بادروا اليهم مسرعين، وقالوا : من أنتهم ايها الناس، فما رأينا احسن منكم جمالا، ولا سيما صاحب هذا النور الساطع والضياء اللامع؟.
قال لهم المطلب : نحن أهل بيت الله، وسكان حرم الله، نحن بني لؤي بن غالب، وهذا اخونا هاشم بن عبد مناف، وقد جئناكم خاطبين، وفيكم راغبين، وقد علمتم ان اخانا هذا خطبته الملوك والاكابر فما رغب الا فيكم، ونحب ان ترشدونا الى سلمى، وكان ابوها يسمع الخطاب، فقال لهم : مرحبا بكم، انتم ارباب الشرف والمفاخر، والعز والمآثر، والسادات الكرام، والمطعمون الطعام، ونهاية الجود والاكرام، ولكم عندنا ما تطلبون، غير ان المراة التي خرجتم لاجلها، وجئتم لها طالبين هي ابنتي وقرة عيني، وهي مالكة نفسها، ومع ذلك انها خرجت بالأمس الى سوق من اسواقنا مع نساء من قومها يقال له سوق بني قينقاع، فان اقمتم عندنا فانتم في العناية والكلاءة، وان اردت ان تسيروا اليها ففي الرعاية، ومن الخاطب لها والراغب فيها؟.
قالوا : صاحب هذا النور الساطع والضياء اللامع، سراج بيت الله الحرام، ومصباح الظلام، الموصوف بالجود والاكرام، هاشم بن عبد مناف، صاحب رحلة الايلاف، وذروة الاحقاف، فقال ابوها : بخ بخ، لقد علونا وفخرنا بخطبتكم، اعلموا يا من حضر اني قد رغبت في هذا الرجل اكثر من رغبته فينا، غير اني اخبركم اني امري دون امرها، وها انا اسير معكم اليها، فانزلوا يا خير زوار، ويا فخر بني نزار.
قال : فنزل هاشم واخوه وأصحابه وحطوا رحالهم ومتاعهم، وسبق ابوها عمرو الى قومه، ونحر لهم النحائر، وعقر لهم العقائر، واصلح لهم الطعام، وخرجت لهم العبيد بالجفان، فأكل القوم منه حسب الحاجة، ولم يبق من أهل يثرب أحد الا خرج ينظر الى هاشم ونور وجهه، وخرج الاوس والخزرج والناس متعجبين من ذلك النور، وخرج اليهود، فلما نظروا اليه عرفوه بالصفة التي وجدوها في التوراة والعلامات، فعظم ذلك عليهم، وبكوا بكاء شديدا.
فقال بعض اليهود لحبر من احبارهم : ما بكاؤكم؟ قال : من هذا الرجل الذي يظهر منه سفك الدماء، وقد جاءكم السفاك الفتاك الذي تقاتل معه الاملاك، المعروف بكتبكم بالماحي، وهذا انواره قد ابتدرت. قال : فبكى اليهود من قوله وقالوا له : يا ابانا، فهل هذا الذي ذكرت نصل الى قتله ونكفى شره؟.
فقال لهم : هيهات، حيل بينكم وبين ما تشتهون، وعجزتم عما تأملون، ان هذا هو المولود الذي ذكرت لكم، يقاتل معه الاملاك في الهواء، ويخاطب من السماء، ويقول : قال جبرئيل عن رب السماء، فقالوا : هذا تكون له هذه المنزلة؟ قال : اعز من الولد عند الوالد، فانه اكرم اهل الارض على الله تعالى، واكرم اهل السموات، فقالوا : ايها السيد الكريم، نحن نسعى في اطفاء ضوء هذا المصباح قبل ان يتمكن ويحدث علينا منه كل مكروه.
واضمر القوم لهاشم العداوة، وكان بدو عداوة اليهود من ذلك اليوم لرسول الله (صلى الله عليه واله)، فلما اصبح هاشم امر اصحابه ان يلبسوا افخر اثوابهم، وان يظهروا زينتهم، فلبسوا ما كان عندهم من الثياب، وما قد اعدوا للزينة والجمال، واظهروا التيجان والجواشن والدروع والبيض، فاقبلوا يريدون سوق بني قينقاع، وقد شدوا لواء نزار على قناة، واحاطوا بهاشم عن يمينه وعن شماله، ومشى قدامه العبيد، وابو سلمى معهم واكابر قومه ومعهم جماعة من اليهود.
فلما اشرفوا على السوق، وكان يجتمع اليه الناس من اقاصي البلاد واقطارها واهل الحضر و سكانها، فنظر القوم الى هاشم واصحابه وتركوا معاشهم، واقبلوا ينظرون الى هاشم، ويتعجبون من حسنه وكماله وجماله، وكان هاشم بين اصحابه كالبدر المنير بين الكواكب، وعليه السكينة والوقار، فاذهل بجماله اهل السوق، وجعلوا ينظرون الى النور الذي بين عينيه، وكان سلمى بنت عمرو واقفة مع الناس تنظر الى هاشم وحسنه وجماله، وما عليه من الهيبة والوقار؛ اذ اقبل عليها ابوها وقال لها : يا سلمى، ابشرك بما يسرك ولا يضرك، وكانت معجبة بنفسها من حسنها وجمالها.
فلما نظرت الى هاشم وجماله نسيت حسنها وجمالها، وقالت : يا أبت، بما تبشرني؟ قال : ان هذا الرجل اليك خاطب، وفيك راغب، وهو يا سلمى من أهل الكفاف والعفاف، والجود والاضياف، هاشم بن عبد مناف، وانه لم يخرج لغير ذلك.
فلما سمعت سلمى كلام ابيها أعرضت عنه بوجهها، وادركها الحياء، فأمسكت عن الكلام، ثم قالت : يا أبت، ان النساء يفتخرن على الرجال بالحسن والجمال، والقدر والكمال، فاذا كان زوج المراة سيدا من سادات العرب، وكان مليح المنظر المخبر، فما اقول لك، وقد عرفت ما جرى بيني وبين احيحة بن الجلاح الاوسي وحيلتي عليه حتى خلعت نفسي منه لما علمت انه لم يكن من الكرام، وان هذا الرجل يدل عظمته ونور وجهه على مروته، واحسانه يدل على فخره، فان يكن القوم – كما ذكرت- قد خطبونا ورغبوا فينا، فاني فيهم راغبة، ولكن لا بد ان اطلب منهم المهر، ولا أصغر نفسي، وسيكون لنا ولهم خطاب وجواب، وكان القول منها لحال ابيها؛ لانها لم تصدق بذلك حتى نزل هاشم قريبا من السوق، واعتزل ناحية منه، فاقبل اهل السوق مسرعين ينظرون الى نوره حتى ضاع كثير من متاعهم ومعاشهم من نظرهم اليه، وقد نصبت له خيمة من الحرير الاحمر، ووضعت له سرادقات.
فلما دخل هاشم و اصحابه الخيمة تفرق اهل السوق عنهم، وجعل يسال بعضهم بعضا عن امر هاشم وقومه، وما اقدمهم عليهم من مكة : انه جاء خاطبا لسلمى، فحسدوها عليه، وكانت اجمل اهل زمانها، واكملهم حسنا وجمالا، وكانت جارية تامة معتدلة، لها منظر ومخبر، كاملة الاوصاف، معتدلة الاطراف، سريعة الجواب، حسنة الاداب، عاقلة، ظريفة، عفيفة، لبيبة، طاهرة من الادناس، فحسدوها كلهم على هاشم حتى حسدها ابليس (لعنه الله)، وكان قد تصور لها في صورة شيخ كبير، وقال : يا سلمى، انا من اصحاب هاشم، قد جئتك ناصحا لك، اعلمي ان لصاحبنا هذا من الحسن والجمال ما رأيت، الا انه رجل ملول للنساء، لا تقيم المرأة عنده اكثر من شهرين اذا اراد، والا فعشرة ايام، وقد تزوج نساء كثيرة، وع ذلك انه جبان في الحروب، فقالت سلمى : اليك عني، فوالله! لو ملا لي حصنا من المال ما قبلته، ولو ملأ لي حصون خيبر ذهبا وفضة ما رغبت فيه لهذه الخصال التي ذكرت، ولقد كنت احببته ورغبت فيه، وقد قلت رغبتي فيه لهذه الخصال، اذهب عني، فانصرف عنها وتركها في همها وغمها.
ثم ان ابليس (لعنه الله) تصور لها بصورة اخرى، وزعم انه من اصحاب هاشم، وذكر لها مثل الاول، فقالت : اولست الذي أرسلت اليك ان لا يرسل الي رسولا بعد ذلك.
فسكت ابليس (لعنه الله) فقالت : ان أرسل رسولا بعدك أمرت بضرب عنقه، فخرج ابليس فرحا مسرورا، وقد القى في قلبها البغضة لهاشم، وظن ان هاشما يرجع خائبا، فعند ذلك دخل عليها أبوها فوجدها في سكرتها وحيرتها، فقال : يا سلمى، ما الذي حل بك هذا اليوم، وهذا يوم سرورك!؟.
فقالت : يا أبت، لا تزدني كلاما، فقد فضحتني، وشهرت امري، اردت ان تزوجني رجلا ملولا للنساء، كثير الطلاق، جبانا في الحروب، فضحك ابوها وقال : يا سلمى والله! ما لهذا الرجل شيء من هذه الخصال الثلاث، وان الى كرمه الغاية، والى جوده النهاية، وانما سمي هاشما لانه اول من هشم الثريد لقومه، واما قولك : كثير الطلاق، فانه ما طلق امراة قط، واما قولك : جبان، فهو واحد أهل زمانه في الشجاعة، وانه لمعروف عند الناس بالجواب والخطاب والصواب، فقالت : يا أبت، لو انه ما جاءني عنه الا واحد كذبته وقلت انه عدو له، وقد جاءني ثلاثة من نفر كل واحد منهم يقول مثل مقالة الاخر فقال ابوها : ما رأينا منه رسولا : ولا جاءنا منه خبر، وكان الشيطان يظهر لهم في ذلك الزمان ويأمرهم وينهاهم، وقد صح عندها ما قال الرجيم، وهي تظن انه من بني آدم، وهاشم لا يعلم شيئا من ذلك، وكان قد عول على خطبتها في غد في جمع من قومه.
ثم ان سلمى خرجت في بعض حوائجها، وهي تحب ان تنظر الى هاشم، فجمع بينهما في الطريق، فوقع في قلبها امر عظيم من محبته، وكان في ذلك الزمان لا تستحي النساء من الرجال، ولا يضرب بينهن حجاب، الى ان بعث الله محمدا (صلى الله عليه واله).
ونزل طائفة من اليهود من جهة خيمة هاشم، ولما اجتمعت سلمى بهاشم عرفته بالنور الذي في وجهه، وعرفها ايضا هو، فقالت : يا هاشم، قد احببتك واردتك، فاذا كان غد فاخطبني من ابي، ولا يعز عليك ما يطلب أبي منك، فان لم تصله يدك ساعدتك عليه.
فلما اصبح تأهب هاشم للقاء القوم فتزينوا بزينتهم، واذا اهل سلمى قد قدموا، فقام من كان في الخيمة اجلالا لهم، وجلس هاشم واخوه وبنوا عمه في صدر الخيمة، فتطاولت القوم الى هاشم فابتدأهم المطلب بالكلام، وقال : يا أهل الشرف والاكرام، والفضل والانعام، نحن وفد بيت الله الحرام، والمشاعر العظام، والينا سعت الاقدام، وانت تعلمون شرفنا وسؤددنا، وما قد خصنا الله به من النور الساطع، والضياء اللامع، ونحن بنو لؤي بن غالب، قد انتقل هذا النور الى عبد مناف، ثم الى اخينا هاشم، وهو معنا من ادم، الى ان صار الى هاشم، وقد ساقه الله اليكم، وقدمه عليكم، فنحن لكريمتكم خاطبون، وفيكم راغبون.
ثم امسك عن الكلام، فقال عمرو ابو سلمى : لكم التحية والاكرام، والاجابة والاعظام، وقد قبلنا خطبتكم، واجبنا دعوتكم، وانتم تعرفون علتنا، ولا يخفى عليكم احوالنا، ولا بد من تقديم المهر كما كان سلفنا واباؤنا، ولولا ذلك ما واجهناكم بشيء من ذلك ولا قابلناكم به أبدا، فعند ذلك قال المطلب : لكم عندي مائة ناقة سود الحدق، حمر الوبر، لم يعلها جمل، فبكى ابليس (لعنه الله)، وكان من جملة من حضر، وجلس عند ابي سلمى، وأشار اليهان اطلب الزيادة، معاشر السادات، ما هذا قدر ابنتنا عندكم.
فقال عبد المطلب : ولكم الف ألف مثقال من الذهب الاحمر، فغمز ابليس (لعنه الله) أبا سلمى، واشار اليه ان اطلب الزيادة، فقال : يا فتى قصرت في حقنا فيما قلت، واقللت فيما بذلت، فقال : ولكم عندنا حمل عنبر، وعشرة اثواب من قباطي مصر، وعشرة من ارض العراق، فقد انصفناكم، فغمز ابليس (لعنه الله) ابا سلمى وأشار اليه ان اطلب الزيادة، فقال : يا فتى، قد قاربت واجملت.
قال له المطلب : ولكم خمس وصائف برسم الخدمة، فهل تريدون اكثر من ذلك؟.
فاشار اليه ابليس (لعنه الله) ان اطلب الزيادة، فقال ابو سلمى : يا فتى، ان الذي بذلتموه لنا اليكم راجع.
فقال المطلب : ولكم عشر اواق من المسكم الاذفر، وخمسة اقداح ما الكافور، فهل رضيتم ام لا؟ فهم ابليس ان يغمز ابا سلمى، فصاح به ابو سلمى وقال له : يا شيخ السوء، اخرج لقد جئت شيئا نكرا، فوالله! لقد اخجلتني، فقال له المطلب : اخرج يا شيخ السوء، فقام الشيطان وخرج وخرج اليهود معه.
ثم قال ارمون بن قيطون رئيس اليهود : يا قوم، ان هذا الشيخ يعني ابليس (لعنه الله) احكم الحكماء، وهو معروف في بلادنا بالحكمة، وفي الشام والعراق، وبعد ذلك اننا ما نزوج ابنتنا برجل غريب من غير بلدنا، فقامت اليهود وهم أربعمائة يهودي، وأهل الحرم أربعون سيدا وجردوا سيوفهم، وقال هاشم لأصحابه : دونكم القوم، فهذا تأويل رؤياي، فقامت الصيحة فيهم، فوثب المطلب على أرمون بن قيطون، ووثب هاشم على ابليس (لعنه الله)، فانحاز يريد الهرب، فادركه هاشم وقبضه ورفعه وجلد به الارض، فصرخ صرخة عظيمة لما غشاه نور رسول الله (صلى الله عليه واله) وصار ريحا، فالتفت هاشم الى اخيه المطلب فوجده قد قتل أرمون بن يقطون وقسمه نصفين، وقتل هاشم واصحابه جمعا كثيرا من اليهود، ووقعت الرجفة في المدينة، وخرج الرجال والنساء، وانهزم اليهود على وجوههم، ورجع ابو سلمى وقال لقومه : مزجتم الفرح بالترح، وما كان سبب الفتنة الا من إبليس (لعنه الله)، فوضع السيف عن اليهود بعد ان قتل منهم اثنين وسبعين رجلا، وكانت عداوة اليهود لرسول الله (صلى الله عليه واله) من ذلك اليوم.
ثم ان هاشما قال لاصحابه : هذا تأويل رؤياي.
فقال هاشم : يا معاشر اليهود، انما اغواكم الشيطان الرجيم، فانظروا الى صاحبكم، فان وجدتموه فاعلموا انه كما زعمتم حكيم من حكمائكم، وان لم تجدوه فقد حيل بينكم وبينه، وظننتم انه من احباركم، وما هو الا الشيطان اغواكم.
ثم ان ابا سلمى عمد الى اصلاح شانه، ورجع القوم الى أماكنهم وقد امتلأوا غيظا على اليهود، فاقبل هاشم الى منزله وأصلح الولائم، وأمر العبيد ان يحملوا الجفان المترعة باللبن ولحوم الضأن والابل، ثم ان عمرا مضى الى ابنته وقال لها : ان الرجل الذي يقول لك ان هاشما لجبان قد نطق بالمحال، والله! لولا ان امسكه وألحف عليه ما ترك من القوم واحدا، فقالت : يا أبت، امض معهم على كل حال ولا ملامة للائم.
قال : فلما اكلوا ورفعوا ايديهم، قال لهم ابو سلمى : يا معاشر السادات، اصرفوا عن قلوبكم الغيظ وكل هم، فنحن لكم وابنتنا هدية.
فقال المطلب : لك ما ذكرناه وزيادة، ثم قال : يا اخي هاشم، أرضيت بما تكلمت به عنك ؟ .
قال : نعم، فعند ذلك تصافحوا، ومضى ابو سلمى واخرج من كمه دنانير ودراهم فنثر الدنانير على هاشم واخيه المطلب، ونثر الدراهم على اصحابه، ونثر عليهم المسك الاذفر والكافر والعنبر حتى غمر اطمارهم، ثم قال : يا هاشم، تحب الدخول على زوجتك هذه الليلة، او تصبر لها حتى نصلح لها شانها؟.
قال : بل اصبر حتى تصلح شانها، فعند ذلك امر بتقديم مطاياهم، فركبوا وخرجوا.
ثم ان هاشما دفع الى اخيه المطلب ما حضره من المال، وامره ان يدفعه الى سلمى، فلما جاءها المطلب فرحت به وبذلك المال ، وقالت : يا سيد الحرم، وخير من مشى على قدم، سلم على اخيك وقل له : ما الرغبة الا فيك، فاحفظ منا ما حفظنا منك .
ثم اقام هاشم اياما ودخل على زوجته سلمى في مدينة يثرب، وحضر عرسها الحاضر والبادي من جميع الافاق، فلما دخل بها رأى ما يسره من الحسن والجمال والهيبة والكمال.
ثم ان سلمى دفعت اليه جميع المال الذي دفعه اليها وزادته اضعافا فلما واقعها حملت منه في ليلتها بعبد المطلب جد رسول الله (صلى الله عليه واله)، ولما انتقل النور الذي كان في وجهه الى سلمى زادها حسنا وجمالا وكمالا، حتى شاع حسنها في الافاق، وكان يناديها الشجر والحجر والمدر بالتحية والاكرام، وتسمع قائلا يقول عن يمينها : السلام عليك يا خير البشر، ولم تزل تحدث بما ترى حتى حذرها هاشم، فكانت تكتم امرها عن قومها حتى اذا كان ذات ليلة سمعت قائلا يقول : لك البشرى اذا اوتيت أكرم من مشى وخير النساء من حضر وبدا، فلما سمعت ذلك لم تدع هاشما يلامسها بعد ذلك.
ثم ان هاشما اقام في المدينة اياما حتى اشتهر حمل سلمى، فقال لها : يا سلمى، اني اودعتك الوديعة التي وادعها الله تعالى آدم، واودعها ادم ولده شيتا، ولم يزالوا يتوارثها من واحد الى واحد الى ان وصلت الينا، وشرفنا الله بهذا النور، وقد اودعته اياك، وها انا اخذ عليك العهد والميثاق بان تقيه وتحفظيه، وان اتيت به وانا غائب عنك فليكن عندك بمنزلة الحدقة من العين، والروح بين الجنبين، وان قدرت على ان لا تراه العيون فافعلي، فان له حسادا واضدادا، واشد الناس عليه اليهود، وقد رأيت ما جرى بيننا وبينهم يوم خطبتك، وان لم ارجع من سفري هذا، او سمعت اني قد هلكت، فليكن عندك محفوظا مكرما الى ان يترعرع، واحمليه الى الحرم الى عمومته في دار عزه ونصرته، ثم قال لها : اسمعي واحفظي ما قلت لك، قالت : نعم قد سمعت واطعت، ولقد أوجعتني بكلامك، فانا اسال الله ان يردك سالما.
ثم خرج هاشم واخوه المطلب واصحابه، واقبل عليهم وقال : يا بني ابي وعشيرتي من بني لؤي، ان الموت سبيل لا بد منه، وانا غائب عنكم ولا أدري اني ارجع اليكم ام لا، وانا اوصيكم : اياكم والتفرق والشتات فتذهب حميتكم، وتقل قيمتكم، ويهون قدركم عند الملوك، ويطمع فيكم الطامع، فهل انت يا اخي لما اقول لك سامع؟ واني مخلف فيكم، ومقدم عليكم اخي المطلب دون اخوتي، لانه من أبي وامي، وأعز الخلق عندي، وان سمعتم وصيتي وقدمتوه وسلمتم اليه مفاتيح الكعبة وسقاية الحاج ولواء نزار وكل ما كان من مكارم الانبياء؛ سعدتم، واني اوصيكم بولدي الذي اشتملت عيله سلمى، فانه سيكون له شأن عظيم، ولا تخالفوا قولي، قالوا : سمعنا واطعنا، غير انك كسرت قلوبنا بوصيتك، وازعجت افئدتنا بقولك.
قال : ثم ان هاشما سافر الى غزة الشام، فحضر موسمها، وباع امتعته، واشترى ما كان يصلح له، واشترى لسلمى طرفا وتحفا، ثم انه تجهز للسفر، فلما كانت الليلة التي عزم فيها على الرحيل طرقته حوادث الزمان، واتته العلة، فأصبح مثقلا، وارتحل رفقاؤه وبقي هاشم وعبيدة واصحابه.
فقال لهم : الحقوا بأصحابكم، فاني هالك لا محالة، فارجعوا الى مكة، وان مررتم على يثرب فاقرؤوا زوجتي سلمى عني السلام، وخبروها بخبري، وعزوها شخصي، واوصوها بولدي، فهو أكبر همي، ولولاه ما نلت أمري، فبكى القوم بكاء شديدا، وقالوا : ما نبرح عنك حتى ننظر ما يكون من امرك، واقاموا يومهم، فلما اصبحوا ترادفت عليه الامراض، فقالوا له : كيف تجد نفسك؟.
فقال : لا مقام لي معكم اكثر من يومي هذا، وغدا توسدوني التراب، فبكى القوم بكاء شديدا، وعلموا انه مفارق الدنيا، ولم يزالوا يشاهدونه حتى طلع الفجر الاول، فاشتد به الامر، فقال لهم : أقعدوني وسندوني واتوني بدواة وقرطاس، فأتوه بما طلب، وجعل يكتب واصابعه ترتعد، فكتب : باسمك اللهم، هذا كتاب كتبه عبد ذليل جاءه امر مولاه بالرحيل، اما بعد، فاني كتبت اليكم هذا الكتاب وروحي بالموت تجاذب؛ لانه لا لاحد من الموت مهرب، واني قد انفذت اليكم اموالي فتقاسموها بينكم بالسوية، ولا تنسوا البعيدة عنكم التي اخذت نوركم، وحوت عزكم، سلمى.
وأوصيكم بولدي الذي منها، وقولوا لخلادة وصفية ورقية يبكين علي ويندبنني ندب الثاكلات، ثم بلغوا سلمى عني السلام، وقولوا لها : آه، ثم آه، اذ لم اتزود من قربها، والنظر اليها والى ولدها، والسلام عليم ورحمة الله وبركاته الى يوم النشور.
ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه الى اصحابه، وقال : اضجعوني، فاضجعوه، فشخص ببصره نحو السماء، ثم قال : رفقا رفقا ايها الرسول بحق ما حملت من نور المصطفى، فكانه كان مصباحا فانطفى.
ثم لما مات جهزوه ودفنوه، وقبره معروف هناك.
ثم عزم عبيدة وغلمانه على الرحيل بأمواله، وسار القوم حتى اشرفوا على يثرب، فبكوا بكاء شديدا ونادوا : واهشماه، واعزاه، فخرج الناس وخرجت سلمى وابوها وعشيرتها، فنظروا واذا بخير هاشم قد جزت نواصيها وشعورها وعبيده يبكون.
فلما سمعت سلمى بموت هاشم مزقة اثوابها، ولطمت خدها، وقالت : واهشماه، مات والله لفقدك الكرم والعز من بعدك، يا هاشماه، يا نور عيني، من لولدك الذي لم تره عيناك! قال : فضج الناس بالبكاء والنحيب، ثم ان سلمى اخذت سيفا من سيوف هاشم وعطفت به على ركائبه وعقرتها عن اخرها، وحسبت ثمنها على نفسها، وقالت لوصي هاشم : اقرا المطلب عني السلام وقل له : اني على عهد اخيك، وان الرجال بعده علي حرام.
ثم ان العبيد والغلمان ساروا مكة، وقد سبقهم الناعي الى اولاده، وعياله، فاكثر اهل مكة البكاء والنحيب، وخرج الرجال، وخرجت نساء قريش منشرات الشعور، مشققات الجيوب، وخرجت نساء بني عبد مناف، فبكى القوم عند ذلك، وفكوا كتابه وقراوه، فجددوا حزنهم، ثم قدموا اخاه المطلب وسودوه عليه، فقال : ان اخي عبد شمس أكبر مني واحق بهذا الامر، فقال عبد شمس : وأيم الله! انك خليفة اخي هاشم.
قال : فرضي اهل مكة بذلك وسلموا اليه لواء نزار، ومفاتيح الكعبة، والسقاية، والرفادة وقوس اسماعيل، ونعل شيت، وقميص ابراهيم، وخاتم نوح، وما كان في ايديهم من مكارم الانبياء. وأقام المطلب اياما، فلما اشتد بسلمى الحمل وجاءها المخاض، وهي لا تجد ألما سمعت هاتفا يقول :
يا زينة النساء من بني النجار بالله اسدلي عليه بالاستار
واحجبيه عن أعين النظار كي تسعدي في جملة الاقطار
قال : فلما سمعت شعر الهاتف اغلقت بابها، وأسدلت سترها، وكتمت أمرها، فبينما هي تعالج نفسها اذ نظرت الى حجاب من نور قد ضرب عليها من البيت الى عنان السماء، وحبس الله عنها الشيطان الرجيم، فولدت شبيه الحمد، وقامت وتولت امرها، ولما وضعته سطع منه نور شعشعاني، وكان ذلك النور نور رسول الله (صلى الله عليه واله)، فضحك وتبسم، فتعجبت امه من ذلك، ثم نظرت اليه فاذا هي بشعرة بيضاء تلوح في رأسه، فقالت : نعم أنت شبيه كما سميت.
ثم ان سلمى ادرجته في ثوب من صوف وقمته وهيأته ولم تعلم به أحدا من قومها حتى مضت له أيام، وصارت تلاعبه ويهش اليها، فلما كمل له شهر علم الناس، فاقبلت القوابل فوجدوها تلاعبه، فلما صار له شهران مشى، ولم يكن على اليهود أشد منه واكثر ضررا، وكانوا اذا نظروا اليه غيظا وحنقا لما يعلمون مما سيظهر منه من تدميرهم، وخراب اوطانهم وديارهم، وقطع اثارهم، وكانت امه اذا ركبت ركب معها أبطال الأوس والخزرج، وكانت مطاعة بينهم، وكان اذا خرج يلعب، يقف الناس حوله فرحين به دون أولادهم، وكانت أمه لا تأمن عليه احدا، فلما تم له سبع سنين اشتد حبله، وقوي باسه، وتبين للناس فضله، وكان يحمل الشيء الثقيل وياخذ الصبي ويصرعه ويهشم عظامه.
ثم ان رجلا من بني الحارث دخل يثرب في حاجة له، فاذا هو بابن هاشم يلعب مع الصبيان قد غمرهم بنوره، فوقف الرجل ينظر الى الصبي وهو يقول : ما أسعد من أنت في ديارهم ساكن، وكان يعلب وهو يقول :
انا ابن زمزم والصفا انا ابن هاشم وكفى
فناداه الرجل : يا فتى، فأجاب وقال : ما تريد يا عم، قال : ما اسمك؟ قال : شيبة بن هاشم بن عبد مناف، مات أبي وجفاني عمومتي، وبقيت مع امي وأخوالي، فمن أين اقبلت يا عم؟ قال : من مكة، قال : وهل انت تحمل لي رسالة ومتقلد لي امانة؟ قال الحارثي : وحق ابي وابيك اني فاعل ما تأمرني به، قال : يا عم، اذا رجعت الى بلدك سالما ورايت بني عبد مناف، فاقرئهم مني السلام وقل لهم : ان معي رسالة غلام يتيم مات أبوه وجفاه عمومته، يا بني عبد مناف، ما أسرع ما نسيتم وصية هاشم، وضيعتم نسله، واذا هبت الريح؛ تحمل روائحكم الي.
قال : فبكى الرجل واستوى على مطيته، وأرسل زمانها حتى قدم مكة، فلم يكن له همة الا رسالة الغلام، ثم اتى مجلس بني عبد مناف، فوجدهم جلوسا، فانعمهم صباحا، وقال : يا أهل الفضل والاشراف، يا بني عبد مناف، اراكم قد غفلتكم عن عزكم، وتركتم مصباحكم يستضيء به غيركم.
قالوا : وما ذاك؟ فاخبرهم بوصية ابن اخيهم، فقالوا : وأيم الله! ما ظننا انه صار الى هذا الامر، فقال لهم الحارثي : ولتعجز الفصحاء عن فصاحته، ويعجز اللبيب عن خطابه، وانه لفصيح اللسان جري الجنان، يتحير في كلامه اللبيب، فائق على العلماء عاقل أديب، الى عقله الكفاية، والى جماله النهاية، فقال عمه المطلب بن عبد مناف شعرا :
اقسمت بالسلف الماضين من مضر وهاشم الفاضل المشهور في الامم
لأمضين اليه الان مجتهدا واقطعن اليه البيد في الظلم
السيد الماجد المشهور من مضر نور الانام واهل البيت والحرم
قال : وكان المطلب أشد أهل زمانه باسا في الشجاعة، فقال له اخوته : نخشى عليك ان علمت امه لم تدعه يخرج معك؛ لانها شرطت على اخيك ذلك، فقال : يا قوم، ان لي في ذلك امر ادبره.
ثم انه تهيأ للخروج، وأفرغ على نفسه لامه حربه، وركب مطيته، وخرج وقد اخفى نفسه خوفا ان يشعر به احد، ثم اقبل يجد السير حتى اقبل على مدينة يثرب وقد ضيق لثامه ودخل المدينة، فوجد شيبة يلعب مع صبيان، وعرفه بالنور الذي اودعه الله فيه، وكان قد رفع صخرة عظيمة وقال : انا ابن هاشم المعروف بالعظائم.
فلما سمع عمه كلامه اناخ مطيته وناداه : ادن مني يا بن اخي، فأسرع اليه شيبة وقال له : من انت يا هذا، فقد مال قلبي اليك واظنك احد عمومتي؟ .
فقال له : انا عمك المطلب، وأسبل عبرته وجعل يقبله، وقال : يا بن اخي، احب ان تمضي معي الى بلد ابيك وعمومتك وتكون في دار عزك، فقال : نعم، فركب المطلب وركب شيبة معه وسارا، فقال له شيبة : يا عم، اسرع بنا لاني اخشى ان تعلم بنا امي وعشيرتها فيلحقوا بنا فياخذوني قهرا، اما علمت انه يركب لركوبها ابطال الاوس والخزرج! فقال له : يا بن اخي، في الله الكفاية، ثم سارا وركبا الجادة الكبرى حتى ادركهما المساء بذي الحليفة فنزلا وسقيا مطيتهما، ثم ان المطلب ركب مطيته وأخذ ابن اخيه شيبة قدامه، وأرسل زمامها وسارا، فبينما هما كذلك اذ سمعا صهيل الخيل وقعقعة اللجم وهمهمة الرجال في جوف الليل.
فقال المطلب : يا بن اخي، رؤينا ورب الكعبة، فما نصنع؟.
قال شيبة : ألم اقل لك ان القوم يلحقون بنا، فانحرف بنا عن الجادة الى الطريق السفلى.
قال المطلب : وكيف يخفى امرنا عليهم ونورك يدل علينا؟! قال : استر وجهي، فسعى ان يخفى امرنا، قال : فاخذ المطلب ثوبا وطواه ثلاث طيات وستر به وجهه، واذا بالنور علا من وجهه كما كان، فقال : يا بن اخي، ان لك شانا عظيما عند الله، فان الذي اعطاك هذا النور يصرف عنا كل محذور، قال : فبينما هو يخاطب ابن اخيه اذا ادركتهما الخيل، وكانوا من اليهود، فلما رأوا شيبة علموا انه هو الذي يخرج من ذريته من يسومهم سوء العذاب، ويكون خراب ديارهم على يديه، وقد بلغهم في ذلك اليوم ان شيبة قد خرج هو وعمه ولا ثالث لهما، فادركهم الطمع في قتله، فخرجوا وخرج معهم سيد من سادات اليهود يقال له دحية، وكان له ولد يقال له لاطية، فخرج يوما يلعب مع الصبيان، فأخذ شيبة عظم بعير وضرب به ابن دحية فهشم رأسه وشجه شجة موضحة وقال له : يا بن اليهودية، قد قرب اجلك، ودنا خراب دياركم، فبلغ الخبر الى ابيه دحية فامتلأ غيظا، فلما علم انه قد خرج مع عمه نادى : يا معشر اليهود، هذا الغلام الذي تخشونه قد خرج مع عمه وما لهما ثالث، فأسرعوا اليه واقتلوه، فخرجوا وكان عددهم سبعين فارسا، فلحقوا بشيبة وعمه.
فقال شيبة لعمه : يا عم، انزلني حتى أريك قدرة الله تعالى، فانزله عمه فقصده القوم، فجثا على الطريق وجعل يمرغ وجهه في التراب ويدعو ويقول في دعائه : يا رب الظلام العامر، والفلك الدائر، يا رب السبع الطباق، يا مقسم الارزاق، اسألك بحق الشفيع المشفع، والنور المستودع، ان ترد عنا كيد اعدائنا، فما استتم دعاءه حتى كادت الخير تهجم عليه، فوقفت الخيل.
فقال ابن دحية لاطية : يا بن هاشم، اصرف عنا هذا الخطاب، وكثرة الجواب، فنحن لا نشك فيك يا بن عبد مناف، فانتم السادات، اعلموا انا ما خرجنا طالبين كيدكم، ولكن خرجنا كي نردك الى امك، فلقد كنت مصباح بلدتنا، فقال شيبة : اراكم تنظرون إلي بعين مغضب، فكيف تكون في قلوبكم المحبة لي، لكن لما رأيتم قدرة الله تعالى قلتم هذا الكلام، وتركهم وسار الى عمه، فقال له المطلب : يا بن اخي، ان لك عند الله شانا، ثم جعل يقبله، وساروا وسار القوم راجعين، فقال لهم لاطية : الم تعلموا ان هؤلاء معدن السحر؟.
قالوا : بلى، قال : يا بني اسرائيل، يا امة الكليم، قد سحركم هذا الغلام وعمه، فدعونا نترجل، فاتبعوهم من ورائهم شاهرين سيوفهم وقصدوا شيبة، فلما قربوا قال له المطلب : الان قد حقت الحقائق، واخذ المطلب قوسه، وكان قوس اسماعيل (عليه السلام) ، وجعل فيما سهما ورمى بها اليهود، فقتل بها عبد لاطية، فاتاه سيده وقد مات، وقد اخذ اخرى ورمى بها فأصاب رجلا اخر فقتله، فصاحوا باجمعهم وهموا بالرجوع، فقال له لاطية : عار عليكم الرجوع عن اثنين، فالى متى يصيبون منا بنبلهم، فلا بد ان يفرغ نبلهم فنقتلهم، ولم يكن في القوم اشجع منه، وكان من خيبر، فعند ذلك حملوا عليهما حملة رجل واحد، وجاء لاطية الى المطلب، وقال له : قف لي اكلمك بما فيه المصلحة ونرجع عنكم، قال شيبة : ان القوم قد عزموا علينا.
فقال المطلب : يا معاشر اليهود، ليس فيكم شفيق ولا حبيب، والمقام له بين عمومته خير له، فانصرفوا راجعين، فقال لهم لاطية : كيف يرجع هذا الجمع خائبا ونحن قد خرجنا ومرادنا ان نرده الى امه، فقال لهم المطلب : انتم قوم ضالون، لقد اكثرتم الكلام واطلتم الملام، ثم قال المطلب لشيبة : انما غرضي ان تمضي الى عمومتك، فان كنت تعرف من القوم الصدق فارجع معهم حتى تكبر وتبلغ مبلغ الرجال، ثم تعود الى بلد عمومتك، قال : يا عم، لا يغرنك كلامهم انهم اعداؤنا، قال عمه : صدقت.
قال : ثم ان المطلب قال لهم : يا حزب الشيطان، بنا تمكرون، وعلينا تحتالون، انما ساقكم الينا اجالكم، فمن شاء منكم ان يبرز الى القتال فليبرز، فلما سمعوا كلام المطلب قال لهم لاطية : اما تعلمون ان هذا فارس بني عبد مناف الذي يفرق العرب، من يبرز اليه فله عندي مائة نخلة حاملة ليس فيها ذكر، فقال له رجل يقال له جميع، من بني قريظة، وكان للاطية عليه دين : انت أبرز اليه واترك دينك عني، قال : نعم، ولك مثل ذلك، فاشهدوا يا من حضر، ثم خرج جميع الى المطلب وهو لا يعلم به حتى قرب منه، فقال له المطلب : لا اشك بانه قد ساقك قصر اجلك، ثم ضربه بالسيف، فقال : خذها وانا المطلب بن عبد مناف، فمات من ساعته، فاقبل اليهود واحاطوا به، فلما رأى لاطية ما حل باصحابه غضب غضبا شديدا وقال : من يبرز اليه فله عندي ما يريد؟.
فقال له غلام : ما لهذا البطل الا بطل مثله، ابرز اليه انت، قال : نعم، انا ابرز اليه، وجرد سيفه ودنا من المطلب فتقاتلا من أول الليل حتى مضى من الليل أكثره، واليهود فرحون اذ برز لاطية للمطلب، هذا وعينا شيبة تهملان دموعا خوفا على عمه المطلب، فبينما هم كذلك واذا بغبرة قد ثارت كلها قطع الليل المظلم، وقد سدت الافق، واذا بصهيل الخيل وقعقعة اللجم، واصطكاك الاسنة، واذا هم اربعمائة، وهم فرسان الاوس والخزرج قد اقبلوا من المدينة مع سلمى وابيها، فلما نظرت الى اليهود مجتمعين على حرب المطلب صاحت بهم صيحة عظيمة، وقالت : يا ويلكم، ما هذه الفعال؟ فهم لاطية بالعزيمة.
فقال له المطلب : الى أين يا عدو الله، الفرار من الموت؟ ثم ضربه بالسيف على عاتقه فقسمه نصفين وعجل الله بروحه الى النار وبئس القرار، وجالت الفرسان على اليهود، فما كان الا قليلا حتى باد جميع اليهود، فعند ذلك عطفوا على المطلب والسيف مشهور في يده، وقد دفع الفرس الى ابن اخيه، فلما جالت الكتائب خافت سلمى على ولدها، فأومت الى القوم وكانت مطاعة فيهم فأمسكوا عن القتال، فتقدمت سلمى الى المطلب وقالت : من الهاجم على مرابط الاسد، والخاطف من اللبوة شبلها؟.
قال المطلب : هو من يزيده شرفا على شرفه، وعزا الى عزه وهو اشفق عليه منكم، وانا ارجو ان يكون صاحب الحرم، والمتولي على الامم، وانا عمه المطلب.
فلما سمعت كلامه قالت : مرحبا واهلا وسهلا، ولم لا تستاذني في حملك ولدنا من بلدنا وانا قد شرطت على ابيه ان رزقت منه ولدا يكون عندي ولا يفارقني؟ .
فقال لها المطلب : كان ذلك.
ثم اقبلت على ولدها، وقالت : يا ولدي، خرجت مع عمك وتركتني، والان ان اردت ان ترجع معي فارجع، وان اخترت عمك فامض راشدا، فلما سمع كلام امه اطرق الى الارض، فقالت له امه : يا بني، لم تسكت وانت طلق اللسان، وجري الجنان؟ فوحق ابيك، اني لا امنعك عن شهوتك، وان عز علي فارقك يا ولدي، فرفع راسه وقد سبقته العبرة فقال : يا اماه، اخشى مخالفتك لانه محرم علي عصيانك، ولكن احب مجاورة بيت ربي، وانظر الى عموتمي وعشيرتي، فان امرتيني بالمسير سرت، والا رجعت، فعند ذلك بكت وقالت له : اذا كان كذلك فقد سمحت لك برضى مني، وقد كنت مستأنسة بغرتك فلا تنسني ولا تقطع اخبارك عني، ثم قبلته وودعته، وقالت : يا بن عبد مناف، قد سلمت اليك الوديعة التي قد استودعنيها اخوك هاشم بالعهد والميثاق، فاحتفظ بها، فاذا بلغ ولدي مبالغ الرجال، ولم اكن حاضرة، فانظروا بمن تزوجونه.
فقال لها المطلب : تكرمت بما فعلت، وجملت فيما وصفت، ونحن لا ننسى حقك ما حيينا، ثم عطف عليها يودعها، فقالت سلمى : خذوا من هذه الثياب والخيل ما تريدون، فشكرها المطلب وأردف ابن اخيه وسارا حتى قربا من مكة، فاضاءت شعابها، وانارت الكعبة، فاقبل الناس ينظرون اليه، واذا هم بالمطلب يحمل ابن اخيه، فسألوه عنه وقالوا : من هذا يا بن عبد مناف الذي قد اضاءت به البلاد؟ فقال لهم المطلب : هذا عبد لي، فقالوا : ما اجمل هذا البعد، فسماه الناس من ذلك اليوم عبدالمطلب : هذا عبد لي، فقالوا : ما أجمل هذا العبد، فسماه الناس من ذلك اليوم عبدالمطلب.
وأقبل الى منزله وكتم امره، وقد عجب الناس منه ومن نوره وهو لا يعلمون انه جد رسول الله (صلى الله عليه واله)، ثم انه ظهرت له ايات ومعجزات ومناقب ودلالات تدل على النبوة، وكانت قريش تتبرك به، فاذا اصابتهم مصيبة، او نزلت بهم نازلة، او دهمهم طارق، او نزل بهم قحط، توسلوا بنور رسول الله (صلى الله عليه واله) فيكشف الله عنهم ما نزل بهم، وقد ظهر من هذا النور المعجزات الباهرات والايات الواضحات).
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|