المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16333 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
الإمام عليٌ (عليه السلام) حجّة الله يوم القيامة
2024-04-26
امساك الاوز
2024-04-26
محتويات المعبد المجازي.
2024-04-26
سني مس مربي الأمير وزمس.
2024-04-26
الموظف نفرحبو طحان آمون.
2024-04-26
الموظف نب وعي مدير بيت الإله أوزير
2024-04-26

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


مقارنةٌ عابرة بين القران الكريم وافصح العرب  
  
7641   10:05 صباحاً   التاريخ: 8-11-2014
المؤلف : محمّد هادي معرفة
الكتاب أو المصدر : تلخيص التمهيد
الجزء والصفحة : ج2 ، ص171-192.
القسم : القرآن الكريم وعلومه / العقائد في القرآن / مقالات عقائدية عامة /

 أنّ مقارنةً عابرةً بين كلامه تعالى النازل قرآناً وبين كلام أفصح العرب المعاصر للنزول لتجعل الفرق بيّناً بينهما ، وأن لا مضاهاة هناك ولا تماثل ، كما لا تناسب بين الثُريّا والثرى ، ذاك نجم لامع وهذه أرض هامدة ، لا يشبه أحدهما الآخر في شيء ؛ ومِن ثَمّ أذعنت العرب بأنّه ليس من كلام البشر الذي تعارفوه وكان في متناولهم يُمارسونه ، نعم ، هو كلام الله الوحي النازل على رسوله ، هذا شيء كانوا قد لمسوه .

وقد مرّت عليك نماذج من خُطب العرب وأشعارهم وكانت من النمط الأرقى المعروفة يومذاك ، فإذا ما قارَنْتَها مع آي القرآن الحكيم وأُسلوبه البديع تجد هذا الفرق بوضوح .

مثلاً ، هذا قسّ بن ساعدة الأيادي (1) ما تزال العرب تفتخر بجلائل خُطبه القديمة حتّى اليوم ، في حين أنّها لا تعدو سرد ألفاظ لا فائدة في ذِكرها سوى تلفيق سجع أو رعاية وزن ، لا غير ، وإليك من خطبه : أيّها الناس ، اجتمعوا فاسمعوا وعوا ، مَن عاش مات ، ومَن مات فات ، وكل ما هو آت آت ، في هذه آياتٍ محكمات ، مَطرٌ ونبات ، وآباءٌ وأُمّهات ، وذاهبٌ وآت ، نجومٌ تَمُور ، وبحورٌ لا تغور ، وسقفٌ مرفوع ، ومِهادٌ موضوع ، وليلٌ داج ، وسماءٌ ذات أبراج ، مالي أرى الناس يموتون ولا يرجعون ؟! أَرضوا فأقاموا ؟ أم حُبسوا هناك فناموا ؟ يا معشر أياد ، أين ثمود وعاد ، وأين الآباء والأجداد ، أين المعروف الذي لم يُشكر ، والظلم الذي لم يُنكر ، أَقسَم قسٌّ بالله ، إنّ لله دِيناً هو أرضى من دينكم هذا ... .

* * *

هذا وقد أَعجب صاحب كتاب ( الإعجاز في دراسات السابقين ) هذا الكلامُ العربيّ القديم فقال في وصفه : إنّه ثمرة من ثِمار البلاغة العربية الطيّبة الناضجة .! وضربه مثلاً لِما كان للعرب من خُطبٍ مفحمة وحكم رائعةٍ معجبة ، يترقرق عليها ماء الحُسن والملاحة ، فيها روعة آسرة وجمال أخّاذ ... إلى آخر ما يقول في تقريض بيان أسلافه أعراب البادية الأقحاح ! (2) .

ولكن يا ترى ، أيّة ميزة لهذا الكلام الذي يشبه كلام الكَهَنة في أسجاع مُتكلّف بها ، وأرداف مُتمحّل فيها ، ليس فيها تلك الروعة والجمال البارع الذي نجده في قوله تعالى من سورة الفجر : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ *وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [الفجر : 6 - 14]

إنّه تعالى ذكر الظالمين وأردف ذِكرهم بما يهول من عظيم قدرتهم وخطير فسادهم في الأرض ، وأخيراً كان مآلهم إلى سياط الجحيم ، {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } [الانشقاق : 6] ، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة : 7 ، 8] .

هذا هو أُسلوب القرآن في وعظه الحكيم ، يهدّ الإنسان هدّاً ، ويهزّ من مشاعره هزّاً ، ثمّ يُهيمن عليه بسطوة بيانه وقوة كلامه في كلا تبشيره وإنذاره !

وهذا امرؤ القيس ـ أَلمع شعراء الجاهلية ـ نراه في أجود قصائده قد ضاق به الكلام حتّى لجأ إلى غرائب الألفاظ الوحشية غير المأنوسة ولا مألوفة الاستعمال ، كالعقنقل والسجنجل والكهنبل والمستشزرات وأمثالها ممّا تركها سائر العرب ، حتّى عافتها كتب تراجم اللغة ! الأمر الذي عِيب على امرؤ القيس .

كما عِيب استعماله كلمات لا موضع لها ولا مناسبة مع مقصود شعره ، قال ـ في مطلع قصيدته المعلّقة ـ :

قِفا نبكِ مِن ذكرى حبيبٍ ومَنزلِ      بسِقط اللِوى بين الدَخول فحَومَلِ

فَتوضِح فالمِقراةِ لم يعفُ رسمُها      لِـما نسجَتها من جنوبٍ وشَمأَلِ

لم يقتنع في وصف المَنزل بقوله (بسِقط اللوى) حتّى أكمل بيان حدوده الأربعة ، جنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً ، كأنّما يُريد بيع منزله ، فيخشى إن أخلّ بحدٍّ منه أن يفسد بيعه أو يبطل شرطه ، وما هذا إلاّ تطويل بلا طائل ، وهو من أكبر معايب الكلام .

وأيضاً فإنّه حاول إبكاء غيره ليرافقه في البكاء على فراق حبيبه ، وهذا من السخف في الرأي ، أن يدعو الأغيار إلى التغازل مع عشيقته فلا يغار ، وهل يرضى صاحب حميّة أن يتواجد صديق له على مَن يهواه ؟!

وأخيراً فما وجه تأنيث الضمير في ( لم يعفُ رسمُها ) العائد إلى المنزل ، مؤوّلا إلى الديار ، كما زعم ! وهكذا في ( نسجتها ) بتأويل الريح ، وكان الأَولى هو التذكير ؛ لأنّ الحمل على المعنى في غير المبهمات ـ كالموصولات ـ ضعيف في اللغة .

وأضعف منه زيادة ( من ) في الإثبات ، فإنّه شاذّ في اللغة .

قال ابن هشام : شرط زيادتها تقدّم نفي أو نهي أو استفهام بـ ( هل ) وزاد الفارسي : بعد أداة الشرط أيضاً ، نعم ، أهمله الكوفيّون جرياً على طريقتهم في اتّباع الشواذّ ، ولا يُقاس عليه في الفصيح ، قال ابن مالك :

وَزِيدَ في نفيٍ وشبهِهِ فجرّ         نـكرة كـما لـباغٍ مِن مَفرّ

واشتراط كون المدخول نكرة ، قال ابن هشام : لغرض إفادتها توكيد العموم في مثل ( أحد ) و( ديّار ) وهما صيغتا عموم إذا وقعتا بعد النفي وشبهه ، وهكذا جاء في القرآن الكريم ، نحو {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} [الأنعام : 59] ، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك : 3] ، {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } [الملك : 3].

أمّا لفظتا ( جنوب ) و(شمأل) فهما اسما خاصّ لا يفيدان العموم ولا سيّما في الإثبات .

كما أنّ من شأن الرياح أن تعفو الآثار وتمحوها محواً ، لا أن تستحكمها وتنسجها نسجاً كما نسبحه امرؤ القيس في عقليّته الغائرة !

قال الباقلاّني : وضرورة الشعر دلّته على هذا التعسّف (3) !

ذكر السيد صدر الدين ابن معصوم المدني بشأن حُسن الابتداء ، أنّ من شرائطه التأنّق في الكلام ، فيأتي بأَعذب الألفاظ ، وأجزلها وأرقّها ، وأسلسها سبكاً ، وأتقنها مبنىً ، وأوضحها معنىً ، خالياً من الحشو والركاكة والتعقيد .

قال : وقد أطبق علماء البيان على أنّ القرآن في مفتتحات سوره ومطالع مقاطع آيه أتى بأحسن وجوه الكلام وأبلغها ، وأجودها سلاسةً ، وأسبكها نظماً ، وأوفاها بغرض البيان ، وبذلك قد فاق الأقران .

يدلّك على ذلك مقارنته مع مطالع سائر الكلام من خُطب وقصائد فصحاء العرب يومذاك .

هذا امرؤ القيس تراه مجيداً في الشطر الأَوّل من مطلع معلّقته ، حيث وقف واستوقف ، وبكى واستبكى ، وذكر الحبيب والمنزل ، وهو من كثير المعنى في قليل اللفظ ، لكنّه هبط كلامه في الشطر الأخير ، حيث أتى بألفاظ لا طائل في ذِكرها ، سوى الإبعاد عن مقصود الكلام ، فلا تناسب بين الشطرين من بيت واحد هو مطلع قصيدة قد جدّ فيها جدّه ، فيما زعم ! (4) .

ومما عيب على امرؤ القيس أيضاً قوله :

كـأنّي لـم أركـب جواداً  للذّةٍ      ولـم أَتبطّن كاعباً ذاتَ خِلخالِ.

ولـم أَسبأ الزِقَّ الرويَّ ولم أقُل      لخيليَ كُري كرّةً بعد إجفالِ (5).

فإنّه قابل لفظتين بلفظتين مع عدم التناسب فكان فيه تكلّف .. قاله ابن رشيق .

قال : ومنهم من يُقابل لفظتين بلفظتين ، ويقع في الكلام حينئذٍ تفرقة وقلّة تكلّف ، فمن المتناسب قول علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) في بعض كلامه : ( أين مَن سعى واجتهد ، وجمع وعدّد ، وزخرف ونجّد ، وبنى وشيّد ) ، فأتبع كلّ لفظة ما يشاكلها ، وقرنها بما يشبهها ( وهذا من لطيف الكلام ) .

قال : ومن الفرق المنفصل قول امرؤ القيس ، وذكر البيتينِ .

قال : وكان قد ورد على سيف الدولة رجل بغداديّ يُعرف بالمنتخب ، لا يكاد يسلم منه أحد من القدماء والمحدّثين ، ولا يُذكر شعر بحضرته إلاّ عابه ، وظهر على صاحبه بالحجّة الواضحة ، فأنشد يوماً هذين البيتين ، فقال : قد خالف فيهما وأفسد ، لو قال :

كأنّي لم أركب جواداً ولم أقل      لـخيليَ كرّي كرّةً بعد إجفالِ

ولـم  أسبأ الزِّق الرويّ  للذّةٍ      ولم أَتبطّن كاعباً ذات  خِلخالِ

لكان قد جمع بين الشيء وشكله ، فذكر الجواد والكَرّ في بيت ، وذَكر النساء والخمر في بيت ! فالتبس الأمر بين يدي سيف الدولة ، وسلّموا له ما قال !

فقال رجل ممّن حضر : ولا كرامة لهذا الرأي ، الله أصدق منك حيث يقول :

{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى } [طه : 118 ، 119] ، فأتى بالجوع مع العُري ولم يأتِ به مع الظمأ . فسُرّ سيف الدولة ، وأجازه بصلة حسنة .

هذا ، وقد حاول صاحب الكتاب تبرير موقف امرؤ القيس في تفرقته هذه غير المتناسبة ، وأتى بتكلّف وتأويل ظاهرَينِ .

وأمّا الآية الكريمة فقد فنّد مزعومةَ القائل بأنّها نظيرة البيتينِ ، وقال : وأمّا احتجاج الآخر بقول الله عزّ وجلّ فليس من هذا في شيء ؛ لأنّه تعالى أجرى الخطاب على مستعمل العادة ، وفيه مع ذلك تناسب ، لأنّ العادة أن يقال : جائع عريان ، ولم يُستعمل في هذا الموضع عطشان ولا ظمآن ، وقوله تعالى : ( تَظمأ ) و( تضحى ) متناسب ؛ لأنّ الضاحي هو الذي لا يستره شيء عن الشمس ، والظمأ مِن شأن مَن كانت هذه حاله (6) .

وأيضاً قوله :

وهـرٌّ تصيدُ قلوبَ الرجالِ      وافلتَ منها ابنُ عمرو حُجُر

قال ابن رشيق : وقد يأتي القدماء من الاستعارات بأشياء يجتنبها المحدّثون ويستهجنونها ، ويعافون أمثالها ظرفاً ولطافة ، وإن لم تكن فاسدةً ولا مستحيلةً ، فمنها قول امرؤ القيس ـ وذكر البيت ـ قال : فكان لفظة ( هرّ ) واستعارة الصيد معها مضحكة هجينة ، ولو أنّ أباه حُجراً من فارات بيته ما أَسِف على إفلاته منها هذا الأسف .

قال : وأين هذا من استعارة زهير حين قال يمدح :

لـيثٌ بعثّر يصطادُ الرجالَ إذا      ما كذّبَ الليثُ عن أقرانِهِ صَدَقا

لا على أنّ امرؤ القيس أتى بالخطأ على جهته ولكن للكلام قرائن تُحسّنه ، وقرائن تُقبّحه كذِكر الصيد في هذين البيتين (7) .

قال : ومثل قول امرؤ القيس في القبح قول مسلم بن الوليد :

ولـيلةٍ خُـلِست لـلعينِ مِـن سِنَةٍ      هَتكتُ فيها الصِبا عن بَيضَةِ الحَجَلِ

فاستعار للحجر ـ يعني الكلل ـ بيضة ، كما استعارها امرؤ القيس للخدر في قوله :

وبَـيضةِ خِدرٍ لا يُرامُ خباؤُها      تَمتّعتُ مِن لهوٍ بها غير مُعجَلِ

وكلاهما يعني المرأة ، فاتّفق لمسلم سوء الاشتراك في اللفظ ؛ لأنّ بيضة الحجل من الطير تشاركها ، وهي لعمري حسنة المنظر كما عرفت (8) .

ثمّ ذهب في بيان الاستعارة وأنّها من محاسن الكلام إذا وقعت موقعها فنزلت موضعها ، وهي كثيرة في القرآن (9) .

وكذا قوله في التشبيه لغرض المبالغة في التهويل :

أَيقتُلُني  والمَشرفيُّ مُضاجعي      ومَسنونةٌ زُرقٌ كأنيابِ أَغوالِ

وقد جاء نظيره في القرآن لغرض المبالغة في التقبيح : {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات : 65].

غير أنّ المشبّه به وقع في القرآن معرّفاً وفي البيت منكراً ، وهذا من عيب الكلام ؛ إذ لا تهويل بشيء مجهول غير معروف . أمّا الآية فقد جاء التشبيه فيها بما لا يشكّ أنّه منكر قبيح (10) .

وكذلك في كثير من أشعاره نقد كثير ، ذكره أهل الصناعة عرضاً وفي طيّ كلامهم عن نكات ودقائق شعرية أو أدبية ، وربّما أتوا بشعر امرؤ القيس وأضرابه مثلاً ، ولو أرادوه غرضاً لأصابوا منه الكثير في الكثير .

هذه حالة ألمع شعراء الجاهلية وعظيم العرب فصاحةً وبياناً ، ضربناه لك مثلاً ، وعليه فقس من سواه .

أمّا القرآن الكريم فقد مضت عليه قرون متطاولة ، وحاولت خصومه الكثير النيل منه بشتّى الوسائل والحِيل ، فهل ساعدهم التوفيق أم باؤوا بالخيبة والفشل صاغرين ، وأصبحوا أُلعوبة إخوانهم الشياطين وأُضحوكة الإنس والجنّ أجمعين .

هذا ، وقد تحمّس صاحب الدراسات (11) لهكذا أشعار ساقطة وتافهة في نفس الوقت ، وقد أخذته الحمية الجاهلية الأُولى ، فقام مُدافعاً عن موقف شاعر مستهتر خليع قضى حياته الكَدرة في البذخ والترف والابتذال الشنيء !

إنّه صوّر من امرؤ القيس شخصيّة تاريخيّة لامعة ، قد حشّد في معلّقته الحياة العربيّة كلّها ، ما تراه العين ، وما ينبض به القلب ، وما تقلّه الأرض ، وما تسوقه السماء ، وفي معلّقته مشاهد للحياة ، كأنّك في مركب من مراكب الفضاء تطوف في الدنيا في مشارق الأرض ومغاربها في لحظات !

قال : وأقف بك عند مشهد صغير من تلك المشاهد التي تحفل بها هذه المعلّقة ، في هذا المشهد يُحدّث امرؤ القيس عن نفسه ، حين وقف على أطلال الديار التي كانت يوماً مّا تضمّ محبوبته فهاج ذلك ذكريات كثيرة عنده ، كان أشدّها يوم ارتحلت مع قومها وهم يرتحلون ، فوقف كما يقف المرء على ميّت عزيز له ، يقول : كـأنّي غـداةَ الـبَينِ يـوم تَـحمّلوا      لدى سَمُراتِ الحيّ ناقفُ حَنظَلِ  .

قال : إنّك تجد من كلّ كلمة من هذا البيت مطلعاً من مطالع الروعة ، ومدخلاً يدلف بك إلى مشهد من مشاهد الإنسان في صراعه مع عواطفه ، فلا تملك من نفسك إلاّ أن تعطف على تلك النفوس التي ذهب بها الوجد وأحرقها الأسى .

قلت : ولعلّ صحبنا هذا هو ناقِفُ حنظل هواجسه ، فجعل يهذي عن أبيات لا عذوبة فيها ولا روعة ولا جمال ، وإنّما هي بيداء قاحلة لا غضاضة فيها ولا طراوة ، والمعنى الذي أراده مفهوم عامّ يتصوّره كلّ عاميّ مسترسل .

وذكر ابن رشيق بشأن المبالغة : أنّ الناس مختلفون فيها ، فمنهم مَن يُؤثرها ويقول بتفضيلها ويراها الغاية القصوى في الجودة ، كما قيل : أشعر الناس من استُجيد كَذبه  ومنهم مَن يعيبها ويُنكرها ويراها عيباً وهُجنةً في الكلام .

قال بعض الحذّاق بنقد الشعر : المبالغة ربّما أحالت المعنى ولبّسته على السامع ، فليست لذلك من أحسن كلام ولا أفخره ؛ لأنّها لا تقع موقع القبول كما لا يقع الاقتصاد وما قاربه ، لأنّه ينبغي أن يكون من أهمّ أغراض الشاعر والمتكلّم أيضاً الإبانة والإفصاح وتقريب المعنى على السامع ، فإنّ العرب إنّما فضّلت بالبيان والفصاحة وحلا منطقها في الصدور وقَبِلَته النفوس لأساليب حسنة وإشارات لطيفة ، تكسبه بياناً وتصوّره في القلوب تصويراً .

فمَن أحسن المبالغة وأغربها عند الحذّاق : التقصّي ، وهو بلوغ الشاعر أو المتكلّم ما يمكن مِن وصف الشيء ، كقول عمرو بن الأيهم التغلبي :

ونُكرمُ  جارَنا ما دامَ فينا      ونُتبِعه الكرامةَ حيث كانا

ومن أغربها أيضا ترادف الصفات ، وفي ذلك تهويلٌ مع صحّة لفظ لا تحيل معنىً ، كقول الله تعالى :

{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } [النور : 40] .

فأمّا الغلوّ فهو الذي يُنكره مَن يُنكر المبالغة ، ويقع فيه الاختلاف ، من ذلك قول امرؤ القيس :

كـأنَّ المُدامَ وصوبَ الغُمام      وريحَ الخُزامى ونشرَ القُطُر

يِـعلُّ  بـه بَـردُ أَنـيابِها      إذا  غـرّدَ الطائرُ المُستَحِر

فوصف فاها بهذه الصفة سَحَراً عند تغيّر الأفواه بعد النوم ، فكيف تظنّها في أوّل الليل ؟! فقد بالغ وأتى بالمستحيل ، فكان كذباً صريحاً وهُجنةً في الكلام .

ومثل ذلك قوله يصف ناراً :

نظرتُ  إليها والنجومُ كأنّها      مصابيحُ رُهبانٍ تشبُّ لقُفّال

وفيه من الإغراق ما يلحقه بالمستحيل ، يقول : نظرت إلى نار هذه المرأة تشبّ لقفّال ، والنجوم كأنّها مصابيح رهبان ، وقد قال :

تنوّرتُها  من أَذرُعاتٍ وأَهلُها      بيثربَ أدنى دارِها نظرٌ عالِ

وبين المكانينِ بُعد أيام ، وإنما يرجع القُفّال من الغزو والغارات وجه الصباح ، فإذا رأوها من مسافة أيّام وجه الصباح وقد خمد سناها وكلّ موقدها فكيف كانت أوّل الليل ؟!! وشبّه النجوم بمصابيح الرهبان ؛ لأنّها في السَحر يَضعف نورها كما يَضعف نور المصابيح الموقدة ليلها أجمع ، لا سيّما مصابيح الرهبان ، لأنّهم يكلّون من سهر الليل ، فربّما نعسوا ذلك الوقت (12) .

ومن أبيات الغلوّ قول مهلهل :

فلولا الريحُ أُسمِعُ من بِحُجرٍ      صليلَ البيضِ تُقرعُ بالذُكورِ

وقد قيل : إنّه أَكذبُ بيت قالته العرب ، وبين حجر ـ وهي قصبة اليمامة ـ وبين مكان الوقعة عشرة أيّام ، وهذا أشدّ غلوّاً من قول امرؤ القيس في النار ؛ لأنّ حاسّة البصر أقوى من حاسّة السمع وأشدّ إدراكاً .

ومنها قول النابغة في صفة السيوف :

تَـقُدَّ  الـسلوقيَّ المُضاعفَ نسُجُه      ويَوقِدنَ بالصُفّاحِ نارَ الحُباحِبِ (13)

وقد عيب على امرؤ القيس ـ في شعره الآنف ـ مضافاً إلى غلوّه في المبالغة ، تعبيره عن أسنان حبيبته بالأنياب ؛ لأنّها أوّلاً اسم للسنّ خلف الرباعيّة ، وليست مطلق الأسنان ، وثانياً أكثر استعمال الأنياب في الحيوانات الضارية المهولة ، كما شبّه هو السهام المسنونة بأنياب الأَغوال في قوله :

أَيقتُلُني  والمَشرفيُّ مُضاجعي      ومسنونةٌ زُرقٌ كأنيابِ أَغوالِ

واستعار بعضهم الأنياب للشرّ ، أنشد ثعلب :

أَفـرُّ  حذار الشرِّ والشرُّ تاركي      وأَطعنُ في أَنيابه وهو كالحُ وهكذا قبّح تشبيه امرؤ القيس بنان حبيبته بالديدان الحمر الدقاق تعيش في الرمال ، في قوله :

وتَـعطو  بـرَخصٍ غير شَثنٍ كأنّه      أساريعُ ظبيٍ أو مساويك إسحِلِ (14).

شبّه بنانتها بالأسروعة ( دودة في الرمل ) ليناً ، وبياضاً ، وطولاً ، واستواءً ، ودقّةً ، وحمرة رأس ، قال ابن رشيق : كأنّه ظِفر قد أصابه الحنّاء ، وربّما كان رأسها أسود .

قال : إلاّ أنّ نفس الحضرمي إذا سمع قول أبي نؤاس :

تُـعاطيكَها  كـفٌّ كـأنّ بَـنانَها      إذا اعتَرضَتها العينُ صفُّ مَداري

أو قول الرومي :

أشـارَ بـقُضبان مِن الدُرّ قُمِّعت      يواقيتُ حمراً فاستباحَ عَفافي .

أو قول ابن المعتز :

أَشرنَ على خوفٍ بأغصانِ فضّةٍ      مُـقـوّمةٍ  أَثـمـارُهُنّ عـقيقُ

كان ذلك أنهش في نفسه وأحبّ إليها من تشبيه البَنان بالدود في قول امرؤ القيس ... ! نعم ، إذا كان ذلك في الهجو كان قريباً ، كقول حسّان :

وأمُّكَ  سوداءُ نوبيّة      كأنَّ أناملَها الحُنظُب

والحُنظُب ـ كقنفذ ـ بحاء مهملة : دابّة من خَشاش الأرض مثل الخنفساء  ، قيل : هو ضرب من الخنافس طويل  .

وهل هذا التشبيه البشع في شعر امرؤ القيس في وصف أنامل محبوبته وأسنانها يشبه شيئاً من توصيفات جاءت في القرآن الكريم للحور العين ؟!!

انظر إلى هذا الوصف الجميل :

{وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } [الواقعة : 22 ، 23].

{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن : 54 - 58].

{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن : 62 - 67].

فقد جاء وصفُ جمالهنّ مقروناً  بوصف عفافهنّ ، ممّا هو أقرب إلى النفس وأرغب في غريزة حبّ الاختصاص التي جُبلت عليها طبيعة الإنسان !

وقول أبي تمّام الطائي ، يرثي خالد بن زياد الشيباني في قصيدة يمدح أباه فيها :

ويَصعد حتّى يظنُّ الجَهولُ      بـأنّ له حاجةً في السماءِ

يريد من الصعود والرفعة في القدرة والمنزلة ، لكنّه بنى على تناسي التشبيه ، فزعم أنّه يُحاول الصعود إلى السماء على حقيقته ! وهذا التشبيه والتناسي خاليان من أيّ لطف وظرافة .

وقايس بينه وبين قوله تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر : 10] انظر إلى جرس لفظه ولطف تعبيره .

وقوله تعالى : {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر : 15].

كلام خال من التشبيه ، لكن ملؤه الأبّهة والجلال والكبرياء ، في حسن النظم وجودة التعبير .

قال ابن رشيق : واستبشع قوم قول الآخر يصف روضاً :

كـأنّ شقائقَ النعمانِ فيه      ثيابٌ قد رُوينَ مِن الدماءِ

فهذا وإن كان تشبيهاً مصيباً ، فإنّ فيه بشاعة ذِكر الدماء ، ولو قال من العُصفُر مثلاً أو ما شاكله لكان أوقع في النفس وأقرب إلى الأنس .

وكذلك صفتهم الخمر في حبابها بسلخ الشجاع  وما جرى هذا المجرى من التشبيه فإنّه وإن كان مصيباً لعين الشبه فإنّه غير طيّب في النفس ، ولا مستقرّ على القلب ، ومن ذلك قول أبي عون الكاتب :

تُـلاعبُها كـفُّ الـمزاجِ مـحبّةً      لـها  وليجري ذات بينهما الأُنسُ

فـتَزبد  مِـن تـيه عـليها كأنّها      غريرةُ خدرٍ قد تَخبّطها المَسُّ .

فلو أنّ في هذا كلّ بديع لكان مقيتاً بشعاً ، ومَن ذا يطيب له أن يشرب شيئاً يشبّه بزَبد المصروع وقد تخبّطه الشيطان من المس ؟! .

قال : وكأنّي أرى بعض مَن لا يُحسن إلاّ الاعتراض بلا حجّة ، قد نعى عليَّ هذا المذهب ، وقال : ردّ على امرؤ القيس ، ولم أفعل ، ولكنّي بيّنت أنّ طريق العرب القدماء في كثير من الشعر قد خولفت إلى ما هو أليق بالوقت وأشكل بأهله (15) .

وقد عاب الأصمعي بين يدي الرشيد قول النابغة :

نَـظَرتْ  إليك بحاجةٍ لم تَقضِها      نظرَ السقيمِ إلى وجوهِ العُوَّدِ على أنّه تشبيه يلحق ولا يشقّ غبار صاحبه ، ولم يجد فيه المطعن إلاّ بذكر السقيم ، فإنّه رغب عن تشبيه المحبوبة به ، وفضّل عليه قول عديّ بن الرقاع العاملي :

وكـأنّها  وَسَـطَ النساءِ أَعارَها      عينَيهِ أَحوَرُ مِن جآذِرِ جاسمِ وسَـنانُ  أَقصدَه النعاسُ فرَنَّقتْ      فـي عَينِه سِنَةٌ وليس بنائِمِ

وأجرى الناس هذا المجرى قول صريع الغواني على أنّه لم يقع لأحد مثله فـلطّتْ بـأَيديها ثـمارَ نـحورِها      كأيدي الأُسارى أَثقلتها الجوامعُ

فهذا تشبيه مصيب جدّاً ، إلاّ أنّهم عابوه بما بيّنت ، وإنّما أشار إلى قول النابغة :

ويَخْطِطنَ بالعيدانِ في كلّ منزلٍ      ويَخبَأنَ رمّانَ الثُّديّ النواهِدِ ومثله قول أبي محجن الثقفي في وصف قَيْنَة :

وتـرفعُ  الصوتَ أحياناً وتُخفِضُه      كما يَطنّ ذُبابُ الروضة الغَرِدُ

فأيّ قَيْنَة تُحبّ أن تُشبّه بالذُباب ؟ وقد سرق بيت عنترة وقَلَبه فأفسده (16) .

* * *

قال ابن رشيق في باب الاعتذار : وأجلّ ما وقع في الاعتذار من مشهورات العرب قصائد النابغة الثلاث ، يقول في إحداهنّ :

نُـبّئتُ  أنّ أبـا قابوسٍ أَوعَدَني      ولا قرارَ على زأرٍ مِن الأسدِ

ويقول في الثانية :

فــلا  تـتركنّي بـالوعيدِ كـأنّني      إلى الناسِ مطليٌّ به القارُ أَجربُ

ويقول في الثالثة ـ وهي أجودهنّ وأبرعهنّ ـ :

فـإنّكَ  كـالليلِ الـذي هـو مُدركي      وإن خلتُ أنّ المُنتأى عنكَ واسعُ قال : ومِن ثَمّ تعلّق بهذا المعنى جماعة من الشعراء منهم سلم الخاسر يعتذر إلى المهدي :

وأنـتَ كالدهرِ مبثوثاً حبائِلُهُ      والدهرُ لا ملجأٌ منه ولا هَرَبُ

قال ابن طاهر :

لأنّـك  لـي مثلُ المكانِ المحيطِ بي      مِن الأرضِ أنّى استَنهضَتني المذاهبُ قال ابن رشيق : والى هذه الناحية أشار أبو الطيّب بقوله :

ولـكنّك الـدنيا إليّ حبيبةً      فما عنك لي إلاّ إليكَ ذهابُ

قال : إلاّ أنّه حرّف الكلم عن مواضعه .

قال : واختار العلماء لهذا الشأن قول عليّ بن جبلة :

وما  لا مرئٍ حاوَلتَه عنك مَهربُ      ولـو رَفـعَتهُ في السماءِ المَطالعُ

بـلى هـاربٌ لا يَـهتدي لمكانِه      ظلامٌ ولا ضوءٌ مِن الصبحِ ساطعُ

قال : لأنّه قد أجاد ، مع معارضته النابغة ، وزاد عليه ذكر الصبح ، قال : وأظنّه اقتدى بقول الأصمعي في بيت النابغة : ليس الليل أولى بهذا المثل من النهار ... (17) .

قال : وأفضل من هذا كلّه قول الله تعالى :

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن : 33].

وقال مَن اعتذر للنابغة : إنّما قدّم الليل في كلامه ؛ لأنّه أهول ، ولأنّه أوّل ، ولأنّ أكثر أعمالهم إنّما كانت فيه ، لشدّة حرّ بلدهم ، فصار ذلك عندهم متعارفاً (18) .

وعقد ابن رشيق باباً في أغاليط الشعراء والرواة ، ذَكر فيه مآخذ علماء الأدب على كثير من أشعار القدماء والمحدّثين ، فكان من ذلك ما أخذوه على قول زهير يصف ضفادع ( شربات ) :

يَـخرُجنَ  مـن شَرَباتٍ ماؤُها طَحِلٌ      على الجذوعِ يَخفنَ الغَمر والغَرقا .

إذ لا تخاف الضفدعة من الغرق مهما كان غمر الماء ! فقد غلط في هذا التوصيف .

 واعتذر عنه بأنّه لم يرد خوف الغرق على الحقيقة ، ولكنّها عادة مَن هرب من الحيوان من الماء ، فكأنّه مبالغة في التشبيه ، كما قال تعالى :

{وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم : 46] .

وقال : {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب : 10].

والقول فيهما محمول على ( كاد ) ، هكذا ذكر الحُذّاق من المفسّرين ، مع أنّا نجد الأماكن البعيدة القعر من البحار لا تقربها دابّة ؛ خوفاً على نفسها من الهَلكة ، فكأنّه أراد المبالغة في كثرة ماء هذه الشربات (19) .

قلت : فعلى هذا كان كلامه وصفاً للماء لا للضفادع ، وعلى أيّ حال ، فإنّ استهداف هكذا أهداف حقيرة وهابطة كانت حصيلة تضايق آفاق الحياة العربية حينذاك ، وأين ذلك من سعة آفاق مطالب القرآن ومقاصده العليّة في أوصافه وتشبيهاته وتمثيلاته ؟! وهل تَناسب بين قول زهير في هذا البيت والآيتين الكريمتين ؟!! وإنّما يتفاخم الكلام ويتصاغر بضخم موضوعه وصغره ، وعلوّ مقصوده وسفله ، الأمر الذي نجده فرقاً بيّناً بين مقصود الآيتينِ ومقصود زهير في البيت ، بل بين القرآن كلّه وأشعار العرب الجاهلي كلّها !

قال الأصمعي : وأخطأ زهير في قوله ـ في ذمّ الحرب والقتال ـ :

فـتُنتِج لـكم غِـلمانَ أَشأَم كلُّهُم      كأحمرِ عادٍ ثمّ تُرضِع فتَفطِمِ .

حيث شبّه الغلمان المشائيم بعاقر ناقة صالح ، الموصوف بالأحمر ، واسمه قدار ، لكن نَسَبه إلى عاد ، وهو خطأ ، وإنّما هو ثمود .

واعتذر عنه بأنّ ثمود هي عاد الثانية ، كما جاء في قوله تعالى : {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} [النجم : 50] .

فهل قال تعالى هذا إلاّ وثمّ عادٌ أخرى ؟ وهي هلكت بالنمل ، من وُلد قحطان .

لكن أنصار الأصمعي لا يقرّون هذا الجواب ؛ إذ لا يصادق عليه العارفون بالأنساب والتاريخ ووصف ( الأُولى ) في الآية معناه السابقة التي كانت قبل ثمود ، وليس يدلّ على أنّ هناك عادينِ ، والوصف إنّما أتى به للإيضاح لا للاحتراز (20) .

وضمّنَ ابن رشيق باب أغاليط الشعراء باباً ذكر فيه منازل القمر ، وعلّل ذلك بأنّه رأى العرب ـ وهم أولع الناس بهذه المنازل وأنوائها ـ قد غلطوا فيها ، فقال أحدهم : من الأنجم العزل والرامحة ... وقال امرؤ القيس :

إذا  ما الثُريّا في السماء تعرّضتْ      تَعرُّضَ أَثناءِ الوِشاحِ المُفصَّلِ (21)

فأتى بتعرّض الجوزاء ، وهكذا كلّ من عُني بالنجوم من المحدّثين واستوفى جميع المنازل مخطئ لا شكّ في خلافه ؛ لأنّه إنّما يصف نجوم ليلة سهرها ، والنجوم كلّها لا تظهر في ليلة واحدة (22) .

قال الزوزني : يقول : أتيتها عند رؤية نواحي كواكب الثريّا في الأُفق الشرقي ... ومنهم من زعم أنّه أراد الجوزاء فغلط وقال الثريّا ؛ لأنّ التعرّض للجوزاء دون الثريّا ، وهذا قول محمّد بن سلام الجمحي (23) .

لكن إشكال ابن رشيق متوجّه إلى أولئك الشعراء الذين ذكروا مواقع النجوم دلائل على أوقات لقائهم للغواني أو سَهرهم الليالي على طول الزمان وفي كلّ ليلة باستمرار ، الأمر الذي يُخالف مطالع النجوم الفصليّة غير المستديمة .

وإذا كان العرب ـ المعنيّون بمطالع النجوم ومغاربها ـ قد أخطأوا في تمثّلاتهم الشعرية هكذا أخطاء فادحة ، فما ظنّك بسائر الشعراء وغيرهم من المحدّثين ؟! الأمر الذي تحاشى عنه القرآن الكريم ، في حين كثرة تعرّضه لمواقع النجوم ، وهذا أيضاً شاهد صدق من آلاف الشواهد على امتياز القرآن عن سائر الكلام وارتفاعه عن نمط كلام العرب الأوائل والأواخر جميعاً .

وذكر ابن الأثير للاعتراض ضروباً ثلاثة :

أحدها : أن تكون فيه فائدة ، والغالب هو توكيد الكلام وترصينه ، وقد ورد في القرآن كثيراً ، وذلك في كلّ مورد يتعلّق بنوع من خصوصيّته المبالغة في المعنى المقصود ، من ذلك قوله تعالى : {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [الواقعة : 75 ، 76] وذلك اعتراض بين القسم وجوابه ، وفي نفس هذا الاعتراض اعتراض آخر بين الموصوف وصفته وهو قوله ( لو تعلمون ) ، فذانك اعتراضان كما ترى .

ومثله قوله تعالى : {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل : 57].

وهكذا غيرهما من آيات كثيرة في القرآن ، كلّها من القسم المفيد فائدة التوكيد .

والضرب الثاني : ما لا فائدة فيه ، كما لا مفسدة فيه أيضاً ، من ذلك قول النابغة :

يقول  رجالٌ يَجهلونَ خَليقتي      لعلّ زياداً لا أباً لك غافلُ

فقوله ( لا أباً لك ) ممّا لا فائدة فيه ولا حُسن ولا قبح .

وهكذا قول زهير :

سَئِمتُ تكاليفَ الحياةِ ومَن يَعش      ثـمانينَ حَـولاً لا أباً لك يَسأَمُ

لكن وردت هذه اللفظة في قول أبي همام حسنة :

عتابك عنّي ـ لا أباً لك ـ واقصدي

فإنّه لمّا كره عتابها اعترض بين الأمر والمعطوف عليه بهذه اللفظة على طريق الذمّ .

الضرب الثالث : الاعتراض المُفسد ، وهو المذموم المُخلّ بفهم المقصود فيُعقّده تعقيداً ، وأمثلة ذلك في باب تقديم ما حقّه التأخير وتأخير ما حقّه التقديم كثيرة ، وقد أولع بها الشعراء المتكلّفون ، فمِن ذلك قول بعضهم :

فَـقد  والـشكُ بَـيّنَ لي عناءٌ      بِوَشكِ فِراقِهم صُرَدٌ يصيحُ

قال ابن الأثير : فإنّ هذا البيت من رديء الاعتراض ما أذكره لك ، وهو الفصل بين قد والفعل الذي هو ( بيّن لي ) وذلك قبيح لقوّة اتّصال ( قد ) بالفعل المدخول عليه ، بحيث يُعدّ جزءً متّصلاً به .

وأيضاً فُصل بين المبتدأ الذي هو ( الشكّ ) وبين الخبر الذي هو ( عناء ) بقولة ( بيّن لي ) ، وفُصل بين الفعل الذي هو ( بيّنَ ) وبين فاعله الذي هو ( صُرَد ) بخبر المبتدأ الذي هو ( عناء ) ، فجاء معنى البيت كما تراه مشوّها ومشوّشاً ، كأنّه صورة مشوّهة قد نُقلت أعضاؤها بعضها إلى مكان بعض (24) .

وجَعل أيضاً يمثّل بأبيات شعرية من العرب القديم ، لعلّنا نأتي عليها وعلى أمثالها في سائر أبواب البلاغة والبديع في قسم الدلائل على إعجاز القرآن ، وهو القسم الثاني من الكتاب إن شاء الله تعالى .

ولعلّني في هذا العرض العريض قد أسهبت وخرجت عن حدّ الاعتدال المتناسب مع وضع الكتاب ، غير أنّ تحمّسات قومية ، وأخرى سفاسف كلامية ربّما كانت تُحاول رفع منزلة كلام العرب الأوائل بما يضاهي سبك القرآن ونظمه البديع ، فكان هذا وذاك من أخطر الأساليب لوَهن موضع إعجاز هذا الكلام الإلهي وخرقه للمعتاد ! والعياذ بالله .

هذا ما دعاني إلى التكثير من شواهد الباب ، وإلاّ فلا داعي للتعرّض لأشعار لا محتوى لها ولا وزن في عالم الكلام والاعتبار ! والله الهادي .
____________________________

(1) كان أخطب العرب ، وكان يُضرب به المثل ( أخطب من قسّ بن ساعدة ) ، يقال شهده النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) وهو يخطب في سوق عكاظ ، وقد اعترفت العرب بفضله وببيانه . ( راجع البيان والتبيين للجاحظ : ج 1 ص247 ) .

2- الخطيب في الإعجاز : ص503 .

3- إعجاز القرآن بهامش الإتقان : ج 2 ص 13 ـ 15 .

4-راجع أنوار الربيع : ج 1 ص 35 .

5- سبأ الخمر : شراها ليشربها ، والزِقّ : الخمر ، والرويّ من الشرب : التام المشبع ، وإجفال الخيل : نفوره وشروده .

6-العمدة لابن رشيق : ج 1 ص 258 ـ 259 .

7- العمدة : ج 1 ص 271 .

8- المصدر : ص 272 .

9- المصدر : ص 268 ـ 275 .

10- العمدة : ج 1 ص 288 .

11- عبد الكريم الخطيب في كتابه ( الإعجاز في دراسات السابقين ) : ص 130 فما بعد .

12-العمدة لابن رشيق : ج 2 ص 55 ـ 56 .

13- العمدة : ج 2 ص 62 .

14- تعطو : تتناول ، برَخص : أراد بناناً رخصاً ليّناً ، غير شثن : ليس بخشن ، والأساريع : جمع الأسروعة وهي دودة صغيرة تعيش في الرمال ، ظبي : اسم موضع فيه رمل ، أسحِل : شجر المخيطا تُتّخذ من عروقه مساويك كالأراك .

15-العمدة : ج 1 ص 301 .

16- العمدة : ج 1 ص 302 .

17- العمدة : ج 2 ص 176 ـ 179 .

18- العمدة : ج 2 ص 251 .  

19-العمدة : ج 2 ص 251 .

20- هامش العمدة : ج 2 ص 426 .

21- التعرّض : الاستقبال وإبداء العرش . والمفصّل : الذي فُصل بين خرزه بالذهب أو غيره . يقول : تجاوزت إليها في وقت إبداء الثريّا عرضها في السماء كإبداء الوشاح ـ وهي الجواهر للزينة ـ الذي فُصل بين جواهره وخرزه بالذهب أو غيره عرضة .

22- العمدة : ج 2 ص 252 .

23- شرح المعلّقات للزوزني : ص 18 .

24-المَثل السائر لابن الأثير : ج 3 ص 40 ـ 48 و : ج 2 ص 227 .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .



اللجنة التحضيرية للمؤتمر الحسيني الثاني عشر في جامعة بغداد تعلن مجموعة من التوصيات
السيد الصافي يزور قسم التربية والتعليم ويؤكد على دعم العملية التربوية للارتقاء بها
لمنتسبي العتبة العباسية قسم التطوير ينظم ورشة عن مهارات الاتصال والتواصل الفعال
في جامعة بغداد.. المؤتمر الحسيني الثاني عشر يشهد جلسات بحثية وحوارية