أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-9-2016
1829
التاريخ: 2024-08-28
444
التاريخ: 7-7-2019
1811
التاريخ: 7-7-2019
1956
|
ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « أصالة عدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات ».
وفيها جهات من البحث :
فنقول : أمّا المراد من أصالة عدم تداخل الأسباب هو أنّ كلّ سبب له مسبّب ، أي يتكرّر وجود المسبب بتكرّر وجود السبب ، سواء أكان السبب المكرّر وجوده من سنخ واحد ، أو من أسناخ متعدّدة ، فالأوّل في الأسباب الشرعيّة كما إذا تكرّر منه البول أو الوطي أو الإنزال أو الاحتلام ، والثاني كما إذا بال ونام وخرج منه الريح بالنسبة إلى الوضوء ، فيجب مثلا في المفروض ثلاث وضوءات : واحد للبول ، وواحد للنوم ، وواحد لخروج الريح ، وكذلك واحد للغائط.
فلا فرق في تعدّد المسبّب بتعدّد وجود السبب بين أن تكون الأسباب المتعدّدة من سنخ واحد ، وبين أن يكون السبب المكرّر من أسناخ متعدّدة.
فلو قلنا بأصالة عدم التداخل ، فكما أنّ السبب المكرّر لو كان من سنخين أو من أسناخ متعدّدة تتعدّد الكفارة بتعدّد السبب ، كذلك يتعدّد المسبّب لو كان من سنخ واحد ، وهذا معنى عدم التداخل.
وأمّا التداخل فمقابل هذا المعنى ، أي عدم تكرّر المسبّب بتكرّر السبب.
وأيضا لا فرق بين أن يكون السبب المكرّر من سنخ واحد أو يكون من أسناخ متعدّدة ، فالتقابل بين التداخل وعدمه تقابل العدم والملكة ، هذا معنى التداخل وعدمه في الأسباب.
وأمّا المراد من التداخل وعدمه في المسبّبات :
أمّا الأوّل : أي التداخل في المسبّبات ، فهو عبارة عن كفاية مسبّب واحد عن أسباب متعدّدة ، مثلا كفاية وضوء واحد عن الأبوال المكرّرة ، أو كفايته عن البول والغائط والنوم.
ولا فرق في تداخل المسبّبات أيضا بين أن تكون أسبابها المتعدّدة من سنخ واحد ، أو من أسناخ متعدّدة.
وما ذكرنا في معنى التداخل وعدمه مضافا إلى أنّ المراد منهما عند الفقهاء هو هذا المعني ، ونحن في مقام شرح قاعدة فقهيّة ، فلا بدّ وأن نتكلّم فيها على وفق مرادهم منها موافق لما هو ظاهر لفظ التداخل وعدمه ، إذ التداخل مصدر باب تفاعل من « دخل » فيكون معناه حسب اللغة والمتفاهم العرفي دخول كلّ واحد من الشيئين في الآخر بحيث يتّحدان من حيث المكان والحيّز إذا كانا جسمين ، ومن حيث التأثير إذا كانا سببين ، ومن حيث التأثّر إذا كانا مسبّبين ، وهكذا.
ولذا قالوا : الضرورة قضت ببطلان الطفرة والتداخل ، أي تداخل الجسمين بحيث يكون لهما حيّز واحد.
فبناء على هذا المعنى المذكور يكون تداخل الأسباب في عالم السببيّة عبارة عن اتّحاد الأسباب في عالم التأثير ، أي يكون لجميعها تأثير واحد ، كما أنّه لو فرض أنّ جميعها سبب واحد ، ومثل هذا المعني في العلل التامّة التكوينيّة غير ممكن ، بل لا بدّ من أن يرجع إلى كون المجموع سببا واحدا ، وكلّ واحد منها جزء السبب.
وهذا إذا وجد المجموع دفعة واحدة ، وإلاّ لو كان وجودها تدريجيّا وعلى الترتيب ، فإن كان المسبّب قابلا للتكرار فيتكرّر ، وإلاّ يكون السبب الثاني بلا أثر ، لأنّ فرض وجود ذلك الأثر ـ الذي وجد أوّلا ـ ثانيا يكون من قبيل تحصيل الحاصل.
وهذا القاعدة لا تأتي فيما لا يكون المسبّب قابلا للتكرار ، لأنّ المقصود منها هو أنّه فيما إذا شكّ في تعدّد المسبّب بتعدّد السبب هل مقتضى الأصل هو تعدّد المسبّب وهذا معناه عدم تداخل السبب وأيضا عدم تداخل المسبّب ، لأنّه لو تداخل السبب فلا يكون وجه لتعدّد المسبّب ، لما ذكرنا من أنّ معنى تداخل الأسباب كونها بمنزلة سبب واحد في مقام التأثير ، والسبب الواحد لا يؤثّر إلاّ في مسبّب واحد ، وكذلك الأمر مع تداخل المسبّب ، أي لا وجه لتعدّده مع تداخله ، لأنّ معنى تداخل المسبّب كما ذكرنا كفاية مسبّب واحد عن الأسباب المتعدّدة ـ أو مقتضى الأصل عدم تعدّد المسبّب وهذا معناه هو تداخل الأسباب ، أو مرجعه إلى تداخل المسبّبات؟
مثلا في موجبات الكفّارة للإفطار في نهار شهر رمضان لو قلنا بأنّ الأصل تداخل الأسباب أو المسبّبات ، ففي مورد الشكّ يحكم بكفارة واحدة ، سواء أكانت الأسباب المتعدّدة من سنخ واحد كما إذا جامع مكرّرا ، أو من أسناخ متعدّدة كما إذا صدر منه الأكل والشرب والجماع في نهار شهر رمضان.
وعلى كلّ حال هذا البحث ـ أي أنّ مقتضى الأصل هل هو التداخل أو عدمه ـ لا يأتي إلاّ فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار ، وأمّا إذا لم يكن المسبّب قابلا للتكرار ـ كالقتل بالنسبة إلى موجباته وأسبابه ، كما إذا قتل أشخاصا أو قتل واحدا ، وزنى مع أنّه محصن ، ولاط ، وارتدّ بالارتداد الفطري ـ فلا أثر لهذا البحث ، لأنّ المسبّب أي : القتل ليس قابلا للتكرار.
فلو قلنا بأنّ مقتضى الأصل عدم التداخل ، لا في الأسباب ولا في المسبّبات ، لا يمكن تعدّد القتل الذي هو أثر عدم التداخل. فهذا البحث مورده فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار مثل الكفّارة.
ثمَّ إنّه لو قلنا بتداخل الأسباب ، فلا يبقى وجه للقول بتداخل المسبّبات ، لأنّه بناء على تداخل الأسباب فليس في البين إلاّ مسبّب واحد ، ولا توجد مسبّبات كي يقال بتداخلها ، ويكون كما إذا وجد سبب واحد فهل يمكن البحث في ذلك المورد من أنّ الأصل هل هو تداخل المسبّبات أم لا؟ لا شكّ في أنّه لا يمكن ، لأنّ مفهوم التداخل سواء أكان مضافا إلى الأسباب أو إلى المسبّبات لا يتحقّق إلاّ مع تعدّدهما ، أي الأسباب والمسبّبات ، وإلاّ فمع وحدتهما لا معنى للتداخل ، كما بيّنّا أنّ التداخل عبارة عن دخول كلّ واحد من الشيئين في الآخر.
ثمَّ إنّ الفرق بين تداخل الأسباب وتداخل المسبّبات من حيث ثمرة البحث هو أنّه لو قلنا بأنّ مقتضى الأصل تداخل الأسباب والمسبّبات جميعا ، ففي مورد الشكّ مثل أنّه تكرّر منه الأكل في نهار شهر رمضان ، لا يجوز له أن يعطي أكثر من كفّارة واحدة بعنوان الوجوب وامتثال الأمر ، لأنّه تشريع محرّم.
ولو قلنا بأنّ مقتضي الأصل تداخل الأسباب دون المسبّبات ، فأيضا يكون الأمر كذلك ، من جهة أنّه وإن صدر السبب متعدّدا ، سواء أكانت الأسباب المتعدّدة من سنخ واحد أو من أسناخ متعدّدة ، لكنّها بمنزلة سبب واحد ، لتداخلها على الفرض ، فلا يجب عليه إلاّ مسبّب واحد ، ويشتغل ذمّته بذلك الواحد فقط ، فإتيان غيره بعنوان الوجوب وامتثال الأمر يكون تشريعا محرما.
ولو قلنا بتداخل المسبّبات دون الأسباب ، فإنّه وإن كان له الاكتفاء بالواحد ، لما ذكرنا من أنّ المراد من تداخل المسبّبات الاكتفاء بمسبّب واحد عن أسباب متعدّدة ، وذلك كالاكتفاء بوضوء واحد أو غسل واحد عن أسباب وموجبات متعدّدة ، ولكن يجوز له أن يأتي بفرد آخر من المسبّب ، لأنّ المفروض في هذه الصورة عدم تداخل الأسباب ، وتأثير كلّ واحد منها في لزوم إيجاد المسبّب.
غاية الأمر إنّ الشارع مثلا حكم بكفاية إتيان فرد واحد من طبيعة المسبّب ولا يؤاخذ على ترك البقيّة ، فهذا لطف وتسهيل من قبل الشارع على المكلّف ، وإتيانه بالفرد الآخر من طبيعة المسبّب ليس تشريعا كي يكون محرّما ، بل عمل بمقتضى تأثير الأسباب المتعدّدة ، وإن كان يجوز له الاكتفاء بفرد واحد منّة منه تعالى عن عباده.
هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ في هذه الصورة ، بناء على ما ذكره من أنّ تداخل المسبّبات عبارة عن الاكتفاء بمسبّب واحد عن الأسباب المتعدّدة المؤثّر كلّ واحد منها تأثيرا مستقلاّ (1).
ولكن أنت خبير بأنّ هذا ليس من تداخل المسبّبات ، بل هو إسقاط ما في ذمّة العبد من الأفراد المتعدّدة إلاّ فردا واحدا ، والظاهر من تداخل المسبّبات هو أن يكون الفرد الواحد من طبيعة المسبّب أثرا للجميع وهذا المعنى إمّا أن يرجع إلى تداخل الأسباب ، بمعنى :
أنّ الأسباب المتعدّدة في عالم التأثير لها أثر واحد ، فيكون خارجا عن مفروض الكلام ، لأنّ مفروضنا الآن هو تداخل المسبّبات دون الأسباب ، وإمّا أن يكون المراد أنّ الآثار المتعدّدة المسبّبة عن الأسباب المتعدّدة يندكّ بعضها في بعض ويوجد مسبّب واحد ، وذلك كالسرج المتعدّدة التي كلّ واحد منها يؤثّر في وجود مرتبة من الضوء في الغرفة مثلا مستقلا ، لكن تلك الآثار يندكّ بعضها في بعض ويتشكل ضوء واحد قويّ.
فنقول : في الشرعيّات مثلا موجبات الوضوء أو الغسل ، كلّ واحد منها يؤثّر في مرتبة من الحدث ، فيوجد حدث واحد قويّ ، أصغرا كان أو أكبرا ، فيرتفع بوضوء واحد في الأوّل ، وبغسل واحد في الثاني ، فيصحّ أن يقال : إنّ هذا تداخل المسبّب من دون تداخل أسبابها وإلاّ لو كان لكلّ سبب تأثير مستقل في وجود فرد من طبيعة المسبّب ، ومع ذلك الأفراد الموجودة بحدودها المعيّنة تصير فردا واحدا ، فهذا محال معناه صيرورة الاثنين واحدا ، وهو مستلزم لاجتماع النقيضين.
وإذا كان تداخل المسبّبات بهذا المعنى ، فإيجاد المسبّب ثانيا بعنوان الوجوب والامتثال يكون تشريعا محرما ، لأنّ المفروض في المثال أنّ الحدث إذا كان هو الأصغر ارتفع بالوضوء الواحد ، وإذا كان هو الأكبر ارتفع بالغسل الواحد ، فيكون الوضوء أو الغسل الثانيين بعنوان امتثال الأمر تشريعا محرما ، كما في تداخل الأسباب بلا فرق بينهما أصلا.
وإذا كان مرجع تداخل المسبّبات إلى تداخل الأسباب فالأمر أوضح ، لأنّه ليس هناك أصلان كي يفرق بين ثمرتيهما ، بل هناك أصل واحد وهو أصالة عدم تداخل الأسباب ، وثمرتها معلومة وقد بيّنّاها ، ولو قلنا بعدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات فيجب أن يأتي بالمسبّب بعدد الأسباب ، وهذا واضح جدّا ، فلو جامع مرارا أو أكل كذلك ، فعليه الكفّارات بعدد الجماع أو الأكل.
الجهة الثانية
في بيان الأدلّة التي أقاموها على هذه القاعدة ،
وبيان ما هو الصحيح منها وما ليس بصحيح منها :
وقبل الشروع في ذكر الأدلّة نقدم أمورا :
الأوّل : لو وصلت النوبة إلى الشكّ ، أي لم نجد دليلا لا على أنّ الأصل يقتضي عدم تداخل الأسباب والمسبّبات ، ولا على أنّه يقتضي تداخلها فما حكمه؟
فنقول : أمّا الشكّ في تداخل الأسباب ، فمرجعه إلى الشكّ في التكليف ، فيكون مجرى البراءة.
بيانه : لو شككنا في أنّ الأسباب المتعدّدة للكفّارة ، سواء أكانت سنخ واحد أو من أسناخ متعدّدة ، هل يقتضي تعدّد الكفارة أم لا ، فمعناه أنّه يشكّ في وجوب كفّارة أُخرى غير الأولى أم لا ، فهذا شكّ في التكليف بالنسبة إلى الكفّارة الثانية ، فيكون مجرى البراءة.
وأمّا الشكّ في تداخل المسبّبات ، فإن كان المراد من تداخل المسبّبات ما ذكره شيخنا الأستاذ من الاكتفاء بمسبّب واحد وإن كان في ذمّته مسبّبات متعدّدة بواسطة عدم تداخل الأسباب ، فلا شكّ في أنّ المرجع بناء على هذا قاعدة الاشتغال ؛ لأنّ الشكّ يكون في مرحلة الامتثال بعد الفراغ عن اشتغال الذمّة بالمتعدّد ، وأنّه في مقام الامتثال هل يكفي الإتيان بالمسبّب الواحد أم لا؟
وأمّا لو كان مرجع تداخل المسبّبات إلى تداخل الأسباب ، وأنّ تداخل المسبّبات بدون تداخل الأسباب محال كما ذكرنا ، فيكون المرجع هي البراءة ، لأنّ الشكّ فيه حيث أنّه يرجع إلى الشكّ في تداخل الأسباب ، فيكون الشكّ في أنّ ذمّته هل اشتغلت بالمتعدّد أم لا؟ فيكون الشكّ في ثبوت التكليف بإيجاد المسبّب ثانيا ، وهو مجرى البراءة.
وأمّا لو كان المراد من تداخل المسبّب هذا المعني الأخير الذي بيّنّاه ـ أي يندكّ تأثيرات الأسباب ويتشكل مسبّب قويّ واحد ، أي حدث أصغر أو أكبر واحد قويّ ـ فلا يبقى شكّ في البين أصلا بعد إتيانه بالوضوء أو بالغسل ، لارتفاع ذلك الحدث الأصغر القويّ بالوضوء ، والأكبر القويّ بالغسل. إلاّ أن يأتي دليل على عدم ارتفاع ذلك المسبّب الشديد بوضوء واحد أو بغسل واحد مثلا.
والذي يسهل الخطب أنّه لو قلنا بعدم تداخل الأسباب ، فتداخل المسبّبات خلاف الأصل يقينا ، ولا يمكن المصير إليه إلاّ بإتيان دليل على ارتفاع آثار الأسباب المتعدّدة بوجود واحد ممّا نسمّيه مسبّبا ، كوضوء واحد ، وكغسل واحد إذا وجدت لكلّ واحد منهما أسباب متعدّدة.
ثمَّ إنّ ما ذكرنا ـ من أنّ الشكّ في تداخل الأسباب إن لم نجد دليلا على أنّ مقتضى الأصل هو التداخل أو عدمه فمرجعه إلى البراءة ـ يكون في باب التكاليف.
وأمّا في باب الوضعيّات كما إذا وجد سببان للخيار ولم يدلّ دليل على التداخل ولا على عدمه ، فالظاهر أنّه يكون مورد الاستصحاب لا البراءة ، مثلا لو ظهر في المبيع الذي هو حيوان ، عيب ، فما دام يكون البائع والمشتري في مجلس البيع وظهر العيب ، تجتمع للخيار أسباب ثلاثة : المجلس ، وكون المبيع حيوانا ، والعيب. فإذا أسقط الخيار المضاف إلى أحد هذه الأسباب فبناء على التداخل لا يبقى له خياران الآخران ، لأنّه بناء على هذا ليس له إلاّ خيار واحد وقد أسقطه.
وبناء على عدم التداخل فيكون الخياران الآخران موجودا ، فإذا شكّ في التداخل وعدمه ولم يكن دليل عليه ولا على عدمه ، فيشكّ في بقاء طبيعة الخيار ، فيكون مجرى الاستصحاب.
ولكن يمكن أن يقال : إنّ الخيار الذي هو عبارة عن حقّ خاصّ به يكون له السلطنة على حلّ العقد وإبرامه. ومثل هذا الحقّ ليس قابلا للتكرار ، فإذا أسقط فلا يبقى احتمال البقاء كي يستصحب ، بل البحث عن التداخل وعدم تداخل الأسباب لا يأتي هاهنا ، كما ذكرنا أنّ مورد هذا البحث هو فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار ، لأنّ ما ليس قابلا للتكرار في مقام الثبوت فالبحث عنه في مقام الإثبات ـ بأنّ مقتضى الأصل هل هو عدم التداخل؟ أي : التكرار مع عدم إمكانه ـ لا مجال له أصلا.
إن قلت : إنّ الخيار وإن لم يكن قابلا للتكرّر بتعدّد الأسباب من حيث تعدّد وجوده ، ولكنّه قابل للتعدّد بواسطة إضافته إلى أسباب متعدّدة ، فقابل لأن يبحث فيه إذا تعدّد أسبابه ، كما ذكرنا أنّ مقتضى الأصل هل تداخل الأسباب كي يكون خيار واحد عند اجتماع تلك الأسباب ، أو مقتضى الأصل عدم التداخل كي تكون خيارات باعتبار إضافتها إلى أسبابها.
قلنا : إنّ هذا وإن كان كلاما صحيحا ولكن ليس مصحّحا لجريان الاستصحاب بعد سقوطه أو إسقاطه باعتبار إضافته إلى بعض الأسباب ، وذلك من جهة أنّ الشكّ في التداخل وعدمه وإن كان موجبا للشكّ في وجود الخيار بعد سقوطه أو إسقاطه مضافا إلى أحد أسبابه ، ولكنّه ليس شكّا في بقاء ما هو كان موجودا يقينا الذي هو موضوع الاستصحاب ، لأنّه على تقدير التداخل حيث أنّه كان خيار واحد له ارتفع يقينا بالإسقاط أو السقوط ، ولم يبق شيء ولو من حيث إضافته إلى سائر الأسباب غير ما أسقط أو سقط ، وعلى تقدير عدم التداخل فموجود يقينا من حيث إضافته إلى سائر الأسباب.
وحيث أنّ المفروض هو الشكّ في التداخل وعدمه ، فما عدا الساقط مشكوك الحدوث ، لا مشكوك البقاء ومتيقّن الحدوث كي يجري الاستصحاب.
وأمّا استصحاب بقاء الجامع ـ بين ما سقط والمضاف إلى سائر الأسباب لأنّه مشكوك البقاء ـ وإن كان صحيحا من حيث تماميّة أركانه ، لكنّه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي الذي أثبتنا عدم صحّة جريانه.
وخلاصة الكلام : أنّ الوضعيّات إن لم تكن قابلة للتكرّر ولا للتأكّد فعند اجتماع الأسباب وتعدّدها لا يأتي بحث التداخل وعدمه ، وأيضا لا حكم للشكّ في التداخل وعدمه ، بل لا موضوع له ، لأنّ المفروض أنّ عدم التداخل بمعنى تعدّد المسبّب أو تأكّده غير ممكن فيه.
ولعلّه تكون الجنابة والنجاسة من هذا القبيل ، فإذا وجدت للجنابة أو النجاسة أسباب متعدّدة ، سواء أكانت تلك الأسباب من سنخ واحد ، كما إذا جامع مرارا ، أو لاقى مكانا من بدنه البول مرارا ، أو كانت من أسناخ متعدّدة ، كما إذا جامع بدون إنزال وأنزل بدون الجماع ، هذا بالنسبة إلى الجنابة ، أو لاقى مكانا من بدنه أو من ثوبه ، أو شيء آخر البول والمني أو نجس آخر ، ففي جميع هذه الصور لا تؤثّر هذه الأسباب تعدّدا في الجنابة أو في نجاسة المحلّ ، ولا تأكّدا فيهما.
وأمّا إن كان قابلا للتعدّد أو التأكّد ، وإن كان تعدّده باعتبار اضافة إلى أسبابه كما قلنا في الخيار ، فهذا البحث وإن كان يأتي ولكن عند الشكّ وعدم وجود دليل على التداخل ولا على عدمه ، فالاستصحاب لا يجري فيما هو قابل للتعدّد ، لما ذكرنا في الخيار.
وأمّا فيما هو قابل للتأكّد دون التعدّد ، فعدم فرد آخر مقطوع ، فلا مجرى للاستصحاب. وأمّا بالنسبة إلى احتمال بقاء مرتبة منه بعد القطع بزوال مرتبة منه ـ كما أنّه لو غسل مرّة ما تنجّس بالدم أوّلا ثمَّ لاقى البول أيضا ، فاحتملنا بقاء مرتبة من النجاسة بعد زوال مرتبة منها يقينا ، بناء على تأكّد النجاسة فيكون الاستصحاب حينئذ من القسم الثالث من استصحاب الكلّي ، ولا يجري إلاّ فيما إذا كانت وحدة القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة محفوظة عرفا والمسألة مشروحة على التفصيل في كتابنا « منتهى الأصول » (2) وإن شئت فراجع.
ثمَّ إنّ ما ذكرنا بالنسبة إلى النجاسة من التأكّد وزوال مرتبة منها يقينا واحتمال بقاء مرتبة منه صرف فرض ومن باب المثال ، وإلاّ فلا واقعيّة له.
نعم لو كانت لهذه المسبّبات التي من الوضعيّات آثار تكليفيّة ، كوجوب الغسل ـ بالضم ـ أو الغسل ـ بالفتح ـ وكان الشكّ فيه وأنّه مرّة أو مرّتين ، فالمرجع وإن كان هي البراءة من حيث التكليف ، ولكن لا مانع من استصحاب نفس الوضع ، وذلك كما إذا شكّ في أنّ النجاسة الحاصلة من ملاقاة البول هل يزول بالغسل مرّة أم لا؟ فاستصحاب النجاسة لا مانع منه ، ومعلوم حكومة هذا الاستصحاب على البراءة عن وجوب الغسل مرّة أخرى.
الثاني : في أنّ هذا البحث والنزاع هل يأتي في الأسباب والعلل التكوينيّة بالنسبة إلى مسبّباتها ، أو يختصّ بالأسباب والمسبّبات الشرعية؟ ثمَّ إنّ هذا البحث في الأسباب والعلل التكوينيّة على تقدير إتيانه لا يكون إلاّ فيما إذا كان لتكرّر المسبّب أثر شرعي ، وإلاّ يكون البحث لغوا وبلا ثمرة.
وقد عرفت أنّ هذا البحث لا يأتي إلاّ فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار أو التأكّد ، وإلاّ ففيما لم يكن كذلك فقلنا إنّ عدم التداخل ـ أي : تعدّد المسبّب مع أنّه ليس قابلا للتكرار ـ محال ، فالبحث عنه باطل ، فهذا البحث على تقدير جريانه وإتيانه في الأسباب التكوينيّة مشروط بهذين الأمرين.
فنقول : المراد من الأسباب التكوينيّة إن كانت هي العلل التامّة ، فمع كون المسبّب قابلا للتكرار فالتداخل محال ، فلا محالة يتكرّر المسبّب بتكرّر السبب ، وإلاّ يلزم توارد علّتين تامّتين على معلول واحد. وأمّا مع عدم كونه قابلا للتكرار فقلنا إنّ هذا البحث لا يأتي مطلقا لا في الأسباب الشرعيّة ولا في الأسباب التكوينيّة.
والحاصل : أنّ احتمال التداخل في العلل التامّة التكوينيّة محال. وأمّا المعدّات فليست المسبّبات مترتّبة عليها حتّى نتكلّم أنّ مقتضى الأصول هل هو التداخل أم لا؟
فهذا البحث مختصّ بالأسباب الشرعيّة.
ولكن ربما يقال بأنّ إتيانه في الأسباب الشرعيّة أيضا مشروط بأن تكون معرّفات لا مؤثّرات وعلل حقيقية ، وإلاّ يكون حالها حال العلل التكوينيّة في عدم جريان هذا البحث لعين ما ذكرنا ، لعدم جريانه هناك.
وفيه : أنّ ما نسميّها بالأسباب الشرعيّة ليست هي إلاّ موضوعات الأحكام التكليفيّة والوضعيّة ، فلا مؤثّرات ولا معرّفات لما هو العلّة حقيقة ، وذلك من جهة أنّ الشارع هو الذي يوجد هذه الأحكام التكليفيّة والوضعيّة ، وهي اعتبارات من قبل الشارع ومجعولات له في عالم الاعتبار والتشريع.
وكما أنّ الموجودات الخارجيّة كلّها مخلوقات له تعالى في عالم الخارج والتكوين ، كذلك جميع الأحكام الشرعيّة ، وضعيّة كانت أم تكليفيّة ، مجعولات من طرفه تعالى في عالم الاعتبار والتشريع ، فالمؤثّر والعلّة في وجود الأحكام هو الله تعالى.
وهذه الأسباب التي نسمّيها بالأسباب لا علل حقيقية للأحكام كما هو واضح ، لما عرفت أنّ علّتها الحقيقة هو الشارع ، ولا معرّفات للعلل الحقيقة ، لأنّ هذه الأسباب ليست معرّفات للشارع ، لأنّ المراد من المعرّف هاهنا ظاهرا هو الدالّ والمبيّن ، وهذه الأسباب ليست دالاّ ومبيّنا للعلّة الحقيقة بحيث يعرف العلّة الحقيقيّة وأنّها هو الشارع.
فحديث دوران الأمر بين أن تكون أسباب الأحكام وشرائطها إمّا علل حقيقة لها أو معرّفات إليها لا أساس له ، وبناء على هذا فما فرّعوا على هذا الدوران من انّ مقتضى الأصل هو التداخل بناء على أنّها معرّفات ، وعدم التداخل بناء على أنّها علل حقيقيّة كلام فارغ لا محصّل له ، إذ مقصودهم من ابتناء التداخل على أنّها معرّفات ، وابتناء عدم التداخل على أنّها علل حقيقيّة ومؤثّرات واقعيّة هو ما أشرنا إليه ، وهو أنّ توارد علّتين تامّتين حقيقيّتين على معلول واحد محال ، فبناء على أنّها علل حقيقية يكون التداخل محالا.
وأمّا بناء على أنّها معرّفات فلا مانع من التداخل ، إذ من الممكن أن يكون للشيء الواحد معرّفات متعدّدة وأمارات وعلامات كثيرة وكواشف مختلفة.
هذا إذا كان المراد من العلل الحقيقية هو موجدها في عالم الاعتبار والتشريع ـ أي الشارع ـ فقد عرفت أنّه بناء على هذا ليست هذه التي نسمّيها الأسباب والشروط علل حقيقيّة ، ولا معرّفات لها ، ولا كواشف عنها ، ولا أمارات عليها.
وأمّا لو كان المراد منها المصالح والمفاسد التي قد تكون من قبيل علّة الجعل ، وقد تكون من قبيل حكمته ، فإنّه وإن كان من الممكن أن تكون هذه الأسباب والشرائط مؤثّرات في وجود المصالح والمفاسد التي هي إمّا علّة جعل الأحكام أو حكمته ، فيكون الإفطار في نهار شهر رمضان متعمّدا مؤثّرا في وجود مصلحة في إعطاء الكفّارة التي هي العلّة الحقيقيّة لجعل وجوبها ، وأيضا يمكن أن تكون معرّفات لوجود المصلحة والمفسدة في ذلك الفعل الذي نسمّيه بالمسبّب ، لا مؤثرات حقيقيّة.
ولكن هذا التفصيل لا وجه له ، لأنّه على كلا التقديرين يمكن التداخل وعدم التداخل ، لأنّه على تقدير أن تكون مؤثّرات في وجود المصلحة والمفسدة يمكن أن يكتفي ـ مثلا بغسل أو وضوء واحد عند اجتماع أسباب متعدّدة ، كما أنّه بناء على أن تكون معرّفات يمكن أن يكون هذا السبب مثل البول في كلّ وجود له معرّفا لوجود مصلحة في وجود فرد آخر من طبيعة الوضوء ، أو الغسل كذلك بالنسبة إلى أسبابه.
هذا ، مضافا إلى أنّ هذه الأسباب والشرائط مرجعها إلى قيود الموضوع مثلا السرقة ليست سببا للقطع ، بل السرقة من قيود موضوع وجوب قطع اليد ، لأنّ موضوع وجوب قطع اليد هو الإنسان المقيّد بكونه سارقا ، كما أنّ موضوع وجوب الحجّ هو الإنسان المقيّد بكونه مستطيعا ، ولا شكّ في أنّ الموضوع وقيوده ليس علّة للحكم ولا معرّفا له.
فهذا الكلام ـ أي القول بأنّ الأصل عدم التداخل إن كانت هذه الأسباب والشرائط علل ومؤثّرات حقيقيّة ، والتداخل إن كانت معرّفات ـ لا أساس له ، لأنّها من قيود الموضوعات ، لا علل للأحكام ، ولا معرّفات لها.
الثالث : ربما يتوهّم التنافي بين قولي المشهور ، فهاهنا يقولون بأصالة عدم تداخل الأسباب ، ونتيجة هذا القول هو تعدّد المسبّبات عند تعدّد الأسباب ، وأيضا يقولون فيما إذا تعلّق الطلب بفعل ـ أي بطبيعة ـ مرّتين ، كما إذا قال : صم يوما ، ثمَّ قال ، أيضا : صم يوما ، أو قال : أكرم عالما ، ثمَّ قال ، أيضا : أكرم عالما ، وهكذا في سائر المقامات التي يتعلّق الطلب بطبيعة مرّتين أو مرّات بأنّ ما بعد الطلب الأوّل تأكيد له ، مع أنّ الطلب سبب للتكليف ، فإذا تعدّد يجب تعدّد التكليف ولزوم إيجاد المكلّف به متعدّدا بمقدار عدد الطلب.
فقولهم بأنّ ما بعد الطلب الأوّل تأكيد له وكفاية صوم يوم واحد وإكرام عالم واحد وعدم تعدّد التكليف ولا المكلّف به ، مع القول بعدم تداخل الأسباب وأنّ تعدّد السبب موجب لتعدّد المسبّب متنافيان لا يجتمعان.
ولكن التحقيق أنّ هذا التوهّم باطل ، وذلك من جهة أنّ الطلب ـ فيما مثّلنا من المثالين وما هو من هذا القبيل ـ تعلّق بصرف الوجود من طبيعة الصوم والإكرام ، وكذلك بالنسبة إلى متعلّقيهما ـ أي اليوم والعالم ـ فلفظ صم يوما ، وكذلك أكرم عالما ظاهر في طلب صرف الوجود من طبيعة الصوم ، وكذلك في صرف الوجود من اليوم في المثال الأوّل ، وكذلك الأمر في المثال الثاني ـ أي الطلب ـ تعلّق بصرف الوجود من طبيعة الإكرام وصرف الوجود من طبيعة العالم.
وصرف الوجود من كلّ شيء يتحقّق بأوّل وجود منه ، إذ هو نقيض عدمه المطلق ، ولو لم يصدق صرف الوجود للشيء على أوّل وجود من ذلك الشيء ، يلزم اجتماع النقيضين ، إذ المراد من صرف وجود الشيء وجوده المطلق من دون أي تقييد فيه ، وهو نقيض عدمه المطلق ، أي من دون تقييد في ذلك العدم ، ومعلوم أنّ الوجود المطلق والعدم المحمولان على شيء نقيضان لا يجتمعان ، فالوجود الثاني أو الثالث وهكذا ، وكذلك الوجود المعنون بعنوان الآخر للطبيعة ، ليس جميع ذلك مصداقا لمفهوم صرف الوجود ، وهذا مرادهم من قولهم : صرف الشيء لا يتكرّر ولا يتثنّى.
فلو أراد الآمر وجود طبيعة مرّة أخرى ، لا بدّ له أن يقيّد مطلوبه بكلمة « ثانيا » أو « الآخر » ، أو « مرّة أخرى » ، وإلاّ لو تعلّق الطلب بوجود شيء من دون أيّ تقييد في المطلوب يكون متعلّقا بصرف وجود ذلك الشيء ، وحيث أنّ صرف الوجود لا يتكرّر ، فلا بدّ من حمل الطلب الثاني والثالث ـ وهكذا ـ على التأكيد لا التأسيس.
ومثل هذا خارج عن مورد هذا البحث ، لما ذكرنا أنّ مورده فيما إذا كان المسبّب قابلا للتعدد والتكرار ، فعلى فرض تسليم أنّ المفروض من قبيل الأسباب والمسبّبات لا يأتي ذلك البحث هاهنا ، إذ الشكّ في وقوع شيء فرع إمكانه ، وإلاّ فالعاقل الملتفت لا يشكّ في وقوع اجتماع النقيضين أو وجود سائر الممتنعات.
وحيث كان مفاد الطلب المتعلّق بوجود شيء ـ من دون تقييد المطلوب بأيّ قيد ـ متعلّقا بصرف وجود الشيء ، وصرف وجود الشيء ليس قابلا للتكرّر ، فالبحث عند الشكّ في أنّ الأصل هل تعدّد وجود المطلوب عند تعدّد الطلب ، أو مقتضى الأصل عدم التعدّد باطل لا ينبغي أن يصدر عن عاقل.
نعم لو صدر الطلب المتعلّق بصرف الوجود ثانيا بعد امتثال الطلب الأوّل ، فيدلّ على لزوم إيجاده ثانيا ، لأنّ ذلك الوجود مصداق صرف الوجود في ذلك الوقت.
وبعبارة أوضح : كلّ طلب تعلّق بصرف الوجود من دون تقييد المطلوب بقيد ، مثل « ثانيا » أو « مكررا » أو « آخر » وأمثال ذلك ، فأوّل وجود من تلك الطبيعة بعد صدور الطلب مصداق صرف الوجود ، وبعده وجود تلك الطبيعة ليس مصداق صرف الوجود.
وأمّا إيجاد تلك الطبيعة قبل صدور الطلب لا يكون مضرّا بمطلوبيّة صرف الوجود بعد صدور الطلب ، فلو صدر من الآمر طلب آخر متعلّق بصرف الوجود قبل إيجاد متعلّق الطلب الأوّل ، لا بدّ وأن يكون تأكيدا ، ولا يمكن أن يكون تأسيسا.
إذا عرفت هذه المقدّمات ، فنقول :
إنّ الأصل يقتضي عدم تداخل الأسباب والمسبّبات ، وذلك أمّا بالنسبة إلى عدم تداخل الأسباب فمن جهة ما ذكرنا أنّ مرجع الأسباب والشرائط إلى قيود الموضوعات.
فإذا قال الآمر : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن أفطرت في نهار رمضان فأعتق رقبة ، يكون هاهنا موضوعين وحكمين : أحدهما المظاهر يجب عليه عتق رقبة ، والثاني المفطر في نهار رمضان متعمّدا بدون أن يكون له عذر يجب عليه عتق رقبة ، وظاهر هاتين القضيّتين أنّ لكلّ واحد من الموضوعين هذا الحكم ثابت ، سواء اجتمع مع الموضوع الآخر أم لا ، ففي مورد الاجتماع يكون له طلبان ومطلوبان ، أحدهما مترتّب عليه باعتبار كونه مظاهرا ، والآخر باعتبار كونه مفطرا في نهار شهر رمضان ، وهذا معنى عدم التداخل بالنسبة إلى الأسباب ، أي كلّ واحد من السببين يقتضي حكما غير حكم الآخر.
إن قلت : قد ذكرت أنّ صرف الوجود ليس قابلا للتكرار ، وهاهنا أيضا تعلّق الطلب بصرف الوجود في كلتا القضيتين. وبعبارة أخرى : ما الفرق بين أن يقول : أعتق رقبة ثمَّ يقول ثانيا : أعتق رقبة ، وتقول يكفي في امتثال كلتا القضيتين عتق رقبة واحدة ، وبين أن يقول : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن أفطرت فأعتق رقبة ، وتقول في هذا الفرض بلزوم عتق رقبتين ؛ لأنّ الأصل عدم تداخل الأسباب؟
قلت : الفرق بين الصورتين هو أنّه في الصورة الأولى ـ أي فيما لا يكون طلب وجود طبيعة مسبوقا بوجود السبب ـ يكون الحكمان على موضوع واحد ، والحكم هو طلب صرف الوجود الذي لا تكرار فيه ، فلا بدّ وان يكون الثاني تأكيدا للأوّل.
وأمّا في الصورة الثانية ـ أي : ما يكون الطلب مسبوقا بذكر السبب ـ يكون الحكم على موضوعين ، فيكون لكلّ موضوع حكمه ، وإن كان هو طلب صرف وجود الطبيعة ، ولكن طلب صرف وجود الطبيعة لموضوع غير طلب صرف وجود الطبيعة لموضوع آخر ، فقهرا يتقيّد المطلوب في الطلب الثاني بقيد ـ مثل « آخر » أو « ثانيا » وأمثال ذلك إذا كانت الطبيعة المطلوبة لها أفراد ، فقوله : إن ظاهرت فأعتق رقبة بعد قوله : إن أفطرت فأعتق رقبة قهرا تتقيّد الرقبة فيه بأخرى مثلا ، فيخرج المطلوب عن كونه صرف الوجود.
وهذا فيما إذا كانت الأسباب المتعدّدة من أسناخ مختلفة في غاية الوضوح ، وأمّا إذا كانت من سنخ واحد ، كما إذا أفطر في يوم واحد متعدّدا بالأكل مثلا أو بالجماع أو بالارتماس ، فظاهر القضيّة الشرطيّة هو الانحلال وأنّ كلّ وجود وفرد من أفراد طبيعة الشرط موضوع للحكم المنشأ في الجزاء.
فظاهر قوله عليه السلام : « إن جامعت أهلك في نهار رمضان فأعتق رقبة » [3] أو قوله :
« من جامع أهله في نهار رمضان فعليه عتق رقبة » (4) هو أنّ كلّ فرد من أفراد الجماع الواقع في نهار رمضان موضوع مستقلّ لوجوب عتق الرقبة.
فلا فرق بين في أنّ الأصل يقتضي عدم تداخل الأسباب بين أن تكون الأسباب من سنخ ونوع واحد ، أو من أنواع مختلفة بعد أن عرفت أن القضيّة الشرطيّة ظاهرة في أنّ كلّ فرد من أفراد ما أخذ شرطا أو سببا موضوع مستقلّ للحكم المذكور في الجزاء ، ولا يجوز قياسها بالحكم المكرّر في القضيّة غير المسبوقة بالشرط والسبب ، لما ذكرنا من أنّ القضيّة المتكفّلة للحكم على موضوع إن لم تكن مسبوقة بشرط ، فإن تكرّرت تلك القضيّة من دون اختلاف في جانب الموضوع ولا في جانب المحمول بأخذ قيد أو وصف في موضوع إحديهما أو محمولها دون الأخرى ، فلا محالة تكون القضيّة الثانية تأكيدا للأولى ، لأنّ الوجود المطلق لطبيعة من دون تقيّده بأيّ قيد لا تكرّر فيه ويصدق بأوّل وجود منها.
وأمّا إذا كانت القضيّة مسبوقة بشرط أو سبب ، أو قيّد موضوعها بقيد لم يكن في موضوع القضيّة الأخرى فظاهرة في أنّ كلّ واحد من الموضوعين له حكم مستقلّ وجزاء غير الجزاء الآخر ، إلاّ أن لا يكون الجزاء قابلا للتكرار ـ كالقتل في قوله :
المرتدّ يقتل ، والزاني المحصن يقتل ، واللائط يقتل ، سواء كانت تلك القضايا بصورة القضيّة الحمليّة ، أو كانت بصورة القضيّة الشرطية ـ أو إلاّ أن يأتي دليل على كفاية الجزاء الواحد لجميع تلك الموضوعات أو تلك الشروط والأسباب ، مثل قوله : إن بلت فتوضّأ ، وإن نمت فتوضّأ.
فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ تعدّد السبب والشرط ـ في القضايا الشرطيّة وإن اتّحد الجزاء ، سواء كانت تلك الأسباب والشروط من سنخ واحد أو من أسناخ متعدّدة ـ ظاهر في أنّ كلّ فرد من أفراد السبب والشرط له تأثير مستقلّ في الجزاء إذا كان الجزاء قابلا للتكرار ، ولم يكن دليل على أنّ جزاء واحدا يكفي للجميع ، أي لم يكن دليل على تداخل المسبّبات.
ويكون هذا الظهور قرينة على عدم إرادة صرف الوجود من الجزاء في القضيّتين كي لا يكون قابلا للتكرار.
ولا فرق في هذا الأمر بين أن تكون القضيّتان اللتان جزاؤهما واحد بصورة القضيّة الشرطيّة ، أو كانتا بصورة القضيّة الحمليّة مع تقييد موضوع إحدى القضيّتين بقيد أو وصف دون الأخرى ، أو كانت قضيّة واحدة حمليّة ولكن تكرّر وجود أفراد موضوعها ، كما إذا قال :
من جامع أهله في نهار رمضان متعمّدا من غير عذر فعليه عتق رقبة ، ثمَّ تكرّر منه الجماع في يوم واحد.
فظهر أنّ مقتضى الأصل ـ أي الأدلّة اللفظيّة ـ عدم تداخل الأسباب.
وأمّا تداخل المسبّبات فأيضا مقتضى الأصل اللفظي عدمه ، فيكون مقتضى الأصل تعدّد المسبّب بتعدّد السبب ، وذلك من جهة أنّه بعد ما عرفت أنّ الأصل عدم تداخل الأسباب وأنّ كلّ سبب يؤثّر في مسبّب مختصّ به غير المسبّب عن السبب الآخر.
وإن شئت قلت : إنّ الموضوع لكلّ واحد من الحكمين في الجزائين في القضيّتين الشرطيّتين غير ما هو الموضوع في الأخرى بواسطة تعدّد السبب أو الشرط ، بل يتعدّد الموضوع بواسطة القيد والوصف وإن كانت القضيّة حمليّة فيكون تعدّد السبب أو الشرط أو تعدّد الموضوع بناء على هذا الأخير قرينة على عدم إرادة صرف الوجود في طرف الجزاء.
فإذا قال الآمر : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، أو قال بصورة القضيّة الحمليّة : يجب عتق رقبة على المظاهر ، ثمَّ قال : إن أكلت في نهار رمضان فأعتق رقبة ، أو قال بصورة القضيّة الحمليّة : يجب عتق رقبة على الذي أكل في نهار رمضان من غير عذر. يكون الجزاء في القضيّة الثانية سواء كانت بصورة القضيّة الشرطيّة أو كانت بصورة القضيّة الحمليّة مقيّدا بأخرى أو بالثانية أو بأمثالها.
مثلا يكون الجزاء في القضيّة الثانية هكذا : إن أكلت في نهار رمضان من غير عذر فأعتق رقبة ثانية أو أخرى.
إن قلت : إنّ المترتّب على الشرط في القضيّة الشرطيّة هو الحكم المتعلّق بفعل المكلّف لا نفس الفعل ، فالمترتّب على الظهار أو الأكل هو وجوب العتق ، لا نفس العتق الذي هو متعلّق الوجوب ، والوجوب المتعلّق بالعتق ليس قابلا للتكرار وإن كان قابلا للتأكّد.
فغاية ما يمكن أن يكون هو تأكّد وجوب العتق عند تعدّد الأسباب ، وأمّا تعدّد العتق فلا ، فيرجع إلى أنّ تعدّد الأسباب يوجب تأكّد وجوب عتق رقبة واحدة ، وهذا غير ما هو مقصودهم من عدم تداخل المسبّبات ، لأنّ مقصودهم من هذا الكلام هو تعدّد المسبّب بمقدار تعدّد السبب.
قلنا : إنّ تعدّد الحكم إمّا بتعدّد موضوعه ، وإن كان المتعلّق واحدا ، مثل : يا زيد يجب عليك عتق رقبة ، وياعمرو يجب عليك عتق رقبة ، وإمّا بتعدّد متعلّقة ، وإن كان موضوعه واحدا ، مثل : يا زيد يجب عليك عتق رقبة ، وأيضا : يا زيد يجب عليك إطعام ستّين مسكينا ، وإمّا يكون بتعدّدهما جميعا كما فيما نحن فيه.
فالموضوع في إحدى القضيّتين المظاهر مثلا سواء كانت القضيّة بصورة الشرطيّة أو الحمليّة ، وفي الأخرى الأكل في نهار رمضان من غير عذر أيضا مع عدم الفرق في القضيّة بأيّ صورة كانت. وأمّا المتعلّق في إحداهما نفس عتق الرقبة مثلا من دون قيد ، وفي الأخرى مقيّدا بقيد « الأخرى » أو « ثانية » كما ذكرنا مفصّلا.
فلا يحتاج الجواب عن هذا الإشكال إلى ما تكلّفه شيخنا الأستاذ ، بأنّ المعلّق على الشرط هو محصّل جملة الجزاء ومفاد مجموعها ، لا خصوص مفاد الهيئة ـ أي الوجوب ـ بل المترتّب على الشرط طلب إيجاد مادّة المتعلّق (5).
ففي المثال المذكور علّق الآمر على الظهار أو على الأكل في نهار رمضان مطلوبيّة إيجاد العتق عن المخاطب بهذا الخطاب ، وذلك من جهة أنّ نفس الوجوب الذي هو مفاد الهيئة معنى حرفي ليس قابلا للتقييد ولا التعليق.
وأنت خبير بأنّ ما ذكره شيخنا الأستاذ لا يخلو عن تأمّل ، فظهر ممّا ذكرنا أنّ مقتضى القاعدة أي الدليل اللفظي فيما إذا تعدّد السبب ـ إذا كانت الأسباب المتعدّدة من أسناخ مختلفة ، أو تكرّر وجوده إذا كانت من سنخ واحد ـ تعدّد المسبب وجودا ، لا صرف تأكّد وجوبه مع وحدته خارجا ، وهذا فيما إذا كان المسبّب قابلا للتعدّد والتكرّر.
وهذا الذي قلنا من أصالة عدم تداخل الأسباب والمسبّبات لا ينافي إتيان دليل خارجي على التداخل فيهما أو في أحدهما ، فيكون أصلا ثانويا ، وذلك كما في باب الوضوء لو اجتمعت أسباب متعدّدة من البول والغائط والنوم والريح يكفي وضوء واحد.
وكذلك في الغسل بناء على ما ذكروه من كفاية الغسل الواحد مطلقا عن الأسباب المتعدّدة ، أو فيما إذا نوى الجميع بذلك الغسل الواحد ، أو فيما إذا كان ذلك الغسل بقصد غسل الجنابة ، بناء على الأقوال المتعدّدة المختلفة في هذه المسألة.
ولكن كلّ ذلك لقيام الدليل على الاكتفاء بالواحد على خلاف الأصل الأوّلي في باب تداخل الأسباب والمسبّبات.
ثمَّ إنّه قد يكتفي بإيجاد المسبّب الواحد من جهة كونه مصداقا لعنوانين بينهما عموم من وجه ، مثلا لو نذر أن يطعم عالما وأيضا نذر أن يطعم هاشميا ، فلو أطعم عالما هاشميا وفي بنذريه من جهة كونه مصداقا لكلا العنوانين.
إن قلت : إنّ امتثال الحكمين ـ اي الواجبين ـ منوط بشمول كلا الدليلين لمورد الاجتماع ، ومورده في المثال المفروض حيث أنّ التركيب بين العنوانين فيه اتّحادي لا يمكن أن يشمله العمومان أو الإطلاقان وإن كانا بدليّين ، لامتناع اجتماع المثلين في واحد مثل الضدّين ، فلا بدّ من سقوط كلا الوجوبين أو أحدهما في مورد اجتماع العنوانين واتّحادهما.
قلنا : إنّ الفرق بين الضدّين والمثلين هو أنّ الحكمين الضدّين لا يمكن اتّحادهما وصيرورتهما حكما واحدا مؤكّدا ، بخلاف المثلين ، فإنّهما بعد اجتماعهما ـ سواء أكانا وجوبين أو حرمتين أو استحبابين ـ يتّحدان ويصيران حكما واحدا مؤكّدا ، فامتثالهما جميعا بإتيان مادّة الاجتماع.
ثمَّ إنّ ما حكي عن العلاّمة من المقدّمات الثلاث دليلا وبرهانا على أن الأصل عدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات يرجع إلى ما ذكرنا بل عينه ، غاية الأمر الفرق هو الإجمال والتفصيل.
والمقدّمات الثلاث هذه : الأولى :
أنّ ظاهر القضيّة الشرطية وتعدّد الأسباب هو كون كلّ شرط وسبب مؤثّر مستقلّ في الجزاء ، لا أنّه جزء سبب حتّى يكون المجموع عند اجتماعهما سببا واحدا.
وهذه المقدّمة هي الركن الركين في مسألة عدم تداخل الأسباب والمسبّبات.
الثانية : أنّ ظاهر كلّ شرط أن يكون أثره غير أثر الشرط الآخر ، لا أن يكون شيئا واحدا أثر الاثنين.
الثالثة : هو أنّ التعدّد والغيريّة في الأثرين للشرطين يكون بنحو انفصال كلّ واحد من الأثرين عن الآخر ، لا الاندكاك كي يكون بنحو التأكّد والاشتداد ، مثل آثار المصابيح المتعدّدة في الغرفة ، لأنّها وإن كان كلّ واحد منها سبب مستقلّ لمرتبة من الضياء لا أنّه جزء سبب لتلك المرتبة ، وأيضا أثر كلّ واحد من تلك المصابيح غير أثر الآخر ، لكن مجموع آثارها وجد بنحو ضياء واحد مؤكّد شديد ، بمعنى أنّ حدود تلك المراتب اندكّت وذهبت من البين بعد اجتماعهما ، وحصلت مرتبة أكمل وأشدّ. وهذا في الكمّ المنفصل كالأعداد تصويره أوضح ، فلو أنّ أشخاصا متعدّدة كلّ واحد منهم أتى مثلا بعدد من التّفاح أو الرمّان ، فبعد اجتماع تلك المراتب تسقط الحدود ، ويحصل حدّ مرتبة أزيد من العدد ، وهكذا في الكمّ المتصل بل في كلّ ما يقبل الزيادة والنقيصة والشدّة والضعف ، وإن شئت قلت : في كلّ ما يقبل الكمال والنقص.
وإثبات هذه المقدّمات بالاستظهار من الأدلّة اللفظيّة في كمال الوضوح ، وترتّب أصالة عدم تداخل الأسباب والمسبّبات عليها أوضح ، كما بيّنّا وشرحناه مفصّلا.
نعم استشكل على ترتّب أصالة عدم التداخل على هذه المقدّمات فخر المحقّقين (6) بأنّ ما ذكر صحيح في العلل والأسباب التكوينيّة ، وأمّا الأسباب والشرائط الشرعيّة فليست من هذا القبيل ، بل هي أمارات ومعرّفات ، وتبعه جمع ممّن تأخّر عنه.
وخلاصة كلامهم : أنّ ما هو المؤثّر ـ في وجوب الكفّارة مثلا أو الوضوء أو الغسل والسبب الحقيقي لهذه الأمور أو سائر المسبّبات الشرعيّة ـ ليست هذه الأسباب المذكورة في لسان الأدلّة ، أو هذه الشرائط المذكورة في أدلّة المسبّبات.
فليست الاستطاعة مثلا لها تأثير حقيقي في وجوب الحجّ ، وكذلك البول أو النوم وغيرهما من أسباب الوضوء ليس لها تأثير حقيقي في وجوب الوضوء ، وكذلك بالنسبة إلى أسباب الغسل والكفّارة وغيرهما ، بل المذكورات كواشف عن السبب الحقيقي ، وتعدّد المسبّب إنّما يكون بتعدّد السبب الحقيقي وما هو المؤثّر تكوينا ، وإلاّ فتعدّد الكواشف لا يوجب تعدّد المنكشف وما هو العلّة حقيقة.
وقد تقدّم الجواب عن هذا الكلام وأنّ الأسباب والشرائط للأحكام الشرعيّة ليست إلاّ قيودا لموضوعات تلك الأحكام وإن كانت بصورة القضيّة الشرطيّة ، فمعنى إن استطعت فحجّ ، أي يجب الحجّ على المستطيع. وكذلك قوله : إن بلت فتوضّأ ، أي يجب الوضوء على من بال أو نام . وكذلك قوله : إن قتلت مؤمنا خطأ فكفّر بكذا ، أي تجب الكفّارة على من قتل مؤمنا خطأ.
فتعدّد الأسباب الشرعيّة في لسان الأدلّة مرجعه إلى تعدّد الموضوع ، ومعلوم أنّ نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة العلّة إلى معلوله ، فإذا تعدّد الموضوع فلكلّ موضوع حكمه ، وقهرا يتعدّد الحكم بتعدّد موضوعه ، فلا ربط لمسألة أصالة عدم التداخل بأنّها أيّ الأسباب الشرعيّة معرّفات أو مؤثّرات حقيقية ، لأنّها ليست إلاّ قيودا للموضوعات ، لا معرّفات ولا مؤثّرات في الأحكام الشرعيّة.
فلا يبتني هذا البحث على ما ذكره فخر المحقّقين وتبعه على ذلك محقّق الخوانساري (7) والفاضلان صاحب اللوامع وصاحب المستند النراقيّان (8) .
وقد ظهر من مجموع ما ذكرنا ثبوت أنّ مقتضى الأصل الأوّلى ، أي الظهور اللفظي فيما إذا تعدّد السبب ـ سواء كانت الجملة بصورة الجملة الشرطيّة ، كما إذا قال : إن بلت فتوضّأ وإن نمت فتوضّأ ، أو كانت بصورة القضيّة الحمليّة ، كما إذا قال : يجب الوضوء على من بال وكذا يجب على من نام ـ هو تعدّد المسبّب وعدم التداخل ، لا في جانب الأسباب ولا في جانب المسبّبات.
نعم ورد الدليل في باب الوضوء (9) وكذا في باب بعض الكفّارات من كفّارة إفطار شهر رمضان (10) على عدم تعدّد المسبّب تعدّد السبب ، وكفاية وضوء واحد أو كفّارة واحدة إن تعدّدت أسبابهما ، فلا بدّ من رفع اليد عن ظهور القضيّة اللفظيّة ، شرطيّة كانت أم حمليّة في تعدّد المسبب بتعدّد أسبابه ، والقول بأنّ المسبّب هو صرف الوجود من طبيعة المسبّب ، فليس قابلا للتكرار ولا للتأكيد ، فيكون خارجا عن موضوع البحث.
لأنّ البحث في هذا الأصل ـ كما تقدّم ـ كان فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار ولو بواسطة الإضافة إلى سببه كما قلنا في باب الخيارات ، فإنّها قابلة للإسقاط باعتبار الإضافة إلى أسبابها أو للتأكّد ، فإذا لم يكن قابلا لهما فلا مورد لهذا الأصل اللفظي ، لأنّ الإثبات فرع إمكان الثبوت ، وإلاّ يكون البحث فيه باطلا.
ولكن هذا الوجه لا يأتي في باب الوضوء ، لأنّ الوضوء قابل للتأكّد يقينا ، لقوله عليه السلام : « الوضوء على الوضوء نور على نور » (11) خصوصا إذا كان اسما لذلك الأمر المعنوي ، أي الطهارة الحاصلة للنفس بواسطة تلك الأفعال ، أي الغسلتان والمسحتان الصادرتان عن قصد القربة والإخلاص له تعالى.
ويمكن توجيه كفاية وضوء واحد عن أسباب متعدّدة والنواقص المختلفة بوجه آخر ، وهو أنّ سبب الوضوء في الحقيقة أمر واحد غير قابل للتعدّد ولا للتأكّد ، وهو الحالة النفسانيّة ، ويمكن أن يعبّر عنها بالقذارة النفسانيّة مقابل الطهارة النفسانيّة.
وهذه النواقص محصّلات لتلك الحالة ، وحيث أنّ تلك الحالة ليست قابلة للتعدّد ولا للتأكّد ، فهذه النواقض لو وجدت مترتّبة وواحد بعد الآخر وفي طوله فبأوّل وجود منها تحصل تلك الحالة ، فيكون حصولها بعد وجودها بأوّل ناقض من تلك النواقض من قبيل تحصيل ما هو حاصل الذي هو محال ، فقهرا وجود سائر النواقض بعد وجود الأوّل منها يكون بلا أثر ولغوا من هذه الجهة.
ولكن هذا منوط بأن لا تكون تلك الحالة ـ أي القذارة النفسيّة ـ قابلة للتأكّد ، وإلاّ فبالثاني والثالث وهكذا تشتدّ. وإن شئت مثّل هذا بأنّ الطهارة المعنويّة والنورانيّة النفسانيّة التي هي إمّا مسبّبة عن الوضوء أو تكون عبارة عن نفس الغسلتين والمسحتين بمنزلة النور المتولّد عن سراج واحد أو عن اسرجة متعدّدة ، والنواقض بمنزلة هبوب ريح يطفأ ذلك السراج أو تلك الأسرجة ، فإذا انطفى ذلك السراج أو تلك الأسرجة بهبوب أوّل ريح ، فلا يبقى مجال لتأثير سائر الهبوبات بعد هبوب الأوّل ، وهذا المعنى مناسب مع إطلاق النواقض عليها فخذ واغتنم ، هذا في باب الوضوء.
وأمّا في باب الكفّارات ، فبالنسبة إلى كفّارة إفطار شهر رمضان لمن ليس له عذر ، فالمشهور قالوا بوجوب كفّارة واحدة في غير الجماع ، وإن تعدّد وجود المفطر ، وإن كانا من سنخين كالأكل والشرب ، مع أنّ الكفّارة التي هي المسبّب قابلة للتكرّر.
فيمكن أن يقال : إنّ السبب الكفارة هو الإفطار في نهار رمضان الصادر عن الصائم ، وهذا المعنى يصدق على أوّل وجود من المفطر ، وبصدوره من المتعمّد إلى الإفطار يبطل الصوم وينعدم ، فالوجود الثاني من المفطر ـ سواء أكان من سنخ الأوّل كالأكل بعد الأكل أو الشرب بعد الشرب ، أو كان من سنخ آخر كالأكل بعد الشرب أو الشرب بعد الأكل ـ لا يصدق عليه أنّه أفطر صومه ، لأنّه بإفطاره الأوّل أبطل صومه وليس بصائم بعد ذلك. ومن الواضح المعلوم أنّ موضوع الكفّارة هو إفطار الصوم ، لا مطلق الأكل والشرب مثلا في نهار رمضان وإن لم يكن صائما.
ففي الحقيقة هاهنا سبب واحد للكفّارة ، وهو أوّل وجود من المفطرات ، فليس من قبيل تداخل الأسباب أو المسبّبات.
وعلى كلّ حال هذا أصل أوّلى ، ومقتضى أصالة عدم تداخل الأسباب هو تعدّد المسبّب ما لم يأت دليل على خلافه.
وأمّا إتيان دليل على التداخل فلا ينافي هذه القاعدة ، لأنّ هذه القاعدة مفاد ظاهر القضيّة اللفظيّة ، فإذا جاء الدليل على خلافه لا يبقى مجال للأخذ بذلك الظهور ، أو كان المسبّب غير قابل للتكرّر ولا للتأكّد أو كان المسبّب المأتيّ به مصداقا لعنوانين وامتثالا لأمرين ، كما قلنا فيما لو نذر إطعام عالم ونذر أيضا إطعام هاشمي فأطعم عالما هاشميّا فقد أوفي بكلا نذريه وامتثل الأمرين جميعا.
ثمَّ إنّهم بمناسبة البحث عن أصالة عدم تداخل الأسباب في باب الأغسال تكلّموا في مسألة تعدّد حقائق الأغسال واتّحادها ، فذهب المشهور إلى أنّها حقائق مختلفة ، وبعض آخر إلى أنّه حقيقة واحدة ، وهو المحكيّ عن الأردبيلي وتلامذته (12).
ومعنى كونها حقيقة واحدة تارة باعتبار أنفسها ، وأخرى باعتبار اتّحاد أسبابها ، وثالثة باعتبار آثارها.
أمّا الأوّل ، فلا شكّ في أنّ الغسل عبارة من غسل جميع البدن بإجراء الماء عليه مع النيّة ، أي قصد القربة بهذا الفعل ، ولا فرق بين أن يكون إجراء الماء على جميع البدن غسلا ارتماسيّا أو ترتيبيّا.
والعمدة أنّه هل قصد العنوان لازم في هذه الأغسال وبه يتحقّق وبدونه لا يوجد ، مثلا غسل الجنابة أو الجمعة أو مسّ الميّت لا يتحقّق بدون قصد هذه العناوين ، وإن كان بعنوانه الإجمالي مثل ما في الذمّة ممّا يشير إلى ذلك العنوان ، فيكون حال الغسل حال الصلوات الرباعيّة مثلا حيث لا يتحقّق إلاّ بقصد عناوينها من الظهر والعصر والعشاء ولو إجمالا وبعنوان ما في الذمّة.
فإن كان الأمر كذلك ، فلا بدّ وأن نقول باختلاف حقيقتها ، إذ قصد العنوان يكون بمنزلة الفصل المنوّع لها ، كما يكون كذلك في باب الصلوات.
وأمّا الثاني : أي وحدتها باعتبار أسبابها ، أي تداخل أسبابها في عالم التأثير ، أي يكون أثر كلّ واحد من تلك الأسباب قذارة معنوية يعبّر عنها بالحدث الأكبر.
ولا فرق في تلك القذارة المعنوية بين أن يكون حصولها من الجنابة ، أو من الحيض ، أو من مسّ الميّت ، أو من غير ذلك ، كما قلنا في الوضوء إنّ موجباتها توجب حدوث ظلمه في النفس ترتفع بواسطة الوضوء ، ولا شكّ في أنّ مقتضى القاعدة اختلافها من هذه الجهة أيضا ، وإلاّ يلزم تأثير المتعدّد في الواحد.
ولكن يمكن أن يقال : إنّ هذا يلزم لو لم تكن تلك القذارة المعنويّة قابلة للتأكّد ، وإلاّ فكلّ واحد من تلك الأسباب يؤثّر في مرتبة من تلك القذارة فتشتدّ ، ولا يلزم هذا المحذور ، ولكن الذي يلزم هو أنّه في بعض موجبات الغسل لا يمكن الالتزام بمثل هذا الأثر كغسل الجمعة ، فإنّ موجبه يوم الجمعة وهو لا يوجب قذارة معنويّة قطعا ، بل جميع الأغسال الزمانيّة ذلك الزمان الذي يوجبها لا يمكن أن يكون موجبا لوجود ظلمة أو قذارة معنويّة في النفس ، كغسل ليالي شهر رمضان خصوصا ليلة القدر. فالقول باتّحاد حقيقة الأغسال من هذه الجهة ممّا لا يمكن الالتزام به.
وأمّا الثالث : أي اتّحادها باعتبار آثارها بأن يقال أثر جميعها واحد ، وهو وجود نورانيّة نفسانيّة ، كما قلنا في الوضوء مستدلاّ بقوله عليه السلام : « الوضوء نور ، والوضوء نور على نور ».
وفيه أنّ وحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثّر فيما إذا لم يكن ذلك الأثر قابلا للاشتداد ، وأمّا إذا كان فيمكن أن يكون كلّ مرتبة من مراتب ذلك الأثر مستندا إلى غسل من تلك الأغسال ، فعند اجتماع الأغسال المتعدّدة مرتبة من تلك النورانيّة تكون مستندة إلى غسل الجنابة ، وأخرى إلى غسل الجمعة ، وهكذا ، فلا يمكن استكشاف كون الأغسال حقيقة واحدة من وحدة الأثر بهذا المعنى.
فالإنصاف أنّ الحكم باتّحاد الأغسال من حيث حقائقها ، وكون الاختلاف من ناحية إضافتها إلى موجباتها ـ كقولك : غسل الجنابة ، وغسل الجمعة ، وغسل مسّ الميّت ، وغسل ليلة القدر وهكذا ـ ممّا لا دليل عليه ، بل ظاهر قوله عليه السلام : « إذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد » (13) تعدّد الحقوق ، غاية الأمر أنّ الرواية تدلّ على كفاية الامتثال للجميع بإتيان غسل واحد ، ولا ينافي الاكتفاء بواحد مع تعدّد حقوق المجتمعة واختلاف حقائقها ، كما هو صريح رواية حريز.
وخلاصة الكلام في المقام : أنّ ظاهر تعدّد الأسباب والموجبات للغسل ـ كالجنابة والحيض والاستحاضة في بعض أقسامها ومسّ الميّت ونفس الميّت ، أي كون موت المسلم موجبا للغسل ، وغسل الإحرام والجمعة والزيارة ، والأغسال الزمانيّة على كثرتها ، ورؤية المصلوب إلى غيرها من الأسباب المذكورة في الكتب الفقهيّة ـ هو تعدّد الغسل وأنّها حقائق مختلفة ، ومن آثارها عدم إجزاء واحد منها عن الباقي ، سواء نوى بذلك الواحد سائر الأغسال أو لم ينو ، وسواء كان ذلك الواحد الذي يأتي به غسل الجنابة أو غيرها.
ولكن وردت روايات متعدّدة تدلّ على أنّ إتيان واحد منها يكون مجزيا عن الباقي إذا كان ما في ذمّته متعدّدا ، خصوصا إذا كان بإتيان ذلك الواحد ينوي جميع ما في ذمته ، وخصوصا إذا كان ما يأتي به بعنوان غسل الجنابة وينوي الباقي في ضمنه وتبعا له.
ومنها : ما ذكرنا من رواية حريز ، عن زرارة ، عن أحدهما عليهما السلام المرويّ في الكافي والتهذيب ، قال عليه السلام : « إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة ، فإذا اجتمعت عليك حقوق الله أجزأها عنك غسل واحد » ثمَّ قال : « وكذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها » (14).
وأيضا عن الكافي بإسناده عن جميل بن درّاج ، عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما أنّه عليه السلام قال : « إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كلّ غسل يلزمه في ذلك اليوم » (15).
وأيضا في الكافي والتهذيب بإسنادهما عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : سألته عن المرأة تحيض وهي جنب هل عليها غسل الجنابة؟ قال : « غسل الجنابة والحيض واحد » (16). وروايات كثيرة مثل ما ذكرنا واردة في هذا الباب.
في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة :
فنقول : موارد تطبيقها في الفقه كثيرة :
فمنها : مسألة تداخل الأغسال وكذلك الوضوءات ، ولكن لا أثر لهذه القاعدة فيما ورد الدليل على التداخل كما في هذين البابين.
ومنها : لو تعدّدت أسباب النزح في باب البئر بأن وقعت فيها نجاسات عديدة ، هل تتداخل ويكفي للجميع نزح واحد غاية الأمر بالأكثر منها ، أم لا تتداخل ، بل يجب لكل واحد من النجاسات النزح الخاصّ به ، فيتعدّد النزح بتعدّد النجاسات الواقعة فيها ، فينزح المقدّر لكلّ واحد منها؟
ومنها : لو تعدّد ورود النجاسات الخبيثة على محلّ فهل تتداخل ، أم يجب الغسلات المتعدّدة ، لكلّ واحد منها الغسل المختصّ بها ، مثلا لو لاقى بدنه أو ثوبه الدم والبول فبناء على التداخل يغسل مرّتين ، أي يأخذ بالأكثر منهما تقديرا وهو البول بناء على وجوب التعدّد فيه ، وبناء على عدم التداخل يجب غسله ثلاث مرّات ، مرّة للدم ومرّتين للبول.
ومنها : لو تعدّد نذره بالنسبة إلى فعل من الأفعال ، وذلك كما نذر مرّتين أن يصوم يوما أو نذر مرّتين أن يزور الحسين عليه السلام ، فبناء على التداخل يكفي صوم يوم واحد وزيارة واحدة ، وبناء على عدم التداخل يجب أن يصوم يومين ويزوره عليه السلام مرّتين.
ومنها : لو تعدّد موجبات الكفّارة في نهار شهر رمضان لمن يجب عليه الصوم ، كما إذا أكل أو شرب مرارا ، أو أكل وجامع وارتمس ، فبناء على أصالة عدم التداخل تكون عليه كفّارات متعدّدة بعدد أسبابها ، وبناء على التداخل ليس عليه إلاّ كفارة واحدة.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى كفّارات الحجّ وكفّارات الإحرام ، تتعدّد الكفارة بتعدّد أسبابها لو قلنا بأصالة عدم التداخل ، وتكفي كفّارة واحدة لو قلنا بالتداخل.
ومنها : تعدّد الأسباب في باب الحدود بالنسبة إلى الجلد ، فلو قذف متعدّدا ، أو زنى غير محصن متعدّدا ، فبناء على عدم التداخل يجلد مرّات بعدد أسباب الجلد ثمانين أو مائة ، وإن قلنا بالتداخل لا يجلد إلاّ مرّة واحدة.
وخلاصة الكلام : أنّ هذا الأصل كثير الدوران في الفقه ، وله موارد كثيرة ، واستيفاء تمامها موجب للتطويل ، ولذلك نكتفي بما ذكرنا ونحيل الباقي على الكتب الفقهيّة المفصّلة.
ونختم الكلام في هذه القاعدة بذكر أمور لا غناء عن ذكرها :
الأوّل : في أنّه هل هذه القاعدة من القواعد الفقهيّة ، أم من القواعد الأصوليّة ، أم من القواعد العقليّة الكلاميّة
ولا ربط لها بالفقه ولا بالأصول أصلا.
أقول : التحقيق أنّ الجهات الثلاث موجودة فيها.
أمّا جهة كونها قاعدة أصوليّة ، فمن جهة أنّ البحث فيها لو كان ناظرا إلى أنّ القضيّة الشرطيّة لو كان فيها الشرط متعدّدا والجزاء متّحدا هل لها ظهور في تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط أم لا؟ فيكون البحث فيها من هذه الجهة كالبحث فيها من حيث دلالتها على انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط ، أي يكون حال البحث فيها من هذه الجهة حال البحث فيها من حيث أنّها هل لها مفهوم أم لا؟ فتكون بناء على هذا مسألة أصوليّة.
وأمّا كونها عقليّة وكلاميّة ، فمن جهة أنّ البحث فيها لو كان من حيث أنّ الأسباب والشروط المتعدّدة هل يمكن أنّ يؤثّر في واحد بمعنى أنّ المسبّب الواحد أثرا ومعلولا لأسباب وعلل متعدّدة ، أو لا يمكن ، لأنّ تأثير العلل المتعدّدة بما هي متعدّدة في الواحد بما هو واحد غير معقول.
وبعبارة أخرى : كما أنّ صدور المتعدّد بما هو متعدّد عن الواحد بما هو واحد محال ، كذلك صدور الواحد بما هو واحد عن المتعدّد بما هو متعدّد محال ، إلاّ أن يكون المجموع علّة واحدة مركّبة من أجزاء ، وهو خلاف الفرض فيما نحن فيه.
وأمّا كونها فقهيّة ، فباعتبار أنّ البحث فيها عن أنّه هل مقتضى القاعدة الأوليّة هو وجوب إيجاد المسبّبات المتعدّدة ، عند وجود أسباب متعدّدة ، أو كفاية الإتيان بواحد منها؟ وعلى هذا الأخير ذكرناها في القواعد الفقهيّة.
وخلاصة الكلام : أنّ جهة بحثنا عن هذه القاعدة هو أنّ الموارد التي ذكر الشارع أسباب متعدّدة لحكم من الأحكام ـ وقد ذكرنا جملة كثيرة منها ـ هل يجب في تلك الموارد إيجاد مسبّبات متعدّدة بعدد الأسباب ، أم لا يجب إلاّ إيجاد واحد منها؟ كما أنّهم يذكرون في باب الغسل أنّه إذا تعدّدت الأسباب سواء أكانت من سنخ واحد كما إذا جامع مرارا ، أو من أسناخ متعدّدة كما إذا جامع واحتلم ونظر إلى المصلوب ، هل يكون عليه غسل واحد أم لا بل عليه أغسال متعدّدة بعدد الأسباب التي وجدت.
وهكذا بحثهم في باب الكفّارات وفي باب الحدود لو تعدّد وجوب أسباب الكفّارة ، أو تعدّدت أسباب الحدّ يبحثون في أنّه هل عليه كفّارة واحدة ، وكذلك هل عليه جلد واحد ، أو عليه كفّارات وجلدات متعدّدة بعدد أسبابهما.
الثاني : في أنّه هل هذا البحث ـ في أنّ مقتضى القواعد الأوليّة هو أصالة عدم التداخل وأنّ تعدّد السبب يوجب تعدّد المسبّب ، أم لا ـ مختص بما إذا وجد السبب الثاني والثالث وهكذا قبل الإتيان بالمسبّب عقيب السبب الأوّل ، أم لا بل يأتي هذا البحث ولو أتى بالمسبّب عقيب السبب الأوّل ثمَّ وجد السبب الثاني ، وهكذا في الثالث والرابع وما زاد. مثلا لو شرب في نهار شهر رمضان متعمدا مع أنّه صائم ، وكفر مثلا بإطعام ستّين مسكينا أو تحرير رقبة ، ثمَّ أكل فكفّر ، ثمَّ جامع وهكذا ، فيأتي هذا البحث ، أي بحث تداخل الأسباب أو لا؟
الظاهر أنّه لا يجري البحث في هذه الصورة ، وذلك من جهة أنّ المسبّب الموجود قبل هذا السبب المتأخّر لا يمكن أن يكون من آثاره ، بل لا بدّ وأن يكون من آثار السبب الذي وجد قبله ، وإلاّ يلزم تقدّم المعلول على علّته ، أو ـ بناء على ما حقّقناه من أنّ هذه الأسباب والشروط يرجع إلى قيود الموضوع ـ يلزم تقدّم الحكم على الموضوع ، وهو أيضا محال كالأوّل.
وأمّا ما حكي عن بعض من إتيان هذا البحث في مسألة وطئ الحائض ، من أنّه لو وطئ الحائض وكفّر ، ثمَّ وطئ ثانيا بعد أن كفّر عن الوطي الأوّل يأتي هذا البحث ، بمعنى أنّه بناء على تداخل الأسباب لا تجب الكفّارة للوطئ الثاني ، وبناء على عدم التداخل تجب كفّارة أخرى للوطئ الثاني.
فلا يبعد أن يكون مراد القائل هو أنّ سبب الكفّارة في وطئ الحائض هو صرف الوجود من طبيعة الوطي في حال الحيض ، ولا شكّ في أنّ صرف الوجود من تلك الطبيعة يتحقّق بأوّل وجود منها ، ولا يصدق بعد الوجود الأوّل على الوجود الثاني ، لأنّ معنى صرف الوجود لطبيعة هو وجودها المطلق عاريا عن كلّ قيد ، وهو الذي ربما يعبّر عنه بعادم العدم ، وهو نقيض العدم المطلق ، أي العدم غير المقيّد بقيد.
ولا شكّ في أنّ العدم المطلق ـ أي العدم المحمولي ـ لشيء ليس قابلا للتعدّد ، فنقيضه ، أي الوجود المطلق ، أي صرف الوجود ليس قابلا للتعدّد ، وإلاّ يلزم ارتفاع النقيضين.
فإذا كان الأمر كذلك ، فبالوطئ الأوّل يتحقّق صرف وجود طبيعة الوطي ، والمفروض أنّه موضوع وجوب الكفّارة ، وسائر أفراد هذه الطبيعة لا توجب الكفّارة ، فلو كفّر بعد الوطي الأوّل لا يجب عليه الكفّارة ولو صدر منه الوطي ألف مرّة.
وبناء على ما ذكرنا لو وطئ في حال الحيض ولم يكفّر ، ثمَّ وطئ ثانيا وثالثا وهكذا ، لا يجب عليه إلاّ كفّارة واحدة للوطئ الأوّل الذي هو مصداق صرف الوجود ، دون سائر الأفراد.
فهذه المسألة أجنبيّة عن مسألة أصالة عدم تداخل الأسباب ، وعلى هذا الأساس قلنا : لو نذر شخص أن لا يشرب الشاي ، ويكون متعلّق نذره وهو ترك صرف الوجود من طبيعة شرب الشاي ، لا ترك جميع وجودات هذه الطبيعة. فلو شرب مرارا يحصل الحنث بأوّل وجود من هذه الطبيعة ، وتجب عليه كفّارة حنث النذر ، ولا تجب كفّارات أخر بإيجاد سائر أفراد تلك الطبيعة ، إذ لا يحصل بتلك الإيجادات حنث ، ولا يصدق عليها صرف الوجود الذي تركه متعلّق نذره.
وأيضا على هذا الأساس قلنا : إنّ النواهي على قسمين :
أحدهما : أن يكون متعلّق النهي هي الطبيعة السارية ، فيكون النهي انحلاليّا ، ينحلّ إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد الأفراد ، ولكلّ قضيّة من تلك القضايا إطاعة مستقلّة وعصيان مستقلّ مثل : لا تشرب الخمر ، وأغلب النواهي بل جميعها ـ إلاّ ما شذّ وندر ـ من هذا القبيل.
ولا فرق في كون أغلب النواهي انحلاليّا بين أن يكون لمتعلّقاتها التي هي أفعال المكلّفين مساس وتعلّق بالموضوع الخارجي ، مثل : لا تشرب الخمر ، ولا تغتب المؤمن ، وبين أن لا يكون لها ذلك مثل : لا تكذب.
ثانيهما : أن يكون متعلّقه صرف الوجود ، كقوله : لا تشرب ماء الدجلة ، بناء على أن يكون الأثر المبغوض لصرف وجوده ، وهذا الذي ذكرنا من كون موضوع وجوب الكفّارة في وطئ الحائض صرف الوجود من طبيعة وطئها إنّما هو كان في مقام إمكان أن يكون كذلك في عالم الثبوت ، فلا ينافي مقام الإثبات استظهار أنّ الموضوع للكفّارة هي الطبيعة السارية لوطء الحائض.
فما رواه في الاستبصار بإسناده عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « من أتى حائضا فعليه نصف دينار يتصدّق به » (17) فإنّه ظاهر في الانحلال ، وأنّ وجود طبيعة وطي الحائض ـ أيّ وجود كان ، سواء كان الأوّل أو غيره ـ سبب لوجوب الكفّارة.
وما في فقه مولانا الرضا عليه السلام أوضح وأصرح في أنّ الطبيعة في ضمن أي وجود منها كانت تكون سببا للكفّارة ، وهو قوله عليه السلام « ومتى جامعتها وهي حائض فعليك أن تتصدّق بدينار »(18).
الثالث : هو أنّ الكلام والبحث فيما إذا كان المسبّب واحدا بالنوع ، وكان من الممكن تعدّد وجوده بحسب الخصوصيّات الفرديّة. وأمّا إذا كان المسبّب عند وجود كلّ سبب من الأسباب غير ما هو المسبّب عند وجود السبب الآخر بالنوع ، مثلا قال : إذا بلت فتوضّأ ، وأيضا قال : إذا جامعت فاغتسل ، فمن أوضح الواضحات خروج هذا القسم عن محلّ النزاع لا كلام في هذا ، كما أنّه لا كلام في دخول الصورة الأولى في محلّ النزاع.
وإنّما الكلام في أنّه ـ أي المسبّب ـ لو كان من الكميّات المختلفة بحسب المراتب ، كما أنّه لو قال : إذا جامعت الحائض في أوّل الحيض فعليك دينار ، وإن كان في وسطه فنصف دينار ، وإن كان في آخره فربع دينار ، فهل هذا ملحق بالمتّحد نوعا الذي يمكن أن يتعدّد ويكون له وجودات وأفراد لذلك النوع الواحد ؛ كي يكون داخلا في محلّ النزاع ، أو يكون ملحقا بالمسبّب المختلف نوعا ، كي يكون خارجا عن محلّ البحث؟ لا يبعد أن يكون ما ذكر ـ أى المسبّب الواحد بالنوع ، ولكن المختلف بحسب الكميّة ، كصوم يوم أو يومين ، أو إعطاء مدّ في الكفّارة أو مدّين ، أو صدقة دينار أو نصف دينار أو ربع دينار في الوطي في أوّل الحيض وفي وسطه وفي آخره ، وأمثال ذلك وأشباهه ـ ملحقا بالمختلف نوعا ، لأنّ الملاك في الاثنين واحد ، وهو اختلاف الحكم والموضوع جميعا في كليهما.
فكما أنّ في قوله : « إن بلت فتوضّأ » الموضوع هو المكلّف الذي بال ، والحكم هو وجوب الوضوء ، وفي قوله : « إن جامعت فاغتسل » الموضوع هو المكلّف الذي جامع ، والمحمول هو وجوب الغسل ، فالقضيتان مختلفتان موضوعا ومحمولا ، فلا وجه للبحث عن التداخل وعدمه ، لأنّ واحدة من القضيتين أجنبيّة عن الأخرى موضوعا ومحمولا.
وهذا البحث مورده اتّحاد المحمول في القضيتين ، وإن كانتا بحسب الموضوع مختلفين.
فكذلك ما نحن فيه أيضا القضيّتان مختلفتان موضوعا ومحمولا ، لأنّ الموضوع في إحديهما مثلا الوطي في أوّل الحيض ، والمحمول صدقة دينار ، والموضوع في الأخرى الوطي في وسط الحيض أو في آخره ، والمحمول صدقة نصف دينار أو ربعه ، مثل ما إذا كان المحمول مختلفا بالنوع.
بل بناء على القول بأصالة الماهيّة ـ وأنّ مراتب الكمّ والكيف أنواع ـ يكون ما ذكر من مصاديق ما يكون المسبّب مختلفا بالنوع حقيقة ، وإن كان هذا المبنى فاسدا ، كما هو مذكور في محلّه.
الرابع : بعد ما عرفت أنّ مقتضي القاعدة الأوّليّة أصالة عدم التداخل ، فاعلم أنّ هذا ما لم يأت دليل على كفاية مسبّب واحد عن الأسباب المتعدّدة.
وأمّا إذا أتى ـ كما في باب الأغسال ـ أنّ الغسل الواحد يكفي عن الأسباب المتعدّدة ، فلو أجنبت ثمَّ حاضت وانقطع حيضها يوم الجمعة وطهرت في ذلك اليوم ومست بدن الميت ، فاجتمعت عليها أسباب متعدّدة ، يكفيها غسل واحد للجميع ، لما تقدّم من رواية حريز ، وروايات كثيرة بهذا المضمون ، لا كلام في هذا.
إنّما الكلام في أنّه هل صرف إتيان الغسل الواحد كاف عن الجميع ، أو في خصوص ما إذا نوى الجميع ، أو التفصيل بين ما إذا نوى خصوص غسل الجنابة يكفي عن الجميع ، وأمّا إذا نوى غير الجنابة فلا يكفي؟ وجوه واحتمالات.
والمستفاد من أخبار الباب أنّ نيّة الجميع بالغسل الواحد يكفي عن الجميع.
كما أنّه أيضا يستفاد ممّا رواه في الكافي ـ عن محمّد بن يحيى بإسناده عن جميل بن درّاج ، عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما عليهما السلام ، أنّه عليه السلام قال : « إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كلّ غسل يلزمه في ذلك اليوم » أنّ نيّة غسل الجنابة تكفي عن كلّ غسل.
وأمّا لو لم ينو الجميع ولم ينو الجنابة أيضا ، أو لم تكن فيها الجنابة سواء نوى واحدا غير الجنابة ـ خصوصا إذا كان ذلك الغير هو غسل الحيض ـ أو لم ينو أصلا ، فالقول بكفاية مثل ذلك الغسل عن الجميع لا يخلو عن إشكال ، إذ الدليل على كفاية غسل واحد لا يرفع اعتبار النيّة.
والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.
_____________
(1) « فوائد الأصول » ج 1 ، ص 49.
(2) « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 448.
(3) لم نجده في بحار الأنوار ووسائل الشيعة ومستدرك الوسائل.
(4) « مستدرك الوسائل » ج 7 ، ص 326 ، باب 7 ، ح 8308 وص 327 ، ح 8309.
(5) « فوائد الأصول » ج 1 ، ص 495.
(6) حكى الشيخ الأعظم نسبته إلى فخر المحقّقين واحتمل تبعيّة النراقي له في العوائد. راجع : « مطالع الأنظار » ص 175.
(7) « مشارق الشموس » ص 61 ـ 69.
(8) انظر : « المستند » ج 2 ، ص 371 ، وص 367.
(9) « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 263 ، أبواب الوضوء ، باب 7.
(10) « وسائل الشيعة » ج 7 ، ص 27 ، أبواب ما يمسك عنه الصائم ، باب 11.
(11) « الفقيه » ج 1 ، ص 41 ، ح 82 ، باب صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه واله ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 265 ، أبواب الوضوء ، باب 8 ، ح 8.
(12) « مجمع الفائدة والبرهان » ج 1 ، ص 130 ، « مدارك الأحكام » ج 1 ، ص 98 و194.
(13) « الكافي » ج 3 ، ص 41 ، باب ما يجزئ الغسل منه إذا اجتمع ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 107 ، ح 270 ، باب الأغسال المفترضات والمسنونات ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 525 ، أبواب الجنابة ، باب 43 ، ح 1.
(14) هي نفس الرواية المتقدّمة في ص 236.
(15) « الكافي » ج 3 ، ص 41 ، باب ما يجزئ الغسل منه إذا اجتمع ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 526 ، أبواب الجنابة ، باب 43 ، ح 2.
(16) « الكافي » ج 3 ، ص 83 ، باب المرأة ترى الدّم وهي جنب ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 395 ، ح 1223 ، باب الحيض والاستحاضة والنّفاس ، ح 46 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 527 ، أبواب الجنابة ، باب 43 ، ح 9.
(17) « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 163 ، ح 467 ، باب حكم الحيض والاستحاضة والنفاس ، ح 40 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 133 ، ح 456 ، باب ما يجب على وطى امرأة حائضا ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 575 ، أبواب الحيض ، باب 28 ، ح 4.
(18) « فقه الرضا عليه السلام » ص 31 ، « مستدرك الوسائل » ج 2 ، ص 21 ، أبواب الحيض ، باب 23 ، ح 1.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|