أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-8-2016
1307
التاريخ: 3-8-2016
499
التاريخ: 26-8-2016
516
التاريخ: 3-8-2016
581
|
هل يجوز الأمر بالضدّين على نحو الترتّب، أو لا؟
توجد جذور هذا البحث في كلمات المحقّق الثاني الكركي (رحمه الله) وأوضحه وشرحه أخير الشّيخ الكبير كاشف الغطاء قدّس الله سرّه، ثمّ بيّنه المحقّق الميرزا الشيرازي(رحمه الله)، ونقّحه تلميذه المحقّق الفشاركي(رحمه الله)، وبالأخرة فصّله المحقّق النائيني(رحمه الله) ورتّبه وشيّد أركانه بذكر مقامات خمسة على ما سيأتي.
واستدلّ القائلون بالأمر الترتّبي بالضدّين بوجهين. (وهما العمدة في المقام):
الوجه الأوّل: أنّ منشأ الإشكال في الأمر بالضدّين إنّما هو التزاحم الموجود بين المهمّ والأهمّ، ولا إشكال في أنّ التزاحم إنّما يتصوّر فيما إذا كان كلا الأمرين مطلقاً وفي عرض واحد، وأمّا إذا كان أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً بعصيانه فلا مضادّة ولا مطاردة بينهما.
الوجه الثاني: الوجدان، وأقوى الدليل على إمكان شيء وقوعه، ولا ريب في أنّ الوجدان حاكم بجواز الأمر الترتّبي ووقوعه في الخارج، من قبيل أمر الوالد ولده بقوله: تعلّم الفقه وإلاّ فتعلّم الطبّ، وهكذا في أوامر الموالي العرفيّة لعبيدهم، كأن يقول: «كن في الدار في الساعة الفلانيّة وإن عصيتني وخرجت من الدار فكن على جانبه حتّى لو قصدني عدو بسوء تسمع ندائي» أو يقول المولى: كن عالماً ربّانياً وإلاّ فكن متعلّماً على سبيل النجاة.
ولكن اُجيب عن الوجه الأوّل: بأنّ التزاحم والمضادّة وإن لم تكن بين الأمرين في مرحلة الأمر بالأهمّ، ولكنّها موجودة بينهما في مرحلة الأمر بالمهمّ، بداهة أنّ فعليّة الأمر بالأهمّ باقية على قوّتها ولا تسقط بإرادة العصيان.
إن قلت: الأمر بالأهمّ وإن كان فعليّاً بعد، ولكن لا يمنع عن الأمر بالمهمّ إذا كان ترك الأهمّ ناشئاً عن سوء اختيار المكلّف كما في ما نحن فيه، فهو بسوء اختياره أوجب الجمع بين الأمر بالضدّين.
قلنا: الجمع بين الضدّين محال ولا يمكن صدور الأمر به من جانب المولى الحكيم، ولا فرق فيه بين سوء اختيار المكلّف وحسن اختياره كما لا يخفى.
إن قلت: إنّ المزاحمة والمضادّة موجودة بين الأمرين المتعلّقين بضدّين إذا كانا في عرض واحد لا ما إذا كان أحدهما في طول الآخر، لأنّ الأمر بالمهمّ حينئذ يكون متوقّفاً على إرادة عصيان الأمر بالأهمّ.
قلنا: المفروض أنّ كلّ واحد من الأمر بالأهمّ والأمر بالمهمّ فعلي حتّى بعد إرادة عصيان الأهمّ، ومعه كيف ترتفع المضادّة؟ وبعبارة اُخرى: المزاحمة والمطاردة وإن لم تكن موجودة في مرتبة المهمّ، بالنسبة إلى الأهمّ ولكنّها موجودة من جانب الأهمّ بالنسبة إلى المهمّ والمزاحمة من جانب واحد أيضاً محال.
واُجيب عن الوجه الثاني بتوجيه الأمر بالمهمّ بأمرين:
الأمر الأوّل: أنّ المولى قطع نظره ورفع يده عن الأمر بالأهمّ بعد عصيان العبد وبدّله بالأمر المهمّ.
الأمر الثاني: أنّ أمر المولى بالمهمّ ليس مولويّاً بل إنّه إرشاد إلى بقاء محبوبيته وملاكه.
ولكن الإنصاف عدم تماميّة الجواب في كلا الوجهين، أمّا الأوّل فلأنّ المستحيل إنّما هو الجمع بين الأهمّ والمهمّ في مقام الامتثال لا في مقام الإنشاء، وفي ما نحن فيه لم يجمع المولى بين طلب الأهمّ وطلب المهمّ في مقام الامتثال.
توضيح ذلك: أنّ للحكم مراتب أربعة:
1 ـ مرتبة المصلحة والاستعداد والاقتضاء.
2 ـ مرحلة الإنشاء من قبيل تصويب القانون في مجالس التقنين في يومنا هذا.
3 ـ مرحلة الفعليّة والابلاغ وهي مرحلة التنجيز أيضاً.
4 ـ مرحلة الامتثال.
وفي الحقيقة أنّ المرحلة الاُولى خارجة عن حقيقة الحكم كالمرحلة الرابعة، فإنّه لا إشكال في أنّ المصلحة من مباديء الحكم لا من مراتب نفس الحكم، كما أنّ الامتثال مرحلة متأخّرة عن الحكم، فالمراتب الحقيقية للحكم عبارة عن مرحلة الإنشاء ومرحلة الفعليّة، وعدّ غيرهما من مراتبه إنّما هو من باب التوسعة.
وعلى أيّ حال لا معنى للمضادّة والمطاردة بين الضدّين بالنسبة إلى المرحلة الاُولى لأنّه يمكن أن يكون لكلّ من الضدّين مصلحة غير مصلحة الآخر، فكما أنّ انقاذ ابن المولى يكون ذا مصلحة ـ يكون انقاذ عبده أيضاً ذا مصلحة إلاّ أنّ الأولى أهمّ والثانيّة مهمّ، بل أنّه لازم معنى التزاحم بين الأمرين، فلو لم يكن لكلّ منهما مصلحة لم يقع بينهما تزاحم بل أنّ أكثر الاُمور مشتملة على مصالح متزاحمة، بعضها أهمّ من بعض وكذلك المرحلة الثانيّة أي مرحلة الإنشاء، فإنّ إنشاء الأمر بالأهمّ لا ينافي إنشاء الأمر بالمهمّ مع قطع النظر عن مرحلة الامتثال، وكذلك مرحلة الفعليّة لأنّه ما دام المولى لم يأمر في مرحلة الإنشاء بالجمع بين الحكمين في آن واحد لم يلزم مضادّة في مرحلة الفعليّة بل الحكم الفعلي بالنسبة إلى الأهمّ إنّما هو فرد خاصّ معيّن لأنّه واجب مضيّق فوري، وبالنسبة إلى المهمّ هو طبيعي الفعل كطبيعي الصّلاة الذي ينحلّ إلى أفراد عديدة بعدد آنات الوقت.
وإن شئت قلت: إنّ الأمر بالواجب الفوري ينحلّ إلى أوامر متعدّدة بتعدّد الآنات، ففي كلّ آن إذا فرض العصيان كان الأمر بالأهمّ ساقطاً وصار المهمّ منجزاً، وهكذا في الآن الثاني والثالث إلى آخر الآنات، وعليه فلا يجتمع في آن من الآنات أمران منجزان بفعلين متضادّين أصلا.
وبهذا يظهر الحكم بالنسبة إلى المرحلة الرابعة، لأنّ المولى إذا لم يأمر بالجمع بين الفعلين في مرحلة الإنشاء والفعليّة لم يجب على المكلّف إتيانهما في آن واحد في مقام الامتثال فلا مضادّة بينهما في هذه المرحلة أيضاً.
هذا بالنسبة إلى الجواب عن الوجه الأوّل.
وهكذا الجواب عن الوجه الثاني وهو دليل الوجدان، فإنّ مجرّد افتراض كون الأمر بالمهمّ إرشاديّاً في بعض الموارد لا يستلزم الإرشاديّة في سائر الموارد وهكذا رفع اليد عن الأمر بالأهمّ في بعض الموارد لا يستلزم رفع اليد عنه في سائر الموارد، فإنّا نجد بوجداننا في كثير من الموارد أنّ المولى يأمر بالمهمّ مولويّاً مع بقاء أمره بالأهمّ على قوّته بتصريحه بذلك، فيقول مثلا: «اطعم الفقير بهذا الطعام» ويؤكّد على ذلك بمرّات فإذا شاهد عصيان العبد يقول: «الآن أيضاً.
أقول: اطعم الفقير بهذا الطعام وإن كنت لا تطعمه فكله بنفسك ولا تسرف» أو يأمر الوالد ولده ويقول: «صلّ جماعة ثمّ يقول: صلّ جماعة وإن لم تصلّ جماعة فصلّ فرادى» إلى غير ذلك من الأوامر المتداولة بين الموالي والعبيد أو بين الوالد وولده أو بين الأمير وعسكره أو بين الرؤساء والمرؤوسين.
نعم هذا كلّه بالنسبة إلى مقام الثبوت (أي بالنسبة إلى عدم المضادّة بين الأمر بالأهمّ والمهمّ في مقام الواقع).
أمّا مقام الإثبات فيمكن أن يقال: إنّ كلّ واحد من الخطابين اللّذين تعلّقا بالأهمّ والمهمّ مطلق، ولا دليل على تقييد الأمر بالمهمّ بعصيان الأهمّ.
ولكن إذا كان إطلاق كلا الخطابين مستلزماً لطلب المحال في مقام الامتثال ولم يكن إشكال في مقام الثبوت في الأمر الترتّبي بحكم العقل يلزم تقييد أحد الخطابين بمقدار يوجب ارتفاع الاستحالة فحسب، فإنّ الضرورات تتقدّر بقدرها، وحينئذ نقول: لا معنى لتقييد الأهمّ بترك المهمّ لمكان أهمّيته فيتعيّن تقييد المهمّ بعصيان الأهمّ وهو المطلوب.
ثمّ إنّ المحقّق النائيني (رحمه الله) قد فصّل الكلام وأطاله بشرح وبسط، وذكر مقدّمات خمس، وهي كما يلي:
المقدمة الاُولى: في بيان أمرين:
أحدهما: أنّ الفعلين المتضادّين إذا كان التكليف بكلّ منهما أو بخصوص أحدهما مشروطاً بعدم الإتيان بمتعلّق الآخر فلا محالة يكون التكليفان المتعلّقان بهما طوليين لا عرضيين، وبعبارة واضحة: لا يلزم من الطلبين كذلك طلب الجمع بين الضدّين.
ثانيهما: أنّه في فرض عدم قدرة المكلّف على امتثال التكليفين الموجب لوقوع التزاحم بينهما وإن كان لا بدّ من رفع اليد عمّا به يرتفع التزاحم لاستحالة التكليف بغير المقدور عقلا إلاّ أنّه لا مناصّ حينئذ من الاقتصار على ما يرتفع به التزاحم المزبور: وأمّا الزائد عليه فيستحيل سقوطه فإنّه بلا موجب.
المقدمة الثانيّة: إنّ شرائط التكليف كلّها ترجع إلى قيود الموضوع، ولا بدّ من أخذها مفروضة الوجود في مقام الجعل والإنشاء، فلا تكون من قبيل العلّة لثبوت الحكم لموضوعه، وحينئذ يتّضح فساد القول بانقلاب الواجب المشروط مطلقاً بعد حصول شرطه في الخارج، ويترتّب عليه فساد توهّم أنّ الالتزام بالترتّب لا يدفع محذور التزاحم بين الخطابين بتوهّم أنّ الأمر بالمهمّ بعد حصول عصيان الأمر بالأهمّ المفروض كونه شرطاً له يكون في عرض الأمر بالأهمّ، فيقع بينهما التزاحم والمطاردة.
المقدمة الثالثة: إنّ فعلية الخطاب في المضيّقات تكون مساوقة لوجود آخر جزء من موضوعه وشرطه، ولا يكون بينهما تقدّم وتأخّر زماناً، فإنّ نسبة الحكم إلى موضوعه وإن لم تكن نسبة المعلول إلى علّته التكوينيّة إلاّ أنّها نظيرها، فتخلّف الحكم عنه ولو لآن مّا من الزمان يرجع إلى الخلف والمناقضة، ومن ذلك يعلم أنّ تأخّر الامتثال عن الخطاب أيضاً رتبي لا زماني، فإنّ نسبة الامتثال إلى الخطاب كنسبة المعلول إلى العلّة أيضاً، وأوّل زمان الخطاب هو أوّل زمان الامتثال.
المقدمة الرابعة: أنّ انحفاظ الخطاب في تقدير مّا إنّما يكون بأحد وجوه ثلاثة:
الوجه الأوّل: أن يكون مشروطاً بوجود ذلك التقدير، أو يكون مطلقاً بالإضافة إليه، وهذا إنّما يكون في موارد الانقسامات السابقة على الخطاب، فالإطلاق كالتقييد حينئذ يكون لحاظياً.
الوجه الثاني: أن يكون الخطاب بالإضافة إلى ذلك التقدير مطلقاً بنتيجة الإطلاق أو يكون مقيّداً به بنتيجة التقييد، وهذا إنّما يكون في الانقسامات المتأخّرة عن الخطاب اللاّحقة له.
الوجه الثالث: أن يكون الخطاب بنفسه مقتضياً لوضع ذلك التقدير أو لرفعه محفوظاً في الصورتين لا محالة، وهذا القسم مختصّ بباب الطاعة والعصيان.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ خطاب الأهمّ في ظرف عصيانه يكون انحفاظه من القسم الثالث، أي يكون انحفاظه من قبيل انحفاظ المؤثّر في ظرف تأثيره، والعلّة في ظرف وجود معلوله، والمقتضي في ظرف وجود ما يقتضيه، فخطاب الأهمّ يقتضي إيجاد متعلّقه وامتثاله واطاعته وهدم عصيانه الذي هو من أجزاء موضوع المهمّ، فخطاب الأهمّ دائماً يطرد ويهدم ما هو من أجزاء موضوع المهمّ، أي عصيان الأهمّ، وأمّا خطاب المهمّ فلا تعرّض له لا لعصيان الأهمّ ولا لعدمه لأنّه موضوع له والحكم لا يستدعي وجود موضوعه.
وبهذه المقدّمة يثبت أوّلا: طوليّة الأمرين، لأنّ أمر الأهمّ مقدّم على عصيانه الذي هو من جزاء موضوع المهمّ، فأمر الأهمّ مقدّم على أمر المهمّ برتبتين.
وثانياً: عدم مزاحمة أحدهما للآخر إذا كانا بهذا الشكل.
وثالثاً استحالة أن يكون مقتضى هذين الخطابين الجمع بين متعلّقيهما لأنّ مقتضى أحدهما رفع الآخر وهدمه.
المقدمة الخامسة: إنّ محذور طلب الجمع بين الضدّين إنّما يترتّب على إطلاق الخطابين دون فعليتهما. (انتهى)(1).
أقول: المهمّ من هذه المقدّمات في نظره الشريف هو المقدّمة الرابعة، مع أنّ الحقّ إنّما هو المقدّمة الاُولى، وهي تتضمّن نكتتين:
النكتة الاُولى: إنّ الأمر بالضدّين إنّما يستلزم طلب الجمع بينهما فيما إذا كانا عرضيين لا ما إذا كانا طوليين على نحو الترتّب، بل على فرض المحال لو أتى المكلّف بهما بعنوان المطلوبيّة وجمع بينهما في عرض واحد كان ذلك تشريعاً محرّماً.
النكتة الثانيّة: ما مرّ آنفاً من أنّه عند التزاحم لا بدّ من رفع اليد بمقدار يرتفع به التزاحم لا أزيد.
ولا إشكال في أنّ الأولى نكتة ثبوتيّة والثانيّة إثباتيّة.
وعلى أيّ حال إنّه استنتج منهما بعد ضمّ سائر المقدّمات جواز الأمر الترتّبي، وادّعى بعد ذلك وقوع موارد كثيرة من الأمر الترتّبي في لسان الشرع، وإنّ إنكار الترتّب في الاُصول يوجب إنكار الضروريات في الفقه:
منها: ما إذا حرمت الإقامة على المسافر في مكان مخصوص، فإنّه مع كونه مكلّفاً فعلا بترك الإقامة وهدم موضوع وجوب الصّوم مكلّف بالصوم قطعاً على تقدير عصيانه لهذا الخطاب وقصده الإقامة، ولا يمكن لأحد الالتزام بعدم وجوب الصّوم عليه على تقدير قصده الإقامة عصياناً وليس ذلك إلاّ للترتّب.
ومنها: ما لو فرض وجوب الإقامة على المسافر من أوّل الزوال فيكون وجوب القصر عليه مترتّباً على عصيان وجوب الإقامة، حيث إنّه لو عصى ولم يقصد الإقامة توجّه خطاب القصر، وكذا لو فرض حرمة الإقامة فإنّ وجوب التمام يكون مترتّباً على عصيان حرمة الإقامة.
ومنها: وجوب الخمس المترتّب على عصيان خطاب أداء الدَين إذا لم يكن الدَين من عام الربح، وأمّا إذا كان من عام الربح فيكون خطاب أداء الدَين بنفس وجوده رافعاً لخطاب الخمس لا بامتثاله(2).
قلت: أنّ ما ذكره في ذيل كلامه من الموارد الفقهيّة يعدّ في الحقيقة دليلا ثالثاً في المسألة، ونسمّيه الدليل الفقهي في مقابل الدليل الأوّل الذي كان عقليّاً، والدليل الثاني الذي كان وجدانياً، ولكن الإنصاف أنّه غير تامّ بل لا يناسب تفطّن المحقّق النائيني(رحمه الله) ودقّته في المسائل، والعجب من المحاضرات حيث إنّه نقل هذا الدليل من اُستاذه ولم يرد عليه شيئاً مع أنّ إشكاله ظاهر، وهو أنّ جميع هذه الموارد خارجة عن مسألة الترتّب بل إنّها من قبيل تبدّل الموضوع، فإنّ وجوب القصر على المسافر في صورة عدم قصده الإقامة في المورد الثاني يكون من باب بقاء موضوع المسافر على حاله ومن باب صدق عنوان المسافر عليه، ووجوب الصّيام عليه في صورة قصده الإقامة مع حرمته عليه في المورد الأوّل يكون أيضاً من باب تبدّل موضوع المسافر إلى الحاضر، وهكذا في المورد الثالث لأنّه لعصيانه وعدم أدائه الدَين بربحه يصير مشمولا لآية الغنيمة (إذا كان الدَين من السنين السابقة) ويتحقّق موضوع الغنيمة والفائدة، فيجب عليه التخميس، وهذا بخلاف وجوب الصّلاة في صورة عدم الإزالة لأنّه بعصيانه وجوب الإزالة لم يتغيّر موضوع الإزالة إلى موضوع آخر بل أنّها باقية على وجوبها وإنّما هي مزاحمة للصّلاة فقط لا أكثر، فقياس ما نحن فيه بتلك الموارد مع الفارق ولا ربط بين المسألتين.
كلام التهذيب في الترتّب:
ثمّ إنّه ذهب في تهذيب الاُصول إلى ما هو أوسع ممّا ذكره القوم وادّعى جواز الأمر بالأهمّ
والمهمّ في عرض واحد بلا تقييد واحد منهما بالعصيان (كما عليه القوم في تصوير الأمر بالمهمّ وقد مرّ منّا أيضاً حيث قلنا أنّ الأمر بالمهمّ مترتّب على عصيان أمر الأهمّ) ثمّ ذكر لتصوير ذلك مقدّمات سبعة والمهمّ منها الثلاثة الأخيرة، كما أنّ أهمّ الثلاثة هو المقدّمة الخامسة، وإليك نصّ كلامه بتلخيص منّا: «إنّ توضيح المختار يستدعي رسم مقدّمات:
الاُولى: التحقيق كما سيأتي أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع لأنّ الغرض قائم بنفس الطبيعة بأي خصوصيّة تشخّصت، وفي ضمن أي فرد تحقّقت فلا معنى لإدخال أيّة خصوصيّة تحت الأمر بعد عدم دخالتها في الغرض.
الثانيّة: إنّ الإطلاق بعد فرض تماميّة مقدّماته ليس معناه إلاّ كون الطبيعة تمام الموضوع للحكم بلا دخالة شيء آخر، أو ليس إلاّ أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع له، هذا ليشمل ما إذا كان الموضوع جزئيّاً، وأمّا جعل الطبيعة مرآتاً لمصاديقها أو جعل الموضوع مرآتاً لحالاته فخارج من معنى الإطلاق وداخل تحت العموم أفراديّاً أو أحوالياً.
الثالثة: إنّك قد عرفت أنّ الأوامر المتعلّقة بالطبائع لا تعرض لها على أحوال الطبيعة وأفرادها، ومنه يظهر أنّ التزاحمات الواقعة في الخارج بين أفراد الطبائع بالعرض غير ملحوظة في تلك الأدلّة، لأنّ الحكم مجعول على العناوين الكلّية، وهو مقدّم على التزاحم الواقع بين الأفراد برتبتين: رتبة تعلّق الحكم بالعناوين، ورتبة فرض ابتلاء المكلّف بالواقعة، وما له هذا الشأن من التقدّم لا يتعرّض لحال ما يتأخّر عنه برتبتين، والحاصل أنّ التزاحم بين وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ووجوب الصّلاة حيث يتحقّق ـ متأخّر عن تعلّق الحكم بموضوعاتها وعن ابتلاء المكلّف بالواقعة المتزاحم فيها ولا تكون الأدلّة متعرّضة لحاله فضلا عن التعرّض لعلاجه إذ قد تقدّم أنّ المطلق لا يكون ناظراً إلى حالات الموضوع
في نفسه فضلا عن حالاته مع غيره، وعن طروّ المزاحمة بينهما فضلا عن أن يكون ناظراً إلى علاج المزاحمة، فاتّضح بطلان اشتراط المهمّ بعصيان الأهمّ الذي يتبنّى عليه أساس الترتّب.
الرابعة: إنّك إذا تتبّعت كلمات الأعلام في تقسيم الحكم إلى مراتبه الأربعة تجد فيها ما لا يمكن الموافقة معه بل الأحكام منقسمة إلى حكم إنشائي وهو ما لم ير الحاكم صلاحاً في إجرائه وإن كان نفس الحكم ذو صلاح، أو يرى صلاحاً في إجرائه ولكن أنشيء بصورة العموم والإطلاق ليلحق به خصوصه وقيده، وإلى حكم فعلي قد بيّن وأُوضح بخصوصه وقيوده وآن وقت إجرائه وإنفاذه، وعليه إذا فرضنا حصول عائق عن وصول الحكم إلى المكلّف وإن كان قاصراً عن إزاحة علّته، أو عروض مانع كالعجز والاضطرار عن القيام بمقتضى التكليف لا يوجب ذلك سقوط الحكم عن فعليته، والسرّ في ذلك أنّ غاية ما يحكم به العقل هو أنّ المكلّف إذا طرأ عليه العذر أو دام عذره وجهله أن لا يكون مستحقّاً للعقاب لا أن يكون الحكم إنشائيّاً.
الخامسة: كلّ حكم كلّي قانوني فهو خطاب واحد متعلّق لعامّة المكلّفين بلا تعدّد ولا تكثر في ناحية الخطاب بل التعدّد والكثرة في ناحية المتعلّق، ويشهد عليه وجدان الشخص في خطاباته، فإنّ الشخص إذا دعا قومه لإنجاز عمل أو رفع بليّة فهو بخطاب واحد يدعو الجميع إلى ما رامه لا أنّه يدعو كلّ واحد بخطاب مستقلّ ولو انحلالا للغويّة ذلك بعد كفاية الخطاب الواحد بلا تشبّث بالانحلال ... وملاك الانحلال في الإخبار والإنشاء واحد، فلو قلنا بالانحلال في الثاني لزم القول به في الأوّل أيضاً مع أنّهم لا يلتزمون به، وإلاّ يلزم أن يكون الخبر الواحد الكاذب أكاذيب في متن الواقع ... وأمّا الميزان في صحّة الخطاب الكلّي فهو إمكان انبعاث عدّة من المخاطبين بهذا الخطاب لا انبعاث كلّ واحد منهم ... والضرورة قائمة بأنّ الأوامر الإلهيّة شاملة للعصاة لا بعنوانهم، والمحقّقون على أنّها شاملة أيضاً للكفّار مع أنّ الخطاب الخصوصي إلى الكفّار وكذا إلى العصاة المعلوم طغيانهم من أقبح المستهجنات بل غير ممكن لغرض الانبعاث ... والإرادة التشريعيّة ليست إرادة متعلّقة بإتيان المكلّف وانبعاثه نحو العمل وإلاّ يلزم في الإرادة الإلهيّة عدم تفكيكها عنه وعدم إمكان العصيان، بل هي عبارة عن إرادة التقنين والجعل على نحو العموم، وفي مثله يراعى الصحّة العقلائيّة، ومعلوم أنّه لا تتوقّف عندهم على صحّة الانبعاث من كلّ أحد كما يظهر بالتأمّل في القوانين العرفيّة.
السادسة: إنّ الأحكام الشرعيّة غير مقيّدة بالقدرة لا شرعاً ولا عقلا وإن كان حكم العقل بالإطاعة والعصيان في صورة القدرة ... لأنّه لو كانت مقيّدة بها من الشرع لزم القول بجريان البراءة عند الشكّ في القدرة، وهم لا يلتزمون به بل قائلون بالاحتياط مع الشكّ فيها، وأمّا تقييد العقل مستقلا فلأنّ تصرّف العقل بالتقييد في حكم الغير وإرادته مع كون المشرّع غيره باطل، إذ لا معنى أن يتصرّف شخص في حكم غيره.
السابعة: إنّ الأمر بكلّ من الضدّين أمر بالمقدور الممكن، والذي يكون غير مقدور هو جمع المكلّف بين متعلّقيهما في الإتيان وهو غير متعلّق للتكليف.
وقد نبّهنا فلا تنسى أنّ توارد الأمرين على موضوعين متضادّين مع أنّ الوقت الواحد غير واف إلاّ بواحد منهما إنّما يقبح لو كان الخطابان شخصيين، وأمّا الخطاب القانوني الذي يختلف فيه حالات الأشخاص فربّ مكلّف لا يصادف أوّل الزوال إلاّ موضوعاً واحداً، وهو الصّلاة، وربّما يصادف موضوعين فيصحّ توارد الأمرين على عامّة المكلّفين ومنهم الشخص الواقف أمام المتزاحمين ولا يستهجن.
إذا عرفت هذه المقدّمات:
فنقول: إنّ متعلّقي التكليفين قد يكونان متساويين في الجهة والمصلحة وقد يكون أحدهما أهمّ، فعلى الأوّل لا إشكال في حكم العقل بالتخيير ... وأمّا إذا كان أحدهما أهمّ فإن اشتغل بإتيان الأهمّ فهو معذور في ترك المهمّ لعدم القدرة عليه مع اشتغاله بضدّه بحكم العقل، وإن اشتغل بالمهمّ فقد أتى بالمأمور به الفعلي لكن لا يكون معذوراً في ترك الأهمّ، فيثاب بإتيان المهمّ ويعاقب بترك الأهمّ.
فظهر ممّا قدّمنا أمران:
الأوّل: أنّ الأهمّ والمهم نظير المتساويين في أنّ كلّ واحد مأمور به في عرض الآخر، وهذان الأمران العرضيان فعليّان متعلّقان على عنوانين كلّيين من غير تعرّض لهما لحال التزاحم وعجز المكلّف، إذ المطاردة التي تحصل في مقام الإتيان لا توجب تقييد الأمرين أو أحدهما أو اشتراطهما أو اشتراط أحدهما بحال عصيان الآخر لا شرعاً ولا عقلا.
والثاني: إنّ الأمر بالشيء لا يقتضي عدم الأمر بضدّه في التكاليف القانونيّة كما في ما نحن فيه»(3).
نقد كلام التهذيب:
أقول: في كلامه(رحمه الله) مواقع للنظر:
الموقع الأوّل: فيما أفاده في المقدّمة الخامسة من عدم انحلال الأحكام القانونيّة، فإنّه أوّلا: لا إشكال في أنّ الحكم لا يتعلّق بالعنوان بما أنّه موجود في الذهن بل يتعلّق به بما أنّه عبرة إلى الخارج، فوجوب الحجّ في قوله تعالى: {لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران: 97] تعلّق بعنوان المستطيع لا بما أنّه عنوان كلّي موجود في الذهن بل تعلّق به بما أنّه مشير إلى ما في الخارج، وحينئذ يكون المتعلّق حقيقة هو الأفراد، ولا معنى للانحلال إلاّ هذا، وبه يندفع ما استدلّ به في هذه المقدّمة من «لغويّة دعوة كلّ واحد بخطاب مستقلّ بعد كفاية خطاب واحد» وذلك لأنّه لا لغويّة في البين إذا كان مراد الشارع هو الأفراد لأنّه لا طريق حينئذ لتوجيه الخطاب إليهم إلاّ بتوجيهه إلى عنوان كلّي مشيراً إليهم على نحو الانحلال.
وهكذا يندفع ما استدلّ به ثانياً من «لزوم أكاذيب من الخبر الواحد الكاذب» وذلك لأنّ الصدق أو الكذب من صفات ظاهر الكلام، وهو في وحدته أو تعدّده تابع لوحدة الكلام وتعدّده، ولا إشكال في أنّ الكلام في المقام واحد والانحلال من صفات واقع الكلام، وخطاب الشارع في نفس الأمر ينحلّ إلى أحكام متعدّدة لا إلى خطابات عديدة مستقلّة.
وأمّا قضيّة الاستهجان ففيها: أنّ إتمام الحجّة على جميع العباد يقتضي شمول الحكم وتعميمه لجميع المكلّفين في مرحلة الإنشاء، كما أنّه في مرحلة الابلاغ والفعليّة أيضاً يعمّ جميع المكلّفين لإتمام الحجّة ولأن يهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة.
وثانياً: لازم عدم الانحلال هو التفصيل في الأحكام الكلّية القانونيّة بين العمومات والمطلقات، لأنّه لا إشكال في انحلال الخطابات التي صدرت بنحو العموم الإفرادي إلى أحكام عديدة بعدد الأفراد كما اعترف نفسه به، ولا وجه لهذا التفصيل لوضوح أنّ الأحكام لا تختلف بسبب كون الدالّ عليه مطلقاً أو عامّاً، فلا فرق بين المطلق والعام الافرادي من حيث الانحلال، نعم الفرق بينهما أنّه في العام الافرادي يكون ذلك بالدلالة المطابقية، وفي المطلق بالدلالة الالتزاميّة.
ثالثاً: لو لم يصحّ الانحلال فما هو الفارق بين العامّ المجموعي والعام الافرادي، فإنّه لا فرق بينهما إلاّ بالانحلال إلى أحكام متعدّدة في الافرادي دون العام المجموعي فإنّه حكم واحد على موضوع واحد.
ورابعاً: لازم عدم الانحلال عدم إمكان قصد الأمر للمكلّف، لأنّه حينئذ لم يتعلّق الأمر بشخص المكلّف، مع أنّه لا كلام ولا إشكال في إمكان قصد الأمر لكلّ مكلّف، ولازمه أن يكون المتعلّق اشخاص المكلّفين في الواقع، ولكن بإندراجهم في عنوان واحد، بإنشاء واحد وبخطاب واحد، وهذا نظير ما إذا قال البائع: «بعت هذه المائة» الذي لا إشكال في انحلاله إلى مائة تمليك، ولذلك لو كان بعضها ملكاً لغير البائع صار البيع باطلا أو فضولياً بالنسبة إليه مع بقائه على صحّته بالإضافة إلى غيره، وليس هذا إلاّ من باب تعدّد المنشأ وإن كان الخطاب والإنشاء واحداً.
الموقع الثاني: فيما أفاده في المقدّمة الرابعة بالإضافة إلى مرتبة الإنشاء والفعليّة من الحكم، فإنّه لا إشكال في أنّ الفارق بين الإنشاء والفعليّة إنّما هو وجود البعث أو الزجر في مرحلة الفعليّة وعدم وجودهما في مرحلة الإنشاء، فشمول مرحلة الفعليّة للجاهل والعاجز لازمه توجّه البعث أو الزجر إليهما مع أنّ من شرائط البعث أو الزجر الانبعاث أو الانزجار، ولا إشكال في عدم انبعاثهما وعدم انزجارهما، ولذلك في مقام الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري نقول: إذا كان الحكم الواقعي مخالفاً للظاهري صار إنشائيّاً لأنّه حينئذ يكون مجهولا للمكلّف، والجاهل لا يمكن بعثه أو زجره، فلا يمكن أن يكون الحكم المجهول فعليّاً بالنسبة إليه.
الموقع الثالث: فيما أفاده في المقدّمة السادسه من «أنّ الأحكام الشرعيّة غير مقيّدة بالقدرة لا شرعاً ولا عقلا وإنّما يكون العاجز معذوراً بحكم العقل» فإنّه كيف يمكن للحكيم أن يوجّه حكمه إلى العاجز على نحو الإطلاق مع إلتفاته بعجزه؟ أليس هذا تكليفاً بما لا يطاق ومخالفاً لما ورد من الآيات والرّوايات في هذا المقام كقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وكقول الصادق (عليه السلام): «الله أكرم من أن يكلّف ما لا يطيقون، والله أعزّ أن يكون في سلطانه ما لا يريد»(4)؟ وبالجملة إنّ القدرة من الشرائط العامّة للتكليف ويدلّ عليه:
أوّلا: إنّ الإطلاق وعدم التقييد بالقدرة من جانب الحكيم قبيح عقلا فإنّ الإطلاق وإن لم يكن بمعنى جمع القيود، ولكن تعلّق الحكم بطبيعة المتعلّق وتوجّه البعث إليها بحيث تكون هي تمام المطلوب للمولى الحكيم من دون ملاحظة القدرة والعجز قبيح عليه، وبعبارة اُخرى: لا إهمال في مقام الثبوت، فإمّا أنّ المولى لاحظ القدرة ثبوتاً أو لم يلاحظ، لا إشكال في ملاحظته إيّاها ولكن ترك ذكرها في الخطاب من باب الوضوح وعدم الحاجة إلى البيان عقلا.
وثانياً: الآيات والرّوايات الواردة في هذا المجال، فمن الآيات مضافاً إلى ما مرّ آنفاً قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] وقوله {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] ومن الرّوايات أيضاً مضافاً إلى ما مرّ آنفاً ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله): «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم». هذا بالنسبة إلى الحكم الفعلي، وأمّا بالنسبة إلى الحكم الإنشائي فيمكن أن يقال بعدم كونه مقيّداً بالقدرة، وكذا الكلام بالنسبة إلى العلم فإنّه من شرائط الوجوب بالنسبة إلى مقام الفعليّة وإن كان الحكم الإنشائي مطلقاً من هذه الجهة شاملا للعالم والجاهل، فراجع ما ذكروه في باب الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري تجده شاهداً على هذا المعنى.
الموقع الرابع: في استشهاده لعدم أخذ القدرة قيداً في الحكم بجريان البراءة عند الشكّ فيها ـ فإنّه قد اُجيب عنه في محلّه من أنّه وإن كانت القاعدة عند الشكّ في التكليف البراءة، ولكن العقلاء يجرون الاحتياط في خصوص الشكّ في القدرة من دون لزوم قبح العقاب بلا بيان، لأنّ جريان البراءة في موارد الشكّ في القدرة يستلزم تعطيل أغراض المولى وعدم الحصول عليها في كثير من الموارد، ومن هذا الباب الاحتياط ولزوم الفحص لتشخيص النصاب وحصول الاستطاعة وموضوع الخمس، وبالجملة إنّ بناء العقلاء مبنيّ على جريان الاحتياط عند الشكّ في القدرة، نظير جريانه في الشبهات قبل الفحص، فوجوب الاحتياط في هذه الموارد مستند إلى قاعدة عقلائيّة لا إلى عدم أخذ القدرة في المأمور به.
الموقع الخامس: فيما أفاده في المقدّمة السابعة من «أنّ المحال هو طلب الجمع بين الضدّين لا الأمر بالضدّين» ففيه: إذا كان الأمر أنّ المتعلّقان بالضدّين مطلقين ولم يكن أحدهما مشروطاً بترك الآخر كان لازمه طلب الجمع كما إذا قال المولى لعبده: «انقذ هذا وانقذ هذا» لأنّ المفروض أنّ لكلّ واحد منهما بعثاً يخصّه، والجمع بين البعثين في آن واحد محال.
الموقع السادس: فيما أفاده في آخر كلامه من «حكم العقل بالتخيير في صورة تساوي متعلّقي التكليفين في المصلحة، وأمّا إذا كان أحدهما أهمّ فإن اشتغل بإتيان الأهمّ فهو معذور في ترك المهمّ وإن اشتغل بالمهمّ فقد أتى بالمأمور به الفعلي لكن لا يكون معذوراً في ترك الأهمّ» فهو حقّ ولكن لا يكون الترتّب إلاّ هذا، فإنّ عدم عقابه بترك المهمّ عند الاشتغال بالأهمّ مع عقابه في صورة العكس يكون من آثار الترتّب، بل عند التحليل لا يكون إلاّ الأمر بشيئين على سبيل الترتّب.
وإن شئت قلت: كيف يكون الأمر بالمهمّ فعليّاً مع أنّه معذور في تركه عند الاشتغال بالأهمّ؟ أليس هذا معنى كونه إنشائيّاً كما هو المختار؟ وهل يمكن البعث الفعلي نحو المهمّ مع وجود البعث الفعلي نحو الأهمّ مع عجز المكلّف عن الإتيان بهما؟ وتسميته بعثاً فعليّاً بالنسبة إلى العاجز لكون الخطاب شاملا للقادر أيضاً من قبيل التلاعب بالألفاظ.
الموقع السابع: أنّ ما أفاده بعد هذا الكلام الطويل لا يتفاوت في النتيجة مع مقالة المشهور في الترتّب، وحاصله كونه مطيعاً غير عاص عند الإتيان بالأهمّ مع كونه مطيعاً عاصياً عند الإتيان بالمهمّ، هذا مع إمكان قصد الأمر عند الإتيان بالمهمّ وصحّته إذا كان عبادة، والباقي مناقشات لفظيّة، اللهمّ إلاّ أن يكون مراده أنّ هذا حكم العقل بينما مقالة المشهور بحسب مقام الإثبات ناظر إلى حكم الشرع، والإنصاف أنّه أيضاً قليل الجدوى مع قبول الملازمة بين الحكمين.
بقي هنا اُمور:
الأمر الأوّل: قد أشرنا سابقاً أنّ ما ذكرنا إلى هنا بالنسبة إلى جواز الترتّب إنّما هو بحسب مقام الثبوت، وأمّا مقام الإثبات فهل يوجد دليل على وقوع الترتّب في الشرع أم لا؟.
الجواب عنه كما عرفت أنّه لا حاجة إلى دليل في مقام الإثبات بل يكفي إمكانه العقلي ثبوتاً لإثبات وقوعه إثباتاً، لأنّه إذا كان للشارع أمران مطلقان أحدهما بالإزالة مثلا، والآخر بالصّلاةـ لا إشكال في أنّ لازم بقائهما على إطلاقهما في صورة التزاحم طلب المحال، فلابدّ من تقييد أحدهما لرفع هذا المحذور، وحيث إنّ المفروض أنّ أحدهما أهمّ من الآخر لفوريته فلا يمكن تقييده، فيتعيّن تقييد المهمّ وهو الصّلاة في المثال بعصيان الأهمّ، ونتيجته بقاء الأهمّ على إطلاقه وتقييد المهمّ بعصيان الأهمّ، ولا دليل على رفع اليد من الدليلين بأكثر من هذا المقدار، لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها، وليس المقصود من الترتّب إلاّ هذا، فظهر من هذا البيان أنّ اللابدّية العقليّة كافية لإثبات الترتّب في مقام الإثبات أيضاً.
الأمر الثاني: قد مرّ في مقام نقل كلام تهذيب الاُصول ونقده اعتبار القدرة في صحّة التكليف عقلا وشرعاً من طريقين:
أحدهما: من طريق حكمة الباري وقبح توجّه الخطاب من جانب الحكيم إلى العاجز.
وثانيهما: من طريق الآيات والرّوايات الدالّة على أنّ الله تعالى لا يكلّف نفساً بغير المقدور، وبالجملة إنّ القدرة قيد للتكليف الفعلي في جميع الموارد عقلا وشرعاً.
ولكن بعض الأعاظم فصّل بين الموارد وقسّمها إلى قسمين: قسم تعتبر القدرة فيه بحكم العقل فيدخل في بحث الترتّب، وقسم تعتبر القدرة فيه بحكم الشرع فلا يدخل في بحث الترتّب.
الأمر الثالث: كان البحث إلى هنا في الترتّب بين الواجبين، ولكن هل يمكن الترتّب في اجزاء واجب واحد إذا كان أحد الأجزاء أهمّ من الجزء الآخر، أم لا؟ فإذا كان المكلّف قادراً بإتيان أحد الجزئين كالركوع والسجود، وكان أحدهما أهمّ من الآخر فلو ترك الأهمّ وأتى بالمهمّ فهل يقع الواجب صحيحاً من باب الأمر الترتّبي أو لا؟ فقد حكي عن جماعة من المحقّقين القول بكونه داخلا في باب الترتّب مع أنّ الإنصاف عدم جريانه في اجزاء الواجب، لأنّ أجزاء الواجب تدريجية الوجود فهو مأمور بالقيام مثلا في هذا الآن وليس مأموراً بالجلوس، فإذا جلس بطلت الصّلاة.
وبعبارة اُخرى: إذا كانت الأجزاء تدريجية الوجود كانت باعثية الأمر إليها أيضاً تدريجية، فالمكلّف في هذا الآن مبعوث إلى الجزء المتقدّم وليس مبعوثاً إلى الجزء المتأخّر حتّى كان حفظ القدرة لإتيانه واجباً عليه ولو كان أهمّ من الجزء المتقدّم.
الأمر الرابع: ما مرّ بناءً على جواز الترتّب من أنّ وجوب المهمّ مشروط بعصيان الأهمّ هل هو على نحو الشرط المتقدّم أو المقارن أو المتأخّر؟
لا إشكال في عدم كونه على نحو الشرط المتقدّم، لأنّ معناه أنّ عصيان الأهمّ في الزمان الخاصّ به شرط الإتيان بالمهمّ في الزمان الخاصّ به، أي «إن عصيت الأمر بالأهمّ ومضى زمانه إئت بالمهمّ»، ومن الواضح أنّه حينئذ خارج عن محلّ البحث لأنّ محلّ البحث في الترتّب إنّما هو الأمر بالضدّين في زمان واحد على نحو ترتّب أحدهما على الآخر رتبة، بينما هنا يكون الأمر بالضدّين في زمانين مختلفين، وأمّا الشرط المقارن فلا بأس به، لأنّ معناه أنّ الأمر بالمهمّ مقارن زماناً مع عصيان الأهمّ وأنّ يتوجه إلى المكلّف في نفس لحظة عصيان الأهمّ، وكذلك الشرط المتأخّر لأنّه معناه توجه الأمر بالمهمّ إلى المكلّف حينما قصد عصيان الأهمّ.
ويمكن أن يقال: إنّ الشرط هنا مقارن لو كان الأمر بالمهم مشروطاً بإرادة عصيان الأهمّ، ومتأخّر لو كان مشروطاً بنفس عصيان الأهمّ في الخارج.
الأمر الخامس: ممّا أُورد على القول بجواز الترتّب ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله)بقوله: «ثمّ إنّه لا أظنّ أن يلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد، ولذا كان سيّدنا الاُستاذ (رحمه الله)لا يلتزم به على ما ببالي وكنّا نورد به على الترتّب».
وتوضيح ما أفاده: أنّه بناءً على جواز الترتّب لا إشكال في تعدّد الأمر، واقتضاء كلّ واحد منهما عقاباً على تركه على تقدير تركهما فيتعدّد العقاب، مع أنّ لازمه هو العقاب على أمر غير مقدور لأنّ المفروض أنّ المكلّف كان قادراً على الإتيان بأحد الضدّين فقط.
وقال في المحاضرات ما حاصله: أنّا نلتزم بتعدّد العقاب بل لا مناصّ منه لأنّ المستحيل إنّما هو كون العقاب على ترك الجمع بين الواجبين (الأهمّ والمهم) لا كونه على الجمع في الترك، بمعنى أنّه يعاقب على ترك كلّ منهما في حال ترك الآخر، والجمع بين تركي الأهمّ والمهمّ خارجاً مقدور للمكلّف فلا يكون العقاب عليه عقاباً على غير مقدور(5).
أقول: إنّ ما ذكره أشبه شيء بالسفسطة، لأنّ المفروض جواز الترتّب في مثل إنقاذ الغريق الذي لا يكون قادراً على الجمع بين الضدّين حتّى على نحو الترتّب بل يكون قادراً على أحدهما فقط مطلقاً، فيكون العقاب على كليهما عقاباً على أمر غير مقدور، فليكن العقاب واحداً.
إن قلت: كيف يكون العقاب واحداً مع أنّ الأمر متعدّد؟
قلنا: إنّ الأمر متعدّد ولكن على نحو الترتّب فيكون المطلوب على كلّ تقدير شيء واحد، فيكون العقاب واحداً ولكنّه يعاقب بمقدار العقاب المترتّب على ترك الأهمّ بناءً على ترك كليهما، وبمقدار ما به التفاوت بين عقاب الأهمّ وعقاب المهمّ بناءً على ترك الأهمّ وإتيان المهمّ.
وإن شئت قلت: المولى لا يريد كليهما معاً، فكيف يعاقب على تركهما معاً؟ والظاهر أنّ منشأ الاشتباه هو عدم التوجّه إلى الفرق بين الأوامر المطلقة والمترتّبة.
الأمر السادس: قد يقال بإمكان حلّ مسألة اجتماع الأمر والنهي من ناحية الترتّب لأنّها في مثال إتيان الصّلاة في الدار المغصوبة مثلا ترجع في الحقيقة إلى أن يقول المولى لعبده: «لا تغصب وإن غصبت فلا أقلّ صلّ» ولكن الصحيح أنّه لا ربط بين المسألتين، لأنّ مسألة الترتّب تجري في الضدّين اللّذين هما شيئان وجوديان لا يجتمعان في الوجود، بخلاف مسألة اجتماع الأمر والنهي التي يكون المتعلّق فيها شيء واحد وإن كان مجمعاً لعنوانين، فإنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون على القول بالامتناع مع قطع النظر عن الترتّب كما هو المفروض.
الأمر السابع : في ثمرة البحث عن الترتّب.
إنّ ثمرة البحث تصحيح العمل إذا كان من العبادات من طريق قصد الأمر ، فإنّ لازم جواز الترتّب كون الصّلاة مثلاً في المثال المعروف مأموراً بها فيمكن إتيانها بقصد هذا الأمر.
نعم هيهنا طريقان آخران لتصحيح العمل أيضاً :
أحدهما : قصد الملاك والمحبوبيّة.
والثاني : قصد الأمر المتعلّق بكلّي الصّلاة بلحاظ تعلّقه بسائر الأفراد غير هذا الفرد المزاحم.
إن قلت : إنّ متعلّق الأمر وإن كان هو طبيعة الصّلاة وماهيتها ، ولكن لا إشكال في أنّها قنطرة إلى أفرادها في الخارج وعنوان مشير إليها ، فكأنّ الأمر تعلّق بالأفراد من أوّل الأمر ، وحينئذٍ كيف يمكن تصحيح هذا الفرد بقصد الأمر المتعلّق بذاك الفرد مع أنّهما فردان مختلفان؟
قلنا : المفروض أنّه لا فرق بين الفردين إذا كانا فردين لماهية واحدة ، إنّما الفرق في وقوع المزاحمة لأحدهما دون الآخر.
وهنا ثمرات اخرى لجواز الترتّب :
منها : في ما إذا أتى بالصّلاة إخفاتاً بدل إتيانها جهراً وبالعكس ، أو أتى بالصّلاة قصراً بدل إتيانها تماماً وبالعكس ، فقد ذهب المشهور إلى صحّة الصّلاة إذا كان جاهلاً مقصّراً مع ترتّب العقاب ، ولكن استشكل عليهم بأنّه كيف يترتّب العقاب مع صحّة الصّلاة ، فمن الوجوه التي ذكرت لحلّ هذا الإشكال ما ذكره الشّيخ الكبير كاشف الغطاء رحمه الله من أنّه داخل في باب الترتّب ، وأنّ المكلّف مأمور أوّلاً بإتيان الصّلاة جهراً مثلاً ، وعلى فرض عصيانه مأمور به إخفاتاً ، فهو يثاب على إتيان المهمّ وهو الصّلاة عن إخفات ، ويعاقب على ترك الأهمّ وهو الصّلاة عن جهرٍ ، وتحقيق المسألة يترك إلى محلّه في الفقه.
ومنها : نفس كشف الأمر بالمهمّ مع ترك الأهمّ ، لأنّ وجوب المهمّ أي وجوب الصّلاة فيما إذا ترك الإزالة حكم من الأحكام الخمسة وفرع من الفروعات الفقهيّة ، والمسألة الاصوليّة هي ما يستنبط منها حكم من الأحكام الفقهيّة.
_________________
1. راجع أجود التقريرات: ج1، ص286 ـ 298; ومنتهى الاُصول للبجنوردي: ج1، ص344.
2. راجع فوائد الاُصول: ج1، ص357، طبع جماعة المدرّسين.
3. راجع تهذيب الاُصول: ج1، ص238 ـ 247، طبع مهر.
4. اُصول الكافي: ج1، ص160.
5. راجع المحاضرات: ج3، ص142.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|