أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-10-2014
838
التاريخ: 24-10-2014
2607
التاريخ: 5-08-2015
2342
التاريخ: 2-07-2015
914
|
الحكمة ربّما تُفسّر بالعلم بالأشياء على ما هي عليه ...
وربّما تفسّر بإصدار الأشياء وإبداعها على أكمل ما ينبغي أن يصدر ، وهذا المعنى هو المقصود في هذا المبحث ، والإنصاف أنّه أشرف من أكثر المسائل ، ومع ذلك قد تسامح فيه الكلاميون ولم يبحثوا عنه حقّ البحث .
وكيف ما كان ، والذي يدلّ على إثبات حكمته بهذا المعنى ، وأنّه لا يفعل إلاّ ما هو أكمل الوجوه الممكنة وأفضلها ، وجوه :
الأول : إنّه تعالى عالم بجميع جهات الفعل المحسّنة والمقبّحة ، وقادر على إيجاده بأيّ وجه شاء، وليس له حاجة وشهوة بشيء أصلاً ، فلا مانع ولا رادع له من إتيانه أبداً ، فإذا فُرض دوران الأمر بين إيجاد شيء على وجه أكمل وأسدّ ممكن ، وإيجاده على وجه كامل فضلاً عن ناقص ، فلا شكّ في اختياره تعالى الجانب الأَوّل بالضرورة ، أَلا ترى أنّا معاشر العقلاء في مفروض المثال ، نختار إيجاد الشيء على النحو الأكمل ، فالأكمل بطبيعة عقولنا وخميرة فطرتنا ، بلا تردد وتوقّف ، فما علمك بالواجب المتعالي عن النقصان ، المتكامل ذاتاً بكل الكمال ؟
فإن قلت : فكيف هؤلاء العقلاء الذين يختارون اللذات الآنية ، والشهوات الدنية ، ويؤثرونها على الأنعام الدائمية والآلاء العظيمة ؟ وكيف يرجّحون مقتضى الشهوية والغضبية على العاقلة؟ وغضب الخالق على رضاه ؟
قلت : المختار لهذه الأُمور حين اختياره لا محالة يرى أرجحية فعلها من تركها وإلاّ لَما فعلها ، فالجاني ـ لضعف عقله وغلبة شهوته أو غضبه ـ يعتقد في ذلك الحين أنّ جريمته أرجح من تركها ، فيرتكبها ولا دخل لمفسدتها الواقعية في اختياره هذا ، واعتقاده الأرجحية كما لا يخفى ، فهذا السؤال غير متوجّه إلى المقام ، فإنّ الإقدام على القبيح إمّا من جهة الجهل ، أو الغفلة عن حقيقة الحال ، أو من جهة مزاحمة الداعي ، ومحل الكلام فرض انتفاء الجميع ، وإن شئت فقل: إنّ اختيار الناقص بل الكامل على الأكمل في مفروض المثال ، ترجيح المرجوح على الراجح، وهو ممتنع عقلاً .
الثاني : إنّ إتقان أكثر أفعاله محرز ، وكلّ ما يزداد في رقي العلوم ويتّسع دائرتها ، يزداد في انكشاف حكمته البالغة المتحقّقة في الأشياء ، ويظهر إتقان المصنوعات وإحكامها على وجه أدق، تندهش به العقول وتضطرب الأفكار ، فيضطر الإنسان إلى الإقرار بحكمته ، وكمال خلقته ، وتمام فاعليته . فلست أن ترى: { فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } والبصيرة كرّات: { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك: 3، 4] والبصيرة عاجزة وهي متحيّرة .
وعن هرشل : كلّما اتّسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدافعة القوية ، على وجود خالق أزلي لا حدّ لقدرته ولا نهاية ، فالجيولوجيون ـ علماء طبقات الأرض ـ والرياضيون والطبيعيون ، قد تعانوا وتضامنوا على تشييد صَرح العلم ، وهو صرح عظمة الله وحده . انتهى .
فالناظر لهذه الكائنات المرموزة التي تظهر كلّ يوم عجائبها ، بكراتها السامية المنظّمة الكثيرة الكبيرة ، التي تخرج عن سلطان عقولنا ، وبموجوداتها الأرضية البرية والبحرية إلى المكروبات الصغار ، وإلى حِكم أعضاء الإنسان نفسه وإلى ... وإلى ... وإلى ما لا نهاية، يتيقّن ـ يقيناً تامّاً قوياً متأكداً وأشدّ من كلّ يقين ـ أنّ فاعلها وموجِدها خلق جميع أفعاله بإحكام وإتقان ، كما إذا شاهدنا ماكنةً دقيقة ، وعلمنا إحكام جملة من أجزائها وجهلنا إتقان بعضها ، فإنّ عقلنا يحكم بإتقانه واقعاً ، ولا يجعل جهله دليلاً على عدم إتقانه ، فهذا الاستقراء وإن كان ناقصاً ؛ ضرورة عدم إحراز الحكمة في جميع أفعاله غير أنّ العقل ـ بقوة الحدس ـ يذعن بحكمته تعالى مطلقاً إذعاناً قطعياً قهرياً .
هذا ، ولكن مقتضى هذه الحجة إثبات محكمية أفعاله وإتقانها وعدم الخلل فيها ، وأمّا صدورها عنه على أكمل الوجوه الممكنة كما هو المقصود فلا يثبت بها ، فإنّا لم نحرز المقيس عليه بهذا الوصف ، بل لا يمكن للبشر العادي تحصيله ، فقد ظهر الفرق بينهما وبين الحجّة الأُولى في المفاد .
الثالث : إنّ إرادته تعالى هو علمه بالنظام الأكمل ، فكل أكمل فهو موجود لا محالة ؛ ضرورة استحالة تخلّف المعلول عن علّته ، فلو تحقّق ما ليس بأكمل وأصلح في الخارج ، فقد وُجد المعلول بلا علّة ، وهذا هو الترجّح بلا مرجّح .
أقول : وهذا أحسن الأدلة حتى من الوجه الأَوّل ، فإنّه يبطل إمكان اختيار المقابل للأكمل فضلاً عن وقوعه .
لكن يرد عليه : أَوّلاً : ما مرّ من إبطال كون العلم إرادةً ومؤثراً .
وثانياً : إنّه لا دليل على كون العلم بالأصلح هو الإرادة ، بل يمكن أن يكون العلم بالصالح إرادة فلا يثبت المقصود ، إلاّ أن يقال : إنّ اختيار الكامل وترك الأكمل ـ مع إمكانه ـ شر ، وهو ممتنع على الواجب ، فتأمّل . فإنّ العلم بالأصلح وأن لم يكن إرادةً ومؤثّراً ، لكن لا شك في أنّه مرجّح لإرادته وإحداثه ، فيتمّ به المطلوب .
الرابع : إنّ اختيار غير الأكمل مع إمكانه نقص ، وهو عليه محال ، لكنّه مزيّف بأنّ النقص في أفعاله ، هو عبارة أُخرى عن القبح الممتنع عليه من جهة حكمته ، فيكون الاستدلال دورياً .
الخامس : دلالة النقل عليه ، فقد وصف الله نفسه في كتابه بالحكيم {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، وهكذا في السُنة .
قال الفاضل الطريحي في مجمع البحرين : المحكم في اللغة المضبوط المتقن ، الحكمة العلم الذي يرفع الإنسان عن فعل القبيح ، مستعار من المحكمة : اللجام ، وهي ما أحاط بحَنك الدابة ، يمنعها الخروج ، والحكمة فهم المعاني ، سُمّيت حكمة لأنّها مانعة عن الجهل .
ثمّ قال : ومن أسمائه : الحكيم والقاضي ، فالحكيم فعيل بمعنى فاعل ، أو هو الذي يُحكم الأشياء ويتقنها ، فهو فعيل بمعنى مفعل ، أو ذو الحكمة وهي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم انتهى أقول : المقطوع من الكتاب والسُنة مثل قوله تعالى : {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [السجدة: 7] وغيره هو حكمته بمعنى إتقان فعله ، وأمّا إنّه على أكمل أنحائه الممكنة فلا، فهذا الوجه يرجع إلى الوجه الثاني في المفاد .
هذا ولكنّ المعنى الأَوّل وإن ثبت شرعاً لكنّه غير قابل للتعبّد ؛ إذ حجّية الشرع موقوفة على امتناع الكذب والقبح عليه تعالى ، وهذا الامتناع موقوف على حكمته ، وعدم الفساد في أفعاله ، نعم إذا ثبت عقلاً إحكام أفعاله ، وإنّه لا يفعل القبيح الفاسد كما في الوجه الثاني ـ وهو المستفاد من الوجه الأَوّل أيضاً بالأولوية ـ أمكن التعبّد بأخباره ، بأنّه يُصدر الأشياء عنه بأكمل محتملاتها الممكنة ، ولكنّه غير واقع ، فما يصحّ به التعبّد لم يثبت شرعاً ثبوتاً قطعياً ، وما لا يصلح التعبّد به فهو ثابت كذلك . فلابدّ لنا من حمله على الإرشاد إلى حكم العقل بحكمته أو إثبات وجوده وغيره ، فتدبّر جيداً .
فالعمدة في المقام هو الوجهان الأَوّلان ، أَوّلهما برهان لمّي ، وثانيهما دليل إنّي ، والأَوّل يدلّ على أنّ الصادر عنه يكون على نحو الأكمل ، بل وعلى لزوم صدور الأكمل عنه لزوماً غير منافٍ لاختياره ، والثاني يدل على أنّ أفعاله محكمة متقنة ، فلا خلل ، ولا فساد ، ولا قبح ، ولا نقص ، في أفعاله تعالى .
في أدلّة النظام العقلي الحاضر :
بعد ما تقرّر أنّ أفعاله تعالى على أفضل ما ينبغي أن تكون ، وأكمل ما يمكن أن تصدر عنه ، بحيث لا يتصوّر مرتبة أرقى ممّا هي عليه ، فقد ظهر أنّه لا يمكن وجود نظام أحسن وأكمل من النظام الفعلي الحاضر ، فإنّه على آخر درجة من درجات الكمال ، وكأنّه ظاهر لا يحتاج إلى بيان أزيد ممّا تقدّم .
ولهذا المطلب أدلة أُخرى ذكرها الفلاسفة وغيرهم ، إلاّ أنّها بين ما يرجع إلى المختار ، وبين ما لا يتمّ على أُصولنا المبرهن عليها ، ونحن نذكر وجهين منها :
الأَوّل : ما عن الغزالي من أنّه لا يمكن أن يوجد العالم أحسن ممّا هو عليه ؛ لأنّه لو أمكن ذلك ولم يعلم الصانع المختار أنّه ممكن إيجاد ما هو أحسن ، فيتناهى علمه المحيط بالكلّيات والجزئيات ، وإن علم ولم يفعل مع القدرة عليه فهو يناقض جوده الشامل لجميع الموجودات .
واستحسنه العربي في محكي فتوحاته ، ثمّ الحكيم الشيرازي في أسفاره ، فقال في ربوبياتها: وهو كلام برهاني ، فإنّ الباري ـ جلّ شأنه ـ غير متناهي القوة ، تام الجود والفيض ، فكلّ ما لا يكون له مادّة ، ولا يحتاج إلى استعداد خاصّ ، ولا أيضاً له مضادّ ممانع ، فهو بمجرّد إمكانه الذاتي فائض عنه تعالى على وجه الإبداع ، ومجموع النظام له ماهية واحدة كلية ، وصورة نوعية وحدانية بلا مادّة ، وكل ما لا مادّة له نوعه منحصر في شخصه ... فلم يمكن أفضل من هذا النظام نوعاً ولا شخصاً . انتهى .
أقول : حديث الجود ليس بخطابي ، فإنّه واجب عليه بحسب حكمته ... نعم ليس بواجب عنه على ما سلف في بحث اختياره ، فقول الغزالي راجع إلى المختار .
وأمّا ما أتى به صاحب الأسفار فهو ضعيف ، فإنّ فرض العالم بمجموعه موجوداً واحداً غير مادي ، مجرّد خيال ينفع الشعراء ولا وزن له في المباحث العقلية ...
الثاني : ما ذكره اللاهيجي (1) ناقلاً عن الحكماء ، ومحصّله : أنّ الواجب الوجود خير محض، فإنّ الخير ليس إلاّ فعلية الوجود وكمالاته وتماميتهما ، والشر فقدان الوجود أو كمالاته ، وواجب الوجود عين الوجود ، وتامّ الوجود ، وكامل في وجوده وكمالاته ، فهو خير محض ولا موجود غيره بخير محض ، وكلّ ما هو خير محض لا يصدر عنه إلاّ الخير المحض ؛ إذ جهة صدور الشر ـ وهي العدم ـ ليس بمتحقّق فيه ..... وظاهر أنّ سبب نظام الكلّ ـ أي المجموع من حيث هو مجموع ـ ليس إلاّ الواجب الوجود ، فهو خير محض على وجه لا يمكن الأتمّ منه ؛ إذ مكان الأتمّ من هذا النظام يستلزم عدم تمامية هذا النظام ، فإذا لم يكن بتامّ لزم كونه شراً ، فيمتنع صدوره عن الخير المحض .
أقول : وللنظر فيه مواضع .
... منها : أنّ الواجب وإن كان هو المؤثّر في الكل ، غير أنّ للعقول والأفلاك أيضاً تأثيراً فيه ، فإنّها عندهم واقعة في السلسلة الفاعلية وتكون جهات مؤثّريته تعالى ، وحيث إنّ هذه الأُمور ممكنة وإمكاناتها عدمية ، والعدم شرّ ، فلا يتحقّق الخير المحض في المعاليل .
ومنها : أنّ فيه تناقضاً ، فإنّه تارةً يقول : ولا موجود غيره بخير محض ، وأُخرى يدّعي أنّ الجميع خير محض ، فتأمل ، فإنّ البرهان على قدرتنا تام ، وهو يدلّ على نفي النقص في ذاته تعالى أيضاً .
فإن قلت : كيف يكون هذا النظام على نهاية الكمال وغاية الإتقان ، والحال أنّ المصائب والبلايا محيطة بالحيوان ولا سيما الإنسان ؟
هذا من ناحية ، ومن ناحية أُخرى ، أنّ الآثام ، والمعاصي ، والقتل ، وهتك الناموس ، والظلم وغير ذلك من الجنايات ، ما زالت مستمرّة الصدور عن نوع الإنسان ، حتى قُتل الأنبياء والأولياء ، وضعفت الديانة والإنسانية ، وأُخفيت معالم الشرع ، وقلّ الديّانون .
قلت ... وأمّا المعاصي فهي وإن كانت مبغوضاً عليها لله الحكيم سبحانه من حيثية التشريع وقبيحة في نفسها ، غير أنّ تكليف الإنسان لمّا كان ذا مصلحة هامّة في نفس الأمر ، وهو كان موقوفاً على اختيار الإنسان وتمكّنه ، وإلاّ لارتفع فائدة التشريع ، وبطل الثواب العقاب ، فجعل الله الإنسان مختاراً ثمّ كلّفه ، فهذه الجنايات مستندة إلى اختيار الإنسان ، واختياره ممّا لابدّ منه لمصلحة أهمّ من قبح هذه المفاسد ، فافهم جيداً .
في ترجيح أحد المتساويين على الآخر :
هل يحسن للمختار أن يرجّح أحد المتساويين على الآخر بمجرّد إرادته أم لا ؟ وعلى تقدير العدم هل هو جائز أو ممتنع ؟
المعروف عن الأشاعرة هو الجواز بل الوقوع (2) ، وعن العدلية ـ الإمامية والمعتزلة ـ والحكماء امتناعه (3) . والظاهر تمركز النزاع في المختار فقط ، فإنّ الموجب إذا رجّح أحد المتساويين على الآخر ـ كما إذا أحرق النار أحد المتساويين فقط ـ فقد وقع الترجّح بلا مرجّح ، لكنّه مجرّد فرض باطل .
ثمّ إنّ الأشاعرة ليس لهم دليل على قولهم سوى ذكر أمثلة ، ودعوى الضرورة على وقوع الترجيح بلا مرجّح فيها ، مع أنّ بعضهم ناقش في الأمثلة المذكورة (4) .
قال المحقّق الآشتياني : واستدلّوا عليه ـ أي الأشاعرة على الجواز ـ بالوجدان ؛ حيث إنّ العطشان والجائع والهارب من السبع ، يختار أحد القدحين والرغيفين والطريقين ، مع فرض المساواة من جميع الجهات التي لها دخل في الترجيح ، فيعلم من ذلك أنّ اختيار أحد طرفي الممكن لا يتوقّف على مرجّح خارجي . والعدلية من الإمامية والمعتزلة إلى الثاني ... لقضاء ضرورة العقل بعدم تعلّق الاختيار بأحد طرفي الممكن من دون داعٍ وسبب ، فلو وُجد لوُجد بلا سبب ، وهذا معنى رجوع الترجيح بلا مرجّح إلى الترجّح بلا مرجّح .
وأمّا ما زعمه الأشاعرة ففاسد جداً .
أمّا أَوّلاً : فلمنع تحقّق التساوي من جميع الجهات فيما مثّلوا به وأمثاله ، ومجرد الفرض لا يوجب تحقّق المفروض ، والمدار عليه لا على فرضه .
وأمّا ثانياً : فلأنّا نختار بعد التسليم عدم اختيار أحدهما ، ومجرّد دعواه لا يفيد في شيء ... إلخ أقول : هذان الجوابان اللذان نُقلا عن المعتزلة ، بل ادّعوا الضرورة على الجواب الثاني ، ممنوعان جداً ، بل الضرورة على خلافه ، وأنّ المضطرّ يختار أحدهما بلا تردّد . والإنصاف أنّهما لا يستحقان الجواب .
ويلحق بهما في الضعف ما أجاب به صاحب الأسفار (5) ، فإنّه مبني على الجبر ، وإنّ أفعال المخلوقين أفعال الله تعالى فلاحظ .
قال بعض أهل التدقيق من جامعي المعقول والمنقول (6) : تحقيق المقام أنّ الترجيح موضوعه الفعل الإرادي ، وثبوت الإرادة فيه مفروغ عنه ، وإلاّ لكان ترجّحاً بلا مرجّح ، وهو مساوق للمعلول بلا علّة ، وامتناعه بديهي لا يختلف فيه أحد ، ففي الموضوع الإرادي قالوا بقبحه تارة وبامتناعه أخرى بيانه :
إنّ الأشاعرة بنوا على خلو أفعال الله تعالى التكوينية والتشريعية ، عن الغايات الذاتية والعرضية ، وعن الحِكم والمصالح الواقعية ؛ نظراً إلى جواز الترجيح بلا مرجّح ؛ لإمكان الإرادة الجزافية تمسّكاً منهم بأمثلة جزئية ... ونفياً منهم للحسن والقبح بالكلّية ، فالفعل الإرادي الخالي عن الغرض معلول للإرادة المستندة إلى المريد ، فلا يلزم المعلول بلا علّة، وحيث لا حسن ولا قبح فلا يتّصف مثل هذا الفعل الخالي عن الغاية بكونه قبيحاً .
وأجاب الحكماء ـ بعد إثبات الحسن والقبح عقلاً في كلية أفعال الله تعالى والعباد ـ بأنّ الفعل الخالي عن الغاية والغرض قبيح من كل عاقل ، وبأنّ تجويز الإرادة الجزافية يؤول إلى تجويز الترجّح بلا مرجّح ؛ لأنّ الإرادة من الممكنات فتعلّقها بأحد الأمرين دون تعلّق إرادة أُخرى بالآخر ، إمّا بإرادة أُخرى فيدور أو يتسلسل ، وإمّا بلا إرادة ... كان معناه حدوث الإرادة بلا سبب ، وهو عين الترجّح بلا مرجّح ... فبالإضافة إلى نفس الفعل وإن كان ترجيحاً بلا مرجّح ، إلاّ أنّه بالإضافة إلى إرادته ترجّح بلا مرجّح .
فعُلم ممّا ذكرنا أنّ محلّ النزاع هو الفعل الإرادي الخالي عن مطلق الغاية والغرض ، لا الخالي عن الغرض العقلائي ، فإنّه لم يقع النزاع في إمكانه ، كما عُلم أنّ القبح بأي نظر، وأنّ الامتناع بأي لحاظ ، فإنّه قبيح بالنظر إلى خلوه عن الحكمة والمصلحة ، وممتنع بالنظر إلى حدوث الإرادة بلا موجب ، غاية الأمر أنّ الموجب في إرادته تعالى منحصرة في الحكمة والمصلحة لا مطلق الغرض .
وأمّا مسألة ترجيح المرجوح على الراجح فهي أجنبية عن مقاصد الحكماء ، والأشاعرة في تلك المسألة المتداولة ، إلاّ أنّه يمكن فرضها قبيحاً تارةً وممتنعاً أُخرى ، فبالنظر إلى خلو الفعل عن جهة مصحّحة من حكمة ومصلحة قبيح ، وبالنظر إلى حدوث الإرادة بلا سبب ممتنع .
ويزيد على الترجيح بلا مرجّح ، بأنّ ترك الراجح مع وجود غاية مصحّحة قبيح آخر ، وتخلّف الإرادة عمّا يوجبها محال آخر انتهى .
أقول : فقد ظهر أنّ استحالة الترجيح بلا مرجّح ؛ لأجل رجوعه إلى الترجّح بلا مرجّح ، وإلاّ فهو ليس بمحال ، انتهى .
وأمّا ما ذكره المحقّق اللاهيجي (7) من استحالة الترجيح المذكور في نفسه أيضاً ، بل ادّعى بداهتها عند الوجدان المستقيم ، فممّا لم نعرف له وجهاً .
والتحقيق أنّ الترجيح بلا مرجّح ربّما يصير ممتنعاً ، وربّما يكون ممكناً ، فإذا أمكن فهو تارةً يكون واجباً ولازماً فضلاً عن مجرّد كونه حسناً ، وأُخرى يكون قبيحاً .
بيان ذلك : أنّ الترجيح بمجرّد الإرادة من دون سبب ومرجّح أصلاً محال ... ولا وقع لإنكار الأشعريين وغيرهم ، وبمرجّح غير عقلائي قبيح ، كما في تقديم المفضول على الفاضل لأجل كبر السِّن مثلاً ، وهذا ممكن قبيح وليس بمحال كما هو ظاهر ، وبمرجّح عقلائي قائم بطبيعي الفعل الجامع للفردين لازم وواجب ، كما في الأمثلة المتقدّمة وغيرها ؛ وذلك لأنّ طبيعي الفعل إذا كان ذا مصلحة ملزمة أو غير ملزمة ، وكانت الأفراد بالنسبة إليه متساويةً ، حيث إنّ كلاً منها محصّل له ومحقّق إيّاه ، فلا يجوز أو لا ينبغي للعاقل أن يترك أصل الفعل المشتمل على المِلاك ؛ لأجل استواء الأفراد في المزية وتحصيل الغرض ، أَلا ترى أنّ العقلاء بأسرهم يقبّحون ، مَن ترك الأكل من أحد الإناءين المتساويين حتى مات جوعاً ، بل يضحكون على مَن اعتذر عنه بعدم جواز الترجيح بلا مرجّح أو قبحه .
والسرّ في جوازه وعدم مآله إلى الترجّح ، هو أنّ المنظور إليه استقلالاً هو طبيعي الفعل وحده، وأمّا الأفراد فلا نظارة إليها إلاّ آلةً وتبعاً ، فالإرادة المتعلّقة بطبيعي الفعل المذكور تسوّغ اختيار أي من الأفراد ، ولا تؤول إلى الإرادة الجزافية الممتنعة .
وهذا الذي ذكرنا ـ مضافاً إلى عدم الدليل على امتناع ، بل الدليل على صحته كما عرفت منا ـ ضروري أيضاً كما يفهم من المثال المزبور ، فالصحيح في المسألة هو هذا التفصيل الثلاثي .
وأمّا ما ... [ذكره] المحقّق الآشتياني ، من نسبة القول بالامتناع إلى الإمامية والمعتزلة ففيه: أنّ كثيراً من المعتزلة قائلون بالجواز ، كما نقله اللاهيجي (8) .
وأمّا الإمامية فلم يثبت هذا القول منهم جلياً ، بل ذهب بعض الأجلاّء الأُصوليين (9) منهم إلى الجواز مطلقاً ، والحق ما قلنا .
__________________
(1) گوهر مراد / 224.
(2) شرح المواقف 2 / 218.
(3) حاشية المحقّق الآشتياني على رسائل الشيخ الأنصاري / 246.
(4) شرح المواقف 2 / 218.
(5) الأسفار 1 / 209.
(6) نهاية الدراية في شرح كفاية الأُصول 3 / 170.
(7) گوهر مراد / 147.
(8) گوهر مراد / 147.
(9) وهو المحقّق صاحب الكفاية قدّس سره 2 / 369 من كتابه ، ويمكن حمله على ما ذكرنا من التفصيل .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
العتبة الحسينية تطلق فعاليات المخيم القرآني الثالث في جامعة البصرة
|
|
|