أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-5-2020
883
التاريخ: 30-5-2020
1210
التاريخ: 1-8-2016
672
التاريخ: 1-8-2016
645
|
للإستصحاب على ما يستفاد من ادلته المتقدمة اربعة اركان، وهي : اليقين بالحدوث، والشك في البقاء، ووحدة القضية المتيقنة والمشكوكة، وكون الحالة السابقة في مرحلة البقاء ذات اثر عملي مصحح للتعبد بها.
وسنتكلم عن هذه الاركان فيما يلي تباعا ان شاء الله تعالى:
أ - اليقين بالحدوث:
ذهب المشهور إلى ان اليقين بالحدوث ركن مقوم للاستصحاب، ومعنى ذلك ان مجرد ثبوت الحالة السابقة في الواقع لا يكفي لفعلية الحكم الاستصحابي لها، وانما يجري الاستصحاب إذا كانت الحالة السابقة متيقنة، وذلك لان اليقين قد اخذ في موضوع الاستصحاب في ألسنة الروايات، وظاهر اخذه كونه مأخوذا على نحو الموضوعية لا الطريقية إلى صرف ثبوت الحالة السابقة.
نعم في رواية عبدالله بن سنان المتقدمة علل الحكم الإستصحابي بنفس الحالة السابقة في قوله (لأنك اعرته اياه وهو طاهر) لا باليقين بها، وهو ظاهر في ركنية المتيقن لا اليقين، وتصلح ان تكون قرينة على حمل اليقين في سائر الروايات على الطريقية اذا تم الاستدلال بالرواية المذكورة على الكبرى الكلية.
وقد نشأت مشكلة من افتراض ركنية اليقين بالحدوث، وهي انه إذا كان ركنا فكيف يمكن اجراء الاستصحاب فيما هو ثابت بالأمارة إذا دلت الامارة على حدوثه وشككنا في بقائه مع انه لا يقين بالحدوث؟. كما إذا دلت الامارة على نجاسة ثوب وشك في تطهيره، او على نجاسة الماء المتغير في الجملة وشك في بقاء النجاسة بعد زوال التغير. وقد افيد في جواب هذه المشكلة عدة وجوه:
الوجه الاول: - ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني (قدس الله روحه) من ان الامارة تعتبر علما بحكم لسان دليل حجيتها، لان دليل الحجية مفاده جعل الطريقية والغاء احتمال الخلاف تعبدا، وبهذا تقوم مقام القطع الموضوعي لحكومة دليل حجيتها على الدليل المتكفل لجعل الحكم على القطع، ومعنى الحكومة هنا ان دليل الحجية يحقق فردا تعبديا من موضوع الدليل الآخر، ومن مصاديق ذلك قيام الامارة مقام اليقين المأخوذ في موضوع الاستصحاب وحكومة دليل حجيتها على دليله. وقد تقدم - في مستهل البحث عن الادلة المحرزة من هذه الحلقة - المنع عن وفاء دليل حجية الامارة بأثبات قيامها مقام القطع الموضوعي وعدم صلاحيته للحاكمية، لانها فرع النظر إلى الدليل المحكوم وهو غير ثابت فلاحظ.
الوجه الثاني: - ما ذكره صاحب الكفاية (رحمه الله) وحاصله - على ما قيل في تفسيره -: ان اليقين بالحدوث ليس ركنا في دليل الاستصحاب بل مفاد الدليل جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء.
وقد اعترض السيد الاستاذ على ذلك بان مفاده لو كان الملازمة بين الحدوث والبقاء في مرحلة الواقع لزم كونه دليلا واقعيا على البقاء وهو خلف كونه اصلا عمليا، ولو كان مفاده الملازمة بين الحدوث والبقاء في مرحلة التنجز فكلما تنجز الحدوث تنجز البقاء، لزم بقاء بعض اطراف العلم الاجمالي منجزة حتى بعد انحلاله بعلم تفصيلي، لأنها كانت منجزة حدوثا والمفروض ان دليل الاستصحاب يجعل الملازمة بين الحدوث والبقاء في التنجز. وهذا الاعتراض غريب لان المراد بالملازمة الملازمة بين الحدوث الواقعي والبقاء الظاهري، ومرد ذلك في الحقيقة إلى التعبد بالبقاء منوطا بالحدوث، فلا يلزم شيء مما ذكر.
والصحيح ان يقال: ان مرد هذا الوجه إلى انكار الاساس الذي نجمت عنه المشكلة وهو ركنية اليقين المعتمدة على ظهور أخذه اثباتا في الموضوعية، فلا بد له من مناقشة هذا الظهور، وذلك بما ورد في الكفاية من دعوى ان اليقين باعتبار كاشفيته عن متعلقه يصلح ان يؤخذ بما هو معرف ومرآة له، فيكون اخذه في لسان دليل الاستصحاب على هذا الاساس، ومرجعه إلى اخذ الحالة السابقة.
وهذه الدعوى لا بد ان تتضمن ادعاء الظهور في المعرفية لان مجرد ابداء احتمال ذلك بنحو مساو للموضوعية يوجب الاجمال وعدم امكان تطبيق دليل الاستصحاب في موارد عدم وجود اليقين. ويرد عليها ان المقصود بما ادعي ان كان ابراز جانب المرآتية الحقيقية لليقين بالنسبة إلى حقيقيته فمن الواضح انها انما تثبت لواقع اليقين في افق نفس المتيقن الذي يرى من خلال يقينه متيقنه دائما، وليست هذه المرآتية ثابتة لمفهوم اليقين، فمفهوم اليقين كأي مفهوم آخر انما يلحظ مرآة إلى افراده لا إلى متيقنه، لان الكاشفية الحقيقية التي هي روح هذه المرآتية من شؤون واقع اليقين لا مفهومه. وان كان المقصود اخذ اليقين معرفا وكناية عن المتيقن فهو امر معقول ومقبول عرفا ولكنه بحاجة إلى قرينة ولا قرينة في المقام على ذلك لا خاصة ولا عامة. اما الاولى فانتفاؤها واضح. واما الثانية فلان القرينة العامة هى مناسبات الحكم والموضوع العرفية وهي لا تأبى في المقام عن دخل اليقين في حرمة النقض. وكان الاولى بصاحب الكفاية ان يستند في الاستغناء عن ركنية اليقين إلى ما لم يؤخذ في لسانه اليقين بالحدوث من روايات الباب.
الوجه الثالث: - ان اليقين وان كان ركنا للاستصحاب بمقتضى ظهور اخذه في الموضوعية، الا انه مأخوذ بما هو حجة فيتحقق الركن بالإمارة المعتبرة ايضا باعتبارها حجة.
ويختلف هذا الوجه عن سابقه بالاعتراف بركنية اليقين، وعن الاول بان دليل حجية الامارة على هذا يكون واردا على دليل الاستصحاب لانه يحقق فردا من الحجة حقيقة، واما على الوجه الاول فدليل الاستصحاب حاكم لا وارد. ويرد على هذا الوجه ان ظاهر اخذ شئ كونه بعنوانه دخيلا فحمله على دخل عنوان جامع بينه وبين غيره يحتاج إلى قرينة.
والتحقيق ان يقال: ان الامارة تارة تعالج شبهة موضوعية كالإمارة الدالة على نجاسة الثوب، واخرى شبهة حكمية كالإمارة الدالة على نجاسة الماء المتغير. وعلى التقديرين تارة ينشأ الشك في البقاء من شبهة موضوعية كما إذا شك في غسل الثوب او زوال التغير، واخرى ينشأ من شبهة حكمية كما إذا شك في طهارة الثوب بالغسل بالماء المضاف وارتفاع النجاسة عند زوال التغير من قبل نفسه. فهناك إذن اربع صور:
الاولى: - ان تعالج الامارة شبهة موضوعية ويكون الشك في البقاء شبهة موضوعية ايضا، كما إذا اخبرت الامارة بتنجس الثوب وشك في طرو المطهر. وفي مثل ذلك لا حاجة إلى استصحاب النجاسة الواقعية ليرد الاشكال القائل بانه لا يقين بحدوثها، بل يمكن اجراء الاستصحاب بأحد وجهين آخرين: الاول: ان نجري الاستصحاب الموضوعي فنستصحب عدم غسل الثوب بالماء، ومن الواضح ان نجاسة الثوب مترتبة شرعا على موضوع مركب من جزئين : احدهما : ملاقاته للنجس ، والآخر: عدم طرو الغسل عليه ، والاول ثابت بالإمارة، والثاني بالاستصحاب لان اركانه فيه متوفرة بما فيها اليقين بالحدوث، فيترتب على ذلك بقاء النجاسة شرعا.
الثاني: - ان الامارة التي تدل على حدوث النجاسة في الثوب تدل ايضا بالالتزام على بقائها ما لم يغسل، لأننا نعلم بالملازمة بين الحدوث والبقاء ما لم يغسل، فما يدل على الاول، بالمطابقة يدل على الثاني بالالتزام.
ومقتضى دليل حجية الامارة التعبد بمقدار ما تدل عليه بالمطابقة والالتزام، فاذا شك في طرو الغسل كان ذلك شكا في انتهاء امد البقاء التعبدي الثابت بدليل الحجية، فيستصحب لانه معلوم حدوثا ومشكوك بقاء.
الثانية: - ان تعالج الامارة شبهة حكمية ويكون الشك في البقاء شبهة موضوعية، كما إذا دلت الامارة على نجاسة الماء المتغير وشك في بقاء التغير. وهنا يجري نفس الوجهين السابقين، حيث يمكن استصحاب التغير، ويمكن استصحاب نفس النجاسة الظاهرية المغياة بارتفاع التغير، للشك في حصول غايتها.
الثالثة: - ان تعالج الامارة شبهة موضوعية ويكون الشك في البقاء شبهة حكمية، كما إذا دلت الامارة على نجاسة الثوب وشك في بقائها عند الغسل بالماء المضاف. وفي هذه الصورة يتعذر اجراء الاستصحاب الموضوعي، إذ لا شك في وقوع الغسل بالماء المضاف وعدم وقوع الغسل بالماء المطلق، ولكن يمكن اجراء الاستصحاب على الوجه الثاني، لان الامارة المخبرة عن نجاسة الثوب تخبر التزاما عن بقاء هذه النجاسة ما لم يحصل المطهر الواقعي، وعلى هذا الاساس يكون التعبد الثابت على وفقها بدليل الحجية تعبدا مغيى بالمطهر الواقعي ايضا، فالتردد في حصول المطهر الواقعي ولو على نحو الشبهة الحكمية يسبب الشك في بقاء التعبد المستفاد من دليل الحجية والذي هو متيقن حدوثا، فيجري فيه الاستصحاب.
الرابعة: - ان تعالج الامارة شبهة حكمية ويكون الشك في البقاء شبهة حكمية ايضا، كما إذا دلت على تنجس الثوب بملاقاة المتنجس وشك في حصول التطهير بالغسل بالماء المضاف.
وعلاج هذه الصورة نفس علاج الصورة السابقة، فإن النجاسة المخبر عنها بالأمارة هي على فرض حدوثها نجاسة مستمرة مغياة بطرو المطهر الشرعي، وعلى هذا فالتعبد على طبق الامارة يتكفل اثبات هذا النحو من النجاسة ظاهرا، ولما كانت الغاية مرددة بين مطلق الغسل، والغسل بالمضاف فيقع الشك في حصولها عند الغسل بالمضاف، وبالتالي يقع الشك في بقاء التعبد المغيى المستفاد من دليل الحجية، فيستصحب.
ففي كل هذه الصور يمكن التفادي عن الاشكال بإجراء الاستصحاب الموضوعي او استصحاب نفس المجعول في دليل الحجية، وجامع هذه الصور ان يعلم بان للحكم المدلول للأمارة على فرض ثبوته غاية ورافعا ويشك في حصول الرافع على نحو الشبهة الموضوعية او الحكمية. نعم قد لا يكون الشك على هذا الوجه بل يكون الشك في قابلية المستصحب للبقاء، كما إذا دلت الامارة على وجوب الجلوس في المسجد إلى الزوال وشك في بقاء هذا الوجوب بعد الزوال، فان الامارة هنا لا يحتمل انها تدل مطابقة او التزاما على اكثر من الوجوب إلى الزوال، وهذا يعني ان التعبد على وفقها المستفاد من دليل الحجية لا يحتمل فيه الاستمرار اكثر من ذلك، وفي مثل هذا يتركز الاشكال لان الحكم الواقعي بالوجوب غير متيقن الحدوث والحكم الظاهري المستفاد من دليل الحجية غير محتمل البقاء، ويتوقف دفع الاشكال حينئذ على انكار ركنية اليقين بلحاظ مثل رواية عبدالله بن سنان المتقدمة.
ب - الشك في البقاء:
والشك في البقاء هو الركن الثاني، وذلك لأخذه في لسان ادلة الاستصحاب، وقد يقال: ان ركنيته ضرورية بلا حاجة إلى اخذه في لسان الادلة، لان الاستصحاب حكم ظاهري والحكم الظاهري متقوم بالشك، فان فرض الشك في الحدوث كان مورد قاعدة اليقين، فلا بد اذن من فرض الشك في البقاء.
ولكن سيظهر ان ركنية الشك في البقاء بعنوانه لها آثار اضافية لا تثبت بالبرهان المذكور بل بأخذه في لسان الادلة فانتظر. وتتفرع على ركنية الشك في البقاء قضيتان:
الاولى: - ان الاستصحاب لا يجري في الفرد المردد، ونقصد بالفرد المردد حالة القسم الثاني من استصحاب الكلي، كما إذا علمنا بوجود جامع الانسان في المسجد وهو مردد بين زيد وخالد ونشك في بقاء هذا الجامع لان زيدا نراه الآن خارج المسجد، فان كان هو المحقق للجامع حدوثا فقد ارتفع الجامع، وان كان خالد هو المحقق للجامع فلعله لا يزال باقيا. وفي مثل ذلك يجري استصحاب الجامع اذا كان لوجود الجامع اثر شرعي. ويسمى بالقسم الثاني من استصحاب الكلي كما تقدم في الحلقة السابقة، ولا يجري استصحاب بقاء زيد ولا استصحاب بقاء خالد بلا شك.
ولكن قد يقال: ان الاثار الشرعية اذا كانت مترتبة على وجود الافراد بما هي افراد أمكن اجراء استصحاب الفرد المردد على اجماله، بان نشير إلى واقع الشخص الذي دخل المسجد ونقول: انه على اجماله يشك في خروجه من المسجد فيستصحب.
ولكن الصحيح ان هذا الاستصحاب لا محصل له، لأننا حينما نلحظ الافراد بعناوينها التفصيلية لا نجد شكا في البقاء على كل تقدير، إذ لا يحتمل بقاء زيد بحسب الفرض، واذا لاحظناها بعنوان إجمالي وهو عنوان الانسان الذي دخل إلى المسجد فالشك في البقاء ثابت. فان اريد باستصحاب الفرد المردد اثبات بقاء الفرد بعنوانه التفصيلي فهو متعذر، إذ لعل هذا الفرد هو زيد وزيد لا شك في بقائه فيكون الركن الثاني مختلا، وان اريد به اثبات بقاء الفرد بعنوانه الاجمالي فالركن الثاني محفوظ ولكن الركن الرابع غير متوفر، لان الاثر الشرعي غير مترتب بحسب الفرض على العنوان الاجمالي بل على العناوين التفصيلية للأفراد . ومن هنا نعرف ان عدم جريان استصحاب الفرد المردد من نتائج ركنية الشك في البقاء الثابتة بظهور الدليل، ولا يكفي فيه البرهان القائل بان الحكم الظاهري متقوم بالشك، إذ لا يأبى العقل عن تعبد الشارع ببقاء الفرد الواقعي مع احتمال قطعنا بخروجه.
والقضية الثانية: - هي ان زمان المتيقن قد يكون متصلا بزمان المشكوك وسابقا عليه، وقد يكون مرددا بين ان يكون نفس زمان المشكوك او الزمان الذي قبله. ففي الحالة الاولى يصدق الشك في البقاء بلا شك، واما الحالة الثانية فمثالها ان يحصل لها العلم اجمالا بان هذا الثوب اما تنجس في هذه اللحظة او كان قد تنجس قبل ساعة وطهر، فالنجاسة معلومة التحقق في هذا الثوب اساسا ولكنها مشكوكة فعلا، وزمان المشكوك هو اللحظة الحاضرة، وزمان النجاسة المتيقنة لعله نفس زمان المشكوك ولعله ساعة قبل ذلك. وفي مثل ذلك قد يستشكل في جريان الاستصحاب لان من المحتمل وحدة زماني المشكوك والمتيقن، وعلى هذا التقدير لا يكون احدهما بقاء للآخر، فالشك إذن لم يحرز كونه شكا في البقاء، وبذلك يختل الركن الثاني، فلا يجري الاستصحاب في كل الحالات التي يكون زمان المتيقن فيها مرددا بين زمان المشكوك وما قبله.
ويمكن دفع الاستشكال بان (الشك في البقاء) بعنوانه لم يؤخذ صريحا في لسان روايات الاستصحاب، وانما اخذ (الشك) بعد (اليقين) وهو يلائم كل شك متعلق بما هو متيقن الحدوث سواء صدق عليه (الشك في البقاء) او لا.
والاستشكال المذكور إذا لم يندفع بهذا البيان يؤدي إلى ان الاستصحاب في موارد توارد الحالتين لا يجري في نفسه لا من اجل التعارض، فاذا علم بالحدث والطهارة وشك في المتقدم منهما فهو يعلم اجمالا بالحدث اما الآن او قبل ساعة ويشك في الحدث فعلا، فزمان الحدث المشكوك هو الآن وزمان الحدث المتيقن مردد بين الآن وما قبله فلا يجري استصحاب الحدث، ومثل ذلك يقال في استصحاب الطهارة. وهذا بعض معاني ما يقال من عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين. ثم ان هذا الركن الثاني قد يصاغ بصياغة اخرى، فيقال: ان الاستصحاب متقوم بان يكون رفع اليد عن الحالة السابقة نقضا لليقين بالشك.
ويفرغ على ذلك بانه متى ما لم يحرز ذلك واحتمل كونه نقضا لليقين باليقين فلا يشمله النهي في عموم دليل الاستصحاب. وقد مثل لذلك بما إذا علم بطهارة عدة اشياء تفصيلا ثم علم اجمالا بنجاسة بعضها، فان المعلوم بالعلم الاجمالي لما كان مرددا بين تلك الاشياء فكل واحد منها يحتمل ان يكون معلوم النجاسة، وبالتالي يحتمل ان يكون رفع اليد عن الحالة السابقة فيه نقضا لليقين باليقين، فلا يجري الاستصحاب بقطع النظر عن المعارضة بين الاستصحاب هنا والاستصحاب هناك.
ونلاحظ على ذلك اولا: ان العلم الاجمالي ليس متعلقا بالواقع بل بالجامع، فلا يحتمل ان يكون اي واحد من تلك الاشياء معلوم النجاسة. وثانيا: لو سلمنا ان العلم الاجمالي يتعلق بالواقع فهو يتعلق به على نحو يلائم مع الشك فيه ايضا ودليل الاستصحاب مفاده انه لا يرفع اليد عن الحالة السابقة في كل مورد يكون بقاؤها فيه مشكوكا، وهذا يشمل محل الكلام حتى لو انطبق العلم الاجمالي بالنجاسة على نفس المورد ايضا.
فان قيل: بل لا يشمل لأننا حينئذ لا ننقض اليقين بالشك بل باليقين.
وكان الجواب: ان الباء هنا لا يراد بها النهي عن النقض بسبب الشك، والا للزم امكان النقض بالقرعة او الاستخارة، بل يراد بذلك انه لا نقض في حالة الشك وهي محفوظة في المقام.
الشبهات الحكمية في ضوء الركن الثاني
وقد يقال: ان الركن الثاني يستدعي عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية، كما اذا شك في بقاء نجاسة الماء او حرمة المقاربة، بعد زوال التغير او النقاء من الدم.
وذلك لان النجاسة والحرمة وكل حكم شرعي.
ليس له وجود وثبوت الا بالجعل، والجعل آني دفعي فكل المجعول يثبت في عالم الجعل في آن واحد من دون ان يكون البعض منه بقاء للبعض الآخر ومترتبا عليه زمانا، فنجاسة الماء المتغير بتمام حصصها وحرمة مقاربة المرأة بتمام حصصها متقارنة زمانا في عالم الجعل، وعليه فلا شك في البقاء بل ولا يقين بحدوث المشكوك اصلا، بل المتيقن حصة من الجعل والمشكوك حصة اخرى منه، فلا يجري استصحاب النجاسة او الحرمة.
وهذا الكلام مبني على ملاحظة عالم الجعل فقط فان حصص المجعول فيه متعاصرة، بينما ينبغي ملاحظة عالم المجعول، فان النجاسة بما هي صفة للماء المتغير الخارجي لها حدوث وبقاء، وكذلك حرمة المقاربة بما هي صفة للمرأة الحائض الخارجية، فيتم بملاحظة هذا العالم اليقين بالحدوث والشك في البقاء ويجري الاستصحاب.
ج - وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة:
وهذا هو الركن الثالث. والوجه في ركنيته انه مع تغاير القضيتين لا يكون الشك شكا في البقاء بل في حدوث قضية جديدة، ومن هنا يعلم بان هذا ليس ركنا جديدا مضافا إلى الركن السابق بل هو مستنبط منه وتعبير آخر عنه. وقد طبق هذا الركن على الاستصحاب الجاري في الشبهات الموضوعية، وعلى الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية، وواجه في كل من المجالين بعض المشاكل والصعوبات كما نرى فيما يلي:
(اولا: - تطبيقه في الشبهات الموضوعية):
جاء في افادات الشيخ الانصاري (قدس الله روحه) التعبير عن هذا الركن بالصياغة التالية: انه يعتبر في جريان الاستصحاب احراز بقاء الموضوع إذ مع تبدل الموضوع لا يكون الشك شكا في البقاء، فلا يمكنك
مثلا ان تستصحب نجاسة الخشب بعد استحالته وصيرورته رمادا، لان موضوع النجاسة المتيقنة لم يبق.
وهذه الصياغة سببت الاستشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان المشكوك اصل وجود الشيء بقاء، لان موضوع الوجود الماهية ولا بقاء للماهية الا بالوجود، فمع الشك في وجودها بقاء لا يمكن احراز بقاء الموضوع، فكيف يجري الاستصحاب؟.
وكذلك سببت الاستشكال احيانا فيما إذا كان المشكوك من الصفات الثانوية المتأخرة عن الوجود كالعدالة، وذلك لان زيدا العادل تارة يشك في بقاء عدالته مع العلم ببقائه حيا، ففي مثل ذلك يجري استصحاب العدالة بلا اشكال، لان موضوعها وهو حياة زيد معلوم البقاء. واخرى يشك في بقاء زيد حيا ويشك ايضا في بقاء عدالته على تقدير حياته، وفي مثل ذلك كيف يجري استصحاب بقاء العدالة مع ان موضوعها غير محرز؟. وهذه الاستشكالات نشأت من الصياغة المذكورة وهي لا مبرر لها. ومن هنا عدل صاحب الكفاية عنها إلى القول بان المعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة، وهي محفوظة في موارد الاستشكال الآنفة الذكر، واما افتراض المستصحب عرضا وافتراض موضوع له واشتراط احراز بقائه، فلا موجب لذلك.
(ثانيا: - تطبيقه في الشبهات الحكمية):
وعند تطبيق هذا الركن على الاستصحاب في الشبهات الحكمية نشأت بعض المشاكل ايضا، إذ لوحظ انا حين نأخذ بالصياغة الثانية له التي اختارها صاحب الكفاية نجد: ان وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة لا يمكن افتراضها في الشبهة الحكمية الا في حالات الشك في النسخ بمعنى الغاء الجعل - اي النسخ بمعناه الحقيقي -. وأما حيث لا يحتمل النسخ فلا يمكن ان ينشأ شك في نفس القضية المتيقنة. وانما يشك في بقاء حكمها حينئذ اذا تغيرت بعض القيود والخصوصيات المأخوذة فيها، وذلك بأحد وجهين: اما بأن تكون خصوصية ما دخيلة يقينا في حدوث الحكم ويشك في اناطة بقائه ببقائها فترتفع الخصوصية ويشك حينئذ في بقاء الحكم، كالشك في نجاسة الماء بعد زوال تغيره، واما بان تكون خصوصية ما مشكوكة الدخل من اول الامر في ثبوت الحكم فيفرض وجودها في القضية المتيقنة إذ لا يقين بالحكم بدونها ثم ترتفع فيحصل الشك في بقاء الحكم.
وفي كل من هذين الوجهين لا وحدة بين القضية المتيقنة والمشكوكة. كما انا حين نأخذ بالصياغة الاولى لهذا الركن نلاحظ ان موضوع الحكم عبارة عن مجموع ما أخذ مفروض الوجود في مقام جعله، والموضوع بهذا المعنى غير محرز البقاء في الشبهات الحكمية، لان الشك في بقاء الحكم ينشأ من الشك في انحفاظ تمام الخصوصيات المفروضة الوجود في مقام جعله.
ولأجل حل المشكلة المذكورة نقدم مثالا من الاعراض الخارجية فنقول: ان الحرارة لها معروض وهو الجسم وعلة وهي النار او الشمس، والحرارة تتعدد بتعدد الجسم المعروض لها فحرارة الخشب غير حرارة الماء، ولا تتعدد بتعدد الاسباب والحيثيات التعليلية، فاذا كانت حرارة الماء مستندة إلى النار حدوثا والى الشمس بقاء لا تعتبر حرارتين متغايرتين، بل هي حرارة واحدة لها حدوث وبقاء. ونفس الشيء نقوله عن الحكم كالنجاسة مثلا فان لها معروض وهو الجسم وعلة وهي التغير بالنسبة إلى نجاسة الماء مثلا، والضابط في تعددها تعدد معروضها لا تعدد الحيثيات التعليلية. فالخصوصية الزائلة التي سبب زوالها الشك في بقاء الحكم ان كانت على فرض دخالتها بمثابة العلة والشرط، فلا يضر زوالها بوحدة الحكم ولا تستوجب دخالتها كحيثية تعليلية مباينة الحكم بقاء للحكم حدوثا كما هو الحال في الحرارة ايضا. واما إذا كانت الخصوصية الزائلة مقومة لمعروض الحكم كخصوصية البولية الزائلة عند تحول البول بخارا، فهي توجب التغاير بين الحكم المذكور والحكم الثابت بعد زوالها.
وعليه فكلما كانت الخصوصية غير المحفوظة من الموضوع او من القضية المتيقنة حيثية تعليلية فلا ينافي ذلك وحدة الحكم حدوثا وبقاء، ومعه يجري الاستصحاب. وكلما كانت الخصوصية مقومة للمعروض كان انتفاؤها موجبا لتعذر جريان الاستصحاب، لان المشكوك حينئذ مباين للمتيقن.
ومن هنا يبرز السؤال التالي: كيف نستطيع ان نميز بين الحيثية التعليلية والحيثية التقييدية المقومة لمعروض الحكم؟. فقد يقال بان مرجع ذلك هو الدليل الشرعي لان اخذ الحيثية في الحكم ونحو هذا الاخذ تحت سلطان الشارع، فالدليل الشرعي هو الكاشف عن ذلك فإذا ورد بلسان (الماء اذا تغير تنجس) فهمنا ان التغير اتخذ حيثية تعليلية.. واذا ورد بلسان (الماء المتغير متنجس) فهمنا ان التغير حيثية تقييدية، وعلى وزان ذلك (قلد العالم) او (قلده إن كان عالما) وهكذا.
والصحيح: ان اخذ الحيثية في الحكم بيد الشارع وكذلك نحو أخذها في عالم الجعل، إذ في عالم الجعل يستحضر المولى مفاهيم معينة كمفهوم الماء والتغير والنجاسة، فبإمكانه ان يجعل التغير قيدا للماء وبإمكانه ان يجعله شرطا في ثبوت النجاسة تبعا لكيفية تنظيمه لهذه المفاهيم في عالم الجعل، غير ان استصحاب الحكم في الشبهات الحكمية لا يجري بلحاظ عالم الجعل بل بلحاظ عالم المجعول، فينظر إلى الحكم بما هو صفة للأمر الخارجي لكي يكون له حدوث وبقاء كما تقدم، وعليه فالمعروض محدد واقعا وما هو داخل فيه وما هو خارج عنه، لا يتبع في دخوله وخروجه نحو أخذه في عالم الجعل بل مدى قابليته للاتصاف بالحكم خارجا، فالتغير مثلا لا يتصف بالنجاسة والقذارة في الخارج بل الذي يوصف بذلك ذات الماء، والتغير سبب الاتصاف، والتقليد واخذ الفتوى يكون من العالم بما هو عالم او من علمه بحسب الحقيقة. فالتغير حيثية تعليلية ولو اخذت تقييدية جعلا ودليلا، والعلم حيثية تقييدية لوجوب التقليد ولو اخذ شرطا وعلة جعلا ودليلا.
وهنا نواجه سؤالا آخر وهو: ان المعروض واقعا باي نظر نشخصه هل بالنظر الدقيق العقلي او بالنظر العرفي، مثلا إذا اردنا في الشبهة الحكمية ان نستصحب اعتصام الكر بعد زوال جزء يسير منه فيما إذا احتملنا بقاء الاعتصام وعدم انثلامه بزوال ذلك الجزء.. فكيف نشخص معروض الاعتصام؟.. فإننا إذا اخذنا بالنظر الدقيق العقلي وجدنا ان المعروض غير محرز بقاء، لان الجزء اليسير الذي زال من الماء يشكل جزء ا من المعروض بهذا النظر، وإذا اخذنا بالنظر العرفي وجدنا ان المعروض لا يزال باقيا ببقاء معظم الماء لان العرف يرى انه نفس الماء السابق. والشيء نفسه ونواجهه عند استصحاب الكرية بعد زوال الجزء اليسير من الماء في الشبهة الموضوعية.
والجواب: ان المتبع هو النظر العرفي، لان دليل الاستصحاب خطاب عرفي منزل على الانظار العرفية، فالاستصحاب يتبع صدق النقض عرفا وصدقه كذلك يرتبط بانحفاظ المعروض عرفا.
د - الاثر العملي:
والركن الرابع من اركان الاستصحاب وجود الاثر العملي المصحح لجريانه، وهذا الركن يمكن بيانه بإحدى الصيغ التالية:
الاولى: - ان الاستصحاب يتقوم بلزوم انتهاء التعبد فيه إلى اثر عملي، إذ لو لم يترتب اي اثر عملي على التعبد الإستصحابي كان لغوا، وقرينة الحكمة تصرف اطلاق دليل الاستصحاب عن مثل ذلك. وصياغة الركن بهذه الصيغة تجعله بغير حاجة إلى اي استدلال سوى ما ذكرناه، وتسمح حينئذ بجريان الاستصحاب حتى فيما اذا لم يكن المستصحب اثرا شرعيا او ذا اثر شرعي او قابلا للتنجيز والتعذير بوجه من الوجوه، على شرط ان يكون لنفس التعبد الإستصحابي به اثر يخرجه عن اللغوية، كما إذا اخذ القطع بموضوع خارجي لا حكم له تمام الموضوع لحكم شرعي وقلنا بان الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي بدعوى
ان المجعول فيه الطريقية، فان بالإمكان حينئذ جريان الاستصحاب لترتيب حكم القطع وان لم يكن للمستصحب اثر، وهذا معنى امكان قيامه مقام القطع الموضوعي دون الطريقي في بعض الموارد.
الثانية: - ان الاستصحاب يتقوم بان يكون المستصحب قابلا للتنجيز والتعذير، ولا يكفي مجرد ترتب الاثر على نفس التعبد الإستصحابي، ولا فرق في قابلية المستصحب للمنجزية والمعذرية بين ان تكون باعتباره حكما شرعيا، او عدم حكم شرعي، او موضوعا لحكم، او دخيلا في متعلق الحكم، كالاستصحابات الجارية لتنقيح شرط الواجب مثلا اثباتا ونفيا. ومدرك هذه الصيغة التي هي اضيق من الصيغة السابقة استظهار ذلك من نفس دليل الاستصحاب، لان مفاده النهي عن نقض اليقين بالشك، والنقض هنا ليس هو النقض الحقيقي لانه واقع لا محالة ولا معنى للنهي عنه، وانما هو النقض العملي، وفرض النقض العملي لليقين هو فرض ان اليقين بحسب طبعه له اقتضاء عملي لينقض عملا، والاقتضاء العملي لليقين انما يكون بلحاظ كاشفيته، وهذا يفترض ان يكون اليقين متعلقا بما هو صالح للتنجيز والتعذير لكي يشمله اطلاق دليل الاستصحاب.
وهذا البيان يتوقف على استظهار ارادة النقض العملي من النقض بقرينة تعلق النهى به، ولا يتم إذا استظهر عرفا إرادة النقض الحقيقي مع حمل النهي على كونه ارشادا إلى عدم امكان ذلك بحسب عالم الاعتبار، فان المولى قد ينهي عن شيء ارشادا إلى عدم القدرة عليه، كما يقال في (دعي الصلاة ايام أقرائك). غاية الامر ان الصلاة غير مقدورة للحائض حقيقة، والنقض غير مقدور للمكلف ادعاء واعتبارا لتعبد الشارع ببقاء اليقين السابق، وبناء على هذا الاستظهار يكون مفاد الدليل جعل الطريقية، ولا يلزم في تطبيقه على مورد تصوير النقض العملي والاقتضاء العملي، غير انه يكفي لتعين الصيغة الثانية في مقابل الاولى اجمال الدليل وتردده بين الاحتمالين الموجب للاقتصار على المتيقن منه والمتيقن ما تقرره الصيغة الثانية.
الثالثة: - ان الاستصحاب يتقوم بان يكون المستصحب حكما شرعيا او موضوعا لحكم شرعي، وهذه الصيغة اضيق من كلتا الصيغتين السابقتين، ومن هنا وقع الاشكال في كيفية جريان الاستصحاب على ضوء هذه الصيغة في متعلق الامر قيدا وجزءً - من قبيل استصحاب الطهارة مع ان قيد الواجب ليس حكما شرعيا ولا موضوعا يترتب عليه حكم شرعي لان الوجوب يترتب على موضوعه لا على متعلقه، وقد يدفع الاشكال بان ايجاد المتعلق مسقط للأمر فهو موضوع لعدمه فيجري استصحابه لإثبات عدم الامر وسقوطه، وهذا الدفع بحاجة من ناحية إلى توسعة المقصود من الحكم بجعله شاملا لعدم الحكم ايضا، وبحاجة من ناحية اخرى إلى التسليم بان ايجاد المتعلق مسقط لنفس الامر لا لفاعليته على ما تقدم.
والاولى في دفع الاشكال رفض هذه الصيغة الثالثة إذ لا دليل عليها سوى احد أمرين:
الاول: - ان المستصحب اذا لم يكن حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي كان اجنبيا عن الشارع فلا معنى للتعبد به شرعا. والجواب: عن ذلك ان التعبد الشرعي معقول في كل مورد ينتهي فيه إلى التنجيز والتعذير، وهذا لا يختص بما ذكر فان التعبد بوقوع الامتثال او عدمه ينتهي إلى ذلك ايضا.
الثاني: - ان مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل ظاهرا، فلا بد ان يكون المستصحب حكما شرعيا او موضوعا لحكم شرعي ليمكن جعل الحكم المماثل على طبقه. والجواب: عن ذلك انه لا موجب لاستفادة جعل الحكم المماثل بعنوانه من دليل الاستصحاب، بل مفاده النهي عن نقص اليقين بالشك اما بمعنى النهي عن النقض العملي بداعي تنجيز الحالة السابقة بقاء، واما بمعنى النهي عن النقض الحقيقي ارشادا إلى بقاء اليقين السابق او بقاء المتيقن السابق ادعاء، وعلى كل حال فلا يلزم ان يكون المستصحب حكما او موضوعا لحكم، بل ان يكون امرا قابلا للتنجيز والتعذير لكي يتعلق به التعبد على احد هذه الانحاء.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|