المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8186 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19

Naming Ketones
16-9-2019
رجع الصدى
27-7-2019
معنى كلمة عمد
17-12-2015
أساسيات التنبؤ الجوي
2024-09-29
Heronian Mean
29-6-2019
المعلومات الاحصائية - المادة السادسة والثلاثون - شروط المقاولة لأعمال الهندسة المدنية
2023-03-30


أدلة الاستصحاب  
  
1500   09:27 صباحاً   التاريخ: 23-8-2016
المؤلف : الشيخ محمد رضا المظفر
الكتاب أو المصدر : أصول الفقه
الجزء والصفحة : ج2 ص 251- 278.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / الاصول العملية / الاستصحاب /

الدليل الأول - بناء العقلاء لا شك في ان العقلاء من الناس على اختلاف مشاربهم وأذواقهم جرت سيرتهم في عملهم وتبانوا في سلوكهم العملي على الأخذ بالمتيقن السابق عند الشك اللاحق في بقائه. وعلى ذلك قامت معايش العباد، ولولا ذلك لاختل النظام الاجتماعي ولما قامت لهم سوق وتجارة. وقيل: ان ذلك مرتكز حتى في نفوس الحيوانات: فالطيور ترجع إلى أوكارها والماشية تعود إلى مرابضها. ولكن هذا التعميم للحيوانات محل نظر، بل ينبغي ان يعد من المهازل لعدم حصول الاحتمال عندها حتى يكون ذلك منها استصحابا، بل تجري في ذلك على وفق عادتها بنحو لا شعوري. وعلى كل حال، فان بناء العقلاء في عملهم مستقر على الأخذ بالحالة السابقة عند الشك في بقائها، في جميع أحوالهم وشؤونهم، مع الالتفات إلى ذلك والتوجه إليه. وإذا ثبتت هذه المقدمة ننتقل إلى مقدمة أخرى فنقول: ان الشارع من العقلاء بل رئيسهم فهو متحد المسلك معهم، فإذا لم يظهر منه الردع عن طريقتهم العملية يثبت على سبيل القطع انه ليس له مسلك آخر غير مسلكهم وإلا لظهر وبان ولبلغه الناس. وقد تقدم مثل ذلك في حجية خبر الواحد. وهذا الدليل - كما ترى - يتكون من مقدمتين قطعيتين:

 1 - ثبوت بناء العقلاء على إجراء الاستصحاب.

2 - كشف هذا البناء عن موافقة الشارع واشتراكه معهم.

 وقد وقعت المناقشة في المقدمتين معا. ويكفي في المناقشة ثبوت الاحتمال فيبطل به الاستدلال، لان مثل هذه المقدمات يجب ان تكون قطعية وإلا فلا يثبت بها المطلوب ولا تقوم بها للاستصحاب ونحوه حجة. أما (الأولى)، فقد ناقش فيها أستاذنا الشيخ النائيني رحمه الله: بأن بناء العقلاء لم يثبت الا فيما إذا كان الشك في الرافع، اما إذا كان الشك في المقتضى فلم يثبت منهم هذا البناء (على ما سيأتي من معنى المقتضى والرافع اللذين يقصدهما الشيخ الأنصاري). فيكون بناء العقلاء هذا دليلا على التفصيل المختار له وهو القول التاسع. ولا يبعد صحة ما أفاده من التفصيل في بناء العقلاء، بل يكفي احتمال اختصاص بنائهم بالشك في الرافع. ومع الاحتمال يبطل الاستدلال كما سبق. واما (المقدمة الثانية)، فقد ناقش فيها شيخنا الآخوند في الكفاية بوجهين نذكرهما ونذكر الجواب عنهما:

(أولا) - ان بناء العقلاء لا يستكشف منه اعتبار الاستصحاب عند الشارع الا إذا أحرزنا ان منشأ بنائهم العملي هو التعبد بالحالة السابقة من قبلهم، أي أنهم يأخذون بالحالة السابقة من أجل انها سابقة، لنستكشف منه تعبد الشارع. ولكن ليس هذا بمحرز منهم إذا لم يكن مقطوع العدم، فانه من الجائز قريبا ان أخذهم بالحالة السابقة لا لأجل انها حالة سابقة بل لأجل رجاء تحصيل الواقع مرة، أو لأجل الاحتياط أخرى، أو لأجل اطمئنانهم ببقاء ما كان ثالثة، أو لأجل ظنهم بالبقاء ولو نوعا رابعة، أو لأجل غفلتهم عن الشك أحيانا خامسة. وإذا كان الأمر كذلك فلم يحرز تعبد الشارع بالحالة السابقة الذي هو النافع في المقصود.

 والجواب: ان المقصود النافع من ثبوت بناء العقلاء هو ثبوت تبانيهم العملي على الأخذ بالحالة السابقة، وهذا ثابت عندهم من غير شك، أي ان لهم قاعدة عملية تبانوا عليها ويتبعونها أبدا مع الالتفات والتوجه إلى ذلك، أما فرض الغفلة من بعضهم أحيانا فهو صحيح ولكن لا يضر في ثبوت التباني منهم دائما مع الالتفات. ولا يضر في استكشاف مشاركة الشارع معهم في تبانيهم اختلاف أسباب التباني عندهم من جهة مجرد الكون السابق أو من جهة الاطمئنان عندهم أو الظن لأجل الغلبة أو لأي شيء آخر من هذا القبيل، فهي قاعدة ثابتة عندهم فتكون ثابتة أيضا عند الشارع ولا يلزم ان يكون ثبوتها عنده من جميع الأسباب التي لاحظوها. وإذا ثبتت عند الشارع فليس ثبوتها عنده الا التعبد بها من قبله فتكون حجة على المكلف وله. نعم احتمال كون السبب في بنائهم ولو أحيانا رجاء تحصيل الواقع أو الاحتياط من قبلهم قد يضر في استكشاف ثبوتها عند الشارع كقاعدة لأنها لا تكون عندهم كقاعدة لأجل الحالة السابقة، ولكن الرجاء بعيد جدا من قبلهم ما لم يكن هناك عندهم اطمئنان أو ظن أو تعبد بالحالة السابقة لاحتمال ان الواقع غير الحالة السابقة، بل قد يترتب على عدم البقاء أغراض مهمة فالبناء على البقاء خلاف الرجاء. وكذلك الاحتياط قد يقتضى البناء على عدم البقاء. فهذه الاحتمالات ساقطة في كونها سببا لتباني العقلاء ولو أحيانا.

(ثانيا) - بعد التسليم بأن منشأ بناء العقلاء هو التعبد ببقاء ما كان نقول: ان هذا لا يستكشف منه حكم الشارع الا إذا احرزنا رضاه ببنائهم وثبت لدينا انه ماض عنده. ولكن لا دليل على هذا الرضا وإلامضاء، بل ان عمومات الآيات والأخبار الناهية عن أتباع غير العلم كافية في الردع عن أتباع بناء العقلاء. وكذلك ما دل على البراءة وإلاحتياط في الشبهات. بل احتمال عمومها للمورد كاف في تزلزل اليقين بهذه المقدمة. فلا وجه لأتباع هذا البناء، إذ لا بد في أتباعه من قيام الدليل على انه ممضي من قبل الشارع. ولا دليل. والجواب ظاهر من تقريبنا للمقدمة الثانية على النحو الذي بيناه، فانه لا يجب في كشف موافقة الشارع إحراز امضائه من دليل آخر، لان نفس بناء العقلاء هو الدليل والكاشف عن موافقته كما تقدم. فيكفي في المطلوب عدم ثبوت الردع ولا حاجة إلى دليل آخر على إثبات رضاه وامضائه. وعليه، فلم يبق علينا الا النظر في الآيات والأخبار الناهية عن أتباع غير العلم في انها صالحة للردع المقام أو غير صالحة؟ والحق انها غير صالحة، لان المقصود من النهي عن أتباع غير العلم هو النهي عنه لإثبات الواقع به، وليس المقصود من الاستصحاب إثبات الواقع، فلا يشمل هذا النهي الاستصحاب الذي هو قاعدة كلية يرجع إليها عند الشك، فلا ترتبط بالموضوع الذي نهت عنه الآيات والأخبار حتى تكون شاملة لمثله، أي ان الاستصحاب خارج عن الآيات والأخبار تخصصا. واما ما دل على البراءة أو الاحتياط فهو في عرض الدليل على الاستصحاب فلا يصلح للردع عنه لان كلا منهما موضوعه الشك، بل أدلة الاستصحاب مقدمة على أدلة هذه الأصول كما سيأتي.

الدليل الثاني - حكم العقل والمقصود منه هنا هو حكم العقل النظري لا العملي، إذ يذعن بالملازمة بين العلم بثبوت الشيء في الزمان السابق وبين رجحان بقائه في الزمان اللاحق عند الشك ببقائه. أي انه إذا علم الإنسان بثبوت شيء في زمان ثم طرأ ما يزلزل العلم ببقائه في الزمان اللاحق فان العقل يحكم برجحان بقائه وبانه مظنون البقاء. وإذا حكم العقل برجحان البقاء فلا بد ان يحكم الشرع أيضا برجحان البقاء. والى هذا يرجع ما نقل عن العضدي في تعريف الاستصحاب (بأن معناه ان الحكم الفلاني قد كان ولم يعلم عدمه وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء). أقول: وهذا حكم العقل لا ينهض دليلا على الاستصحاب على ما سنشرحه، والظاهر ان القدماء القائلين بحجيته لم يكن عندهم دليل عليه غير هذا الدليل، كما يظهر جليا من تعريف العضدي المتقدم، إذ أخذ فيه نفس حكم العقل هذا، ولعله لأجل هذا أنكره من أنكره من قدماء أصحابنا إذ لم يتنبهوا إلى ادلته الأخرى على ما يظهر، فانه أول من تمسك ببناء العقلاء العلامة الحلي في النهاية، وأول من تمسك بالأخبار الشيخ عبد الصمد والد الشيخ البهائي وتبعه صاحب الذخيرة وشارح الدروس وشاع بين من تأخر عنهم، كما حقق ذلك الشيخ الأنصاري في رسائله في الأمر الأول من مقدمات الاستصحاب، ثم قال: (نعم ربما يظهر من الحلي في السرائر الاعتماد على هذه الأخبار حيث عبر عن استصحاب نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره من قبل نفسه بنقض اليقين باليقين. وهذه العبارة ظاهرة انها مأخوذة من الأخبار). وعلى كل حال فهذا الدليل العقلي فيه مجال للمناقشة من وجهين:

(الأول) في أصل الملازمة العقلية المدعاة. ويكفي في تكذيبها الوجدان، فانا نجد ان كثيرا ما يحصل العلم بالحالة السابقة ولا يحصل الظن ببقائها عند الشك لمجرد ثبوتها سابقا.

(الثاني) على تقدير تسليم هذه الملازمة، فان أقصى ما يثبت بها حصول الظن بالبقاء، وهذا الظن لا يثبت به حكم الشرع الا بضميمة دليل آخر يدل على حجية هذا الظن بالخصوص ليستثني مما دل على حرمة التعبد بالظن. والشأن كل الشأن في إثبات هذا الدليل. فلا تنهض هذه الملازمة العقلية على تقديرها دليلا بنفسها على الحكم الشرعي. ولو كان هناك دليل على حجية هذا الظن بالخصوص لكان هو الدليل على الاستصحاب لا الملازمة وانما تكون الملازمة محققة لموضوعه. ثم ما المراد من قولهم: ان الشارع يحكم برجحان البقاء على طبق حكم العقل، فانه على إطلاقه موجب للأيهام والمغالطة، فانه ان كان المراد انه يظن بالبقاء كما يظن سائر الناس فلا معنى له. وان كان المراد انه يحكم بحجية هذا الرجحان فهذا لا تقتضيه الملازمة بل يحتاج إثبات ذلك إلى دليل آخر كما ذكرنا. وان كان المراد انه يحكم بأن البقاء مظنون وراجح عند الناس، أي يعلم بذلك، فهذا وان كان تقتضيه الملازمة ولكن هذا المقدار غير نافع ولا يكفي وحده في إثبات المطلوب، إذ لا يكشف مجرد علمه بحصول الظن عند الناس عن اعتباره لهذا الظن ورضاه به. والنافع في الباب إثبات هذا الاعتبار من قبله للظن لا حكمه بأن هذا الشيء مظنون البقاء عند الناس.

الدليل الثالث - الإجماع نقل جماعة الاتفاق على اعتبار الاستصحاب منهم صاحب المبادئ على ما نقل عنه، إذ قال: (الاستصحاب حجة لإجماع الفقهاء على انه متى حصل حكم ثم وقع الشك في انه طرأ ما يزيله أم لا وجب الحكم ببقائه على ما كان أولا). أقول: ان تحصيل الإجماع في هذه المسألة مشكل جدا، لوقوع الاختلافات الكثيرة فيها كما سبق الا ان يراد منه حصول الإجماع في الجملة عن نحو الموجبة الجزئية في مقابل السلب الكلي وهذا الإجماع بهذا المقدار قطعي. ألا ترى ان الفقهاء في مسألة من تيقن بالطهارة وشك في الحدث أو الخبث قد اتفقت كلمتهم من زمن الشيخ الطوسي بل من قبله إلى زماننا الحاضر على ترتيب آثار الطهارة السابقة بلا نكير منهم، وكذا في كثير من المسائل مما هو نظير ذلك. ومعلوم ان فرض كلامهم في مورد الشك اللاحق لا في مورد الشك الساري، فلا يكون حكمهم بذلك من جهة قاعدة اليقين، بل ولا من جهة قاعدة المقتضي والمانع. والحاصل ان هذا ومثله يكفي في الاستدلال على اعتبار الاستصحاب في الجملة في مقابل السلب الكلي، وهو قطعي بهذا المقدار. ويمكن حمل قول منكر الاستصحاب مطلقا على إنكار حجيته من طريق الظن لا من أي طريق كان، في مقابل من قال بحجيته لأجل تلك الملازمة العقلية المدعاة. نعم دعوى الإجماع على حجية مطلق الاستصحاب أو في خصوص ما إذا كان الشك في الرافع في غاية الإشكال، بعدما عرفت من تلك الأقوال.

الدليل الرابع - الأخبار وهي العمدة في إثبات الاستصحاب وعليها التعويل، وإذا كانت أخبار آحاد فقد تقدم حجية خبر الواحد، مضافا إلى انها مستفيضة ومؤيدة بكثير من القرائن العقلية والنقلية. وإذا كان الشيخ الأنصاري قد شك فيها بقوله: (هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار المستدل بها للاستصحاب، وقد عرفت عدم ظهور الصحيح منها وعدم صحة الظاهر منها)، فانها في الحقيقة هي جل اعتماده في مختاره، وقد عقب هذا الكلام بقوله: (فلعل الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد)، ثم أيدها بالأخبار الواردة في الموارد الخاصة. وعلى كل حال، فينبغي النظر فيها لمعرفة حجيتها ومدى دلالتها، ولنذكرها واحدة واحدة، فنقول:

 1 - صحيحة زرارة الأولى وهي مضمرة لعدم ذكر الإمام المسؤول فيها، ولكنه كما قال الشيخ الأنصاري لا يضرها الاضمار، والوجه في ذلك ان زرارة لا يروي عن غير الإمام لا سيما مثل هذا الحكم بهذا البيان، والمنقول عن فوائد العلامة الطباطبائي ان المقصود به الإمام الباقر عليه السلام. (قال زرارة: قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال يا زرارة؟ قد تنام العين ولا ينام القلب والإذن، فإذا نامت العين والإذن فقد وجب الوضوء. قلت: فان حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟ قال: لا! حتى يستيقن انه نام. حتى يجئ من ذلك أمر بين. وإلا فانه على يقين من وضوئه. ولا ينقض اليقين بالشك أبدا، ولكنه ينقضه بيقين آخر). ونذكر في هذه الصحيحة بحثين:

(الأول) - في فقهها. ولا يخفى ان فيها سؤالين (أولهما) عن شبهة مفهومية حكمية لغرض معرفة سعة موضوع النوع من جهة كونه ناقضا للوضوء، إذ لا شك في انه ليس المقصود السؤال عن معنى النوم لغة ولا عن كون الخفقة أو الخفقتين ناقضة للوضوء على نحو الاستقلال في مقابل النوم. فينحصر ان يكون مراده - والجواب قرينة على ذلك أيضا - هو السؤال عن شمول النوم الناقص للخفقة والخفقتين، مع علم السائل بأن النوم في نفسه له مراتب تختلف شدة وضعفا ومنه الخفقة والخفقتان، ومع علمه بأن النوم ناقض للوضوء في الجملة. فلذلك اجاب الإمام بتحديد النوم الناقض وهو الذي تنام فيه العين والإذن معا. اما ما تنام فيه العين دون القلب والإذن كما في الخفقة والخفقتين فليس ناقضا. وأما السؤال

 (الثاني) فهو - لا شك - عن الشبهة الموضوعية بقرينة الجواب، لأنه لو كان مراد السائل الاستفهام عن مرتبة أخرى من النوم التي لا يحس معها بما يتحرك في جنبه، لكان ينبغي ان يرفع الإمام شبهته بتحديد آخر للنوم الناقض. ولو كانت شبهة السائل شبهة مفهومية حكمية لما كان معنى لفرض الشك في الحكم الواقعي في جواب الإمام ثم إجراء الاستصحاب، ولما صح ان يفرض الإمام استيقان السائل بالنوم تارة وعدم استيقانه أخرى، لان الشبهة لو كانت مفهومية حكمية لكان السائل عالما بان هذه المرتبة هي من النوم، ولكن يجهل حكمها كالسؤال الأول. وإذا كان الأمر كذلك فالجواب الأخير إذا كان متضمنا لقاعدة الاستصحاب كما سيأتي فموردها يكون حينئذ خصوص الشبهة الموضوعية، فيقال حينئذ: لا يستكشف من إطلاق الجواب عموم القاعدة للشبهة الحكمية الذي يهمنا بالدرجة الأولى إثباته، إذ يكون المورد من قبيل القدر المتيقن في مقام التخاطب، وقد تقدم في الجزء الأول ان ذلك يمنع من التمسك بالإطلاق وان لم يكن صالحا للقرينية، لما هو المعروف ان المورد لا يخصص العام ولا يقيد المطلق. نعم قد يقال في الجواب: ان كلمة (أبدا) لها من قوة الدلالة على العموم وإلاطلاق مالا يحد منها القدر المتيقن في مقام التخاطب، فهي تعطي في ظهورها القوي ان كل يقين مهما كان متعلقه وفي أي مورد كان لا ينقض بالشك أبدا.

 (الثاني) في دلالتها على الاستصحاب.

وتقريب الاستدلال بها ان قوله (عليه السلام): (فانه على يقين من وضوئه) جملة خبرية هي جواب الشرط (1) ومعنى هذه الجملة الشرطية: انه ان لم يستيقن بانه قد نام فانه باق على يقين من وضوئه، أي انه لم يحصل ما يرفع اليقين به وهو اليقين بالنوم. وهذه مقدمة تمهيدية وتوطئة لبيان ان الشك ليس رافعا لليقين وإنما الذي يرفعه اليقين بالنوم، وليس الغرض منها إلا بيان انه على يقين من وضوئه، ليقول ثانيا انه لا ينبغي ان يرفع اليد عن هذا اليقين إذ لا موجب لانحلاله ورفع اليد عنه إلا الشك الموجود، والشك بما هو شك لا يصلح ان يكون رافعا وناقضا لليقين، وانما ينقض اليقين اليقين لا غير. فقوله: (وإلا فانه علي يقين من وضوئه) بمنزلة الصغرى، وقوله (ولا ينقض اليقين بالشك أبدا) بمنزلة الكبرى. وهذه الكبرى مفادها قاعدة الاستصحاب، وهي البناء على اليقين السابق وعدم نقضه بالشك اللاحق. فيفهم منها ان كل يقين سابق لا ينقضه الشك اللاحق. هذا وقد وقعت المناقشة في الاستدلال بهذه الصحيحة من عدة وجوه: (منها) - ما أفاده الشيخ الأنصاري إذ قال: (ولكن مبنى الاستدلال على كون اللام في اليقين للجنس، إذ لو كانت للعهد لكانت الكبرى المنضمة إلى الصغرى (ولا ينقض اليقين بالوضوء بالشك) فيفيد قاعدة كلية في باب الوضوء) إلى آخر ما أفاده، ولكنه استظهر أخيرا كون اللام للجنس. أقول: ان كون اللام للعهد يقتضي ان يكون المراد من اليقين في الكبرى شخص اليقين المتقدم فان هذا هو معنى العهد. وعليه فلا تفيد قاعدة كلية حتى في باب الوضوء. ومنه يتضح غرابة احتمال إرادة العهد من اللام بل ذلك مستهجن جدا، فان ظاهر الكلام هو تطبيق كبرى على صغرى لا سيما مع إضافة كلمة (أبدا). فيتعين ان تكون اللام للجنس. ولكن مع ذلك هذا وحده غير كاف في التعميم لكل يقين حتى في غير الوضوء، لإمكان ان يراد جنس اليقين بالوضوء بقرينة تقييده في الصغرى به لا كل يقين فيكون ذلك من قبيل القدر المتيقن في مقام التخاطب، فيمنع من التمسك بالإطلاق، كما سبق نظيره. وهذا الاحتمال لا ينافي كون الكبرى كلية غاية الأمر تكون كبرى كلية خاصة بالوضوء. فيتضح ان مجرد كون اللام للجنس لا يتم به الاستدلال مع تقدم ما يصلح للقرينة، ولعل هذا هو مراد الشيخ من التعبير بالعهد، ومقصوده تقدم القرينة، فكان ذلك تسامحا في التعبير. وعلى كل حال، فالظاهر من الصحيحة ظهورا قويا: إرادة مطلق اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء، وذلك لمناسبة الحكم والموضوع، فان المناسب لعدم النقض بالشك بما هو شك هو اليقين بما هو يقين، لا بما هو يقين بالوضوء، لان المقابلة بين الشك واليقين واسناد عدم النقض إلى الشك تجعل اللفظ كالصريح في ان العبرة في عدم جواز النقض هو جهة اليقين بما هو يقين لا اليقين المقيد بالوضوء من جهة كونه مقيدا بالوضوء. ولا يصلح ذكر قيد (من وضوئه) في الصغرى ان يكون قرينة على التقييد في الكبرى ولا أن يكون من قبيل القدر المتيقن في مقام التخاطب، لان طبيعة الصغرى ان تكون في دائرة اضيق من دائرة الكبرى ومفروض المسألة في الصغرى باب الوضوء فلا بد من ذكره. وعليه، فلا يبعد ان مؤدى الصغرى هكذا (فانه من وضوئه على يقين) فلا تكون كلمة (من وضوئه) قيد لليقين، يعني ان الحد الأوسط المتكرر هو (اليقين) لا (اليقين من وضوئه). و (منها) - ان الوضوء أمر آني متصرم ليس له استمرار في الوجود وانما الذي إذا ثبت استدام هو أثره وهو الطهارة، ومتعلق اليقين في الصحيحة هو الوضوء لا الطهارة، ومتعلق الشك هو المانع من استمرار الطهارة أثر المتيقن، فيكون الشك في استمرار أثر المتيقن لا المتيقن نفسه. وعليه فلا يكون متعلق اليقين نفس متعلق الشك، فانخرم الشرط الخامس في الاستصحاب، ويكون ذلك موردا لقاعدة المقتضي والمانع. فتكون الصحيحة دليلا عليه لا على الاستصحاب. (وفيه) ان الجمود على لفظ الوضوء يوهم ذلك، ولكن المتعارف من مثل هذا التعبير في لسان الأخبار إرادة الطهارة التي هي أثر له بإطلاق السبب وإرادة المسبب، ونفس صدر الصحيحة (الرجل ينام وهو على وضوء) يشعر بذلك. فالمتبادر والظاهر من قوله (فانه على يقين من وضوئه) انه متيقن بالطهارة المستمرة لولا الرافع لها، والشك انما هو في ارتفاعها للشك في وجود الرافع. فيكون متعلق اليقين نفس متعلق الشك. فما ابعدها عن قاعدة المقتضى والمانع. و (منها) - ما أفاده الشيخ الأنصاري في مناقشة جميع الأخبار العامة المستدل بها على حجية مطلق الاستصحاب، واستنتج من ذلك انها مختصة بالشك في الرافع، فيكون الاستصحاب حجة فيه فقط، قال رحمه الله: (فالمعروف بين المتأخرين الاستدلال بها على حجية الاستصحاب في جميع الموارد، وفيه تأمل قد فتح بابه المحقق الخونساري في شرح الدروس). وسيأتي ان شاء الله تعالى في آخر الأخبار بيان هذه المناقشة ونقدها.

 2 - صحيحة زرارة الثانية وهي مضمرة أيضا كالسابقة. (قال زرارة: قلت له: اصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني فعلمت أثره إلى ان اصيب له الماء، فحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئا وصليت ثم اني ذكرت بعد ذلك؟ قال: تعيد الصلاة وتغسله. قلت: فان لم اكن رأيت موضعه وعلمت انه اصابه فطلبته ولم اقدر عليه، فلما صليت وجدته؟ قال: تغسله وتعيد.

قلت: فان ظننت انه اصابه ولم اتيقن، فنظرت ولم أر شيئا، فصليت فيه، فرأيت فيه؟ قال: تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت: لم ذلك؟ قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت. وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا. قلت: فاني قد علمت انه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟

قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد اصابها، حتى تكون على يقين من طهارتك. قلت: فهل علي ان شككت انه اصابه شيء أن انظر فيه؟ قال: لا! ولكنك انما تريد ان تذهب بالشك الذي وقع في نفسك. قلت: ان رأيته في ثوبي وانا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته، ثم بنيت على الصلاة، لأنك لا تدري لعله شيء اوقع عليك، فليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك) الحديث.

وإلاستدلال بهذه الصحيحة للمطلوب في فقرتين منها، بل قيل في ثلاث:

(الأولى) - قوله: (لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت.) الخ بناء على ان المراد من اليقين بالطهارة هو اليقين بالطهارة الواقع قبل الظن الإصابة بالنجاسة. وهذا المعنى هو الظاهر منها. ويحتمل بعيدا ان يراد منه اليقين بالطهارة الواقع بعد ظن الإصابة وبعد الفحص عن النجاسة، إذ قال: (فنظرت ولم أر شيئا)، على أن يكون قوله (ولم أر شيئا) عبارة أخرى عن اليقين بالطهارة. وعلى هذا الاحتمال يكون مفاد الرواية قاعدة اليقين لا الاستصحاب، لأنه يكون حينئذ مفاد قوله (فرأيت فيه) تبدل اليقين بالطهارة باليقين بالنجاسة. ووجه بعد هذا الاحتمال ان قوله (ولم أر شيئا) ليس فيه أي ظهور بحصول اليقين بالطهارة بعد النظر والفحص.

(الثانية) - قوله أخيرا: (فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك) ودلالتها كالفقرة الأولى ظاهرة على ما تقدم في الصحيحة الأولى من ظهور كون اللام في اليقين لجنس اليقين بما هو يقين. وهذا المعنى هنا اظهر مما هو في الصحيحة الأولى.

(الثالثة) - قوله: (حتى تكون على يقين من طهارتك)، فانه عليه السلام إذ جعل الغاية حصول اليقين بالطهارة من غسل الثوب في مورد سبق العلم بنجاسته، يظهر منه انه لو لم يحصل اليقين بالطهارة فهو محكوم بالنجاسة لمكان سبق اليقين بها. ولكن الاستدلال بهذه الفقرة مبني على ان إحراز الطهارة ليس شرطا في الدخول في الصلاة، وإلا لو كان الإحراز شرطا فيحتمل ان يكون عليه السلام انما جعل الغاية حصول اليقين بالطهارة لأجل إحراز الشرط المذكور، لا لأجل التخلص من جريان استصحاب النجاسة. فلا يكون لها ظهور في الاستصحاب.

 3 - صحيحة زرارة الثالثة (قال زرارة: قلت له (أي الباقر أو الصادق عليهما السلام): من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين وقد احرز الثنتين؟

 قال: يركع بركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب، ويتشهد، ولا شيء عليه. وإذا لم يدر ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث - قام فأضاف إليها أخرى، ولا شيء عليه. ولا ينقض اليقين بالشك. ولا يدخل الشك في اليقين. ولا يخلط أحدهما بالآخر. ولكن ينقض الشك باليقين. ويتم على اليقين فيبني عليه. ولا يعتد بالشك في حال من الحالات).

وجه الاستدلال بها - على ما قيل - انه في الشك بين الثلاث وإلاربع وقد احرز الثلاث يكون قد سبق منه اليقين بعدم الإتيان بالرابعة، فيستصحب. ولذلك وجب عليه ان يضيف إليها رابعة، لأنه لا يجوز نقض اليقين بالشك، بل لا بد ان ينقضه باليقين بإتيان الرابعة فينقض شكه باليقين. وتكون هذه الفقرات الست كلها تأكيدا على قاعدة الاستصحاب. وقد تأمل الشيخ الأنصاري في هذا الاستدلال، لأنه انما يتم إذا كان المراد بقوله (قام فأضاف إليها أخرى) القيام للركعة الرابعة من دون تسليم في الركعة المرددة بين الثالثة والرابعة حتى يكون حاصل جواب الإمام البناء على الأقل. ولكن هذا مخالف للمذهب وموافق لقول العامة، بل مخالف لظاهر الفقرة الأولى وهي قوله (ركع بركعتين وهو قائم بفاتحة الكتاب) فانها ظاهرة بسبب تعيين ألفاتحة في إرادة ركعتين منفصلتين، اعني صلاة الاحتياط. وعليه، فيتعين ان يكون المراد به القيام بعد التسليم في الركعة المرددة إلى ركعة مستقلة منفصلة. وإذا كان الأمر كذلك فيكون المراد من اليقين في جميع الفقرات اليقين بالبراءة والحاصل من الاحتياط بإتيان الركعة. فتكون الفقرات الست واردة لبيان وجوب الاحتياط وتحصيل اليقين بفراغ الذمة. وهذا أجنبي عن قاعدة الاستصحاب. أقول: هذا خلاصة ما أفاده الشيخ، ولكن حمل الفقرة الأولى (ولا ينقض اليقين بالشك) على إرادة اليقين ببراءة الذمة والحاصل من الأخذ بالاحتياط بعيدا جدا عن مساقها، بل أبعد من البعيد، لان ظاهر هذا التعبير بل صريحه فرض حصول اليقين ثم النهي عن نقضه في فرض حصوله، بينما ان اليقين بالبراءة انما المطلوب تحصليه وهو غير حاصل، فكيف يصح حمل هذه الجملة على الأمر بتحصيله. فلا بد ان يراد اليقين بشيء آخر غير البراءة. وعليه، فمن القريب جدا ان يراد من اليقين اليقين بوقوع الثلاث وصحتها كما هو مفروض المسألة بقوله: (وقد احرز الثلاث) - لا اليقين بعدم الإتيان برابعة كما تصوره هذا المستدل حتى يرد عليه ما أفاده الشيخ - وحينئذ فلو اراد المكلف ان يعتد بشكه فقد نقض اليقين بالشك، واعتداده بشكه بأحد أمور ثلاثة: إما بإبطال الصلاة واعادتها رأسا، واما بالأخذ باحتمال نقصانها فيكملها برابعة كما هو مذهب العامة، وأما بالأخذ باحتمال كمالها بالبناء على الأكثر فيسلم على المشكوكة من دون إتيان برابعة متصلة وخلط أحدهما بالآخر. ولأجل هذا عالج الإمام عليه السلام صلاة هذا الشاك لأجل المحافظة على يقينه بالثلاث وعدم نقضه بالشك، وذلك بأن أمره بالقيام وإضافة ركعة أخرى، ولا بد انها مفصولة، ويفهم كونها مفصولة من صدر الرواية (ركع بركعتين وهو قائم بفاتحة الكتاب) فان اسلوب العلاج لا بد ان يكون واحدا في الفرضين، مضافا إلى ان ذلك يفهم من تأكيد الإمام بان لا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر لأنه بإضافة ركعة متصلة يقع الخلط وإدخال الشك في اليقين. وعليه، فتكون الرواية دالة على قاعدة الاستصحاب من جهة، ولكن المقصود فيها استصحاب وقوع الثلاث صحيحة، كما انها تكون دالة على علاج حالة الشك الذي لا يجوز نقض اليقين به من جهة أخرى، وذلك بأمره بالقيام وإضافة ركعة منفصلة لتحصيل اليقين بصحة الصلاة لأنها ان كانت ثلاثا فقد جاء بالرابعة وان كانت أربعا تكون الركعة المنفصلة نفلا. ومنه يعلم ان المراد من اليقين في الفقرتين الرابعة والخامسة (ولكنه ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين ويبني عليه) غير اليقين من الفقرات الأولى فان المراد به هناك اليقين بوقوع الثلاث صحيحة والمراد به في هاتين الفقرتين اليقين بالبراءة، لأنه بإتيان ركعة منفصلة يحصل له اليقين ببراءة الذمة فيكون ذلك نقضا للشك باليقين الحادث من الاحتياط. ويفهم هذا التفصيل من المراد باليقين من الاستدراك وهو قوله (ولكنه) فانه بعد ان نهى عن نقض اليقين بالشك ذكر العلاج بقوله (لكنه) فهو أمر بنقض الشك باليقين والإتمام على اليقين والبناء عليه، ولا يتصور ذلك الا بإتيان ركعة منفصلة. ولا يجب - كما قيل - ان يكون المراد من اليقين في جميع الفقرات معنى واحدا بل لا يصح ذلك فان اسلوب الكلام لا يساعد عليه، فان الناقض للشك يجب ان يكون غير الذي ينقضه الشك. والحاصل ان الرواية تكون خلاصة معناها النهي عن الإبطال والنهي على الركون إلى ما تذهب إليه العامة من البناء على الأقل والنهي عن البناء على الأكثر مع عدم الإتيان بركعة منفصلة. ثم تضمنت الأمر بعد ذلك بما يؤدي معنى الأخذ بالاحتياط بالإتيان بركعة منفصلة لأنه بهذا يتحقق نقض الشك باليقين والإتمام على اليقين والبناء عليه. وعلى هذا، فالرواية تتضمن قاعدة الاستصحاب وتنطبق أيضا على باقي الروايات المبينة لمذهب الخاصة، وان كانت ليست ظاهرة فيه على وجه تكون بيانا لمذهب الخاصة، ولكن صدرها يفسرها. ويظهر أن الإمام عليه السلام أوكل الحكم وتفصيله إلى معروفية هذا الحكم عند السائل والى فهمه وذوقه ، وانما اراد ان يؤكد على سر هذا الحكم والرد على من يرى خلافه الذي فيه نقض لليقين بالشك وعدم الأخذ باليقين.

 4 - رواية محمد بن مسلم محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: (من كان على يقين فشك، فليمض على يقينه، فان الشك لا ينقض اليقين). وفي رواية أخرى عنه عليه السلام بهذا المضمون: (من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه، فان اليقين لا يدفع بالشك). استدل بعضهم بهذه الرواية على الاستصحاب مدعيا ظهورها فيه. ولكن الذي نراه انها غير ظاهرة فيه، فان القدر المسلم منها انها صريحة في ان مبدأ حدوث الشك بعد حدوث اليقين من أجل كلمة ألفاء التي تدل على الترتيب. غير ان هذا القدر من البيان يصح ان يراد منه قاعدة اليقين ويصح ان يراد منه قاعدة الاستصحاب، إذ يجوز ان يراد ان اليقين قد زال بحدوث الشك فيتحد زمان متعلقهما فتكون موردا للقاعدة الأولى، ويجوز ان يراد ان اليقين قد بقى إلى زمان الشك فيختلف زمان متعلقهما فتكون موردا للاستصحاب وليس في الرواية ظهور في أحدهما بالخصوص (2)، وان قال الشيخ الأنصاري: انها ظاهرة في وحدة زمان متعلقهما، ولذلك قرب ان تكون دالة على قاعدة اليقين، وقال الشيخ الآخوند: انها ظاهرة في اختلاف زمان متعلقهما، فقرب ان تكون دالة على الاستصحاب. وقد ذكر كل منهما تقريبات لما استظهره لا نراها ناهضة على مطلوبهما.

وعليه فتكون الرواية مجملة من هذه الناحية، الا إذا جوزنا الجمع في التعبير بين القاعدتين وحينئذ تدل عليهما معا، يعني انها تدل على ان اليقين بما هو يقين لا يجوز نقضه بالشك سواء كان ذلك اليقين هو المجامع للشك أو غير المجامع له، وقيل: انه لا يجوز الجمع في التعبير بين القاعدتين لأنه يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو مستحيل. وسيأتي ان شاء الله تعالى ما ينفع في المقام. نعم يمكن دعوى ظهورها في الاستصحاب بالخصوص، بان يقال - كما قربه بعض اساتذتنا -: ان الظاهر في كل كلام هو اتحاد زمان النسبة مع زمان الجري، فقوله عليه السلام: (فليمض على يقينه) يكون ظاهرا في ان زمان نسبة وجوب المضي على اليقين نفس زمان حصول اليقين. ولا ينطبق ذلك الا على الاستصحاب لبقاء اليقين في مورده محفوظا إلى زمان العمل به. واما قاعدة اليقين فان موردها الشك الساري فيكون اليقين في ظرف وجوب العمل به معدوما. ولعله من أجل هذا الظهور استظهر من استظهر دلالة الرواية على الاستصحاب.

 5 - مكاتبة علي بن محمد القاساني قال: كتبت إليه - وانا بالمدينة - عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب: اليقين لا يدخله الشك. صم للرؤية وافطر للرؤية. قال الشيخ الأنصاري: (والإنصاف ان هذه الرواية اظهرها في هذا الباب، الا ان سندها غير سليم). وذكر في وجه دلالتها: (ان تفريع تحديد كل من الصوم والافطار على رؤية هلالي رمضان وشوال لا يستقيم الا بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولا بالشك، أي مزاحما به). وقد اورد عليه صاحب الكفاية بما محصله مع توضيح منا: انا نمنع من ظهور هذه الرواية في الاستصحاب فضلا عن أظهريتها، نظر إلى ان دلالتها عليه تتوقف على أن يراد من اليقين اليقين بعدم دخول رمضان وعدم دخول شوال، ولكن ليس من البعيد ان يكون المراد به اليقين بدخول رمضان المنوط به وجوب الصوم واليقين بدخول شوال المنوط به وجوب الافطار. ومعنى انه لا يدخله الشك انه لا يعطي حكم اليقين للشك ولا ينزل منزلته، بل المدار في وجوب الصوم والافطار على اليقين فقط، فانه وحده هو المناط في وجوبهما، أي ان الصوم والافطار يدوران مداره. ولذا قال بعده: (صم للرؤية وافطر للرؤية) مؤكدا لاشتراط وجوب الصوم والافطار باليقين. وهذا المضمون دلت عليه جملة من الأخبار بقريب من هذا التعبير مما يقرب ارادته من هذه الرواية ويؤكده. ولا بأس في ذكر بعض هذه الأخبار لتتضح موافقتها لهذه الرواية:

(منها) قول أبي جعفر عليه السلام: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا. وليس بالرأي ولا بالتظني، ولكن بالرؤية). و (منها): صم للرؤية وافطر للرؤية. واياك والشك والظن. فان خفى عليكم فأتموا الشهر الأول ثلاثين. و (منها): صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظن.

مدى دلالة الأخبار:  

ان تلك الأخبار العامة المتقدمة هي أهم ما استدل به للاستصحاب. وهناك أخبار خاصة تؤيدها. ذكر بعضها الشيخ الأنصاري، ونحن نذكر واحدة منها للاستئناس، وهي رواية عبد الله بن سنان الواردة فيمن يعير ثوبه الذمي وهو يعلم انه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير. قال: فهل علي أن اغسله؟ فقال: لا! لانك أعرته اياه وهو طاهر، ولم تستيقن انه نجسه. قال الشيخ: (وفيها دلالة واضحة على أن وجه البناء على الطهارة وعدم وجوب غسله هو سبق طهارته وعدم العلم بارتفاعها). والمهم لنا ان نبحث الآن عن مدى دلالة تكلم الأخبار من جهة بعض التفصيلات المهمة في الاستصحاب، فنقول:

1- التفصيل بين الشبهة الحكمية والموضوعية: إن المنسوب إلى الأخباريين اعتبار الاستصحاب في خصوص الشبهة الموضوعية، وأما الشبهات الحكمية مطلقا فعلى القاعدة عندهم من وجوب الرجوع إلى قاعدة الاحتياط. وعلل ذلك بعضهم بان أخبار الاستصحاب لا عموم لها ولا إطلاق يشمل الشبهة الحكمية، لان القدر المتيقن منها خصوص الشبهة الموضوعية، لا سيما ان بعضها وارد في خصوصها، فلا تعارض أدلة الاحتياط. ولكن الإنصاف ان لأخبار الاستصحاب من قوة الإطلاق والشمول ما يجعلها ظاهرة في شمولها للشبهة الحكمية، ولا سيما ان أكثرها وارد مورد التعليل وظاهرها تعليق الحكم على اليقين من جهة ما هو يقين، كما سبق بيان ذلك في الصحيحة الأولى. فيكون شمولها للشبهة الحكمية حينئذ من باب التمسك بالعلة المنصوصة. على أن رواية محمد بن مسلم المتقدمة عامة لم ترد في خصوص الشبهة الموضوعية. فالحق شمول الأخبار للشبهتين. واما أدلة الاحتياط فقد تقدمت المناقشة في دلالتها فلا تصلح لمعارضة أدلة الاستصحاب.

 2 - التفصيل بين الشك في المقتضى والرافع: هذا هو القول التاسع المتقدم، والأصل فيه المحقق الحلي، ثم المحقق الخونساري، وأيده كل التأييد الشيخ الأعظم، وقد دعمه جملة من تأخر عنه. وخالفهم في ذلك الشيخ الآخوند فذهب إلى اعتبار الاستصحاب مطلقا وهو الحق ولكن بطريقة أخرى غير التي سلكها الشيخ الآخوند. ومن أجل هذا اصبح هذا التفصيل من أهم الأقوال التي عليها مدار المناقشات العلمية في عصرنا. ويلزمنا النظر فيه من جهتين:

 من جهة المقصود من المقتضى والمانع، ومن جهة مدى دلالة الأخبار عليه.

 1 - المقصود من المقتضى والمانع ونحيل ذلك إلى تصريح الشيخ نفسه فقد قال: (المراد بالشك من جهة المقتضى: الشك من حيث استعداده وقابليته في ذاته للبقاء، كالشك في بقاء الليل والنهار وخيار الغبن بعد الزمان الأول). فيفهم منه انه ليس المراد من المقتضى - كما قد ينصرف ذلك من إطلاق كلمة المقتضى - مقتضي الحكم اي الملاك والمصلحة فيه، ولا المقتضي لوجود

الشيء في باب الأسباب والمسببات بحسب الجعل الشرعي، مثل؟؟ أن يقال: ان الوضوء مقتض للطهارة وعقد النكاح مقتض للزوجية. بل المراد نفس استعداد المستصحب في ذاته للبقاء وقابليته له من أية جهة كانت تلك القابلية وسواء فهمت هذه القابلية من الدليل أو من الخارج. ويختلف ذلك باختلاف المستصحبات وأحوالها، فليس فيه نوع ولا صنف مضبوط من حيث مقدار الاستعداد، كما صرح بذلك الشيخ. والتعبير عن الشك في القابلية بالشك في المقتضي فيه نوع من المسامحة توجب الأيهام. وينبغي أن يعبر عنه بالشك في اقتضائه للبقاء لا الشك في المقتضي، ولكن بعد وضوح المقصود فالأمر سهل. واما الشك في الرافع، فعلى هذا يكون المقصود منه الشك في طرو ما يرفع المستصحب مع القطع باستعداده وقابليته للبقاء لولا طرو الرفع، كما صرح به الشيخ، وذكر انه على اقسام. والمتحصل من مجموع كلامه في جملة مقامات انه ينقسم إلى قسمين رئيسين: الشك في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود. وهذا القسم الثاني انكر المحقق السبزواري حجية الاستصحاب فيه بأقسامه الثلاثة الآتية وهو القول العاشر في تعداد الأقوال. ونحن نذكر هذه الاقسام لتوضيح مقصود الشيخ.

 1 - (الشك في وجود الرافع). ومثل له بالشك في حدوث البول مع العلم بسبق الطهارة. وهو رحمه الله لا يعني به إلا الشك في الشبهة الموضوعية خاصة واما ما كان في الشبهة الحكمية فلا يعمه كلامه، لان الشك في وجود الرافع فيها ينحصر عنده في الشك في النسخ خاصة لأنه لا معنى لرفع الحكم إلا نسخه. وإجراء الاستصحاب في عدم النسخ - كما قال - إجماعي بل ضروري. والسر في ذلك ما تقدم في مباحث النسخ في الجزء الثالث من أن إجماع المسلمين قائم على انه لا يصح النسخ الا بدليل قطعي، فمع الشك لا بد أن يؤخذ بالحكم السابق المشكوك نسخه، أي ان الأصل عدم النسخ لأجل هذا الإجماع، لا لأجل حجية الاستصحاب.

 2 - (الشك في رافعية الموجود). وذلك بأن يحصل شيء معلوم الوجود قطعا ولكن يشك في كونه رافعا للحكم. وهو على اقسام ثلاثة:

(الأول) - فيما إذا كان الشك من أجل تردد المستصحب بين ما يكون الموجود رافعا له وبين ما يكون. ومثل له بما إذا علم بانه مشغول الذمة بصلاة ما، في ظهر يوم الجمعة، ولا يعلم انها صلاة الجمعة أو صلاة الظهر فإذا صلى الظهر مثلا فانه يتردد أمره لا محالة في أن هذه الصلاة الموجودة التي وقعت منه هل هي رافعة لشغل الذمة بالتكليف المذكور أو غير رافعة. (الثاني) - فيما إذا كان الشك من أجل الجهل بصفة الموجود في كونه رافعا مستقلا في الشرع، كالمذي المشكوك في كونه ناقضا للطهارة، مع العلم بعدم كونه مصداقا للرافع المعلوم وهو البول.

(الثالث) - فيما إذا كان الشك من أجل الجهل بصفة الموجود في كونه مصداقا للرافع المعلوم مفهومه أو من أجل الجهل به في كونه مصداقا للرافع المجهول مفهومه. مثال الأول الشك في الرطوبة الخارجة في كونها بولا، أو مذيا مع معلومية مفهوم البول والمذي وحكمهما. ومثال الثاني الشك في النوم الحادث في كونه غالبا للسمع والبصر أو غالبا للبصر فقط مع الجهل بمفهوم النوم الناقض في انه يشمل النوم الغالب للبصر فقط. ورأي الشيخ ان الاستصحاب يجري في جميع هذه الاقسام، سواء كان شكا في وجود الرافع أو في رافعية الموجود بأقسامه الثلاثة، خلافا للمحقق السبزواري إذ اعتبر الاستصحاب في الشك في وجود الرافع فقط دون الشك في رافعية الموجود كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.

2 - مدى دلالة الأخبار على هذا التفصيل قال الشيخ الأعظم: (ان حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتصالية كما في نقض الحبل. والأقرب إليه على تقدير مجازيته هو رفع الأمر الثابت) إلى ان قال: (فيختص متعلقه بما من شأنه الاستمرار). وعليه، فلا يشمل اليقين المنهي عن نقضه بالشك في الأخبار اليقين إذا تعلق بأمر ليس من شأنه الاستمرار أو المشكوك استمراره.

توضيح مقصوده مع المحافظة على ألفاظه حد الامكان:

ان النقض لغة لما كان معناه رفع الهيئة الاتصالية كما في نقض الحبل، فان هذا المعنى الحقيقي ليس هو المراد من الروايات قطعا، لان المفروض في مواردها طرو الشك في استمرار المتيقن، فلا هيئة اتصالية باقية لليقين ولا لمتعلقه بعد الشك في بقائه واستمراره.

فيتعين ان يكون اسناد النقض إلى اليقين على نحو المجاز، ولكن هذا المجاز له معنيان يدور الأمر بينهما، وإذا تعددت المعاني المجازية فلا بد أن يحمل اللفظ على أقربها إلى المعنى الحقيقي. وهذا يكون قرينة معينة للمعنى المجازي. وهنا المعنيان المجازيان أحدهما أقرب من الآخر، وهما:

 1 - ان يراد من النقض مطلق رفع اليد عن الشيء وترك العمل به وترتيب الأثر عليه ولو لعدم المقتضي له، فيكون المنقوض عاما شاملا لكل يقين.

 2 - ان يراد منه رفع الأمر الثابت. وهذا المعنى الثاني هو الأقرب إلى المعنى الحقيقي، فهو الظاهر من اسناد النقض. وحينئذ فيختص متعلقه بما من شأنه الاستمرار المختص بالموارد التي يوجد فيها هذا المعنى. والظاهر رجحان هذا المعنى الثاني على الأول، لان الفعل الخاص بصير مخصصا لمتعلقه إذا كان متعلقه عاما، كما في قول القائل: (لا تضرب أحدا)، فان الضرب يكون قرينة على اختصاص متعلقه بالأحياء، ولا يكون عمومه للأموات قرينة على إرادة مطلق الضرب.

هذه خلاصة ما أفاده الشيخ، وقد وقعت فيه عدة مناقشات نذكر أهمها ونذكر ما عندنا ليتضح مقصوده وليتجلى الحق ان شاء الله تعالى:

 1 - (المناقشة الأولى) - ان النقض يقابل الابرام. والنقض كما فسروه في اللغة -:

افساد ما أبرمت من عقد أو بناء أو حبل أو نحو ذلك. وعليه، فتفسيره من الشيخ برفع الهيئة الاتصالية ليس واضحا بل ليس صحيحا، إذ ان مقابل الاتصال الانفصال، فيكون معنى النقض حينئذ انفصال المتصل. وهو بعيد جدا عن معنى نقض العهد والعقد.

 أقول: ليس من البعيد أن يريد الشيخ من الاتصال ما يقابل الانحلال وإن كان ذلك على نحو المسامحة منه في التعبير، لا ما يقابل الانفصال. فلا إشكال.

2 - (المناقشة الثانية)، وهي أهم مناقشة عليها يبتني صحة استدلاله على التفصيل أو بطلانه. وحاصلها: ان هذا التوجيه من الشيخ للاستدلال يتوقف على التصرف في اليقين بإرادة المتيقن منه، كما نبه عليه نفسه، لأنه لو كان النقض مستندا إلى نفس اليقين كما هو ظاهر التعبير فان اليقين بنفسه مبرم ومحكم فيصح اسناد النقض إليه ولو لم يكن لمتعلقه في ذاته استعداد البقاء، ضرورة انه لا يحتاج فرض الابرام في المنقوض إلى فرض ان يكون متعلق اليقين ثابتا ومبرما في نفسه حتى تختص حرمة النقص بالشك في الرافع. ولكن لا يصح إرادة المتيقن من اليقين على وجه يكون الاسناد اللفظي إلى نفس المتيقن، لأنه انما يصح ذلك إذا كان على نحو المجاز في الكلمة أو على نحو حذف المضاف، وكلا الوجهين بعيدان كل البعد إذ لا علاقة بين اليقين والمتيقن حتى يصح استعمال أحدهما مكان الآخر على نحو المجاز في الكلمة، بل ينبغي ان يعد ذلك من الاغلاط. واما تقدير المضاف بأن نقدر متعلق اليقين أو نحو ذلك فان تقدير المحذوف يحتاج إلى قرينة لفظية مفقودة. ومن أجل هذا استظهر المحقق الآخوند عموم الأخبار لموردي الشك في المقتضي والرافع، لان النقض إذا كان مسندا إلى نفس اليقين فلا يحتاج في صحة اسناد النقض إليه إلى فرض ان يكون المتيقن مما له استعداد للبقاء. أقول: ان البحث عن هذا الموضوع بجميع اطرافه وتعقيب كل ما قيل في هذا الشأن من اساتذتنا وغيرهم يخرجنا عن طور هذه الرسالة، فالجدير بنا أن نكتفي بذكر خلاصة ما نراه من الحق في المسألة متجنبين الإشارة إلى خصوصيات الآراء والأقوال فيها حد الامكان.

 وعليه فنقول: ينبغي تقديم مقدمات قبل بيان المختار، وهي:

 (أولا) - انه لا شك في ان النقض المنهي عنه مسند إلى اليقين في لفظ الأخبار، وظاهرها ان وثاقة اليقين من جهة ما هو يقين هي المقتضية للتمسك به وعدم نقضه في قبال الشك الذي هو عين الوهن والتزلزل، لا سيما مع التعبير في بعضها بقوله عليه السلام: (لا ينبغي)، والتعليل في البعض الآخر بوجود اليقين المشعر بعليته للحكم كما سبق بيانه في قوله عليه السلام: (فانه على يقين من وضوئه)، ولا سيما مع مقابلة اليقين بالشك، ولا شك انه ليس المراد من الشك المشكوك.

وعلى هذا يتضح جليا ان حمل اليقين على إرادة المتيقن على وجه يكون الاسناد اللفظي إلى المتيقن بنحو المجاز في الكلمة أو بنحو حذف المضاف خلاف الظاهر منها بل خلاف سياقها بل مستهجن جدا فيتأيد ما قاله المعترض ولذا استبعد شيخنا المحقق النائيني ان يريد الشيخ الأعظم من المجاز المجاز في الكلمة، وهو استبعاد في محله وأبعد منه إرادة حذف المضاف.

(ثانيا) - انه من المسلم به عند الجميع الذي لا شك فيه أيضا ان النهي عن نقض اليقين في الأخبار ليس على حقيقته. والسر واضح، لان اليقين حسن ألفرض منتقض فعلا بالشك فلا يقع تحت اختيار المكلف فلا يصح النهي عنه. وحينئذ، فلا معنى للنهي عنه إلا ان يراد به عدم الاعتناء بالشك عملا والبناء عليه كأنه لم يكن، لغرض ترتيب أحكام اليقين عند الشك، ولكن لا يصح ان يقصد أحكام اليقين من جهة انه صفة من الصفات لارتفاع أحكامه بارتفاعه قطعا، فلم يكن رفع اليد عن الحكم عملا نقضا له بالشك بل باليقين لزوال موضوع الحكم قطعا. وعليه، فالمراد من الأحكام الأحكام الثابتة للمتيقن بواسطة اليقين به، فهو تعبير آخر عن الأمر بالعمل بالحالة السابقة في الوقت اللاحق. بمعنى وجوب العمل في مقام الشك بمثل العمل في مقام اليقين كأن الشك لم يكن، فكأنه قال: أعمل في حال شكك كما كنت تعمل في حال يقينك ولا تعتني بالشك. إذا عرفت ذلك فيبقى ان نعرف على أي وجه يصح أن يكون التعبير بحرمة نقض اليقين تعبيرا عن ذلك المعنى، فان ذلك لا يخلو بحسب التصور عن أحد أمور أربعة:

 1 - ان يكون المراد من اليقين المتيقن على نحو المجاز في الكلمة.

 2 - ان يكون النقض أيضا متعلقا في لسان الدليل بنفس المتيقن ولكن على حذف المضاف.

 3 - ان يكون النقض المنهي عنه مسندا إلى اليقين على نحو المجاز في الاسناد ويكون في الحقيقة مسندا إلى نفس المتيقن، والمصحح لذلك اتحاد اليقين والمتيقن أو كون اليقين آلة وطريقا إلى المتيقن.

4 - ان يكون النهي عن نقض اليقين كناية عن لزوم العمل بالمتيقن وإجراء أحكامه، لان ذلك لازم معناه، باعتبار ان اليقين بالشيء مقتض للعمل به، فحله يلازم رفع اليد عن ذلك الشيء أو عن حكمه، إذ لا يبقى حينئذ ما يقتضي العمل به، فالنهي عن حله يلزمه النهي عن ترك مقتضاه، اعني النهي عن ترك العمل بمتعلقه. وقد عرفت في (المقدمة الأولى) وفي مناقشة الشيخ بعد إرادة الوجهين الأولين، فيدور الأمر بين الثالث والرابع، والرابع هو الاوجه والأقرب، ولعله هو مراد الشيخ الأعظم، وان كان الذي يبدو من بعض تعبيراته إرادة الوجه الأول الذي استبعد شيخنا المحقق النائيني ان يكون مقصوده ذلك كما تقدم. اما هو - اعني شيخنا النائيني - فلم يصرح بإرادة أي من الوجهين الآخرين، والأنسب في عبارة بعض المقررين لبحثه إرادة الوجه الثالث إذ قال: (انه يصح ورود النقض على اليقين بعناية المتيقن). وعلى كل حال فالوجه الرابع اعني الاستعمال الكنائي أقرب الوجوه وأولاها، وفيه من البلاغة في البيان ما ليس في غيره، كما ان فيه المحافظة على ظهور الأخبار وسياقها في اسناد النقض إلى نفس اليقين، وقد استظهرنا منها كما تقدم في المقدمة الأولى ان وثاقة اليقين بما هو يقين هي المقتضية للتمسك به. وفي الكناية - كما هو المعروف - بيان للمراد مع إقامة الدليل عليه، فان المراد الاستعمالي هنا الذي هو حرمة نقض اليقين بالشك يكون كالدليل والمستند للمراد الجدي المقصود الأصلي في البيان، والمراد الجدي هو لزوم العمل على وفق المتيقن بلسان النهي عن نقض اليقين. (ثالثا) - بعد ما تقدم ان نسأل عن المراد من النقض في الأخبار هل المراد النقض الحقيقي أو النقض العملي؟ المعروف ان إرادة النقض الحقيقي محال فلا بد أن يراد النقض العملي، لان نقض اليقين - كما تقدم - ليس تحت اختيار المكلف فلا يصح النهي عنه. وعلى هذا بنى الشيخ الأعظم وصاحب الكفاية وغيرهما. ولكن التدقيق في المسألة يعطي غير هذا: انما يلزم هذا المحذور لو كان النهي عن نقض اليقين مرادا جديدا، اما على ما ذكرناه من أنه على وجه الكناية، فانه - كما ذكرنا - يكون مرادا استعماليا فقط، ولا محذور في كون المراد الاستعمالي - في الكناية - محالا أو كاذبا في نفسه، انما المحذور إذا كان المراد الجدي المكنى عنه كذلك.

وعليه، فحمل النقض على معناه الحقيقي أولى ما دام ان ذلك يصح بلا محذور.

النتيجة : إنه إذا تمت هذه المقدمات فصح اسناد النقض الحقيقي إلى اليقين من أجل وثاقته من جهة ما هو يقين، وان كان النهي عنه يراد به لازم معناه على سبيل الكناية - فانا نقول:

ان اليقين لما كان في نفسه مبرما ومحكما فلا يحتاج في صحة اسناد النقض إليه إلى فرض ان يكون متعلقه مما له استعداد في ذاته للبقاء، وإنما يلزم ذلك لو كان الاسناد اللفظي إلى نفس المتيقن ولو على نحو المجاز. وأما كون ان المراد الجدي هو النهي عن ترك مقتضى اليقين الذي هو عبارة عن لزوم العمل بالمتيقن، فان ذلك مراد لبي وليس فيه اسناد للنقض إلى المتيقن في مقام اللفظ حتى يكون ذلك قرينة لفظية على المراد من المتيقن. والسر في ذلك ان الكناية لا يقدر فيها لفظ المكنى عنه على ان المكنى عنه ليس هو حرمة نقض المتيقن بل - كما تقدم - هو حرمة ترك مقتضى اليقين الذي هو عبارة عن لزوم العمل بالمتيقن، فلا نقض مسند إلى المتيقن لا لفظا ولا لبا، حتى يكون ذلك قرينة على ان المراد من المتيقن هو ماله استعداد في ذاته للبقاء لأجل ان يكون مبرما يصح اسناد النقض إليه. الخلاصة: وخلاصة ما توصلنا إليه هو: ان الحق ان النقض مسند إلى نفس اليقين بلا مجاز في الكلمة ولا في الاسناد ولا على حذف مضاف، ولكن النهي عنه جعل عنوانا على سبيل الكناية عن لازم معناه، وهو لزوم الأخذ بالمتيقن في ثاني الحال بترتيب آثاره الشرعية عليه، وهذا المكنى عنه عبارة أخرى عن الحكم ببقاء المتيقن. وإذا كان النهي عن نقض اليقين من باب الكناية فلا يستدعي ذلك ان نفرض في متعلقه استعداد البقاء ليتحقق معنى النقض لأنه متحقق بدون ذلك. وعليه فمقتضى الأخبار حجية الاستصحاب في موردي الشك في المقتضى والرافع معا. ونحن إذا توصلنا إلى هنا من بيان حجية الاستصحاب مطلقا في مقابل التفصيل الذي ذهب إليه الشيخ الأنصاري - لا نجد كثير حاجة في التعرض للتفصيلات الأخرى في هذا المختصر ونحيل ذلك إلى المطولات لا سيما رسالة الشيخ في الاستصحاب فان في ما ذكره الغنى والكفاية.

______________

(1) بنى الشيخ الأنصاري ومن حذا حذوه الاستدلال بهذه الصحيحة على أن جواب الشرط محذوف وأن قوله (فانه على يقين من وضوئه) علة للجواب قامت مقامه. وقال: (وجعله نفس الجزاء يحتاج إلى تكلف). فيكون معنى الرواية على قوله ان يستيقن أنه قدم نام فلا يجب عليه الوضوء لأنه على يقين من وضوئه في السابق. فحذف (فلا يجب عليه الوضوء) وأقام العلة مقامه. وهذا الوجه الذي ذكره وإن كان وجيها ولكن الحذف خلاف الأصل ولا موجب له ولا تكلف في جعل الموجود نفس الجزاء على ما بيناه في المتن. ولا يتوقف الاستدلال بالصحيحة على هذا الوجه ولا على ذلك الوجه ولا على أي وجه آخر ذكروه. فان المقصود منها في بيان قاعدة الاستصحاب مفهوم واضح يحصل في جميع هذه الوجوه.

(2) لا يخفى ان هنا مقدمة مطوية يجب التنبيه لها، وهي أن تجرد كلمة اليقين والشك في الرواية من ذكر المتعلق يدل على وحدة المتعلق، يعني أن هذا التجرد يدل على أن ما تعلق به اليقين هو نفس ما تعلق به الشك، وإلا فان من المقطوع به انه ليس المراد اليقين بأي شيء كان والشك بأي شيء كان لا يرتبط بالمتيقن. ولكن كونها دالة على وحدة المتعلق لا يجعلها ظاهرة في كونه واحدا في جميع الجهات حتى من جهة الزمان لتكون ظاهرة في قاعدة اليقين كما قيل.

 

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.