المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8127 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر



النهي عن الشيء هل يكشف عن فساده او لا ؟  
  
701   12:05 مساءاً   التاريخ: 3-8-2016
المؤلف : تقريرا لبحث السيد الخميني - بقلم الشيخ السبحاني
الكتاب أو المصدر : تهذيب الأصول
الجزء والصفحة : ج2. ص.67
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / المباحث العقلية /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-8-2016 868
التاريخ: 3-8-2016 490
التاريخ: 3-8-2016 508
التاريخ: 3-8-2016 437

 ولنمهّد قبل ذلك اُموراً :

الأمر الأوّل : في عنوان البحث:

قد اختلف تعبيرات القوم في عنوان المقام :

فربّما يقال : إنّ النهي عن الشيء هل يقتضي الفساد أو لا(1) ؟

وقد يقال : إنّ النهي هل يدلّ عليه أو لا(2) ؟

وكلاهما لا يخلو عن المسامحة :

أمّا الأوّل : فلأنّ الاقتضاء بالمعنى المتفاهم عرفاً غير موجود في المقام ; لأنّ النهي غير مؤثّر في الفساد ولا مقتض له ، بل إمّا دالّ عليه أو كاشف عن مبغوضية المتعلّق التي تنافي الصحّة ، إلاّ أن يقال : إنّ الاقتضاء مستعمل في غير ذلك .

أمّا الثاني : فلأنّ ظاهر لفظ الدلالة هو الدلالة اللفظية ; ولو بنحو الالتزام ، لكن مطلق الملازمة بين الأمرين لا يعدّ من الدلالات الالتزامية ، بل لابدّ في الدلالة الالتزامية ـ على تسليم كونها من اللفظية ـ من اللزوم الذهني ، فلا تشتمل الملازمات العقلية الخفية ، كما في المقام .

اللهمّ إلاّ أن يراد مطلق الكشف ; ولو بنحو اللزوم الخفي كما عرفت منّا ، على أنّ مدّعي الفساد لا يقتصر في إثبات مرامه بالدلالة اللفظية ، بل يتمسّك بوجوه عقلية ، فالأولى التعبير بالكشف حتّى يعمّ الدلالات اللفظية والملازمات الخفية العقلية ، والخطب سهل .

الأمر الثاني : في كون المسألة عقلية لفظية :

الظاهر أنّ المسألة ليست عقلية محضة ولا لفظية كذلك ; ولذا ترى بعضهم يستدلّ باللفظ وآخر بالعقل ، على أنّه لو جعلناها ممحّضة في أحدهما تكون المسألة غير مستوفى البحث ، بل يبقى على الاُصولي عهدة بحث آخر ; إذ لو كانت عقلية محضة يبقى البحث عن الدلالة اللفظية أو بالعكس . فالأولى تعميم عنوانه ; ليشتمل العقلي واللفظي .

ثمّ إنّ المسألـة اُصوليـة ; لوقوعها كبرى لاستنتاج المسألـة الفرعيـة ، وقد عرفت ما هـو الميزان للمسألـة الاُصوليـة(3) ، كما عرفت الفرق بين هـذه المسألـة وبين المسألة المتقدّمة(4).

الأمر الثالث : في شمول البحث للنهي التنزيهي والغيري والتبعي :

إنّ محطّ البحث أعمّ مـن النهي التحريمي والتنزيهي والنفسي والغيري والأصلي والتبعي ; لأنّ كلّها محـلّ النزاع ; ولو عند من ادّعى أنّ عـدم الأمـر يكفي في الفساد ، كشيخنا البهائي(5) ، وينكر الأمر الترتّبي .

وتوهّم : أنّ التنزيهي خارج ; لكون الترخيص دليلاً على الجواز ، أو أنّ الكراهة مؤوّلة بأقلّية الثواب باطل ; لأنّ ذلك رأي القائل بـه ، ويمكن أن يعتقد غيره أنّ النهي التنزيهي أيضاً مانع عن التقرّب ، فلا يوجب كونه خارجاً من محطّ البحث .

والحاصل : أنّ كـون شيء خـلاف التحقيق عند أحـد لا يوجب خروجـه من محلّ النزاع .

ونظير ذلك ما ربّما يقال : من أنّ النهي التنزيهي في الشريعة متعلّق بالخصوصيات اللاحقة بالعبادات لا بنفسها(6) .

وفيه : أنّ ذلك ـ على فرض صحّته ـ لا يوجب خروج ما تعلّق فيه النهي بذاتها على فرض وجوده في الشريعة .

نعم النهي الإرشادي المسوق لبيان المانعية خارج منه ; لأنّه بعد إحرازه لا  يبقى مجـال للنزاع، لكن كـون النواهـي المتعلّقة بالعبادات والمعاملات إرشاديـة محلّ النزاع والبحث .

الأمر الرابع : في المراد من العبادات والمعاملات في المسألة :

المراد من العبادات هي العناوين الواردة في الشريعة التي لا يسقط أمرها على فرض تعلّقه بها، إلاّ إذا أتى بها بوجه قربي ، أو كان عنوانها عبادة ذاتاً .

 وبالجملة : مطلق التقرّبيات مع قطع النظر عن النهي .

وأمّا المعاملات : فمطلق ما يتّصف بالصحّة تارة وبالفساد اُخرى ، لا ما  يترتّب عليه أثر على وجـه ولا يترتّب على آخـر ; لأنّ القتل قـد يترتّب عليه القصاص وقـد لا  يترتّب ، كقتل الأب ابنه ، ولا يتّصف بالصحّـة والفساد ، ومثله خارج من البحث .

والظاهر : أنّ أبواب الضمان من هذا القبيل ولو فرض انفكاك الأثر من أسبابه أحياناً . ولا يخفى أنّ المراد هو أسباب الضمان ، كاليد والإتلاف ، لا عقد الضمان .

الأمر الخامس : في المراد من الصحّة والفساد:

قد اشتهر بين القوم أنّ الصحّة والفساد أمران إضافيان مساوقان للتمام والنقص لغة وعرفاً ، وبينهما تقابل العدم والملكة ، والاختلاف في التعبير بين الفقيه والمتكلّم فإنّما هو لأجل ما هو المهمّ في نظرهما(7) .

قلت : قد تقدّم في أوّل الكتاب(8)  أنّ تساوق الصحّة والفساد معهما ممّا لم يثبت ، بل ثبت خلافه ; لأنّ النقص والتمام يطلقان على الشيء بحسب الأجزاء غالباً ، ويقال : «يد ناقصة» إذا قطع بعض أجزائها ولا يقال فاسدة ، ويقال : «دار تامّة» إذا كملت مرافقها لا صحيحة ، وأمّا الصحّة والفساد فيستعملان غالباً بحسب الكيفيات والأحوال ، مثل الكيفيات المزاجية وشبهها ، فيقال : «فاكهة صحيحة» إذا لم يفسده الدود أو «فاسدة» إذا ضيعته المفسدات .

وعليه : فالفساد عبارة عن كيفية وجودية عارضة للشيء منافرة لمزاجه ومخالفة لطبيعته النوعية ، والصحّة تقابله تقابل التضادّ ، وهي عبارة عن كيفية وجودية عارضة له موافقة لمزاجه ، ويقال : «فاكهة فاسدة» لما عرضتها كيفية وجودية منافرة لمزاجها النوعي التي يتنفّر عنها الطباع ، كما يقال : «صحيحة» إذا كانت على كيفية موافقة له ; بحيث يقبله الطباع . فبين المعنيين تقابل التضادّ ، كما أنّ بين التمام والنقص تقابل العدم والملكة ، هذا بحسب اللغة والعرف .

نعم ، يمكن تصحيح ما ذكروه من التساوق في العبادات والمعاملات ; لأنّه يطلق الفساد على صلاة فاقدة لجزئها أو شرطها أو مجامعة لمانعها ، كما يطلق الصحّة على الواجد الجامع من جميع الجهات ، فهما حينئذ مساوقان للتمام والنقص أو قريبان منهما .

إنّمـا الكلام في أنّ ذلك الإطلاق ـ بعدما لم يكن كذلك بحسب العرف واللغـة كما عرفت ـ هل هو باعتبار وضع جديد في لفظي الصحّة والفساد ، أو باستعمالهما أوّلاً مجازاً ، وكثرة ذلك حتّى بلغا حدّ الحقيقة ؟ أقربهما هو الثاني ، بل الأوّل بعيد غايته .

فحينئذ : فالصحّة في الماهيات المخترعة صفة لمصداق جامع لجميع الأجزاء والشرائط مطابق للمخترع والمجعول ، والفساد مقابلها ، فينقلب التقابل عن التضادّ إلى تقابل العدم والملكة ; لأجل تغيّر المعنى في العبادات والمعاملات .

وأمّا كونهما إضافيان فيصحّ أيضاً بهذا المعنى الثانوي فيما إذا كانت العبادة تامّة الأجزاء دون الشرائط أو بالعكس .

 وأمّا كون الصحّة والفساد إضافيتين بالمعنى المتعارف في اللغة والعرف فلا يصحّ إلاّ بالإضافة إلى حالات المكلّفين وأصنافهم ; فإنّ الصلاة مع الطهارة الترابية صحيحة بالنسبة إلى مكلّف وفاسدة بالنسبة إلى آخر ، أو صحيحة في حال دون حال .

فتلخّص : أنّ استعمال التمام والنقص في اللغة والعرف باعتبار الأجزاء ، وبينهما تقابل العدم والملكة ، واستعمال الصحّة والفساد فيهما بحسب الكيفيات ، وبينهما تقابل التضادّ لو كانت الصحّـة أمـراً وجـودياً ، وليسا إضافيين إلاّ بالإضافـة إلى حالات المكلّفين .

نعم ، ربّما تستعملان في العبادات والمعاملات في معنى التمام والنقص ، ويكون التقابل تقابل العدم والملكة ، وتصيران إضافيين بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط .

وأمّا اختلاف الأنظار في صحّة عبادة وعدمها فلا يوجب إضافيتهما ; لأنّ الأنظار طريق إلى تشخيص الواقع ، وكلٌّ يخطّئ الآخر ، فتدبّر .

الأمر السادس : في مجعولية الصحّة والفساد :

هل الصحّة والفساد مجعولتان مطلقاً أو لا مطلقاً ، أو مجعولتان في المعاملات دون العبادات ، أو الصحّة الظاهرية مجعولة دون الواقعية ؟  أقوال .

التحقيق : امتناع مجعوليتهما مطلقاً ; لما تقدّم في مبحث الصحيح والأعمّ أنّ الصحّة والفساد من أوصاف الفرد الموجود من الماهية المخترعة ، منتزعتان من مطابقة الخارج مع المخترَع المأمور به ، لا من أوصاف الماهية . وعليه فهو أمر عقلي لا ينالها الجعل تأسيساً ولا إمضاءً . وما يرجع إلى الشارع إنّما هو تعيين الماهية بحدودها ، وأمّا كون هذا مطابقاً أو لا فأمر عقلي ; فإن أتى بها بما لها من الأجزاء والشرائط يتّصف بالصحّة ، ولا يحتاج إلى جعل صحّة من الشارع .

وما عن المحقّق الخراساني : من كون الصحّة مجعولاً في المعاملات ; لأنّ ترتّب الأثر على معاملة إنّما هو بجعل الشارع ـ ولو إمضاءً ـ ضرورة أ نّه لولا جعله لما كان يترتّب عليه الأثر; لأصالة فساده(9) .

غير مفيد ; إذ فيه أوّلاً : أنّ الماهيات المخترعة لا تتّصف بالصحّة والفساد ، بل المتّصف بهما هو الموجود الخارجي أو الاعتباري بلحاظ انطباق الماهيات عليه ولا انطباقها ، وهما عقليان لا يتطرّق الجعل إليهما .

وثانياً : أنّ ما ذكره يرجع إمّا إلى جعل السببية لألفاظ أو أفعال مخصوصة ، كما هو المختار في الأحكام الوضعية(10)  أو إلى جعل الأثر والمسبّب عقيب الألفاظ ، وهما غير جعل الصحّة ; إذ جعل السببية أو ترتّب الأثر على موضوع وإن حصلا بفعل الشارع إلاّ أنّ كون شيء مصداقاً للسبب أو لما رتّب عليه الأثر بجعله ، أمر عقلي من خواصّ الفرد الموجود .

وأمّا الصحّة الظاهرية فهي أيضاً مثل الواقعية منها ; لأنّ جعل الصحّة للصلاة المأتي بها بلا سورة لا يعقل بلا تصرّف في منشأ الانتزاع ; إذ كيف يعقل القول بأنّ الصلاة بلا سورة صحيحة مع حفظ جزئية السورة في جميع الحالات ; حتّى عند الجهل بوجوبها ؟

وما يقال من أنّ هذا إذا علم الانطباق ، وأمّا إذا شكّ في الانطباق فللشارع الحكم بجواز ترتّب أثر الصحّة أو وجوبه ، وهما قابلان للجعل(11) ، غير وجيهة ; لأنّ ما ذكر غير جعل الصحّة بنفسها ، بل الظاهر أنّ جواز ذلك أو إيجابه بدون رفع اليد عن الشرط والجزء غير ممكن ، ومعه يكون الانطباق قهرياً . ولعلّ القائل بالجعل هاهنا خلط بين الأمرين .

الأمر السابع : في تحقيق الأصل في المقام :

هل في المسألة الاُصولية أصل يعتمد عليه لدى الشكّ في دلالة النهي على الفساد أو كشفه عنه عقلاً ، أو لا ؟

التحقيق : هـو الثاني ; لعـدم العلم بالحالـة السابقـة ; لا في الدلالة ولا في الملازمـة :

أمّا الاُولى : فلابدّ أن يقرّر بأنّ النهي قبل وضعها لم يكن دالاًّ على الفساد ونشكّ في انقلابه بعد الوضع ، لكنّه ساقط ; لأنّه قبل الوضع وإن لم يكن دالاًّ إلاّ أنّه في هذا الحال لم تكن إلاّ حروفاً مقطّعة ، وعند عروض التركيب له إمّا وضع لما يستفاد منه الفساد أو لغيره ، فلا حالة سابقة له بنحو الكون الناقص .

واحتمال أنّ عروض التركيب الطبيعي للفظ في ذهن الواضع كان قبل الوضع والدلالة زماناً وإن كان يدفع ما ذكرنا إلاّ أ نّه يرد عليه ما سيجيء من عدم أثر شرعي للمستصحب .

وأمّا الملازمة : فليست لها حالة سابقة مفيدة ; سواء قلنا بأزليتها ـ  كما قيل(12)  ـ وهو واضح، أو قلنا بتحقّقها عند تحقّق المتلازمين ; لأنّ قبل تحقّقهما وإن لم يكن الملازمة بنحو السلب التحصيلي متحقّقة لكن استصحابه لا يفيد إلاّ على الأصل المثبت ، وبنحو الكون الناقص لا حالة سابقة حتى يستصحب .

أضف إلى ذلك : أنّـه لو سلّم تحقّق الحالـة السابقـة في المقامين لا يفيد الاستصحـاب أيضاً ; لعـدم أثر شرعي للمستصحب ; لعدم كون الدلالـة أو الملازمـة موضوعاً لحكم شرعي ، وصحّة الصلاة لدى تحقّق المقتضيات وعدم  الموانع عقلية لا شرعية .

هذا حال الأصل في المسألة الاُصولية .

وأمّا حاله في الفرعية : فلابدّ أوّلاً من فرض الكلام في مورد تعلّق النهي بالعبادة أو المعاملة قطعاً وشكّ في اقتضائه الفساد ، فالرجوع إلى القواعد حينئذ مثل رجوع الشكّ إلى الأقلّ والأكثـر ، إن كان المراد منه الشكّ في تعلّق النهي بالعبادة ، أو بالخصوصية ككونها في مكان خاصّ ، أو التمسّك بقاعدة التجاوز أجنبي عن المقام ; فإنّ الكلام ليس في مانعية شيء عن الصلاة أو شرطيته لها ، بل الشكّ في اقتضاء النهي الفساد بعد تعلّقه بذات العبادة قطعاً .

والتحقيق أن يقال : أمّا في المعاملات فمقتضى الأصل الفساد ; لأنّ الأصل عدم ترتّب أثر على المعاملة الواقعة . وأمّا في العبادات فإن كان الشكّ في فسادها بعد الفراغ عن إحراز الملاك ـ  كما في النهي عن الضدّ ـ فالأصل يقتضي الصحّة ; لأنّ الملاك كاف فيها ، فيرجع الشكّ إلى كون النهي إرشاداً إلى الفساد لأجل أمر غير فقدان الملاك ، فيكون الشكّ في مانعية النهي عن العبادة بعد تعلّقه بها ، وهو مجرى البراءة .

والفرق بين المقام والمقام السابق ـ حيث أبطلنا التمسّك بالبراءة هناك دون المقام  ـ واضح .

وأمّا إذا كان الشكّ في تحقّق الملاك أيضاً : فقاعدة الاشتغال محكّمة ; لأنّ صحّة الصلاة تتوقّف إمّا على إحراز الأمر أو الملاك ، والأمر لا يجتمع مع النهي في عنوان واحد ، ومع عدمه لا طريق لإحراز الملاك .

التحقيق في دلالة النهي على الفساد:

إذا عرفت ذلك فأعلم : أنّ الكلام يقع تارة في النهي المتعلّق بعبادة أو معاملة ، مع عدم إحراز كونه تنزيهياً أو تحريمياً أو إرشاداً إلى الفساد ، واُخرى فيما إذا اُحرز أنّ النهي تحريمي أو غيره .

فالتفصيل والتحقيق يستدعي البحث في مقامات أربعة :

المقام الأوّل : فيما إذا تعلّق النهي بمعاملة مع عدم إحراز كونه من أيّ أقسامه ، فلا ينبغي الإشكال في ظهور النهي في الإرشاد إلى الفساد ; لأنّ إيقاع المعاملة لمّا كان لأجل توقّع تحقّقها وترتّب الآثار عليها وتكون الأسباب آلات صرفة لها لا  يفهم العرف من النهي عنه إلاّ ذلك .فإذا ورد «لا تبع ما ليس عندك» أو «لا تبع المصحف من الكافر» يفهم العرف منه الإرشاد إلى عدم صحّة البيع لا تحريم السبب ; لأنّ الأسباب آلات لتحقّق المسبّبات ، ولا تكون منظوراً إليها حتّى يتعلّق بها النهي . هذا ، مع بعد تعلّق النهي والحرمة بالتلفّظ بألفاظ الأسباب .

وأمّا المسبّب فهو اعتبار شرعي أو عقلائي ، لا معنى لتعلّق النهي به .

وأمّا الآثار المترتّبة عليها فيبعد تعلّقه بها ذاتاً ; لأنّه مع تأثير السبب لا معنى للنهي ، ومع عدم تأثيره يكون التصرّف في مال الغير أو وطي الأجنبية وأمثال ذلك محرّمة لا تحتاج إلى تعلّق النهي بها ، فلابدّ من حمله على الإرشاد إلى الفساد ، وأنّ النهي عن الإيقاع لأجل عدم الوقوع ، كما هو المساعد لفهم العرف .

فتلخّص : أنّ النهي عن معاملة مع قطع النظر عن القرائن الصارفة ظاهر في الإرشاد إلى أنّ الأثر المتوقّع منها لا يترتّب عليها ، وهذا هو الفساد .

لا  يقال : إنّ النهي فيها منصرف إلى ترتيب الآثار ، فقوله «لا تبع المجهول» مثلاً منصرف إلى حرمة ترتيب الآثار على بيعه ، وهذا هو النهي الوضعي .

لأنّا نقول : نمنع الانصراف هنا ، بل لا موجب له ; إذ هو يستدعي رفع اليد عن ظاهر العنوان، بل الظاهر أنّ النهي متعلّق بإيقاع الأسباب ، لكن لا إلى ذاتها بما هي هي ، بل بداعي الإرشاد إلى عدم التأثير .

المقام الثاني : إذا تعلّق النهي بعبادة مع عـدم إحـراز حال النهي أهـو تحريمي أم غيره ؟

فلا يبعد أن نقول فيها نظير ما قلناه في الأوّل ; من الإرشاد إلى الفساد ; لأنّ المكلّفين بحسب النوع إنّما يأتون بالعبادات لأجل إسقاط الأمر والإعادة والقضاء ،

فإذا ورد من المقنّن النهي عن كيفية خاصّة ينصرف الأذهان إلى أنّ الإتيان بها مع هذه الكيفية غير مسقط للأمر ، وأنّه لأجل الإرشاد إلى فسادها .فقوله ـ عليه السلام ـ  : «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه»(13)  ظاهر ـ في نظر العرف  ـ في أنّ الطبيعة المتعلّق بها الأمر لا تتحقّق بهذه الكيفية ، وأنّ الصلاة كذلك لا يترتّب عليها الأثر المتوقّع ـ أعني سقوط الأمر والقضاء والإعادة ـ وكذا الحال لو تعلّق بصنف خاصّ كصلاة الأعرابي ، أو في حال خاصّ كالصلاة أيّام الأقراء ، أو مكان خاصّ كالحمّام ، فمع عدم الدليل تحمل تلك النواهي على الإرشاد ، كالأوامر الواردة في الأجزاء والشرائط .

المقام الثالث : في العبادات التي تعلّق النهي بها مـع إحـراز حالـه ، ويتصوّر النهي فيها على وجـوه :

 منها : إحراز كونه تحريمياً نفسياً ، فلا إشكال في اقتضائه الفساد ; لأنّه يكشف عـن المبغوضية وعدم رجحانه ذاتاً ، ومعها كيف يمكن صلوحه للتقرّب والتعبّد ، مع وحـدة حيثيـة المبغوض مـع المتقرّب بـه ذهناً وخارجـاً ؟ وهـذا غير مـا صحّحناه في المبحـث المتقـدّم ; لاختلاف الحيثيتين عنوانـاً ومتعلّقاً هنـاك دون المقام .

ومن الغريب ما أفاده شيخنا العلاّمة ـ أعلى الله مقامه ـ حيث أتعب نفسه الشريفة فيما أفاده ، وقصارى ما قال : أنّ النهي متعلّق بأمر خارج ، وجعل المسألة من بحث اجتماع الأمر والنهي(14) ، مع أنّ البحث هاهنا فيما إذا تعلّق النهي بنفس العبادة لا بأمر خارج .

ومنها : إحراز كونه تنزيهياً نفسياً ، فالظاهر دلالته على الفساد لو اُبقي على ظاهره ; إذ يستفاد منه مرجوحية متعلّقه وحزازته .

وقد يقال : إنّ الكراهة بما أ نّها لا تمنع عن إيجاد متعلّقها ، فإذا تعلّقت ببعض أفراد العبادة الواجبة تصير إرشاداً إلى كون هذا الفرد أقلّ ثواباً من غيره (15).

وفيه : أنّ البحث فيما إذا كان النهي ظاهراً في المرجوحية ، وأمّا لو كان الظاهر منه هو الإرشاد إلى أقلّية الثواب فخارج من البحث .

فإن قلت : إنّ النهي التنزيهي ملازم للترخيص ، وكيف يمكن ترخيص التعبّد بأمر مرجوح ؟ وهل هذا إلاّ الترخيص بالتشريع ؟ فلابدّ بعد إحراز المرجوحية من التخلّص عن هذا الإشكال .

قلت : إنّ الترخيص حيثي ، مفاده عدم كون عنوان العبادة محرّماً ذاتاً ، ولا  ينافي ذلك الحرمة من قِبَل التشريع على فرض حرمته .

ومنها : إحراز كونه غيرياً ، كالنهي عن الضدّ ـ بناءً على اقتضاء الأمر النهي عن ضدّه  ـ فلا يقتضي الفساد عقلاً ; لعدم دلالته على مبغوضية في متعلّقه ; بحيث يمتنع التقرّب به ; لأنّ الإلزام بتركه لأجل فعل غيره ، كما أنّ الأمر المقدّمي لا يكشف عن محبوبيته ، وحينئذ فعلى القول بكفاية الملاك في التقرّب يصحّ التقرّب بالمنهي عنه بالنهي الغيري .

فإن قلت : إتيان المنهي عنه يوجب التجرّي على المولى ، فيكون الفاعل بذلك بعيداً عن ساحته ، فلا يمكن التقرّب به .

قلت : إنّ فاعل الضدّ عاص بترك الضدّ الأهمّ لا بفعل المهمّ ، فليس في فعله تجرّ ، وانطباق الأمر العدمي ـ أعني ترك الأهمّ ـ على الأمر الوجودي قد عرفت حاله(16) ، هذا أوّلاً .

ولو سلّمنا أنّ العصيان يتحقّق بنفس إتيان المهمّ فنقول : لا دليل على أنّ التجرّي موجب للفساد ; لأنّ الجرأة والجسارة عنوان لا تسري مبغوضيته إلى نفس الفعل ، وكون العبد بعيداً عن ساحته بجرأته لا يوجب البعد بعمله ثانياً ، فتدبّر .

ومنها : إحراز كونه إرشاداً إلى الفساد ، فلا بحث في اقتضائه الفساد .

المقام الرابع : في النهي المتعلّق بالمعاملات مع إحراز حال النهي ، وهو على أقسام ، كالنهي المتعلّق بالعبادة :

منها : مـا إذا تعلّق النهي التنزيهي أو الغيري بها ، فلا إشكال في عـدم اقتضائها الفساد .

ومنها : النهي التحريمي ، فإن تعلّق بنفس السبب وبصدور هذا اللفظ بنفسه أو صدوره بعنوان إيقاع المعاملة ـ فلا يقتضي الفساد عقلاً ; لأنّ حرمة التلفّظ بشيء ومبغوضيته لا يقتضي حرمة أثره وفساد مسبّبه وعدم تأثيره فيه ، ولو تعلّق به لا بما هو فعل مباشري ، بل بما أنّ مسبّبه مبغوض ـ كبيع المسلم من الكافر ; فإنّ المبغوض مملوكيته له  ـ فالظاهر أنّه أيضاً لا يدلّ على الفساد ; لعدم المنافاة بين المبغوضية ووقوع المسبّب غير العبادي .

ونسب إلى الشيخ الأعظم : التفصيل في هذا القسم بين كون الأسباب عقلية كشف عنها الشارع فتصحّ المعاملة ويجبر الكافر بإخراج المسلم عن ملكه ، وبين كون الأسباب شرعية ، فيبعد جعله السبب مع مبغوضية مسبّبه(17) .

قلت : الظاهر أنّ مراده من كون الأسباب عقلية هو كونها عقلائية ; إذ لا يتصوّر للسبب العقلي الاعتباري هنا معنى سوى ما ذكرنا . وعليه يرجع الكلام إلى أنّ النهي عن السبب لمبغوضية مسبّبه هل يكون رادعاً عن المعاملة العقلائية أو لا ؟ والتحقيق هو الثاني .

وكذا إن قلنا بمجعولية السبب شرعاً ; لعدم المنافاة بين مبغوضية المسبّب وتأثير السبب ، فلا يرفع اليد عن أدلّة السببية لأجل مبغوضية المسبّب .

وما ذكره ـ قدس سره ـ من أنّ جعل السبب بعيد مع مبغوضية متعلّقه غير مجد ; لأنّ الجعل لم يكن مقصوراً بهذا المورد الخاصّ حتّى يتمّ ما ذكره من الاستبعاد ، بل الجعل على نحو القانون الكلّي الشامل لهذا المورد وغيره . نعم اختصاص المورد بالجعل مع مبغوضية مسبّبه بعيد .

وأمّا لو تعلّق النهي بالتسبّب بسبب خاصّ إلى المسبّب بحيث لا يكون المسبّب مبغوضاً بل نفس التسبّب ، وذلك كالظهار ; فإنّ التفريق ليس مبغوضاً في الجملة إلاّ أنّ التوصّل به له مبغوض في نظر الشارع ، فهو مثل ما تقدّم في أنّه لا يقتضي الفساد ; لعدم المنافاة بينهما .

وربّما يقال : إنّه مع مبغوضية حصول الأثر بذاك السبب لا يمكن إمضاء المعاملة ، وهو مساوق للفساد .

وفيه : أنّه لَمْ أتحقّق مساوقته للفساد ; إذ أيّ منافاة بين تحقّق المسبّب غير  المبغوض وبين حرمـة التسبّب ; فإنّ الحيازة تتحقّق ولـو بالآلـة الغصبية المحرّمـة تكليفاً .

أضف إلى ذلك : أنّ المعاملات عقلائية ، والعقلاء على أثر ارتكازهم وبنائهم حتّى يردع عنه الشارع ، ومثل ذلك لا يعدّ ردعاً كما لا يعدّ مخصّصاً ولا مقيّداً لما دلّ على جعل الأسباب الشرعية بنحو القانون ، كما عرفت .

بقي هنا قسم من التحريمي ; وهو أنّه إذا تعلّق النهي بالمعاملـة لأجل مبغوضية ترتيب الآثار المطلوبة عليها لا إشكال في دلالته على الفساد ; لأنّ حرمة ترتيب الأثر على معاملة مساوقة لفسادها عرفاً .

هذا كلّه لو اُحرز كون النهي التحريمي متعلّقاً بأحد العناوين المتقدّمة ; من تعلّقه بنفس السبب بما أنّه فعل مباشري ، أو بما أنّ مسبّبه مبغوض ، ومن تعلّقه بالتسبّب بالسبب الخاصّ ، أو بالمعاملة لأجل حرمة ترتيب الأثر .

وأمّا إذا لم يحرز أحد العناوين ـ وإن اُحرز كونه تحريمياً ـ فعن الشيخ الأعظم دعوى ظهور تعلّقه بصدور الفعل المباشري(18) .

 وفيه إشكال ; لو لم نقل أ نّه أبعد الاحتمالات في نظر العرف والعقلاء .

والتحقيق : ظهوره في حرمـة ترتيب الأثر ; لأنّـه لا ينقدح في نظر العرف مـن قوله «لا تبع مـا ليس عندك» على فرض إحراز كون النهي فيه للتحريم حرمـة التلفّظ بالألفاظ الخاصّـة ; لأنّها آلات لا ينظر فيها ، ولا حرمـة المسبّب الـذي هو أمر عقلائي ولا يكون مبغوضاً نوعـاً ، ولا التسبّب بها إلى المسبّب ، بل ينقدح أنّ الغرض مـن النهي هـو الزجـر عـن المعاملة بلحاظ آثارها ; فالممنوع هـو ترتيب الآثار المطلوبة عليها كسائر معاملاتهم ، وهو مساوق للفساد ، فتدبّر .

في التمسّك بالروايات على فساد المعاملة المنهي عنها :

وربّما يستدلّ(19) لدلالة النهي على الفساد إذا تعلّـق بعنوان المعاملة بروايات :

منها : صحيحة زرارة المروية في نكاح العبيد والإماء عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ قال : سأله عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده .

فقال : «ذاك إلى سيّده ; إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما» .

قلت : أصلحك الله إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : إنّ أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له .

فقـال أبـو جعفر : «إنّـه لم يعص الله ، إنّما عصى سيّده ، فـإذا أجـازه فهو لـه جائز»(20) .

ومنها : ما عن زرارة أيضاً عن أبي جعفر قال : سألته عن رجل تزوّج عبده امرأة بغير إذنه ، فدخل بها ، ثمّ اطّلع على ذلك مولاه .

فقال : «ذاك إلى مولاه ; إن شاء فرّق بينهما» .

إلى أن قال : فقلت لأبي جعفر فإنّه في أصل النكاح كان عاصياً .

فقال أبو جعفر : «إنّما أتى شيئاً حلالاً ، وليس بعاص لله ، إنّما عصى سيّده ولم يعص الله ، إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من نكاح في عدّة وأشباهه»(21) .

وجه الاستدلال : إنّما هو الأخذ بالمفهوم ; وهو أنّ النكاح لو كان معصية الله لكان باطلاً ، ولكن المقام ليس منها .

وهناك إشكال معروف صعب الاندفاع ; وهو أنّ عصيان السيّد يستلزم كونه عاصياً لله تعالى ، فالنكاح بلا إذن بما أنّه مخالفة السيّد وعصيان له عصيان لله سبحانه ; لحرمة مخالفة المولى شرعاً .فمال القوم يميناً ويساراً ، واختار كلّ مهرباً غير نقي عن الإشكال .

والذي يختلج في البال : أ نّه مبني على ما قدّمناه ; من أنّ حرمة عنوان عرضي منطبق على شيء حلال بالذات لا تسري إليه ; لعدم كون الخارج ظرف تعلّق الحكم ، كما مرّ في مبحث الاجتماع (22).

وذلك كمخالفة السيّد وأصل النكاح ; فإنّ ما هو المحرّم هو عنوان مخالفة السيّد ، والنهي إذا تعلّق به لا يتجاوز عنه إلى عنوان آخر ، كالنكاح والطلاق .

وحينئذ فالتزويج الخارجي ينطبق عليه عنوانان : أحدهما عنوان النكاح ، وهو لم يتعلّق به نهي من المولى ، بل يكون مشروعاً متعلّقاً للأمر ، وعنوان عصيان المولى الذي تعلّق به النهي .

فالمصداق المفروض مصداق لعنوان ذاتي له وهو مشروع تعلّق به الأمر ، وعنوان عرضي وهو مخالفة السيّد وهو محرّم . وانطباق الثاني على النكاح عرضاً لا يوجب كونـه حـراماً ; لوقـوف كلّ حكم على عنوانـه ، ولا يسري إلى ما يقارنـه أو يتّحد معه .

والحاصل : أنّ مورد السؤال والجواب النكاح بما له من المعنى المتعارف ـ  أي ما صنعه العبد بلا إذن مولاه ـ ومع ذلك أ نّه عصيان سيّده ، وليس بعصيان الله :

أمّا عصيان السيّد فلأنّ ارتكابه هذا الأمر المهمّ بلا إذنه خروج من رسم العبوديـة وزيّ الرقّيـة. وأمّا عـدم كون النكاح عصياناً لله : فلأنّ ما حـرّم الله علـى العبد هـو عنوان مخالفتـه لمولاه لا النكاح والطلاق وغيرهما ، وانطباقها أحياناً على مصاديق المحلّلات لا يوجب كونها حرامـاً ; لعـدم تجاوز النهي عـن عنوان إلى عنوان آخر .

فالتزويج الخارجي مصداق لعنوان محرّم ـ وهو مخالفة المولى ـ وعنوان غير محرّم ـ وهو النكاح ـ وهو بانطباق العنوان الأوّل عاص لله وبانطباق العنوان الثاني لم يعص الله بل عصى سيّده .

أمّا الثاني فواضح ، أمّا الأوّل فلعدم تحريم منه تعالى ، ومورد السؤال هو ما يصدر عن العبد ، وهو أصل النكاح .

ويشهد على ما ذكر شواهد في متون الروايات :

منها : قوله ـ عليه السلام ـ في الروايـة الثانيـة : فقلت لأبي جعفر : فإنّـه في أصل النكاح كـان عاصياً . فقال أبـو جعفر : «إنّما أتى شيئاً حـلالاً ، وليس بعاص لله ، إنّما عصى سيّده» .

حيث صرّح بأنّ أصل النكاح شيء حلال ليس بمعصية الله ، ومع ذلك عصى سيّده ـ  أي في النكاح  ـ فالتزويج عصيان السيّد ومخالفة السيّد عصيان الله ، والمخالفة بعنوانها غير النكاح ; وإن اتّحدت معه خارجاً .

فظهر : أنّ المنفي من عصيان الله هو عصيانه في أصل النكاح لا عصيانه بعنوان مخالفة السيّد. فالعبد لم يعص الله في أصل النكاح حتّى يصير فاسداً ; وإنّ عصى سيّده في النكاح باعتبار وقوعه بلا إذنه .

ومنها : ما في صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبدالله في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه أعاص لله ؟ قال : «عاص لمولاه» .

قلت حـرام هـو ؟ قال : «مـا أزعم أ نّـه حـرام ، وقل لـه أن لا يفعل إلاّ بـإذن مولاه»(23) .

ترى أنّ ظاهره كونه حلالاً ، مع أ نّه ممنوع من فعله إلاّ بإذن مولاه ، وما هذا إلاّ لأجل ما تقدّم من أنّ النكاح ليس بحرام ، لكن ينطبق عليه عنوان محرّم ; وهو مخالفة المولى .

ومنها : قوله ـ عليه السلام ـ في رواية زرارة المتقدّمة بعد قوله : «إنّما عصى سيّده ولم يعص الله» «إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من نكاح في عدّة وأشباهه»(24) ; حيث فرّق بينـه وبين ما تعلّق النهي بنفس الطبيعة بعنوانها ، وليس ذلك إلاّ لما ذكرنا .

تذنيب : في دعوى دلالة النهي على الصحّة :

حكي عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحّة(25) ; لأنّ النهي لا يصحّ إلاّ عمّا يتعلّق به القدرة ، والمنهي عنه هو وقوع المعاملة مؤثّرة صحيحة ; فلو كان الزجر عن معاملة مقتضياً للفساد يلزم أن يكون سالباً لقدرة المكلّف ، ومع عدم قدرته يكون لغواً .

فلو كان صوم يوم النحر والنكاح في العدّة ممّا لا يتمكّن المكلّف من إتيانهما يكون النهي عنهما لغواً ; لتعلّقه بأمر غير مقدور .

وأجاب عنه المحقّق الخراساني : بأنّ النهي عن المسبّب أو التسبّب به في المعاملات يدلّ على الصحّة ; لاعتبار القدرة في متعلّقه ، وأمّا إذا كان عن السبب فلا ; لكونه مقدوراً ; وإن لم يكن صحيحاً(26) ، انتهى .

وأنت خبير : بـأنّ مـورد نظرهما ليس نفس السبب بما هـو فعل مباشـري ; إذ ليس السبب متعلّقاً للنهي في الشريعـة حتّى يبحث عنـه ـ وإن كـان التسبّب منهياً عنه أحيانـاً  ـ بل مـورد النظر هـو المعاملات العقلائيـة المعتدّ بها لولا نهي الشارع عنها .

وبذلك يظهر النظر فيما أفاده بعض الأعيان في تعليقته : من سقوط قولهما على جميع التقادير ; لأنّ ذات العقد الإنشائي غير ملازم للصحّة ، فمقدوريته لذاته لا ربط له بمقدوريته من حيث هو مؤثّر فعلي ، وإيجاد الملكية عين وجودها حقيقة وغيرها اعتباراً . والنهي عنه وإن دلّ عقلاً على مقدوريته لكن لا يتّصف هو بالصحّة ; لأنّ الاتّصاف إن كان بلحاظ حصول الملكية فهي ليست أثراً له ; لأنّ الشيء ليس أثراً لنفسه ، وإن كان بلحاظ الأحكام المترتّبة على الملكية المعبّر عنها بآثارها فنسبتها إليها نسبة الحكم إلى موضوعه ، لا المسبّب إلى سببه ; ليتّصف بلحاظه بالصحّة(27) ، انتهى ملخّصاً .

وفيه : أنّ محطّ نظرهما إنّما هو المعاملة العقلائية ; أعني العقد المتوقّع منه ترتّب الأثر والمسبّب عليه لولا نهي الشارع عنه ، فلا يرد إشكاله عليهما .

ولو سلّم تعلّقه بإيجاد الملكية لكن كون الإيجاد منهياً عنه يكشف عن تعلّق القدرة عليه ـ  كما اعترف به  ـ وهو كاشف عن صحّة المعاملة ونفوذها ، لا صحّة الإيجاد حتّى يقال : إنّه لا يتّصف بها . فقوله أجنبي عن محطّ كلامهما على تقدير ، ومثبت له على الآخر .

والتحقيق : أنّ الحقّ معهما في المعاملات إذا أحرزنا أنّ النهي تكليفي لا إرشادي إلى فساده ; إذ حينئذ يتمحّض ظهوره في الفساد .

هذا إذا لم نقل بأنّ النهي إذا تعلّق بمعاملة لأجل مبغوضية ترتيب الآثار المطلوبة عليها يدلّ على الفساد في نظر العقلاء ، وإلاّ يصير نظير الإرشاد إلى الفساد ، ويسقط قولهما .

وأمّا العبادات فالمنقول عنهما ساقط فيها على أيّ تقدير ; سواء قلنا بوضعها للأعمّ أم الصحيح ، أمّا على الأوّل فواضح ; لصحّة إطلاق الصلاة على الفاسد وإمكان تعلّق النهي به .

وأمّا على الثاني : فلما قدّمناه من أنّ المراد من الصحيح ليس هو الصحيح من جميع الجهات ; إذ الشرائط الآتية من قبل الأمر خارجة من المدلول ، بل مطلق الشرائط على التحقيق . وحينئذ فلا منافاة بين الصحيح من بعض الجهات وبين الفساد والمبغوضية ; بحيث لا يصلح للتقرّب .

ولو قلنا بالصحّة الفعلية فلا يجتمع مع النهي أصلاً ; لأنّ العبادة تتقوّم بالأمر أو الملاك ، والأمر لا يجتمع مع النهي ; لكون العنوان واحداً . ومثله الملاك ; إذ لا يمكن أن يكون عنوان واحد محبوباً ومبغوضاً وذا صلاح وفساد بحيثية واحدة .

تنبيه : في حكم تعلّق النهي بجزء العبادة أو شرطها أو وصفها :

قد تقدّم الكلام في النهي المتعلّق بنفس العبادة ، فبعد البناء على فسادها بتعلّقه بها فهل يوجب تعلّقه بجزئها أو شرطها أو وصفها اللازم أو المفارق فسادها أو لا ؟

ومحطّ البحث هو اقتضاء الفساد من هذه الحيثية لا الحيثيات الاُخر ، مثل تحقّق الزيادة في المكتوبة أو كون الزائد المحرّم من كلام الآدمي أو غير ذلك ممّا لسنا بصدده الآن .

التحقيق هو الثاني ; لأنّ البحث فيما إذا تعلّق بنفس الجزء لا بالكلّ ; ولو باعتباره . وحينئذ فمبغوضية الجزء يوجب فساد نفسه لا الكلّ ، ولا تسري إليه ، ولو كان قابل التدارك يأتي به ثانياً ، وإلاّ فالفساد مستند إلى حيثية اُخرى من فقدان الجزء أو زيادته ، والنهي لم يوجب ذلك .

وتوهّم : أنّ تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالإضافة إليه بشرط لا(28) ، مدفوع بعدم الدليل عليه ، على أ نّه خارج من محطّ البحث ، كما عرفته .

وأمّا الوصف فلأنّ المبغوض ليس إلاّ الجهر ـ مثلاً ـ في صلاة الظهر ، فلا يستدعي مبغوضية الموصوف .

وإن شئت قلت : إنّ الأمر تعلّق بعنوان الصلاة أو القراءة فيها ، والنهي تعلّق بإجهار القراءة فيها ; بحيث يكون المنهي عنه نفس الإجهار وإضافة الإجهار إلى القراءة من قبيل زيادة الحدّ على المحدود . والعنوانان في محطّ تعلّق الأحكام مختلفان ، فلا يضرّ الاتّحاد مصداقاً .

ثمّ إنّ المراد من الوصف اللازم ما لا يمكن سلبه مع بقاء موصوفه ، كلزوم الجهر للقراءة ; حيث ينعدم القراءة الشخصية مع إنعدام وصفها ; وإن يمكن إيجادها في ضمن صنف آخر . وليس المراد منه ما لا تكون فيه مندوحة في البين ; بحيث يلازم الموصوف في جميع الحالات; لامتناع تعلّق الأمر بشيء والنهي بلازمه غير المنفكّ عنه . وقس عليه غير اللازم من الوصف; من حيث عدم الإبطال .

فتلخّص : أنّ المقام من قبيل اجتماع الأمر والنهي ، فالبطلان على القول به مبني إمّا على منع كون المبعّد مقرّباً أو على انتفاء الوصف في الصلاة ، وهو أجنبي عن البحث ; لأنّ البحث في اقتضاء كون النهي ذلك ، كما هو ملاك البحث عند تعلّقه بنفس العبادة .

نعم ، لو تعلّق النهي بالقراءة المجهور بها ; بحيث يكون بين العنوانين عموم مطلق فللتأمّل فيه مجال ; إذ لقائل أن يمنع جريان أحكام باب الاجتماع فيه ; لأنّ المطلق الواجب هو عين المقيّد الحرام ; فإنّ المطلق نفس الطبيعة ، وليس قيداً مأخوذاً فيه . فالمقيّد هو نفس الطبيعة مع قيد ، فيتّحد العنوانان في حين توارد الأمر والنهي . وقد سبق أنّ وقوع العامّ والخاصّ المطلقين محلّ النزاع لا يخلو من إشكال(29) .

وأمّا الشرط فكما لو تعلّق الأمر بالصلاة متستّراً وتعلّق النهي بالتستّر في الصلاة بوجه خاصّ أو بشيء خاصّ ; لامتناع تعلّقه بالتستّر مطلقاً مع شرطيته في الجملة ، وحينئذ فتعلّق النهي بصنف من التستّر ـ أعني التستّر بوبر ما لا يؤكل لحمه  ـ لا يقتضي إلاّ مبغوضية شرطه لا المشروط ، ومبغوضية التستّر بنحو خاصّ أو بصنف خاصّ لا  ينافي محبوبية الصلاة متستّراً، فإنّ التقييد بالتستّر المأخوذ فيها أمر عقلي ، ليس كالأجزاء ، فيمكن أن يتقرّب مع التستّر بستر منهي عنه ، ولا يلزم اجتماع الأمر والنهي ، ولا المبغوض والمحبوب في شيء واحد .

وأمّا على القول بأنّ الأمر بالمقيّد ينبسط على نفس الشرط كالجزء كان حكمه حكم الجزء كما عرفت .

والقول بأنّ فساد الشرط يوجب فقدان مشروطه(30)  خروج من محطّ البحث ; إذ الفساد من حيثية اُخرى لا ينافي عدم الفساد من جانب النهي ، كما أنّ ما ذكرناه في الجزء والشرط والوصف حكم النهي التحريمي لا ما هو ظاهر في الإرشاد إلى الفساد ، هذا حكم العقل . وأمّا الاستظهار من الأدلّة فلا مضايقة عن دلالتها على الفساد أحياناً .

____________

1 ـ كفاية الاُصول : 217 ، فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 2 : 454 .

2 ـ قوانين الاُصول 1 : 154 ، الفصول الغروية : 139 / السطر28 .

3 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 18 ـ 20 .

4 ـ تقدّم في الصفحة 18 ـ 19 .

5 ـ زبدة الاُصول : 99 ، الاثنا عشرية في الصلاة اليومية : 55 ، الهامش 193 .

6 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 455 ـ 456 .

 7ـ كفاية الاُصول : 220 ، نهاية الأفكار 1 : 73 ـ 74 .

8 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 96 .

9 ـ كفاية الاُصول : 222 .

10 ـ الاستصحاب ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ  : 71 ـ 72 .

11 ـ أجود التقريرات 1 : 392 .

12 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 462 .

13 ـ علل الشرائع : 342 / 1 ، وسائل الشيعة 4 : 347 ، كتاب الصلاة ، أبواب لباس المصلّي ، الباب 2 ، الحديث 7 .

14 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 187 ـ 188 .

15 ـ اُنظر درر الفوائد : 185 ـ 186 .

16 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 411 ـ 413 و 423 .

17 ـ مطارح الأنظار : 163 / السطر28 .

18 ـ مطارح الأنظار : 164 / السطر7 .

19 ـ الوافية في اُصول الفقه : 104 .

20 ـ الكافي 5 : 478 / 3 ، وسائل الشيعة 21 : 114 ، كتاب النكاح ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، الباب 24 ، الحديث 1 .

21 ـ الكافي 5 : 478 / 2 ، وسائل الشيعة 21 : 115 ، كتاب النكاح ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، الباب 24 ، الحديث 2 .

22 ـ تقدّم في الصفحة 44 ـ 45 .

23 ـ الكافي 5 : 478 / 5 ، وسائل الشيعة 21 : 113 ، كتاب النكاح ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، الباب 23 ، الحديث 2 .

24 ـ تقدّم في الصفحة 83 .

25 ـ اُنظر مطارح الأنظار : 166 / السطر15 ، المحصول في علم اُصول الفقه 2 : 455 ـ 456 .

26 ـ كفاية الاُصول : 228 .

27 ـ نهاية الدراية 2 : 407 ـ 408 .

28 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 465 .

29 ـ تقدّم في الصفحة 37 .

30 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 466 .

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.