أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-7-2016
5458
التاريخ: 27-7-2016
1568
التاريخ: 26-7-2016
2129
التاريخ: 26-7-2016
1244
|
... أما الثنائية التاريخية: فتعود لدى أكثر القائلين بها إلى تفسير نشأة اللغة الإنسانية بمحاكاة الأصوات الطبيعية؛ كتقليد الإنسان أصوات الحيوان، وأصوات مظاهر الطبيعة، أو تعبيره عن انفعالاته الخاصة, أو عن الأفعال التي تُحْدِث عند وقوعها أصواتًا معينة(1). "فالكلم وُضِعَت في أول أمرها على هجاء واحد، متحرك فساكن, محاكاة لأصوات الطبيعة، ثم فئمت -أي زيد فيها حرف أو أكثر في الصدر أو في القلب أو الطرف- فتصرف المتكلمون بها تصرفًا يختلف باختلاف البلاد، والقبائل، والبيئات، والأهوية.
فكان لكل زيادةٍ، أو حذفٍ، أو قلبٍ، أو إبدال، أو صيغة معناة، أو غاية، أو فكرة دون أختها، ثم جاء الاستعمال فأقرها مع الزمن على ما أوحته إليهم الطبيعة، أو ساقهم إليها الاستقراء، والتتبع الدقيق؛ وفي كل ذلك من الأسرار والغوامض الآخذة بالألباب، ما تجلت بعد ذلك تجليًّا بديعًا، استقرت على سُنَن وأصول وأحكام لن تتزعزع! "(2).
ومن علماء العرب مَنْ مال إلى تقرير هذه الظاهرة اللغوية في نصوص
ص148
واضحة، كابن جني الذي ينسب هذا الرأي إلى بعض العلماء، ثم يبدي إعجابه به وتقلبه له، فيقول: "وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات؛ كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيح الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الطبي، ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن لك فيما بعد, وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل"(3).
بل نجد ابن جني في موضع آخر من "خصائصه" يبذل جهدًا مشكورًا في توضيح هذا الرأي وتقريره، فيخصه ببحث قيِّمٍ عنوانه: "باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني" ويستهلّ الباب بقوله: "اعلم أنّ هذا موضع شريف لطيف، وقد نبَّه عليه الخليل وسيبويه، وتلقته الجماعة بالقبول له والاعتراف بصحته. قال الخليل: "كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومدًّا فقالوا: صَرَّ، وتوهموا في صوت البازي تقطيعًا فقالوا: صَرْصَرَ". وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفَعَلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة، نحو: النَّقَزَان(4)، والغَلَيَان والغَثَيَان، فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حر كات الأفعال، ووجدت أنا "ابن جني" من هذا الحديث أشياء كثيرة على سمت ما حذياه، ومنهاج ما مثّلاه, وذلك أنك تجد المصادر الرباعية، المضعَّفة تأتي للتكرير نحو: الزعزعة والقلقلة والصلصلة والقعقعة والجرجرة والقرقرة(5)، ووجدت أيضًا "الفَعَلَى" في المصادر والصفات إنما تأتي للسرعة نحو: البَشَكى(6) والجَمَزى(7) والوَلَقَى(8)"(9).
ص149
وهذا النص عظيم الفائدة، شديد الإيحاء، وحسبنا أننا عرفنا منه أن هذه المناسبة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله قد تنبه إليها علماء اللغة القدامى، كالخليل وسيبويه، بل لقد نبه عليها الأخيران تنبيهًا شديدًا, سمح لابن جني أن يقول: "إن هذا الموضع الشريف تلقته الجماعة بالقبول له والاعتراف بحصته".
وممن صرَّح بهذه الظاهرة وقرَّرَها عبَّاد بن سليمان الضيمريّ أحد رجال الاعتزل المشهورين في عصر المأمون؛ فقد ذهب "إلى أن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع على أن يضع، قال: "وإلّا لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمّى المعين ترجيحًا من غير مرجّح"(10).
وقد أثَّر عبَّاد في طائفة من اللغويين ظلت تدين بهذه المناسبة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، وربما تكلف بعضهم في إظهار هذه المناسبة حتى خرجوا على طبيعة العربية نفسها ليقولوا كلمتهم في هذا الموضوع في لغات أعجمية لا نعرف على وجه التحديد مدى إجادتهم لها. ويذكر السيوطي أن بعض من يرى رأي عبّاد "سئل ما مسمى "أذغاغ "؟ وهو بالفارسية الحجر، فقال: أجد فيه يبسًا شديدًا، وأراه الحجر"(11).
فهذه العلاقة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله, لا يقتصر فيها إذن -عند عبّاد وأتباعه- على اللغة العربية، بل تشمل سائر اللغات؛ لأن كلمة "أذغاغ" فارسية، ولكن هذا الذي يرى رأي عبَّاد -وهو يجهل الفارسية أو ربما كان ملمًّا بها إلمامًا خفيفًا- واستنبط المدلول من الصوت.
وقد أشكل على بعض الباحثين إنكار الجمهور مقالة عباد، لما عرفناه
ص150
آنفًا من أن "الجماعة -كما ينص ابن جني- تلقت هذا المذهب بالقبول".
وليس مرد الخلاف في الحقيقة إلى وجود هذه المناسبة الطبيعية وعدم وجودها، بل إلى ما يراه عبّاد من أن هذه المناسبة ذاتية موجبة، بمعنى أنها لا تتخلف, ولا بد من وجودها, وإن كنا أحيانًا لا نستشعرها أو لا نفهمها. وهذا ما يوضحه السيوطي بعبارته التالية: "وأما أهل اللغة العربية فقد كادوا يطبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني؛ لكن الفرق بين مذهبهم ومذهب عبّاد, أن عبادًا يراها ذاتية موجبة، بخلافهم, وهذا كما تقول المعتزلة بمراعاة الأصلح في أفعال الله تعالى وجوبًا، وأهل السنة لا يقولون بذلك مع قوهم: إنه تعالى يفعل الأصلح, لكن فضلًا منه ومَنًّا لا وجوبًا، ولو شاء لم يفعله"(12).
فقد أكَّد هذا العالم الجليل المتأخر إذن -بعد استيعابه مؤلفات اللغويين السابقين التي فقد منها الكثير- أن أهل اللغة بوجهٍ عامٍّ, والعربية بوجه خاصٍّ, قد كادوا يطبقون على ثبوت المناسبة الطبيعية بين الألفاظ والمعاني.
وبذلك تلاقى مع ابن جني على صعيد واحد، فكان لا بد لنا من الاقتناع بهذه الظاهرة اللغوية التي تبعد فتحًا مبينًا في فقه اللغات عامة.
على أنّ ابن جني يظل رائد اللغوين القدامى الذين لاحظوا هذه الظاهرة وقرروها، فهو يقول: "فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع، ونهج متلئبٌ(13)، عند عارفيه مأموم، وذلك أنهم كثيرًا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبّر بها عنها, فيعدلونها بها ويحتذونها عليها، وذلك أكثر مما نقدره, وأضعاف ما نستشعره ... ومن ذلك القد طولًا، والقط عرضًا، وذلك أن الطاء أخفض للصوت وأسرع قطعًا له من الدال, فجعلوا الطاء المناجزة
ص151
لقطع العرض لقربه وسرعته، والدال المماطلة لما طال من الأثر، وهو قطعه طولًا"(14).
ولا ريب أن في مراعاة اللين أو القوة، والخفة أو الشدة، والهمس أو الجهر، في التعبير عن هذه الطائفة من المعاني التي سبقت الإشارة إليها، دليلًا واضحًا على المحاكاة الإنسانية المقصودة لأصوات الظاهرات المعبر عنها. ونحن لا نحتاج إلّا كبير عناءٍ حتى نلمح العلاقة الطبيعية بين الألفاظ الموضوعة لمحاكاة الأصوات التي تصدر من الحيوانات، فالعصفور يزقزق، والحمام يهدل، والقمريّ يسجع، والهرة تموء، والكلب ينبح، والعجل يخور، والذئب يعوي ... إلخ. وأنت إذا قابلت مصادر هذه الأفعال: الزقزقة، والهديل، والسجع، والمواء، والنباح، والخوار، والعواء، بالأصواء التي تسمعها من الحيوانات أيقنت بأنها تقارب كثيرًا أصول تلك الأصوات. وقلْ مثل ذلك في هزيم الرعد، وحسيس النار، وخرير الماء، في حكاية أصوات الطبيعة، وفي شهيق الباكي، وتأوه المتوجع، وحشرجة المحتضر، ورنين المريض؛ وكرير المختنق، وتمتمة الحائر، وغمغمة الغامض، في حكاية الأصوات المعبرة عن الانفعالات الإنسانية المختلفة؛ وفي قدّ القميص، وقطّ القلم، وقطف الثمرة، وقطع الغصن، وقضم اليابس، وقطم العود، وفري الدم، وفرث البطن، وفرد الباب، وفرس العنق، وفرض الفضة، وفرض الخشبة، وفرع الرأس, في حكاية الأصوات الصادرة عن إحداث القطع.
ص152
__________
(1) انظر عرض آراء العلماء المحدثين في محاكاة الأصوات الطبيعية، في كتاب جسبرسن "اللغة وطبيعتها وتطورها، وأصلها".
Language, its nature, devlopment origin.,Chapter xx
(2) نشوء العربية ونموها واكتمالها للأب أنستاس ماري الكرملي، ص1.
(3) الخصائص 1/ 44-55.
(4) النقزان: الوثب.
(5) القرقرة: الضحك إذا استغرق فيه.
(6) البشكى: امرأة بشكى اليدين والعمل, خفيفة سريعة.
(7) الجمزى: حمار جمزى, سريع.
(8) الولقى: عدو للناقة فيه شدة.
(9) الخصائص 1/ 544.
(10) المزهر للسيوطي 1/ 47.
(11) المصدر نفسه والصفحة ذاتها.
(12) المزهر للسيوطي حـ1/ ص47-48.
(13) المتلئب: المستقيم.
(14) الخصائص لابن جني جـ1/ ص549-550.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|