التكليف بإيداع المستندات من الوسائل العامة لتكوين الاقتناع الذاتي للقاضي الإداري |
![]() ![]() |
أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-04-19
![]()
التاريخ: 23-6-2018
![]()
التاريخ: 8-6-2016
![]()
التاريخ: 5-4-2017
![]() |
نظراً لما يتمتع به القاضي الإداري من دور ايجابي في مجال اثبات الدعوى الإدارية، فله أن يكلف الإدارة أو أي طرف من أطراف الدعوى في أن يقدموا ما بحوزتهم من مستندات يراها من وجهة نظره ضرورية للفصل في موضوع الدعوى، سواء أكان الأمر يتعلق بثبوت ما يدعيه الخصوم أو نفية (1)، إذ يكلف القاضي الإداري أياً من طرفي الدعوى بإيداع بعض المستندات التي يرى بأنها لازمة من أجل تكوين عقيدته واقتناعه، وتكون مباشرة القاضي لهذه الوسيلة بناءً على طلب مقدم من أحد الطرفين، أو أن القاضي يرى بنفسه ضرورة اللجوء لهذه الوسيلة، وتبرز فعالية هذه الوسيلة تبعاً لمدى الاستجابة الصادقة من جانب أطراف الدعوى، والتعاون مع القاضي الإداري خاصة فيما يتعلق بالإدارة التي عادة ما يوجه إليها هذا التكليف (2).
وعليه ومن أجل بيان ما يقع على طرفي الدعوى الإدارية من واجب تقديم المستندات اللازمة لتكوين قناعة القاضي ليتم اصدار حكمة في النهاية، توجب أن يتم توضيح ما يقع على الإدارة من تكليف بإيداع المستندات في النقطة الأولى، وما يقع على الفرد من تقديم لهذه المستندات في النقطة الثانية.
أولاً: تكليف الادارة بإيداع المستندات
إن اعتبار الإدارة سلطة عامة ومنحها امتيازات عدة وأهمها امتياز التنفيذ المباشر، الذي يقضي بأن تعمل على تنفيذ قراراتها تجاه الأفراد من دون الحاجة للجوء للقضاء (3) ، فغالباً ما تكون الإدارة في مركز المدعي عليه، إذ ترفع الدعاوى من قبل الأفراد، علاوة على ذلك أن الادارة لديها ميزة الحيازة للأوراق الإدارية المتمثلة في السجلات والملفات وجميع المحررات المتعلقة بالعمل الإداري، إذ تمثل تلك الأوراق مجموع ما يستند إليه الاثبات أمام القضاء الإداري (4) ، إن الإدارة لحيازتها لهذه المستندات جعلت الفرد يقف في موقف الطرف الأعزل لعدم امتلاكه المستندات اللازمة لإثبات حقة، في مقابل الموقف الأقوى للإدارة المالكة للأوراق المتعلقة بموضوع الدعوى(5).
وبالنسبة لهذه الوسيلة فقد نص عليها المشرع الفرنسي في المادة (37) من المرسوم الصادر بتاريخ 1963/7/30 والخاص بمجلس الدولة الفرنسي، إذ أوضحت هذه المادة على ضرورة اخطار العرائض والطعون للأطراف أصحاب الشأن والوزراء وإذا احتاج الأمر فإنّ الادخال في الدعوى وطلبات المستندات وجميع أعمال التحضير الأخرى تقررها الأقسام الفرعية بناءً على اقتراح المقرر (6).
ومما تجدر الإشارة إليه إن الإدارة لا يقع عليها مثل هذا العبء، إلا بناءً على طلب مقدم من قبل الفرد، أو أن القاضي الإداري هو الذي يطلب منها أن تقدم مثل هذه المستندات (7).
أما المشرع المصري فقد أشار في نصوص قانون مجلس الدولة المصري رقم (47) لسنة 1972 إلى أهمية ايداع الجهة الإدارية المختصة لقلم المحكمة في فترة ثلاثين يوماً من تاريخ اعلانها مذكره بالبيانات والملاحظات المختصة بالدعوى ومشفعة بالمستندات والأوراق الخاصة بها، ولذلك يقع على عاتق مفوض الدولة أن يتصل بالجهات الحكومية المختصة من أجل العمل على تهيئة الدعوى، والحصول على ما يراه ضرورياً من بيانات وأوراق، وأيضاً يكون لرئيس المحكمة أن يطلب من الإدارة لما يكون ضرورياً من الايضاحات (8).
أما ما جرى عليه العمل في العراق ولخلو قانون مجلس الدولة من نص يشير إلى امكانية تكليف الإدارة بتقديم المستندات، ولإحالة قانون مجلس الدولة لكل ما لم يرد نص فيه إلى القوانين المكملة، لذا فإن قانون الاثبات العراقي النافذ رقم (107) لسنة 1979 قد أشار في المادة (57) على أن (للمحكمة أن تأمر أو تأذن بإدخال الغير لإلزامه بتقديم دفتر أو سند تحت يده ولها كذلك أن تطلب من الجهات الادارية أن تقدم ما لديها من المعلومات والوثائق اللازمة للفصل في الدعوى متى رأت المحكمة أن ذلك لا يضر بمصلحة عامة)، ويتضح من هذا النص أن المشرع العراقي أراد أن يلزم الإدارة بنص واضح وصريح بأن تعمل على تقديم ما لديها من مستندات ومعلومات؛ لأجل أن يبت القاضي في الدعوى، إلا أن المشرع قيد الإدارة فيما منحها من رخصة تقديم المستندات، بأن جعل تقديمها لا يعمل على أن تتضرر المصلحة العامة وهي الغاية الكبرى التي تسعى الإدارة لحمايتها، في الوقت نفسه أن القانون قيد المحكمة فيما يخص المستندات بأن تحافظ على سريتها ؛ وذلك في المادة (58/ خامساً) من قانون الاثبات العراقي بقوله (تلتزم المحكمة في جميع الحالات الواردة في الفقرات السابقة بالحفاظ على سرية مضمون السندات أو الاوراق المطلوب عرضها)، ففي هذه المادة وضع المشرع قيد على حرية المحكمة بالطلب من الإدارة تقديم ما لديها من مستندات بالحفاظ على سريتها بالقدر المستطاع خاصة إذا كانت تحتوي على معلومات مهمة لا يجب افشائها.
واستخلاصاً لما سبق ذكرة يتبين أن هذه التشريعات اجمعت على أن الإدارة يقع عليها واجب تقديم ما تحت يدها من مستندات وأوراق ومعلومات ممكن أن تعمل على ايضاح واقع الحال في القضية التي ينظرها القاضي الإداري.
أما ما سار عليه القضاء الإداري الفرنسي بالنسبة لوسيلة تكليف الإدارة بتقديم المستندات، فقد عمل على الاقرار لنفسه بأن يوجه الأوامر إلى الإدارة بتقديم ما تحت يدها من المستندات والأدلة الاثباتية (9)، وهذا الأمر جرى في فرنسا قبل أن يتدخل المشرع الفرنسي ويعطي للقضاء الإداري هذا الحق وبنصوص صريحة (10) وذلك في المرسوم الصادر في 1963/7/31 كما سبقت الإشارة إليه، إذ ازداد الالتجاء لهذه الوسيلة بعد أن تطور اتجاه القضاء الاداري الفرنسي نحو المزيد من الاتساع وذلك بعد أن تأكدت هذه الرخصة للقضاء الاداري منذ حكم Borel في سنة 1954، إذ بصدور هذا الحكم اتضحت معالم سلطة القاضي بتكليف الإدارة، بأن تودع المستندات المهمة التي تعمل على تكوين قناعة القاضي، إذ أشار إلى ذلك المفوض Letourneur في التقرير الذي أعده حول القضية في قولة أن المدعي الذي يتقدم بادعاءات محددة يجب أن تدعم ادعاءه هذا عناصر وقرائن قوية(11).
أما ما جرى عليه العمل في مجلس الدولة الفرنسي فإن عبء الاثبات ينتقل إلى الادارة فيما يتعلق بالشكليات الواجب توفرها في القرار الاداري، إذ أشار مجلس الدولة إلى ذلك في قراره في قضية Babonneix (12)، أيضاً يقع عبء الاثبات على عاتق الإدارة فيما يتعلق بحالات الاختصاص المقيد، أو المخالفات التي يستند اليها قرار الجزاء أو الوقائع الداخلية للإدارة كالتفويض في التوقيع أو تنحية السلطة المختصة (13).
وبقي أن تتم الإشارة إلى ما حصل من تطور بشأن وسيلة التكليف هذه، إذ لم يقف مجلس الدولة الفرنسي عند هذا الحد بل عمل على بسط سلطته إلى موضوع التكليف نفسه، إذ أصبح بإمكان القاضي الإداري أن يكلف الإدارة بأن تقدم الاسباب الواقعية والقانونية التي تعتبر السند في صدور القرار الإداري المطعون فيه وكانت سبباً له، واتضح هذا التطور عندما أصدر مجلس الدولة الفرنسي حكمة فيما يتعلق بالرقابة القضائية على القرارات الاقتصادية (14).
أما القضاء الإداري المصري فيذهب في أحد الاحكام الصادرة من المحكمة الإدارية العليا، إذ جاء في حيثيات هذا الحكم .... ويقع عبء اثبات نشر القرار الاداري أو اعلانه الى صاحب الشأن أو علمة به في تاريخ معين على عاتق الإدارة إذا دفعت بعدم قبول الدعوى... وذلك حسب ما تستبينه المحكمة من أوراق الدعوى وظروف الحال...) (15) الواضح أن القضاء المصري قد . الأمر في القاء العبء بتقديم المستندات على عاتق الإدارة، إذ اعتبر نشر القرار الصادر منها وتبليغه للطرف الآخر بمثابة واجب ملقى على عاتقها يجب تنفيذه.
ويوجد أمر يجب أن يشار إليه وهو أن المستندات التي يفترض بالإدارة أن تقدمها للقضاء يتحتم أن تكون ذات أهمية في حسم موضوع الدعوى ومتعلقة به، بحيث تساهم هذه المستندات في تكوين قناعة القاضي واكتمال عقيدته، إذ تتمثل هذه المستندات في الأوراق المهمة المدرجة في ملف الموظف الشخصي والتقارير التي تؤكد كفاءته، محاضر التحقيقات التي أجريت معه، ما فرض عليه من الجزاءات التأديبية، وغيرها من المستندات التي تعمل على حسم موضوع الدعوى(16).
أما في العراق فأن الواقع العملي لمجلس الدولة يشير إلى أن المستندات التي تكلف الإدارة بتقديمها أمام القضاء الإداري تتم ابتداءً بعد أن يتم تحديد موعد للمرافعة تبلغ الجهة الإدارية بالخضور أمام المحكمة سواء اكانت محكمة قضاء إداري أم محكمة قضاء الموظفين، والإجابة على ما جاء بعريضة الدعوى المقدمة من قبل المدعي، بعد أن يحضر ممثل عن الدائرة المعنية (الموظف القانوني) يعمل على تقديم المستندات التي تؤيد ما يدعيه، وأن الأصل أن يتم تكليف الإدارة بأن تقدم المستندات المتعلقة بالقرار المطعون به بشكل مباشر عن طريق الممثل الحاضر عنها في الدعوى، وقد يتم مطالبة الدائرة المعينة بأن ترسل بعض المستندات المطلوبة إلى المحكمة (17).
أما ما يذهب إليه الفقه فيما يتعلق بمدى الجواز بأن يكلف القاضي الإدارة بتقديم المستندات الموجودة بحوزتها التي يراها لازمة للفصل في الدعوى، فأن لا خلاف على تمتعه بذلك في النطاق الممنوح للقاضي في ظل سلطته التقديرية وأن هذا الأمر لا يمس بمبدأ الفصل بين السلطات ولا يشكل تعدياً لهذا المبدأ، في حين هنالك رأي من الفقه يذهب إلى أن السلطة الايجابية للقاضي الإداري في تحضير الدعوى، وسيادة الصفة الاستيفائية لإجراءات التقاضي تمنحه الحرية الكافية في أن يوجه الأمر إلى الإدارة بأن تعمل على تقديم المستندات التي تحت يدها (18).
ويتضح أن هذا الرأي هو أرجح الآراء الذي يتفق مع السير العادي للأمور في الدعوى الإدارية، ويعمل بنفس الوقت على تخفيف العبء الملقى على عاتق الفرد الذي يكاد يكون متجرداً في أغلب الأحيان من المستندات التي تثبت حقة.
بقي أن تتم الإشارة الى مسألة وهي أنه قد يصاحب تقديم هذه الوسيلة امتناع من جانب الإدارة بتقديمها، وهو ما يطلق عليه نكول الإدارة عن تقديم المستندات، وما قد يكون هذا الرفض مشفوع بحجج قد تبدو مقبولة نوعاً ما، لذا فأن التشريعات قد تباينت في معالجتها لهذا الامتناع :-
للإجابة على ذلك نقول أن المشرع الفرنسي أشار في قانون الاجراءات الإدارية الذي اصبح مطبقاً منذ الأول من كانون الثاني عام 2001 لهذه المسألة وذلك في المادة (R612/6) بقولة (إذا لم يقدم المدعى عليه أو الدفاع أي مذكرة، بالرغم من الانذار الرسمي، فإنه يعتبر قابلا أو موافقاً بالوقائع المنصوص عليها في مذكرات المدعي)، يتضح من هذا النص أن المشرع أراد اعتبار امتناع المدعى عليه (الادارة) عن تقديم المستندات بمثابة إقرار من جانبها بما يدعيه المدعي من وقائع، ومن ثم اقام قرينة مفادها أن نكول الإدارة عن تقديم ما تحت يدها من أوراق كان من المفترض تقديمها للمحكمة، قرينة واضحة بأثبات حق المدعي.
أما المشرع المصري فأنه أوضح في قانون مجلس الدولة رقم (47) لسنة 1972 النافذ في المادة (31) بأنه (...إذا رأت المحكمة تحقيقاً للعدالة قبول دفع أو طلب أو ورقة جديده جاز لها ذلك مع جواز الحكم على الطرف الذي وقع منه الإهمال بغرامة لا تتجاوز عشرين جنيها يجوز منحها للطرف الآخر ...)، يتبين من هذا النص أن المشرع المصري أراد أن يحقق العدالة بين الأطراف المتخاصمين في الدعوى، وذلك من خلال تقديم كل ما من شأنه أن يعمل على تحقيقها إلى الحد الذي فرض فيه غرامة على الطرف الذي يقع منه الاهمال بأن يتم دفعها للطرف الآخر.
اما موقف المشرع العراقي فإنه نص في قانون الاثبات رقم (107) لسنة 1979 المعدل في المادة (9) منه على أن للقاضي أن يأمر أيا من الخصوم بتقديم دليل الاثبات الذي يكون بحوزته، فأن امتنع عن تقديمة جاز اعتبار امتناعه حجة عليه، والواضح أن المشرع العراقي في قانون الاثبات قد أعطى للقاضي الإداري الحرية الكاملة في أن يكلف أياً من طرفي الدعوى، في أن يقدم أياً من المستندات والتي لها أهمية في الدعوى، ومن ثم إذا امتنع أي من الطرفين عن تقديم ما طلب منه، اعتبر هذا الأمر دليل ضد الطرف الممتنع عن تقديمه يجوز استخدامه ضده.
أما التطبيق العملي للقضاء الفرنسي وموقفه من نكول الإدارة بتقديم المستندات، فقد أعتبر أن هذا الامتناع تعسف، وللقاضي هنا أن يعد امتناع الإدارة أو اجابتها بصورة غير مجدية صلاحية له بأن يقوم بإلغاء القرار المطعون فيه وذلك لأسباب منها؛ إما لأنها (أي الإدارة) قد أحالت بين القضاء ورقابة المشروعية، أو أنها قد سلمت بالوقائع التي قدمها المدعي مما استوجب النظر اليها وكأنها صحيحة (19).
أما القضاء المصري فقد قضى في أحد أحكامه إلى أنه .(... بأن نكول الادارة عن تقديم ما طلب منها تقديمة من مستندات أو بيانات يقيم قرينة لصالح المدعي بصدق ما جاء بدعواه الأمر الذي يؤدي الى نقل عبء اثبات عكس ذلك الى جانب الادارة ...) (20) ، كذلك قضت المحكمة الإدارية العليا بأن (لا يجوز تعطيل الفصل في الدعوى بسبب نكول الادارة عن تقديم ما تحت يدها من مستندات إذا كانت المستندات اللازمة للفصل في الدعوى تحت يد الإدارة وحدها ونكلت عن تقديمها فأن ذلك يعد قرينه لصالح المدعي بصحة ما يدعيه)(21).
في حين أن القضاء الاداري العراقي أشار في احدى احكامه (... لكل ما تقدم ولامتناع المدعي علية عن عرض دفوعه امام المحكمة على الرغم من الكتابة اليه لعدة مرات وعدم استجابته لطلبات المحكمة مما يعد ذلك عجزاً عن اثبات دفع اصولي في رد ادعاءات المدعي قررت المحكمة الغاء قرار المجلس البلدي في الشنافية ... واعادة المدعي الى عضوية المجلس البلدي في الشنافية...) (22).
مما تجدر الإشارة إليه أنه ليس هنالك شكل معين للوسيلة التي يكلف فيها القاضي الإدارة، إذ تكون بأي طريقة ممكن أن تعمل على اتصال علم الادارة بالطلب من اجل أن يؤدي امتناعها عن الاستجابة ترتيب آثر معين في مواجهتها (23).
ومن الحجج التي قد تتعذر بها الإدارة من تقديم المستندات المطلوبة هو اهمية تلك المستندات وسريتها والتي قد تتعلق بأمن الدولة أو نظامها العام، الأمر الذي لا يتفق مع المصلحة العامة أن تقوم بتقديمها، فهنا لا يتصور امتناع الادارة عن تقديمها دليل يمكن أن يستخدم ضدها ويعتبر نكول بحق الادارة.
واستخلاصاً لما سبق ذكره من موقف المشرع والقضاء من نكول الإدارة عن تقديم ما تحت يدها من أدلة، تترتب نتيجة مفادها أن نكولها يصبح حجة ضدها يجيز للقاضي الاداري أن يبني قناعته على أن يحكم في القضية المعروضة امامه لصالح المدعي، اضافة إلى أنه قد يعمل على اجبارها بأن تقدم ما تحت يدها من مستندات.
ثانياً : تكليف الفرد بإيداع المستندات
أن الفرد في الدعوى الإدارية غالباً ما يقف موقف المدعي والإدارة مدعى عليه وهذه قاعدة عامة في القانون الاداري، إذ يمثل الفرد الطرف الاضعف لكونه لا يملك المستندات الكافية لأثبات حقة، في حين أن الادارة لديها ما يكفي من المستندات الداعمة لموقفها، ومن ثم فأن الفرد ليس أمامه سوى أن يرجع إلى القاضي الإداري طالباً الحماية منه في مواجهة الإدارة (24) ، فالنظرة الفاحصة للنصوص القانونية تقضي بطريقة ضمنية أن الفرد هو المدعي وأن الادارة هي المدعى عليه (25)، وأن الفرد وبحكم مركزه في الدعوى فرض عليه أن يقدم المستندات والأدلة، إضافة إلى أن مصلحته تقتضي أن يبرز
المستندات والتي تمكنه من الحصول على حقة الذي تمت مصادرته من قبل الإدارة (26) ، ولأن الفرد في الغالب لا يملك من المستندات إلا ما ندر، هذا الأمر دعا القاضي الإداري إلى التدخل والقيام بدورة الايجابي في الموازنة بين طرفي الدعوى الإدارية، فهذا التدخل لا يضر بما يتمتع به القاضي الإداري من حياد، إذ لا يكون تدخله هذا إلا لتحقيق العدالة بين اطراف الدعوى الادارية.
وبالنسبة لهذه الوسيلة في فرنسا فأن القسم الفرعي للتحضير في مجلس الدولة هو الذي يقرر وفقاً لما يراه من ايداع للمستندات المنتجة، وذلك عن طريق خطاب بسيط أو طلب يوجه إلى صاحب الشأن من غير الحاجة إلى إصدار حكم سابق على الفصل في الموضوع(27)، وقد نص على هذه الوسيلة في بادئ الأمر والتي يستفاد ضمناً من نصوص القانون الصادر في 1889/6/22، ثم بعد ذلك جاءت المادة (30) من المرسوم الصادر في 1945/6/31 والتي رددت نصوصها المادة (37) من المرسوم الصادر في 1963/7/30 والخاصة بمجلس الدولة الفرنسي، والتي أشارت إلى أن الإخطار بخصوص العرائض والطعون للأطراف أصحاب الشأن والوزير يقررها القسم الفرعي بمجلس الدولة (28).
أما في مصر فقد أشار قانون مجلس الدولة المصري رقم (47) لسنة 1972 بأن للطالب (المدعي) أن يقدم مع عريضة الدعوى من المستندات التي تؤيد ما يطلبه، بالإضافة إلى ايداع قلم المحكمة صوراً للقرار المطعون فيه، إضافة إلى ذلك أجاز المشرع لمفوض الدولة عندما يقوم بتحضير الدعوى أن يطلب ممن لهم صلة بالدعوى تقديم المستندات والمذكرات خلال أجل معين يقوم القاضي بتحديده، كذلك لرئيس المحكمة ممارسة سلطته عندما ينظر الدعوى وذلك بعد احالتها إليه من قبل مفوض الدولة أو هيئة مفوضي الدولة(29).
أما في العراق فقد أشار المشرع العراقي في قانون المرافعات المدنية رقم (83) لسنة 1969 المعدل في المادة (6/46) على أن ( يجب أن تشمل عريضة الدعوى على البيانات الاتية..6- وقائع الدعوى وادلتها وطلبات المدعي واسانيدها ...)، يلاحظ أن المشرع العراقي أجاز للمدعي أن يقدم كل ما من شأنه أن يثبت حقه ويعمل على تدعيم موقفة في الدعوى لأجل الحصول على حقة المشروع.
أما ما يخص القضاء الإداري وما سار عليه في شأن تكليف الفرد بتقديم المستندات، فأن القاضي الاداري الفرنسي يعمل على تحميلها للفرد وذلك في مواضع معينة وخاصةً عند النظر في شروط قبول الدعوى التي تقع على عاتق المدعي ، فإذا لم يقدر أن يقدم الاثبات المطلوب منه كانت الدعوى غير مقبولة (30)، إذ اتجه مجلس الدولة الفرنسي إلى أن يكتفي من المدعي بأن يقدم الادعاء المحدد؛ وذلك عندما يتجرد من القرائن القوية التي تدعم موقفة طالما تعذر عليه تقديمها، إذ يمكن للقاضي هنا مباشرة وسيلة التكليف بتقديم المستندات (31) ، ويستشف من هذا القرار أن القضاء الإداري الفرنسي في البدء يعمل على تكليف الفرد بما يؤيد ادعائه، فأن كان غير قادر على تدعيم موقفة أصبح على القاضي هنا أن يعمل بمسؤوليته ويكلف الإدارة بأن تقدم ما تحوزه من أدلة ومستندات.
أما القضاء المصري فإنه في بعض الأحيان قد يحمل الفرد عبء اثبات ما يدعيه؛ وهذا الأمر راجع لكون الحق المطالب به من قبل المدعي مما يجب أن يتم اثباته من قبل الفرد، فقد جاء في حيثيات أحد أحكامه (.... بأن عبء اثبات تنفيذ اعمال اضافية يقع على عاتق المقاول...)(32).
أما القضاء الإداري العراقي فأنه يعمل على تكليف المدعي بتقديم المستندات الضرورية الخاصة بموضوع الدعوى، فأن ادعى أن المستندات التي طلبت منه تحت حيازة الإدارة وليس لديه أي نسخة منها، هنا يقوم القاضي بتكليف الإدارة من أجل تقديم المستندات لغرض التوصل للحقيقة (33)، وفي إحدى القرارات الصادرة عن المحكمة الإدارية العليا والتي تبين أن الفرد كمدعي عاجز عن تقديم ما يثبت حقة .... ولدى عطف النظر على الحكم المميز وجد أن المدعي يعترض على قرار هيئة الطعن التابعة إلى مؤسسة السجناء السياسيين المرقم (137104/2427 هـ / 2017 في 2020/9/7 المتضمن رد طلبه باحتساب فترة اعتقاله. مع والدته للفترة من (1981/2/5) لغاية (1981/6/15)، وقد قضت محكمة القضاء الإداري برد دعوى المدعي لعدم تقديمة ما يؤيد الاعتقال، لاحظت المحكمة الادارية العليا أن محكمة القضاء الاداري اصدرت حكمها المميز دون ان تلاحظ ان المدعي مشمول بقانون مؤسسة السجناء السياسيين رقم (4) لسنة 2006 ويطلب احتساب تاريخ جديد لفترة الاعتقال، وكان على المحكمة ان ترد الدعوى لعجز المدعي عن اثبات المدة الجديدة وليس الشمول بقانون المؤسسة، وحيث إن المحكمة قضت برد الدعوى لسبب أخر، لذا قرر بالاتفاق تصديق الحكم المميز من حيث النتيجة ورد الطعن التمييزي..)(34).
ونتيجة لموقف الفرد بكونه الطرف الأضعف في الدعوى لذا منح عدة خيارات في موضوع تقديم المستندات، فالخيار الأول يتمثل في أن الفرد هو الذي يتكفل بتقديم كافة المستندات والتي تعمل على اثبات ما يدعي به في عريضة الدعوى المقدمة من قبله وهذا شبه المستحيل على الفرد، أما الخيار الثاني فأن الفرد وإن كان في الغالب لا يملك لهذه المستندات ولذا يطلب من قاضية الاداري أن يعمل على تكليف الإدارة بتقديم المستندات الخاصة بالدعوى، والقاضي الإداري في كل ذلك له حرية التقدير في تكليف الإدارة بتقديم ما لديها من مستندات (35).
ونخلص من كل ذلك إلى نتيجة مفادها أن وسيلة التكليف بإيداع المستندات تمثل وسيلة فعالة في بناء قناعة القاضي الإداري؛ لكونها تجسد محور العملية القضائية في الدعوى الإدارية القائمة على المستندات المكتوبة.
_____________
1- د. عبد العزيز عبد المنعم خليفة، اصول اجراءات الاثبات في الخصومة الادارية، مطبعة المعارف، الاسكندرية 2016، ص 143 وما بعدها.
2- د. احمد كمال الدين موسى نظرية الاثبات في القانون الاداري (دراسة مقارنة )، دار الفكر الجامعي، القاهرة، 2012، ص 285-286.
3- ماهر عباس ذيبان وسائل الاثبات في الدعوى الادارية (دراسة مقارنة) دار السنهوري، بغداد، 2018، ص 76.
4- د. سامي جمال الدين موسى، نظرية الاثبات في القانون الاداري، اطروحة دكتوراه مقدمة إلى كلية الحقوق، جامعة القاهرة، 1976، ص 47-48.
5- د. محمود حمدي احمد مرعي، ظاهرة بطء الفصل في الدعاوى الادارية، دار الجامعة الجديدة، الاسكندرية، 2016، ص 178.
6- ماهر عباس ذيبان، مصدر سابق، ص 71.
7- ماهر عباس ذيبان المصدر نفسه، ص78.
8- ينظر: المواد (27، 26 ، 31) من قانون مجلس الدولة المصري.
9- د. عبد المجيد محجوب جوهر، سلطة القاضي الاداري في توجيه اوامر الى الإدارة لتنفيذ احكامه، دار الجامعة الجديدة، الاسكندرية، 2017، ص108.
10- ماهر عباس ذيبان، مصدر سابق، ص77.
11- د. علاء الدين ابراهيم ابو الخير دور القاضي الاداري في الاثبات، دار الكتب المصرية، مصر، 2014 ، ص92.
12- ماهر عباس ذيبان، مصدر سابق، ص78
13- د. احمد كمال الدين موسى نظرية الاثبات في القانون الاداري، اطروحة دكتوراه مقدمة الى كلية الحقوق، جامعة القاهرة، 1976 ، ص 551.
14- د. علاء الدين ابراهيم أبو الخير، مصدر سابق، ص93.
15- ينظر: قرار المحكمة الادارية العليا المصرية رقم الطعن (4286 لسنة 35ق) في تاريخ 1992/12/29، قرار منشور في بوابة مصر للقانون والقضاء على الموقع www.laweg.net تاريخ الزيارة 2021/4/27 ساعة 4:00 Pm
16- ماهر عباس ذيبان، مصدر سابق، ص 80 .
17- مقابلة شخصية اجريت من الباحثة مع المستشار د. مازن ليلو راضي مجلس الدولة العراقي، 2021/11/10.
18- د. طعيمه الجرف، رقابة القضاء لأعمال الإدارة العامة (قضاء الالغاء)، دار النهضة العربية، القاهرة، 1984، ص 234 . احمد كمال الدين موسى مصدر سابق، ص 296
19- ماهر عباس ذيبان، مصدر سابق، ص 83
20- ينظر : قرار المحكمة الادارية العليا رقم الطعن (4701 ق 44 في تاريخ 2006/12/7 قرار منشور في بوابة مصر للقانون والقضاء على الموقع www.laweg.net تاريخ الزيارة 2021/4/27 ساعة am3:00.
21- ينظر : قرار المحكمة الادارية العليا رقم الطعن (5845 ق (45) في تاريخ 2002/1/19 20، اشار اليه علاء الدين ابراهيم ابو الخير دور القاضي الاداري في الاثبات، دار الكتب المصرية، مصر، 2014، ، ص102.
22- ينظر قرار محكمة القضاء الاداري رقم (50) في تاريخ 2006/7/19 ، قرارات مجلس الدولة وفتاواه للاعوام 2005/2004/ 2006 ، ج 1، ط 1، 2008، ص 416.
23- د. علاء الدين ابراهيم ابو الخير ، مصدر سابق، ص 104.
24- د. محمود عبد علي الزبيدي دور القاضي الاداري في تحقيق التوازن بين سلطة الادارة وحقوق المتقاضين في المرافعات الادارية ( دراسة مقارنة)، ط 1، دار المسلة، بغداد، 2021، ص132.
25- احمد كمال الدين موسى مصدر سابق، ص 91.
26- ماهر عباس ذيبان، مصدر سابق، ص 71.
27- علاء الدين ابراهيم ابو الخير ، مصدر سابق، ص91.
28- احمد كمال الدين ،موسى مصدر سابق، ص287-288.
29- ينظر : المواد (25) 27 (31) من قانون مجلس الدولة المصري.
30- ماهر عباس ذيبان مصدر سابق، ص 71-72
31- ينظر قرار مجلس الدولة الفرنسي في 1 ديسمبر eministere1960 ، ص 109، نقلاً عن د. علاء الدين ابراهيم ابو الخير، مصدر سابق، ص93
32- ينظر : قرار المحكمة الادارية العليا رقم الطعن (718) لسنة 34ق) في 1991/3/19 قرار منشور في بوابة مصر للقانون والقضاء على الموقع الالكتروني www.laweg.net تاريخ الزيارة 2021/4/26 ساعة 3:12 Pm
33- مقابلة شخصية اجريت من الباحثة مع المستشار د. مازن ليلو ،راضي مجلس الدولة العراقي، 2021/11/10.
34- ينظر : قرار المحكمة الادارية العليا رقم (3293 / قضاء اداري / تمييز / 2021) في 2021 (قرار غير منشور)
35- ماهر عباس ذيبان، مصدر سابق، ص75.
|
|
دراسة: حفنة من الجوز يوميا تحميك من سرطان القولون
|
|
|
|
|
تنشيط أول مفاعل ملح منصهر يستعمل الثوريوم في العالم.. سباق "الأرنب والسلحفاة"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي يقيم دورة تطويرية عن أساليب التدريس ويختتم أخرى تخص أحكام التلاوة
|
|
|