أقرأ أيضاً
التاريخ: 21-7-2016
![]()
التاريخ: 2023-03-26
![]()
التاريخ: 2023-03-28
![]()
التاريخ: 2024-08-10
![]() |
تنويه :
لقد بحث علماء الأخلاق هذا الموضوع تحت عنوان المعاشرة والعزلة في كتبهم الأخلاقية ، ونقرأ أحياناً في هذه الكتب اختلاف العلماء في أيّهما الأفضل ، المعاشرة مع الناس أو العزلة والانزواء؟ فقد يرى البعض أنّ العزلة أو الانزواء عن الناس أفضل من معاشرتهم والاختلاط بهم ، وبعض آخر رجحّ المعاشرة والاختلاط على العزلة ، وذهب ثالث إلى أنّ ذلك يختلف باختلاف الظروف والشرائط ، فتارة يكون الأول أفضل من الثاني واخرى بالعكس.
ولكن المحققين (وخاصة في عصرنا الحاضر) وبالاقتباس من الكتاب والسنة ودليل العقل يرون أنّ الأصل في حياة الإنسان هو أن يعيش حالة الأُلفة ، وذهبوا إلى أنّ الإنسان موجود اجتماعي ولا يتمكن من الصعود بمستواه الأخلاقي وتكامله المعنوي والنضج العقلي إلّا في ظل المجتمع والاختلاط مع الآخرين ، وبذلك يتسنى له التسريع في حلّ مشاكله والتخفيف من آلامه ووصوله إلى السعادة المنشودة.
هؤلاء يرون أنّ الانزواء أو العزلة لا تنسجم مع فطرة الإنسان السليمة ولا تتوافق مع روح التعليمات الإسلامية والقرآنية ، بل إنّ المفاهيم الإسلامية تؤكّد على الروح الاجتماعية لدى الإنسان وتجعل من المعاشرة البنّاءة بشكل عبادة جماعية من قبيل صلاة الجمعة والجماعة والمسائل المتعلّقة بحقوق الإنسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإجراء الحدود وإحقاق الحقوق والتعاون على البر والتقوى وأمثال ذلك.
إنّ الإسلام يرى أنّ «يَدُ اللهِ مَعَ الجَماعَةِ» كما ورد في الحديث الشريف ، وأنّ أي ابتعاد عن صفوف المسلمين يؤدّي إلى نفوذ الشيطان واستيلائه على الإنسان كما ورد في نهج البلاغة : «والشَاذُّ مِنَ الغَنَمِ لِلذِّئِبِ» ([1]).
وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستعرض الآيات الشريفة في هذا الموضوع:
1 ـ (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)([2]).
2 ـ (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً)([3]).
3 ـ (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)([4]).
4 ـ (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)([5]).
5 ـ (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها)([6]).
تفسير واستنتاج :
إنّ كل واحدة من الآيات الشريفة المذكورة آنفاً تشير إلى جهة خاصة من مسألة أهميّة المعاشرة والاجتماع وأهميّة الوحدة والاتّحاد بين أفراد المجتمع ، ففي «الآية الاولى» نقرأ دعوة إلى الاعتصام بحبل الله والتمسك به وعدم سلوك طريق الفرقة والاختلاف وتقول : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً)
أمّا ما هو المراد من حبل الله الوارد في الآية الشريفة؟ فإنّ المفسّرين اختلفوا في ذلك ، وقد ورد في بعض الروايات الشريفة أنّ المراد منه هو القرآن الكريم الذي ينبغي أن يتّخذه المسلمون محوراً لوحدتهم وتماسكهم ، وفي بعض الروايات الاخرى ذكرت أنّ المراد من حبل الله هو أهل البيت (عليهم السلام) ، ومعلوم أنّ كل هذه المعاني تشترك في حقيقة واحدة ، وهي أنّ حبل الله تعالى هو ما يربط الإنسان بالله تعالى سواءاً عن طريق القرآن الكريم أو النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام).
وكما نرى أنّ هذه الآية الشريفة تؤكّد على مسألة المودّة ووشائج المحبّة بين المسلمين وترك العداوة والفرقة ، ومن المعلوم أنّ ذلك لا يتوافق مع عزلة الإنسان وانزوائه عن المجتمع ولا مفهوم حينئذٍ للاعتصام بحبل الله تعالى ، واللطيف أنّ القرآن الكريم في الآية أعلاه يقرّر أنّ العداوة هي من سنن الجاهلية وأنّ المحبّة والصداقة هي من خصائص الإسلام ويقول في ذيل الآية الشريفة مؤكّداً على هذا المعنى : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها).
والجدير بالذكر أنّ الإسلام لا يرى العلاقة بين المسلمين هي علاقة الصداقة فحسب ، بل علاقة الاخوة التي تعمّق في الناس الرابطة العاطفية بين الإخوان القائمة على أساس المساواة والمحبّة المتبادلة.
وبديهي أنّ هذه المحبّة الأخوية لا يمكن أن تتجلّى وتتفاعل في حال ابتعاد الاخوة عن بعضهم البعض ، فلا بدّ لتفعيل هذه العاطفة الإنسانية من الحياة المشتركة والمعاشرة فيما بين الاخوة.
والملاحظة المهمّة الاخرى هي أنّ الامور المادية والدنيوية لا يمكن أن تكون محور وحدة المجتمع وأداة قويّة لتعميق الروابط الاجتماعية بين الأفراد ، لأنّ الامور المادية عادة تكون سبباً للتنازع والاختلاف والفرقة ، فحاجات الناس الدنيوية والمادية غير محدودة ، وأمّا الامور المادية في الطبيعة فمحدودة ، ومن هنا ينشأ التضاد والاختلاف ، ولكن حبل الله تعالى والارتباط مع الله تعالى هو أمر معنوي وروحاني ويمكنه أن يحقّق أفضل رابطة عاطفية بين أفراد البشر من كل قوم ولون وقبيلة ولغة.
وتأتي «الآية الثانية» لتتحدّث لنا عن المصير المؤلم للأشخاص الذين يعيشون بعيداً عن جماعة المسلمين ويسلكون سبيلاً مستقلاً ومنفصلاً عن المجتمع الإسلامي وتقول : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً).
هذه الآية تدلّ بوضوح على أنّ الله تعالى يأمر المسلمين في المجتمع الإسلامي بضرورة الالتزام الاجتماعي وعدم الانفصال والفرقة وأن يسير المؤمنون سويّة في خط الإيمان والانفتاح على الله تعالى ، ومع الأخذ بنظر الاعتبار جملة (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) وكذلك عبارة (سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) يتّضح جيداً أنّ المراد هو التنسيق بين أفراد المجتمع الإنساني من خلال إتّباع النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والسير إثر خطواته الحكيمة في خط الإيمان والطاعة لله تعالى حيث تكون التقوى والإيمان محوراً للسلوك الاجتماعي ، وإلّا فلا معنى لأنّ تعني الآية مفهوم المعاشرة الاجتماعية بدون هذا المحور المعنوي.
ولا شكّ أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مع الجماعة دائماً ، فكان يصلّي معهم خمسة مرّات في اليوم ويصلّي صلاة الجمعة في اجتماع أعظم ، وكذلك في اجتماع المسلمين العام لمراسم الحج ، فكل هذه البرامج العبادية تنضوي تحت مدلول الآية الشريفة ، ومعلوم أنّ الأشخاص الذين يعيشون الانزواء والعزلة وينفصلون عن جماعة المؤمنين سيكونون مشمولين للتهديد والوعيد وبالعذاب الأليم المذكور في الآية الشريفة.
بعض علماء أهل السنة استدلّوا بهذه الآية الشريفة على حجّية الاجماع ، ونحن لا نرى مانعاً من الاستدلال بهذه الآية على حجّية إجماع المسلمين ، ولكنّ هذا الإجماع يجب أن يتضمّن حضور الإمام المعصوم أيضاً ، وفي الاصطلاح الاصولي يعبّر عنه بالإجماع الدخولي أو الإجماع الكشفي الذي يكون هو الحجّة في عملية الاستدلال.
«الآية الثالثة» تستعرض أحد المواهب الإلهية الكبيرة على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأنّ الله تعالى هو الذي جمع المؤمنين حول النبي وألف بين قلوبهم بحيث لا يتسنى ذلك أبداً من خلال الوسائل الطبيعية والأدوات العادية فتقول الآية : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
لو أنّ الإسلام يرى في العزلة والانزواء عن المجتمع قيمة أخلاقية ، فإنّه لم يكن يعدّ التأليف بين قلوب المسلمين بعنوان معجزة كبيرة للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).
وهذا التعبير في الآية الشريفة لا يدلّ على مطلوبية المعاشرة والاجتماع بين الأفراد فحسب ، بل أن تكون الرابطة شديدة وإلى درجة كبيرة من الوثاقة في العلاقات الاجتماعية.
وبديهي أنّه لا يصحّ أن تقرر الآية هذا المفهوم في زمان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) فقط ، بل إنّ هذا المفهوم الإسلامي يستوعب جميع الأزمنة والأمكنة وعلى كلّ طائفة مؤمنة أن تجتمع حول محور واحد وترتبط فيما بينها برابطة وثيقة من الألفة والمحبّة كما كان حال المؤمنين في عصر النبوّة والبعثة.
والملفت للنظر أنّ الله تعالى نسب تأليف القلوب إليه مباشرة كما ورد هذا المضمون في الآية 103 من سورة آل عمران ، رغم أننا نعلم أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو الذي قام بهذا العمل الإنساني والاجتماعي ، وذلك لتشير الآية إلى أنّ هذا العمل إنّما هو معجزة إلهية جعلها الله تعالى في يد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأظهرها على يده ، وإلّا فمن المحال أن تزول وتتلاشى كل تلك الأحقاد والعداوات القديمة والجديدة بين العرب المتعصّبين والجاهلين مهما بلغت قدرة المخلوق ومهما اوتي من أموال وثروات طائلة كما تقول الآية بأنّك لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ، ولكن تسنى للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ذلك من خلال تعليمات الإسلام وأخلاقه الإلهية والإمدادات الربانية واستطاع بذلك من تحقيق أعظم معجزة في عالم العلاقات الاجتماعية ، وحقّق الألفة وهي في اللغة بمعنى الاجتماع المقارن للانسجام والأنس والالتئام وربط تلك القلوب المتنافرة والمتباغضة مع بعضها وجعلها كالبنيان المرصوص.
وتأتي «الآية الرابعة» لتتحدّث عن وحدة صفوف المسلمين والتي لا تتسنى ولا تتحقّق اطلاقاً مع العزلة والانزواء : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ).
(بنيان) بمعنى كل بناء يبنيه الإنسان لسكنه أو لمآرب اخرى ، كإقامة السدود مثلاً ، أمّا (مرصوص) فهو من مادة (رصاص) ونظراً إلى أنّ البشر في ذلك الزمان كان يستخدم الرصاص في عملية البناء ليزيد في قوّته واستحكامه وليملأ الفراغات والثقوب والثغرات الموجودة بين أحجار البناء ، فلذلك أطلق على كل بناء محكم أنّه (مرصوص) إشارة إلى قوّته واستحكامه.
وصحيح أنّ الآية الشريفة ناظرة إلى الجهاد في سبيل الله تعالى والتحرّك العسكري في ميادين القتال مع الأعداء ، ولكن من الواضح أنّ هذا المعنى يجري في سائر التفاعلات الاجتماعية على مستوى السياسة والثقافة والاقتصاد وأمثال ذلك ، ففي هذه الموارد يلزم أن يكون الناس في المجتمع الواحد منسجمين ومتّحدين إلى درجة أنّهم كالبنيان المرصوص ، وهذا المعنى يتقاطع حتماً مع العزلة والانزواء فلا يتسنى للمجتمع الدفاع القوي أمام الأعداء ولا النهضة الحضارية ولا حلّ المشكلات الاقتصادية والسياسية والثقافية من دون الالفة والمعاشرة والاجتماع بين الأفراد.
وتأتي «الآية الخامسة» والأخيرة من الآيات محل البحث لتشير إلى مسألة الرهبانية وترك الدنيا والعزلة عن الناس للعبادة والتبتّل إلى الله تعالى كما كان شأن جماعة من النصارى ، فتأتي هذه الآية لتقول إنّ هذا السلوك العبادي في الظاهر إنّما هو بدعة من قبل هؤلاء الرهبان ولم يؤمر به في الشريعة الإلهية وتقول : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ).
ونعلم أنّ جماعة من المسيحيين في هذا العصر والزمان سلكوا طريق الانقطاع عن الناس والرهبنة والعيش في الأديرة وعدم الزواج ، كل ذلك لغرض العبادة في هذه الأماكن التي بنيت لهذا الغرض.
وهذا الموضوع لا يختص بهذا الزمان بل هو من البدع التي ظهرت في القرن الثالث الميلادي في حكومة (ديس يونس) الإمبراطور الرومي الذي شدد النكير على النصارى واتباع السيد المسيح وأخذ بتعذيبهم والتنكيل بهم ، فلم يجد هؤلاء بدّاً للخلاص من شرّ هذا الطاغية من اللجوء إلى الأديرة والهرب باتّجاه الجبال والمغارات والكهوف وبذلك زرعوا بذرة الرهبانية في الديانة المسيحية.
وعلى هذا الأساس فإنّ مثل هذه الرهبانية تتعارض تماماً مع روح تعليمات الأنبياء الإلهيين ولم تكن موجودة في العصور الاولى للمسيحية ، بل كانت بدعة ظهرت على يد الأشخاص الجهلاء والمنحرفين واستمرت إلى يومنا هذا ، حيث نجد أنّ جماعة من المسيحيين يتركون حياتهم الاجتماعية وتأسيس الاسرة والزواج وسائر النشاطات الاجتماعية ويلجئون إلى الأديرة لممارسة الطقوس العبادية ويقوم الأشخاص من أهل الخير بالإنفاق عليهم لتأمين نفقاتهم.
أمّا ما يجري في هذه الأديرة من الانحرافات والممارسات اللّاأخلاقية والبعيدة عن اصول الفطرة الإنسانية فلها حديث مفصّل ومؤلم حتى أنّ بعض الكتّاب المسيحيين أشار إلى بعض هذه الأديرة وأطلق عليها اسم دار الفحشاء ، وأساساً فإنّ مثل هذه الحياة غير الطبيعية للإنسان تؤثر سلبياً على روحه وفكره وتسبب له الكثير من الاهتزاز والارتباك في قواه النفسية والعقلية.
وجاء الإسلام وأبطل كل هذه الممارسات العباديّة في الظاهر ودعا الناس إلى ممارسة الحياة الاجتماعية المتزامنة مع التقوى والإيمان.
والجدير بالذكر أنّ الرهبانية في الأصل اللغوي من مادة (رهبة) على وزن ضربة ، بمعنى الخوف والخشية ، والمراد منها هنا الخوف من الله تعالى ، وكما يقول الراغب في مفرداته أنّها الخوف المقترن بالخشية والاضطراب والقلق ، ثمّ استعملت هذه المفردة في خصوص سلوك جماعة من المسيحيين أو من غيرهم الذين رجّحوا الانزواء والعزلة عن الناس طلباً للعبادة والتبتّل إلى الله تعالى ، ومن جملة البدع السيئة للمسيحيين في دائرة الرهبانية هو تحريم الزواج بين النساء والرجال الذين يسلكون في خط الرهبنة وكذلك ترك جميع المسؤوليات الاجتماعية وأشكال العلاقات بين أفراد المجتمع واختيار الصوامع والأديرة البعيدة لهذا الغرض.
ويستفاد من الآية أعلاه أنّ الرهبانية على قسمين : إيجابية وسلبية ، ومن المعلوم أنّ الرهبانية السلبية هو ما ذكرنا آنفاً ، وأمّا الرهبانية الإيجابية فتتضمّن معنى الزهد وعدم التكالب على الدنيا وترك التجمّلات المادية في حركة الحياة الفردية والاجتماعية لكي لا يقع الإنسان في أسر هذه الزخارف الدنيوية من المال والمقام ولكن ذلك يجتمع مع الحياة الاجتماعية للفرد وإقامة علاقات بنّاءة في مسير المجالات المعنوية والمادية ، وبعبارة اخرى : إنّ الآية الشريفة تقرّر وجود رهبانية في الديانة المسيحية مشروعة من الله تعالى وتتضمّن ما كان عليه السيد المسيح (عليه السلام) من الزهد والترك للدنيا ، ولكن المسيحيين في القرون التالية ابتدعوا نوعاً آخر من الرهبانية لم تكن في الديانة المسيحية أصلاً ، وهي عبارة عن الانزواء والعزلة عن المجتمع والحياة الاجتماعية وترك الزواج والانقطاع إلى العبادة في الكهوف والأديرة.
ويمكن أن يقال أنّ السيد المسيح لم يتزوج طيلة حياته أيضاً ، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ عمر السيد المسيح كان قصيراً فلم يبلغ من العمر سوى ثلاثين سنة تقريباً ، وكان في هذه المدّة مشغولاً بتبليغ الرسالة الإلهية والترحال من منطقة إلى منطقة اخرى لهذا الغرض فلم يسعه المجال للزواج.
وعلى أيّة حال فإنّ الإسلام يرى الرهبانية بدعة ويذم النصارى على هذا السلوك السلبي ، وقد ورد في الحديث النبوي الشريف : «لا رهبانية في الإسلام» في مصادر موثوقة كثيرة.
أمّا الحديث عن أبعاد الرهبانية وتاريخها ونتائجها فيطول بنا ويمكن لمن أراد التفصيل في هذا البحث مراجعة التفسير الأمثل ذيل الآية الشريفة ، وسوف نشير أيضاً في البحوث القادمة إلى هذا الموضوع أيضاً.
المعاشرة والعزلة في الروايات الإسلامية :
إذا نظرنا نظرة إجمالية إلى التعليمات الإسلامية والمفاهيم الدينية في هذا الباب ومن زوايا مختلفة نجد أنّ الإسلام يؤيّد تماماً المعاشرة والاجتماع مع الناس وحتى أنّ العبادات الإسلامية التي يهدف منها توثيق الرابطة بين الإنسان وربّه قد جعلها الإسلام بشكل جماعي ، فالأذان والإقامة تدعو الناس إلى الصلاة والفلاح في عبارة «حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ حَيَّ عَلَى الفَلاحِ» والضمائر في سورة الحمد تقرأ بشكل ضمير الجمع والحديث مع الغير ، وعند الانتهاء من الصلاة نقرأ سلاماً عاماً لجميع المؤمنين والمصلّين.
صلاة الجماعة وكذلك صلاة الجمعة وأعظم منهما مناسك الحج هي حقيقة عبادات ذات أبعاد اجتماعية تماماً.
ونقرأ في الروايات الإسلامية تأكيدات كثيرة على لزوم الجماعة والاجتماع وعدم الفرقة عن المؤمنين ، ومن ذلك :
1 ـ ما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) : «أَيُّها النَّاسُ عَلَيكُم بِالجَماعَةِ وَإِيَّاكُم وَالفُرقَةَ» ([7]).
2 ـ وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيضاً قال : «الجَماعَةُ رَحمَةٌ ، والفُرقَةُ عَذابٌ» ([8]).
3 ـ وقال رسول الله في حديث آخر : «يَدُ اللهِ عَلَى الجَماعَةِ فَإذا إِشتَدِّ (شَذَّ) الشَّاذَّ مِنهُم إِختَطَفَهُ الشَّيطانُ كَما يَختَطِفُ الذِّئبُ الشَّاةَ الشَّاذَّةَ مِنَ النِّعَمِ» ([9])
4 ـ ونفس هذا المضمون ورد بتعبير آخر عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة حيث قال : «والزَمُوا السَّوادَ الأَعظَمَ فَإنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الجَماعَةِ ، وَإِيَّاكُم وَالفُرقَةَ فَإِنَّ الشَّاذَّ مَنَ النَّاسِ للشَّيطَانِ ، كَما أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الغَنَمُ للذِّئبِ ، ألا مَن دعا إِلى هذا الشّعارِ فاقتُلُوه وَلَو كانَ تَحتَ عِمامَتِي هذِهِ» ([10]).
5 ـ وقد ورد هذا المضمون أيضاً في رواية اخرى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعبّر عند مدى أهمية هذا المعنى حيث قال : «إِنَّ الشَّيطَانَ ذِئبُ الإِنسانِ كَذِئبِ الغَنَمِ يَأَخُذُ القاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ وَالشَّارِدَةَ ، وَإِيَّاكُم وَالشِّعابِ ، وَعَلَيكُم بِالعامَّةِ وَالجَماعَةِ وَالمَساجِدِ» ([11]).
6 ـ وجاء في حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيضاً : «لا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ أَنْ يَهجُرَ أَخاهُ فَوقَ ثَلاثَةَ (أَيَّامٍ) ، وَالسَّابِقُ بِالصُّلحِ يَدخُلُ الجَنَّةَ» ([12]).
7 ـ وهذا المضمون ورد أيضاً بتعبير آخر عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث قال : «لا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ أَنْ يَهجُرَ أَخاهُ فَوقَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لا يُؤمِنُ بَوائِقَهُ» ([13]).
وقد ورد في بعض الأحاديث الشريفة أنّه : «أَيُّما مُسلِمَينِ تَهاجَرا ثَلاثاً لا يَصطَلِحانِ إلّا ماتا خارِجَينِ عَنِ الإِسلامِ ...» ([14]).
صحيح أنّ هذه الأحاديث الشريفة وردت في مجال المخاصمة والعداوة بين المسلمين ، ولكنّها علي أيّة حال تدلّ على أنّ الإسلام يؤيّد دائماً الحياة الاجتماعية وتعميق الالفة والمحبّة بين قلوب المسلمين ، ومن الواضح أنّ حالة العزلة والانزواء لا تنسجم مع روح هذه التعاليم الدينية.
8 ـ وورد في حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيضاً أنّه قال عند ما أراد أحد الأشخاص التوجّه إلى الجبل والاعتزال لغرض العبادة : «لَصَبرُ أَحَدِكُم ساعَةً عَلى ما يَكرَهُ فِي بَعضِ مَواطِنَ الإِسلامِ خَيرٌ مِنْ عِبادَتِهِ خالِياً أَربَعِينَ سَنَةً» ([15]).
9 ـ ويستفاد من الروايات المتعددة أنّ الإسلام نهى عن الرهبانية التي تتضمّن الانزواء والعزلة ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله أنّه قال : «لَيسَ فِي امَّتِي رَهبانِيَّةَ وَلا سِياحَةَ» ([16]).
والمراد من الرهبانية في هذا الحديث الشريف هو اختيار مكان منعزل للعبادة ، وأمّا السياحة فهي الانزواء السيّار ، لأنّ بعض الأشخاص كانوا في قديم الأزمان يتركون بيوتهم ومحل معيشتهم ويسيحون في أرض الله الواسعة ويتركون الدنيا ويعتبرون ذلك نوعاً من العبادة ، وعلى هذا الأساس فإنّ الإسلام لا يؤيد العزلة الثابتة ولا العزلة السيّارة.
10 ـ وقد ورد في الحديث العميق المعنى عن أنس قال : توفي ابن لعثمان بن مظعون رضى الله عنه فاشتدّ حزنه عليه حتّى اتّخذ من داره مسجداً يتعبد فيه ، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له : «يا عُثمانُ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعالى لَم يَكتُبْ عَلَينا الرِّهبانِيَّةَ ، إِنَّما رَهبانِيَّةُ امَتِّي الجِهادُ فِي سَبيلِ اللهِ».
ثم إنّه (صلى الله عليه وآله) أخذ يواسيه على فقد ابنه وقال : «يا عُثمان بن مظعون للجنّةِ ثَمانيةِ أبواب ، وللنّارِ سبعة أبواب أَفما يَسُّركَ أَن تَأَتِي باباً مِنها إلّا وَجدتَ ابنَك إِلى جَنبِكَ آخذاً بِحجزَتِكَ يَشفَعُ لَكَ إِلى رَبِّكَ؟ قَال : بلى» ([17]).
11 ـ ومثل هذا المعنى ورد أيضاً في نهج البلاغة بالنسبة إلى أحد أصحاب الإمام علي (عليه السلام) عند ما دخل الإمام البصرة وذهب لزيارة (علاء بن زياد الحارثي) فعند ما رأى بيته الواسع والمجلل تعجب كثيراً وقال : «ما كُنتَ تَصنَعُ بِسعَةِ هذِه الدَّار فِي الدُّنيا ، أما أَنتَ إِليها فِي الآخِرَةِ أَحوجُ وَبلى إِن شِئتَ بَلَغتَ بِها الآخرةَ تُقرِي فِيها الضَّيفَ وَتَصِلُ فِيها الرَّحمَ وَتَطلِعُ مِنها الحقوق مطالعها فإذاً أَنتَ بَلغَتَ بِها الآخرةَ ، فَقالَ لَهُ العلاءُ يا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ أشكُوا إِلَيكَ أَخِي عاصِمَ بنَ زياد ، قَالَ : وَما لَهُ؟ قال : لَبِسَ العباءةَ وَتَخَلِّي الدُّنيا ، فَلما جاءَ قَالَ : «يا عَدِيَّ نَفسِهِ لَقَد إِستَهامَ بِكَ الخَبِثُ ، أَما رَحِمتَ أَهلَكَ وَوَلَدَكَ ، أَتَرى أَنَّ اللهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيباتِ وَهُوَ يَكرَهُ أَنْ تَأَخُذَها؟ أَنْتَ أَهونُ عَلى اللهِ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : يا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ هذا أَنتَ فِي خُشُونَةِ مَلبَسِكَ وَجَشُوبَةِ مأكَلِكَ.
قَالَ : وَيحَكَ إِنِي لَستُ كأَنتَ ، إنَّ اللهَ فَرَضَ عَلى أَئِمَّةِ العَدلِ أَن يَقدِروا أَنفُسَهُم بِضَعَفَةِ النّاسِ كَيلا يَتَبَيَّغَ بَالفَقيرِ فَقرُهُ» ([18]).
12 ـ ونقرأ في رواية اخرى عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في حديثه لعبد الله بن مسعود في مسألة ذم الرهبانية والعزلة عن المجتمع وأنّه كان في بني اسرائيل نوع من الرهبانية في ظروف خاصة واستثنائية لم تكن من صميم الديانة المسيحية ، قال ابن مسعود : كنت رديف رسول الله (صلى الله عليه وآله) على حمار.
فقال : يا بن ام عبد هل تدري من أين احدثت بنو اسرائيل الرهبانية.
فقلت : الله ورسوله أعلم.
فقال (صلى الله عليه وآله) : «ظَهَرَتْ عَلَيهِم الجَبابِرَةٌ بَعدَ عِيسى يَعمَلُونَ بِمَعاصِي اللهِ فَغَضِبَ أَهلَ الإِيمانِ فَقاتَلُوهُم فَهُزِمَ أَهلِ الإِيمانِ ثَلاثَ مَرّاتِ فَلَم يَبقَ مِنهُم إلّا القَلِيلَ فَقَالُوا إِنْ ظَهرنا لِهَؤلاءِ أَفنونا وَلَم يَبقَ لِلدِّينِ أَحَدٌ يَدعُو إِلَيهِ ، فَتعالُوا نَتَفَرَّقُ فِي الأَرضِ إِلى أِنْ يَبعَثَ اللهُ النَّبِيَّ الَّذِي وَعَدنا بِهِ عِيسى (عليه السلام) يَعنُونَ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) فَتَفَرَّقُوا فِي غِيرانِ الجِبالِ وَأَحدَثُوا رَهبانِيَّةَ» ([19]).
وعلى أية حال لم تكن الرهبانية من صميم الديانة المسيحية ، بل كانت سلوكاً خاصاً ظهر في ظروف خاصة على بعض أنصار السيد المسيح (عليه السلام) حفاظاً على أنفسهم.
الأحاديث المتعارضة :
وفي مقابل ما ذكرنا من الأحاديث الشريفة هنا روايات وردت في المصادر الحديثية تشير إلى أنّ الإسلام يؤيّد حالة الانزواء والعزلة وتقع على الضد ممّا ذكرناه من الأحاديث السابقة ، ومن ذلك :
1 ـ ما ورد عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قوله : «العُزلَةُ عِبادَةٌ» ([20]).
2 ـ ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «مَنْ اِنفَرَدَ عَنِ النَّاسِ أَنَسَ بِاللهِ سُبحانِهِ» ([21]).
3 ـ ما ورد أيضاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «فِي اعتِزالِ أَبناءِ الدُّنيا جَماعُ الصَّلاحِ» ([22]).
4 ـ وعن الإمام (عليه السلام) نفسه أيضاً قال : «فِي الانفِرادِ لِعبادَةِ اللهِ كُنُوزُ الأَرباحِ» ([23]).
5 ـ ونقرأ في حديث عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) أنّه قال لهشام : «الصَّبرُ عَلَى الوَحدَةِ عَلامَةُ عَلى قُوَّةِ العَقلِ فَمَنْ عَقَلَ عَنِ اللهِ اِعتَزَلَ عَنِ الدُّنيا وَالرَّاغِبِينَ فَيها وَرَغِبَ فِي ما عِندَ اللهِ» ([24]).
وهذه الأحاديث تدلّ على أنّ الانزواء والابتعاد عن الناس من علامات العقل والمعرفة وسبب لحضور القلب للعبادة والتوصل إلى كثير من المراتب المعنوية والكمالات الأخلاقية.
6 ـ وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «إِنْ قَدرْتَ أَنْ لا تَخرُجَ مِنْ بَيتِكَ فَافعَل ، فَإنَّ عَلَيكَ فِي خُرُوجِكَ ألّا تَغتَابَ وَلا تَكذِبَ وَلا تَحسُدَ وَلا تُرائِيَ وَلا تَتصَنَّعَ وَلا تُدهِنَ» ([25]).
7 ـ قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «سَلامَةُ الإِنسانِ فِي اِعتَزالِ النَّاسِ» ([26]).
8ـ نختم هذا البحث بحديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ وإن كانت الأحاديث في هذا الباب كثيرة ـ قال : «مَنْ اِعتَزلَ النَّاسَ سَلِمَ مِنْ شَرِّهِم» ([27]).
وقد يستدل أتباع العزلة والانزواء من المتصوّفة والمرتاضين ومؤيدوهم ببعض الآيات القرآنية لتبرير مسلكهم الانعزالي ، ومن ذلك ما ورد في الآية 16 من سوره الكهف حيث تقول : «وَإِذْ اعْتَزَلُتمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً».
وكذلك في ما ورد في سورة مريم (عليها السلام) الآية 48 و 49 من حديث ابراهيم (عليه السلام) : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا* فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا).
فكلا هاتين الآيتين تقرّران أنّ العزلة عن الناس والابتعاد عن المجتمع يتسبب في القرب من الله تعالى ونيل المواهب الإلهية ونزول البركات والرحمة من الله تعالى على هذا الإنسان ، وهذا يشير إلى أنّ العزلة ليست أمراً مذموماً وحسب ، بل مطلوبة أيضاً في دائرة المفاهيم القرآنية.
طريق الجمع بين الآيات والروايات :
ولكن بالنظر الدقيق إلى متون الآيات والروايات الشريفة يتبيّن جيداً أنّ مسألة العزلة والانزواء عن الناس تكون بصورة استثنائية وفي شرائط اجتماعية خاصة ، ومن المعلوم بالنسبة إلى أصحاب الكهف أنّهم كانوا يعيشون في أجواء اجتماعية كافرة وفاسدة وكانوا يعيشون الخوف من الحكومة الغاشمة في ذلك الزمان ، فلم يكن لديهم طريق سوى الهروب والابتعاد عن ديارهم ومدنهم واللّجوء إلى الكهف في الجبال البعيدة.
وبالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام) أيضاً نجد هذه الحالة الاستثنائية ، فقد رأينا أنّ إبراهيم (عليه السلام) سعى بجديّة في خط التصدّي لقوى الانحراف والباطل وتبليغ الرسالة الإلهية بين الوثنيين ، ولكن عند ما رأى عدم التأثير وعاش حالة الخطر على نفسه فعند ذلك أمر بالهجرة واعتزال هؤلاء الناس.
ومن البديهي أنّ الإنسان في مثل هذه الظروف الحساسة ليس أمامه سوى الهجرة والاعتزال، ولكن هذا المعنى لا يكون أصلاً أساسياً في التعاليم الدينية بل هو الاستثناء يتعلّق بظروف خاصة.
ويمكننا الاستشهاد على هذا الجمع بين الروايات بالقرائن الكثيرة ، فعند ما يختار الإمام الصادق (عليه السلام) العزلة عن الناس يذكر الدليل على ذلك وأنّ فساد الزمان وتغيّر الاخوان وعدم إمكان التعاون مع الناس هو السبب في اختيار هذا السلوك الاستثنائي.
وقرأنا في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين أنّ سلامة الدين تكمن في العزلة ، فذلك يتعلّق بما إذا كانت المعاشرة مع الناس تهدّد إيمان الفرد وتعرّض دينه وعلاقته بالله تعالى إلى الاهتزاز والارتباك والخطر.
وأحياناً يعيش بعض الأشخاص ظروفاً خاصة بهم حيث نجدهم يعيشون ضعف الإيمان أمام مظاهر الفساد ، فلذلك قد يوحي هؤلاء الأشخاص بأن يعتزلوا المجتمع خوفاً عليهم من الابتلاء بمظاهر الفساد أيضاً كما هو المريض الذي يوصيه الطبيب بعدم الاختلاط مع الناس أو يوصي الطبيب الأفراد المسنّين بعدم الخروج الى الشارع خوفاً من التلّوث والتسمم ، ومعلوم أنّ مثل هذه التوصيات لا تشكل قاعدة عامّة وشاملة لجميع الحالات والأفراد بل تختصّ بحالات استثنائية للمرضى والمسنّين والذين يعيشون الابتلاء بضعف القلب وخلل الجهاز التنفسي.
وعليه فلا يمكن تعميم هذه الحالات الاستثنائية إلى كل زمان ومكان بحيث يستكشف منها تعليمات كليّة في دائرة المفاهيم الإسلامية ، وعند ما نرى أنّ الإمام الصادق يوصي أحد أصحابه باعتزال الناس وأن لا يخرج من البيت حذراً من الوقوع في الغيبة والكذب والحسد والرياء والمداهنة وأمثال ذلك ، فهذا يدلّ على أنّ الظروف الاجتماعية في ذلك الوقت كانت على غير ما يرام ، أو أنّ هذا الشخص يعيش ضعف الإيمان والتأثر بالنوازع النفسية والذاتية.
ومن مجموع ما تقدّم آنفاً يمكننا الخروج بالنتيجة التالية :
إنّ الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي يأنس بالآخرين ولكن بالرغم من ذلك فإنّه يحتاج في كل يوم إلى ساعة أو عدّة ساعات للخلوة بربّه والانس بمناجاته وخاصة في الساعات من الليل ليكرّس هذا الوقت للعبادة والمناجاة والانفتاح على الله تعالى كما هو حال السالكين إلى الله والعرفاء الإسلاميين الذين يحرصون على الخلوة بالله تعالى والارتباط معه من موقع الانس والعشق والتوكّل بحيث لا يرون غيره ولا يأنسون بغيره.
وأحياناً يتّخذ بعض الأشخاص سلوك الابتعاد عن الناس من موقع الاعتراض على فساد الحال ، ويكون ذلك أحد الطرق المشروعة للنهي عن المنكر والتصدّي للمفاسد الاجتماعية حيث يتسبب هذا السلوك السلبي تجاه الناس أن يخلق فيهم صدمة توقظهم من غفلتهم كما قد يشاهد مثل هذه السلوكيات من بعض العلماء الذين تركوا مجتمعهم وهجروا الناس اعتراضاً على بعض ما رأوه من انحرافات في سلوك الناس ، ولم تمض فترة حتى أحسّ الناس بحالهم والنقص الذي خلّفه رحيل هذا العالم فانتبهوا من سباتهم وتوجّهوا إلى ذلك العالم وطلبوا منه الرجوع إليهم شريطة أن يصلحوا أعمالهم ويسلكوا جادّة الصواب ، كل هذه الاستثناءات من القاعدة الأساسية تكاد تكون مقبولة ومعقولة في مقابل الأصل العام وهو ضرورة الاجتماع والمعاشرة مع الناس.
أسباب ونتائج الاجتماع والانزواء :
إنّ الدافع الأصلي في سلوك الإنسان في حركة الحياة من موقع الاجتماع والمعاشرة مع الآخرين ينبع من طبع الإنسان ، ولذلك قيل أنّ (الإنسان مدني بالطبع) كما يقول علماء الاجتماع ، وعليه فإنّ العزلة لا تنسجم مع روح الإنسان المنفتحة على الآخرين ، وكما يقول علماء الاجتماع في مطالعاتهم وتجاربهم عن الأشخاص التاركين للدنيا والمجتمع أنّ حالة العزلة تخلف آثاراً سلبية على النفس البشرية وتؤدّي بالإنسان إلى أن يعيش اليأس والكآبة المزمنة والتوهّمات الضبابية وقد يورثه هذا الحال الكثير من الاختلالات العقلية أيضاً.
ولهذا السبب فإنّ أحد أشدّ أنواع التعذيب للإنسان هو السجن الانفرادي الذي لا ينبغي استمراره مدّة طويلة بأيّة صورة ، لأنّ ذلك يؤدّي به حتماً إلى حالة نفسية من الارتباك والمرض النفسي إلّا أن يكون له روح عرفانية قويّة فيأنس بالله تعالى وينقطع عن كل شيء إلّا بالعلاقة مع ربّه وخالقه.
وطبعاً فإنّ حياة الإنسان الاجتماعية لا تنبع من طبيعة الإنسان فقط ، بل إنّ عقل الإنسان أيضاً يقوده إلى الحياة المشتركة من حيث إنّ الإنسان لا يمكنه أن يسير في طريق التكامل والرقي والحضارة إلّا بالحياة الاجتماعية والتفاعل المشترك مع الآخرين والاستفادة من علومهم البشرية في طريق الرقي والتقدّم والحضارة الكبيرة والوصول إلى قمة الترقي والتكامل.
وبشكل عام يمكن القول أنّ الانفراد والعزلة والانزواء عن المجتمع بإمكانه أن يكون مصدراً للكثير من المفاسد والانحرافات في دائرة السلوك البشري ومن ذلك :
1 ـ إنّ الكثير من الانحرافات الفكريّة والذوقية وسوء الأخلاق تنبع من الانزواء والعزلة، ولهذا فإنّ الأفراد الذين يعيشون العزلة غالباً نجدهم يعيشون سوء الأخلاق واللّجاجة والغرور (وطبعاً فإنّ هذا الأصل له استثناءات أيضاً كما هو حال الاصول الاخرى).
2 ـ ومن الآثار السلبية الاخرى للعزلة والانزواء هو حالة العجب التي تسيطر على الإنسان ، لأنّ الإنسان يعيش حب الذات غالباً فيحبّ متعلّقاته بشدّة ، وكلما انخفضت علاقته مع الآخرين ولم يشاهد كمالاتهم وفضائلهم وبالتالي عُدم الميزان الذي يوزن به كمالاته الذاتية فإنّ ذلك يتسبب في أن يرى نفسه أعلى من الآخرين وأفضل منهم.
ولهذا السبب نلاحظ كثيراً من الأشخاص الذين يعيشون العزلة والانفراد ، أنّهم يدّعون ادعاءات كبيرة عن أنفسهم أكبر من حجمهم الحقيقي وأحياناً تكون ادعاءاتهم عجيبة تحكي بوضوح أن هذا الإنسان غارق في الوهم والخيال ولا يعيش الواقع ومتطلباته.
ولكن عند ما يعيش الإنسان الاختلاط مع الناس ويعاشر أفراد المجتمع فسوف يرى غالباً أشخاصاً أفضل منه وأعلم وأطهر ، وعلى الأقل يرى من هو مثله في الفضل والعلم ، ولهذا فسوف يبتعد عن عالم الخيال ويتجنب الادعاءات الجوفاء والشخصية الطوباوية التي لا تلامس الواقع.
3 ـ وأحد الآثار السلبية الاخرى للعزلة والانزواء سوء الظن بالناس حتى بأقرب المقربين منه ، والعجيب أنّ سوء الظن يورث بدوره العزلة عن الناس كذلك ، فكل منهما علّة ومعلول للآخر ويتسبب في تعميق سوء الظن في جميع الناس ويتصور أنّهم حقودين وحسودين وأنانيين ، ولكن عند ما يدخل إلى المجتمع ويعاشر الناس ويجد فيهم الأصدقاء الجيدين ، فسوف يدرك سريعاً أنّ جميع تلك التصوّرات السلبية عن الناس لا حقيقة لها على مستوى الواقع والعمل.
4 ـ الغفلة عن عيوب الذات ، فالإنسان وبسبب حبّه لذاته لا يرى عيوبه عادة ، بل يرى عيوبه أحياناً امتيازات وحسنات وعناصر قوة في شخصيته ، الحقيقة أنّ الإنسان يجب أن يرى عيوبه في مرآة الآخرين ويجلس لينظر إلى حكمهم عليه ويستمع إلى انتقاداتهم وخاصة فيما لو كانوا من المجاهدين ، بل قد يرى الإنسان عيوبه ونقاط ضعفه في مرآة الحاقدين والمعاندين بصورة أفضل ، لأنّهم يتحرّكون جاهدين للعثور على نقاط الضعف في شخصية الطرف الآخر وتفاصيل عيوبه الجزئية ، وبهذا يحرم الشخص المنزوي من هذه المزايا التي تكشف عن وجهه الحقيقي.
5 ـ الابتعاد عن تجارب الآخرين والحرمان من الاستفادة من أفكارهم وعقولهم من شأنه تحديد فكر الإنسان وعقله واقتصار حركة الفكر على امور جزئية وضيقة ، ولكن إذا تعامل مع الآخرين وانفتح على الناس ولا سيما أصحاب النظر وأرباب الفكر فسوف ينفتح أمامه بحر من العلم والتجربة وسيجد ضالته في ذلك ويكون بإمكانه حل مشكلاته بمعونة هذه العلوم والتجارب.
إنّ أحد أسرار النهضة الحضارية العلمية الحديثة التي يشهدها العالم المعاصر هو تشكيل المؤتمرات والمجلس والهيئات العلمية بحيث يجتمع فيها أصحاب الفكر والنظر من مختلف مناطق المعمورة في كل عام ، وأحياناً في كل شهر ، ويتباحثون في مشاكلهم العلمية ومنتوجاتهم الفكرية في هذه المؤتمرات ويتم بذلك انتقال العلوم وتبادل المعارف بين البشر ، وأحياناً تقوم بهذه المهمّة بعض الإذاعات وقنوات التلفزيون أيضاً.
[1] نهج البلاغة ، الخطبة 127.
[2] سورة آل عمران ، الآية 103.
[3] سورة النساء ، الآية 115.
[4] سورة الانفال ، الآية 62 و 63.
[5] سورة الصف ، الآية 4.
[6] سورة الحديد ، الآية 27.
[7] كنز العمال ، ج 1 ، ص 206 ، ح 1028.
[8] ميران الحكمة ، ج 1 ، ص 406 ، ح 2438.
[9] كنز العمال ، ج 1 ، ص 206 ، ح 1032.
[10] نهج البلاغة ، الخطبة 127.
[11] المحجة البيضاء ، ج 4 ، ص 8.
[12] المصدر السابق ، ص 7.
[13] المصدر السابق.
[14] سفينة البحار ، مادة هجر.
[15] ميزان الحكمة ، ج 3 ، ص 1966 ، 12914.
[16] بحار الانوار ، ج 67 ، ص 115.
[17] بحار الانوار ، ج 67 ، ص 114.
[18] نهج البلاغة ، الخطبة 209.
[19] مجمع البيان ، ج 5 ، ص 243 ، ذيل الآية 27 من سورة الحديد.
[20] ميزان الحكمة ، ج 3 ، ص 12884.
[21] غرر الحكم.
[22] المصدر السابق.
[23] المصدر السابق.
[24] بحار الانوار ، ج 67 ، ص 111.
[25] فروع الكافي ، ج 8 ، ص 128.
[26] غرر الحكم.
[27] غرر الحكم.
|
|
منها نحت القوام.. ازدياد إقبال الرجال على عمليات التجميل
|
|
|
|
|
دراسة: الذكاء الاصطناعي يتفوق على البشر في مراقبة القلب
|
|
|
|
|
مركز الكفيل للإعلان والتسويق ينهي طباعة الأعمال الخاصة بحفل تخرج بنات الكفيل الثامن
|
|
|