أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-1-2023
1335
التاريخ: 2024-03-23
748
التاريخ: 2024-05-11
856
التاريخ: 24/10/2022
1468
|
الأدلة على أن الحرمان من محبة الأم في باكورة الطفولة له أثر بعيد المدى على الصحة العقلية وعلى أن نمو الشخصية للكائن البشري ينبع من مصادر عدة تنحصر في ثلاثة أنواع رئيسية:
(أ) الدراسات المبنية على الملاحظة المباشرة للصحة العقلية وتطور نمو الأطفال في المؤسسات والمشافي ودور رعاية الأطفال وهذا ما يطلق عليه الدراسات المباشرة.
(ب) الدراسات التي تستقصي التاريخ المبكر للمراهقين والكبار ممن يتعرضون لأمراض نفسية وهذا ما يطلق عليه الدراسات الاسترجاعية.
(ح) الدراسات التي تتبع مجموعات من الأطفال الذين قاسوا من الحرمان في بدء حياتهم بغية تحديد حالة صحتهم العقلية وهي التي يطلق عليها الدراسات التتبعية.
ومن المثير حقاً ذلك المدى الذي تؤيد به تلك الدراسات بعضها وهي دراسات قام بها أناس من كثير من الأمم مختلفي المران والثقافة، كما أنهم غالباً ما يكونون على غير علم بالنتائج التي توصل إليها كل منهم. وإن ما يفتقر إليه نوع من البحث في مجال الإتقان والدقة والوثوق العلمي نجده مستكملاً من اتفاق المجموع، ولذا فليست هناك طريقة علمية أكثر وزناً من هذه الطريقة. والآراء المتباعدة قليلة، ظهر منها في الواقع ثلاثة كلها عن دراسات تتبعية عولجت فيما بعد.
والدراسات المباشرة هي أكثر أنواع الدراسات ومنها يتضح أنه كلما حرم الطفل من رعاية أمه، تأخر نموه جسمانياً وعقلياً واجتماعياً، وربما ظهرت، عليه أعراض الأمراض الجسمانية والعقلية، ومثل هذه الظاهرة تدعو إلى القلق، لكن ربما يتساءل المرتابون، عما إذا كان هذا العائق سيبقى بصفة دائمة، وعما إذا كانت امراض هذا المرض لا يمكن التغلب عليها بسهولة.
إن الدراسة الاسترجاعية والتتبعية توضح أن التفاؤل لا يتحقق دائماً وأن بعض الأطفال يصيبهم الأذى طوال حياتهم، وهذه نتيجة قائمة، يجب اعتبارها من الأمور المقررة.
هناك ظواهر هامة لأوضاع يعرف القليل عنها، فمثلا ليس من الواضح بيان لماذا يصاب بعض الأطفال ولا يصاب الآخرون؟ ربما لعبت العوامل الوراثية دوراً في هذا، ولكن قبل أن ترجع إلى هذا التفسير يجب أن نستعرض ما هو معلوم من آثار بعض المؤثرات مثل عمر الطفل وطول مدة الحرمان ومقداره، فهناك ما يؤدي إلى أن تصبح كل هذه العوامل أموراً حيوية، ولنستعرض الآن بعناية خاصة أنواع الدراسات الثلاثة المتعلقة بالنقط الثلاث الآتية وهي: السن التي فقد فيها الطفل رعاية أمه وطول مدة الحرمان من تلك الرعاية ومقدار ذلك الحرمان. فقد قام عدد من المتخصصين في رعاية الأطفال بملاحظات مباشرة للآثار السيئة التي ظهرت على الأطفال الصغار الذين حرموا حرماناً تاماً من رعاية أمهاتهم، وقد وضح منها أن نمو الطفل قد يتأثر جسمانياً وعقلياً وعاطفياً واجتماعياً، كما ظهر أن كل الأطفال الذين لم يبلغوا السابعة من أعمارهم في خطر من التعرض لهذا الضرر، على أن بعض هذه المؤثرات يمكن تمييزها بوضوح في الأسابيع الأولى من العمر. لقد درس عدد من الباحثين أثر رعاية الأم على عدد من الأطفال الصغار الموجودين في المؤسسات دراسة واسعة، وكانت نتيجة تلك الدراسة نتيجة معقدة جداً ولا يمكن سردها بالتفصيل هنا - ولكنهم جميعاً أوضحوا أن الآثار السيئة الناجمة عن الحرمان من الأمهات تظهر على الأطفال وهم في سن لا تزيد على بضعة أسابيع، وهذه البيئة التي ذكرها عدد من مشاهير العاملين في هذا الحقل لا تترك مجالا للشك في أن نمو أطفال المؤسسات منذ السن المبكرة. يكون أقل من النمو العادي، كما أنه من بين بعض ما لوحظ من الأدلة عرفنا أن الطفل المحروم من رعاية الأم قد لا يستطيع الابتسام لأي إنسان أو يستجيب إلى ندائه، وربما يكون فاقد الشهية، وربما ينقص وزنه رغماً من التغذية الجيدة، وربما ينام نوماً غير مريح، كما أنه لا يكون مقداماً مقبلا على العمل.
ولقد أظهرت إحدى الدراسات الدقيقة في أحد الملاجئ للأطفال وهم يصيحون ويخرجون أصواتاً أنهم منذ الولادة ولمدة ستة أشهر يكونون أضعف صوتاً من الذين يعيشون مع أسرهم، وكان الفرق واضحاً بين من لم يبلغوا الشهر الثاني من أعمارهم. ويظهر هذا القصور في النطق في كافة الأعمار، ويتضح بصفة خاصة بين الأطفال الذين يعيشون في المؤسسات. وقد أجريت اختبارات ( شبيهة باختبارات الذكاء التي تعمل لمن هم أكبر منهم سناً) لقياس ذكاء الأطفال الصغار، وبهذه الطريقة أمكن المقارنة بين مجموعات من الأطفال تعيش في ظروف مختلفة من حيث النمو والتقدم، وعن طريق استخدام هذا الاختبار درست أربع مجموعات في أمريكا، إذ جمع واحد وستون طفلا من الذين يعيشون في المدن لم يختاروا اختياراً خاصاً، كما جمع ثلاثة وعشرون من أبناء ذوي المهن، وأحد عشر من أبناء الفلاحين، وكانوا جميعاً قبل الاختبار بين الشهر والأربعة أشهر من العمر..
وفي هذه المرحلة، كان أبناء ذوي المهن أكثرهم تقدماً يليهم أبناء المدن وبعد ذلك أبناء الفلاحين وأخيراً الأطفال الاخرين. وبعد ثمانية أشهر تم اختبارهم مرة ثانية وكانوا جميعاً في غضون ذلك مع أمهاتهم إلا مجموعة أبناء المدن غير المنتخبين فكانوا في مؤسسة من المؤسسات، وقد أظهر الاختبار الثاني تحسناً متساوياً مناسباً لأعمارهم وذلك بالنسبة لجميع المجموعات التي انضمت إلى أمهاتها - أما الأطفال الذين التحقوا بالمؤسسات فقد تأخروا بصورة مزعجة وكانوا في مستوى أقل من العادي بالنسبة إلى سنهم.
كان أولئك الأطفال في الواقع يعيشون في ظروف سيئة وخاصة من الناحية النفسية، فلم يكن الأمر مقصوراً على وجود مربية واحدة لكل سبعة أطفال، بل كان ذلك لأمور تتعلق بالصحة، فقد حجز الأطفال في غرف ومضاجع تعد إلى حد ما معتقلات انفرادية.
ومع كل ذلك فقد أوضحت دراسات أخرى أن التأخر ربما يحدث في ظروف لا تصل إلى هذا الحد من السوء. درست أحوال تسعة وعشرين طفلا ممن تتراوح أعمارهم بين الستة أشهر والعامين والنصف (وكان معظمهم بين تسعة وخمسة عشر شهراً) وكانوا جميعاً في انتظار من يتبناهم كما كانوا جميعاً تحت رعاية أمهاتهم بالتربية، لكن كان خمسة عشر منهم بمفردهم لا يشاركهم أحد آخر من صغار الأطفال، أما الباقون فكان يشارك كل واحد منهم ما بين طفل وثلاثة أطفال في نفس دار الرعاية (1). وكانت النتيجة أن الذين حظوا بكل رعاية المربيات كانوا أكثر تقدماً في المتوسط، بينما كان التأخر من نصيب من شاركهم غيرهم من الأطفال في تلك الرعاية - وهنا حكاية أخرى عن أطفال في انتظار التبني، كان عددهم مائة واثنين وعشرين طفلاً، وألحق ثلاثة وثمانون منهم بمؤسسة، وألحق تسعة وثلاثون بدور الرعاية، وكانوا جميعاً تحت رعاية جمعية منذ الشهرين الأولين من حياتهم، ثم اختبروا عندما بلغوا حوالي الشهر أما الذين الحقوا بالمؤسسة فوضعوا في دار حضانة كبيرة. على هيئة مجموعات كل منها مكون من سبعة عشر طفلا يشرف عليها عشر مربيات مدربات، بحيث لم يكن هناك أقل من اثنتين منهن في المناوبة إبان النهار، وكان نتيجة الاختبارات فوق المتوسط بقليل بالنسبة إلى من هم في دور الرعاية وأقل قليلا من المتوسط بالنسبة إلى من هم في المؤسسة.
وهناك عدد من الدراسات أجريت إبان السنوات الأخيرة في كل من استراليا والدنمرك وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، تبين منها ما يشبه ذاك التأخر. قامت الدراسة الدقيقة، لثلاثين تلميذاً تتفاوت أعمارهم بين الأربعة والثلاثين والخمسة والثلاثين شهراً عاش نصفهم في مؤسسة وعاش النصف الآخر في دور الرعاية وذلك منذ كانت أعمارهم أربعة أشهر، وقد تبين أن تقدم مجموعة دور الرعاية كان متوسطاً، بينما كان أطفال المؤسسات على حافة الضعف العقلي.
وقام باحث آخر بالمقارنة بين مجموعة من مائة وثلاثة عشر طفلا تتفاوت أعمارهم بين العام والأربعة أعوام، عاشوا معظم حياتهم في واحدة من اثني عشرة مؤسسة مختلفة وبين مجموعة أخرى عاشت في بيوتها والتحقت بدار من دور الحضانة النهارية. وكانت أمهات المجموعة الأخيرة من العاملات وكانت حالة بيوتهن في الغالب غير مرضية، ومع ذلك فقد كان نمو أطفالها عادياً بينما كان نمو أطفال المؤسسات متأخراً، ويظهر هذا الفرق بانتظام في المستويات الثلاثة من السن أي بين الأطفال في الثانية والثالثة والرابعة من العمر.
ولو أنه ليس هناك شك في أن هذه النتائج تشير إلى نفس الطريق، إلا أن قيمتها غالباً ما تصبح مجالا للمناقشة بحجة أن كثيراً من آباء الأطفال الذين في المؤسسات هم من أصل ضعيف جسمانياً وعقلياً، وأن الوراثة وحدها ربما كانت سبب كل هذه الفوارق. لكن يظهر أن من يبدون هذا الاعتراض لا يأخذون في اعتبارهم أن معظم الدراسات التي ذكرت قد اتخذ الباحثون فيها جانب الحيطة وأن مجموعات الأطفال الذين يأخذونهم سواء من بيوتهم أو من دور الرعاية تكون من طبقة اجتماعية متشابهة، وبقدر الإمكان يتميزون بنفس الصفات لتلك المجموعة التي تؤخذ منه المؤسسات حتى تستقيم المقارنة اللازمة للدراسة.
إن الطريقة الوحيدة التي يمكن بها إبعاد آثار الوراثة إنما تكون بالمقارنة بين القوائم المتشابهة، ومع أنه ليست هناك دراسات من هذه الناحية عن التوائم البشرية فقد قام أحد علماء النفس بإجراء تجارب على صغار توائم الماعز، إذ حجز واحد من توأم ماعز عن أمه فترة كل يوم بينما لم يحجز الآخر، علما بأن الجديين الصغيرين كانا يعيشان معاً، ويتغذيان بلبن أمهما سوياً، ولا ينفصلان إلا في الفترة التي تجري فيها التجربة اليومية ومقدارها أربعون دقيقة، وكانت الأنوار تطفأ على فترات في أثناء التجربة، ومن المعروف أن هذا يولد القلق في الماعز ومن ثم يولد سلوكا مختلفاً تماماً بين كل من الجديين التوأم. فالذي لم ينفصل عن أمه كان هادئا ويتحرك بحرية، أما الذي عزل فكان مجمداً نفسياً، يقبع خائفاً في أحد الأركان. وفي إحدى التجارب الأولى توقف الجدي المعزول عن رضاعة أمه، ومات بعد ذلك بأيام قليلة، حيث كان القائم بالتجربة غير مدرك سلفا لما حدث وبالتالي لم يستطع مد يد المساعدة له. وهذا برهان كاف على الآثار السيئة التي تحيق بصغار الثدييات نتيجة الحرمان من الأم، كما أنه يقضي نهائياً على الحجة التي تقرر بأن كافة الآثار التي تظهر ليست إلا نتيجة للوراثة.
وفضلا عن ذلك فإن الأدلة الدامغة التي تأتي من مصادر لا حصر لها، تشير إلى أن سبب تلك المتاعب هو الحرمان من الأم.
فأولاً، هناك أدلة واضحة جداً تشير إلى أنه كلما طالت مدة الحرمان زاد تأخر نمو الطفل. وثانياً. هناك أدلة عملية تدل على أنه لو استمر الطفل في نفس المؤسسة وزادت رعاية المربية له، فسيقلل ذلك من الآثار السيئة.
منذ حوالي عشرين عاماً، درست أحوال مجموعتين من الأطفال، كانوا في الثانية من أعمارهم وكانوا يقيمون في مؤسسة واحدة، ونالت إحدى المجموعتين قليلا جداً من الحنان مع أنه بذلت لها العناية التامة في كافة النواحي الأخرى، أما المجموعة الثانية، فقد عينت مربية لكل طفل ولم يكن هناك نقص من ناحية الحنان والمحبة، وبعد انقضاء نصف عام تأخرت المجموعة الأولى صحياً وعقلياً وذلك بمقارنتها بالمجموعة الثانية. وأخيراً يقرر أحد المختصين في تربية الأطفال، أن هناك تغيرات ظاهرة في أحوال الطفل تعقب إعادته لأمه، ويشير إلى أنه مما يدعو إلى الدهشة سرعة اختفاء أمارات المرض عندما يوضع الطفل المبتلى في بيت ممتاز، فهناك ينتعش بسرعة ويصبح أكثر استجابة، وإذا كانت هذه حمى فإنها تختفي في مدة أربع وعشرين أو اثنين وسبعين ساعة، كما يزيد وزنه ويتحسن لون بشرته. ويذكر دليلا على ذلك حالة ولد كانت ظروفه سيئة وكان ذلك الولد في الشهر الرابع من عمره، قضى بالشهرين الأخيرين منها في المصحة، فكان وزنه في نهايتها أقل من وزنه يوم ولادته، كما كان منظره كمنظر الرجل المسن الأصفر المتغضن، وكان تنفسه ضعيفاً إلى حد ظهر منه أنه يكاد أن يتوقف في أي لحظة. ثم لوحظ بعد أربع وعشرين ساعة من انتقاله إلى المنزل، فكان ينافي ويبتسم، ومع علم حدوث تغيير في نظام غذائه فقد بدأ وزنه في الزيادة بسرعة، وفي نهاية السنة الأولى أصبح وزنه طبيعياً، وأصبح مظهره ينبئ في جميع النواحي بأنه أصبح طفلا عادياً.
إن التغيرات المحزنة في السلوك والشعور والتي تتبع فصل الطفل الصغير عن أمه وكذلك النتائج المفيدة الهائلة الناتجة عن إعادته لها، هي في الواقع من الأمور التي يمكن أن يشاهدها جميع الناس، لكن مما يدعو إلى الدهشة أنها لم تحظ إلا بالقليل من الاهتمام. إنه من المؤلم حقاً ما يلاقيه أولئك الأطفال من المتاعب نتيجة انفصالهم، حتى إنه قد يكون من المستحسن بالنسبة لمن يهمهم أمرهم أن يغلقوا أعينهم رحمة بأنفسهم. إن وجود تلك الآلام أمر لا شك فيه إذ يعرض عدد كبير من الباحثين كثيراً من الصور المشابهة.
إن وصف حالة نموذجية لطفل محروم مهمل ساكن تعيس لا يستجيب للابتسامة أو المناغاة كانت فعلا موضع استشهاد. إن حالة هذا الطفل فيما بين الشهر السادس والثاني عشر من عمره كانت موضع دراسة منظمة، دلت بلا شك على حدوث نوع من الاكتئاب يشبه إلى حد كبير حالة الاكتئاب التي تعتري البالغين من نزلاء مستشفى الأمراض العقلية، فانفعالاته تدل على الخوف والحزن، وهو يبعد نفسه عن كل من حوله، ولا يميل إلى الاتصال بغريب عنه ولا يسر إذا ما اتصل ذلك الغريب به، يكون بطيئاً في نشاطه، ويجلس دائماً أو يرقد جامداً وفي حالة ذهول، قلة النوم طبيعته وفقد الشهية غالب عليه، ينقص وزنه وتصيبه العدوى بسهولة، فالقصور واضح في نموه العام.
وربما يوجه سؤال هنا: في أي الظروف تحدث هذه الحالات؟ وتجيب بأنها تحدث عادة للأطفال الذين كانت تربطهم بأمهاتهم روابط من السعادة إلى الشهر السادس أو التاسع من أعمارهم ثم فصلوا عنهن فجأة دون وجود بديل مناسب.
من خمسة وتسعين طفلا كشف عليهم طبياً، وجد عند عشرين في المائة منهم اكتئاب شديد نتيجة الانفصال، وعند سبع وعشرين في المائة آخرين اكتئاب متوسط مكونين بذلك خمسين في المائة تقريباً من المجموع الكلي. والواقع أن كل أولئك الذين كانوا على علاقة من الارتباط والمحبة بأمهاتهم قد اعتراهم الاكتئاب، وهذا يعني أن الاكتئاب الناتج عن الانفصال عادي في هذا السن. وإذا كان معظم من كانوا على علاقة سيئة بأمهاتهم لم يتأثروا فمعنى ذلك أن الضرر كان قد حدث فعلا في نمو حياتهم النفسية الداخلية مما سيعني أن مقدرتهم على المحبة سوف تتأثر في الغالب خلال حياتهم المقبلة. إن هذا المرض لا يعترف بالجنس ولا بالنوع، بنين أو بنات بيضاً أو ملونين، فالكل يتأثر به. ومع أن الشفاء يكون سريعاً إذا ما أعيد الطفل لأمه، إلا أنه لا يمكن إعمال الجروح الروحية التي قد تنشط بعد ذلك، أما إذا سمح للحالة أن تستمر فإن ذلك سيعوق الشفاء إلى حد كبير، ويعتقد بعض الباحثين أنه بعد الحرمان لمدة أشهر ثلاثة يحدث تغير نوعي في حياة الطفل يكون الشفاء بعده نادراً، ولا يكون تاماً غالباً.
وقد لوحظ أن اضطرابات في النمو قد تتبع الانفصال حتى في السن المبكرة عن ذلك - وهذه الاضطرابات قد تكون أقل عنفاً في الصغار عنها فيمن هم أكبر سناً من الأطفال، وقد وصفت أول الأمر بأنها اكتئاب خفيف، لكن أثبتت الملاحظة بعد ذلك أن هذا تعبير غير مناسب تماماً، إذ أنه قد أصبح من الواضح أن الحالة لم تكن خفيفة ولا حتى يمكن اعتبارها اكتئاباً، فهذه الاضطرابات التي تتعرض لها مجموعة الأطفال من سن ثلاثة أشهر إلى سنة لا تظهر عليهم بسرعة.
يجب أن نؤكد أن هذه النتائج السيئة يمكن تفاديها جزئياً إبان السنة الأولى من العمر، إذا ما عهدنا بالطفل إلى بديلة لأمه، ومن هنا يعتقد الكثيرون أن رعاية الأم البديلة يمكن نجاحها تماماً إبان هذه السنة. لكن يعتقد بعض الباحثين اعتقاداً واسعاً أن الضرر يحدث غالباً نتيجة للتغيير حتى ولو كان مبكراً في الأشهر الثلاثة الأولى. ورغماً من هذا فالكل متفقون على أن رعاية المربية وإن لم تكن مناسبة كل المناسبة إلا أنه لا غنى عنها ويجب التمسك بها دائماً - نجد أنه في العام الثاني والثالث من العمر تكون الاستجابة العاطفية للحرمان، ليست قاسية إلى هذا الحد فحسب، لكن غالباً ما نجد الطفل يرفض الأم البديلة في هذا السن ويصبح مكتئباً اكتئاباً حاداً يصعب صرفه عنه وقد يستمر ذلك لأيام أو أسبوع أو أكثر دون انقطاع - وفي معظم هذا الوقت يكون الطفل في حالة يأس مضن ونجده في حالة صراخ أو أنين، كما نجده يرفض الطعام والراحة ولا ينام إلا من التعب، ولكنه يكون أهدأ بضعة أيام، وربما يركن إلى الجود والتراخي، ومن هذه الحالة يحاول تدريجياً أن يندمج في بيئته الغريبة عليه - وربما يظهر العودة إلى عادات الطفولة لمدة أسابيع وحتى لمدة شهور، فيبلل مضجعه ويسعى للذة الذاتية ويضرب عن الكلام، ويصر على أن يحمل، ولربما تعتبره المربية قليلة الخبرة ضعيف العقل.
من الطبيعي وجود كثير جداً من أنواع الانتكاسات في المجموعة المنتمية إلى هذا السن، كما أن الأطفال ليسوا جميعاً على هذا النمط من التصرف بالطريقة السابق شرحها – ونذكر مرة ثانية أن الأطفال الذين كانوا يتمتعون بأعز وأسعد علاقة بأمهاتهم هم أكثرهم تأثراً بالمتاعب - أما أولئك الذين تربوا في المؤسسات والذين لم يألفوا أما والحدة بشكلها، فلا يظهرون هذا النوع من التصرف إطلاقاً، وذلك نتيجة لأن حياتهم العاطفية قد تحطمت تماماً. ورغم أن المربية القليلة الخبرة ترحب بالطفل الساكن الذي يعتبر أن الكبار كلهم سواء في الطيبة، وتنقد الطفل (المتعلق بالأسرة)، والذي يتصرف بعنف إزاء الغريب ولذا نعتبره (مدللا)، إلا أن الحقائق كلها تدل على أن التصرف العنيف ليس إلا تصرفاً عادياً، وأن الاستسلام ببلادة وخمول ليس إلا علامة على نقص في النمو.
يذكر أولئك الذين يترددون في الاعتراف بالحقيقة، وبما لتلك النكسات من خطورة، أنه بنوع من التدبير الحكيم يمكن بسهولة تجنب تلك النكسات. ومع أن الموضوع في حاجة إلى مزيد من البحث إلا أن هناك سبياً قوياً للاعتقاد بأن منع هذه التصرفات صعب جداً، فمن المعروف بصفة عامة أن الأطفال في عامهم الثاني والثالث في المستشفيات يكونون في حالة هياج شديد بعد زيارة آبائهم وأمهاتهم، وقد بذلت محاولات بارعة لتجنب هذا الهياج دون جدوى.
إن السيدة (برلنجهام) والآنسة (أنافرويد) وهما من أهل الخبرة الواسعة بهذه المشكلات لعدة سنوات قد بذلتا كل المحاولات - بينما كانا يديران دار حضانة داخلية في (هامستد) إبان الحرب العالمية الثانية - لجعل التحول من المنزل إلى دار الحضانة مقبولا من الطفل، ولكنهما لم ينجحا بأية وسيلة، وقد كتبتا في أحد تقاريرها الشهرية ما يأتي:
عند معالجة حالات جديدة من هذا النوع، حاولنا أن نقوم بعملية العزل على مراحل تدريجية، لتخفف من آثارها على الطفل، ومع أن هذا قد أظهر فائدته بالنسبة إلى الأطفال الذين بانت أعمارهم الثالثة أو الرابعة فأكثر، فقد وجدنا أننا لا نستطيع منع النكوص إلا بقدر تافه، أي (منع العودة إلى الأعمال الأكثر طفولة) ذلك بينما وجدنا سيماء القلق ظاهرة على الأطفال الذين تبلغ أعمارهم من سنة ونصف إلى سنتين ونصف، وكل ما يستطيعه الأطفال في هذه السن هو مقاومة التغيرات المفاجئة والعزلة لمدة يوم كامل دون تأثر ظاهر، أما إذا زادت المدة على ذلك، فإنهم يفقدون روابطهم العاطفية وينكصون في غرائزهم، كما يتأخرون في سلوكهم.
كذلك وضحنا هذه الصعاب بوصف مسهب لسلوك طفل في الشهر الرابع والعشرين من عمره، كان حسن النمو، سلس القياد، وعلى علاقة طيبة بأمه، ورغماً عن أن بديلة أمه نفسها ظلت ترعاه، كما ظلت أمه تزوره خلال الأسبوع الأول، إلا أنه تأخر في سلوكه تأخراً مريعاً. فقد أصبح مهملا، يقبع في ركن مستغرقاً في الرضاعة، أو مستسلماً للأحلام، وفي أوقات أخرى كان شريراً ممتنعاً تماماً عن الكلام، كان قذراً يتبول باستمرار ولذا كنا نضع له المناشف دائما - كان يأكل قليلا إذا ما جلس أمام طبقه، ويأكل بدون لذة، كما كان يلطخ المائدة بالطعام. وفي هذا الوقت مرضت المربية التي كانت ترعاه، فلم يرتبط الطفل بصداقات مع أي شخص آخر، بل ترك نفسه مستسلماً للأيدي التي تحمله، وأصيب بالتهاب اللوز ولزم فراش المرض بالمصحة، وفي ذلك الجو الهادئ لم يظهر عليه أنه غير سعيد، فكان يلعب بهدوء، ولكن سمات الطفولة كانت بادية عليه، ونادراً ما كان ينطق بكلمة، كما فقد تماماً السيطرة على مثانته وأمعائه، وأفرط في الرضاعة، وعندما عاد إلى مربيته، كان شديد الاصفرار، شديد التعب، وكان البؤس باديا عليه عندما عاد إلى المجموعة. كان دائما متعباً وفي حاجة إلى المساعدة والراحة، ولم يظهر عليه أنه عرف مربيته التي كانت ترعاه من قبل.
من الممكن أحيانا أن تكون النتائج المتعددة لتلك التجارب المحزنة على الأطفال مفجعة، - إن النتائج المباشرة تكون غير واضحة دائماً لمن يلاحظون من غير ذوي الخبرة، إلا أنها غالباً ما تكون أيضاً غير مطمئنة بالنسبة إلى الخبير - والملاحظات العامة هي:
(أ) الأثر العدائي نحو الأم عند عودته إليها، والذي يأخذ أحياناً صورة رفض معرفته بها.
(ب) شدة الرغبة في الاستحواذ على الأم أو على بديلتها حيث يمتزج الامتلاك الكلي من التصميم على السلوك بطريقته الخاصة إلى جانب الغيرة الحادة، مشفوعة بسورة عارمة من الغضب.
(ج) علاقة سارة ولكنها سطحية بأي واحد من الكبار يكون في محيط الطفل.
(د) انسحاب ببلادة من كافة الروابط العاطفية مصحوب بهز متواصل لجسمه وأحياناً بخبط لرأسه.
وقد لاحظ هذه الآثار كثير من المتخصصين في تربية الأطفال، ويجب أن يؤخذ في الاعتبار هذا التحذير الخاص بالأطفال الذين يستجيبون ببلادة وخمول أو بصداقة مرحة لا تمييز فيها، فإنهم يخدعون عادة أولئك الذين لا علم لهم بقواعد الصحة العقلية، إذ غالباً ما يكونون هادئين، مطيعين، سلسي القياد، سلوكهم طيب مرتبون وأبدانهم سليمة، بل تظهر على الكثيرين منهم سيماء السعادة. ولا مجال للقلق طالما كان أولئك الأطفال بالمؤسسة، ولكنهم سرعان ما يتحطمون بعد مغادرتهم لها، إذ من الواضح أن توافقهم هذا ليس إلا مظهراً أجوف ليس مبنياً على نمو سوي للشخصية.
قد يقتنع الإنسان أن الطفل قد نسي أمه تماماً، وليس هذا حقيقي بطبيعة الحال، بدليل ما يظهر عليه عندما يبكي من أجلها إذا ما ألمت به ملمة، ولو صدق هذا الأمر فإنه يكون خطيراً، إذ أن صحته العقلية في المستقبل متوقفة على النمو الدائب المتزايد لهذه العلاقة.
وطبيعي أن الأنواع الخاصة من ردود الفعل التي تظهر على أطفال عديدين سوف تكون متباينة وستتوقف إلى حد كبير على الأحوال التي يعيشون فيها. فحضور الأم البديلة ربما يحول عدداً من الأطفال المتبلدين أو الودودين دون تمييز إلى محبين للتملك ومتوحشين ثائرين - وقد كان لحضور الأم البديلة إلى دار الحضانة في (هامستد) من الأثر ما سبق ذكره.
إن الأطفال الذين أظهروا توافقاً وانسجاماً تحت ظروف الحياة الجماعية، تحولوا فجأة إلى ملحين غير معقولين في مطالبهم، إن غيرتهم وميلهم إلى الاستئثار بمن يحبون من الكبار قد تصبح غير محدودة، ومن السهل أن يصبح ذلك سلوكا اضطرارياً ملحاً عندما تكون العلاقة بالأم خبرة ليست جديدة بالنسبة للطفل وذلك عندما يكون الانفصال عن الأم الحقيقية أو عن المربية قد حدث من قبل، فإن تعلقه يشتد كلما ازداد اقتناعاً في دخيلة نفسه أن مثل هذا الانفصال سوف يتكرر.
يستولي على الأطفال الانزعاج في أثناء ممارستهم النشاط الرياضي عندما يشاهدون بقلق مربيتهم وقد تركت الحجرة ويتساءلون، هل تركتها في مهمة، أو للراحة، أم لأن لها علاقة محبة بأطفال خارج نطاق أسرتها – (توني) مثلا الذي يبلغ الثالثة والنصف من عمره لا يسمح للأخت (ماري) أن تعامل الأطفال الآخرين، و (جيم) الذي يبلغ الثانية أو الثالثة ينفجر باكياً عندما تترك مربيته الحجرة، أما (شيرلي) التي تبلغ الرابعة من عمرها فتكون في منتهى الهم والألم عندما تغيب عنها (ماريون) لسبب ما - الواقع أن أولئك الأطفال جميعاً كانوا قد قاسوا من سلسلة من الحالات المؤذية من الانفصال في حياتهم.
وكثير من الأمهات اللائي غاب عنهن أطفالهن أسابيع أو شهوراً قليلة يمكنهن أن يركزن على هذه الملاحظات: قد يحدث أحياناً عندما يعود الطفل إلى أمه أن تتجمد عواطفه ويصبح غير قادر على التعبير عن شعوره وأحياناً لا يقوى حتى على الكلام، وبعد ذلك تذوب عواطفه ذوباناً جارفاً ويتبع ذلك انهمار الدموع والتنهدات، ويقول من يستطيعون الكلام (لماذا تركتيني يا أمي؟) ومن ذلك الوقت ولمدة أسابيع أو شهور لا يسمح لأمه أن تغيب عن ناظريه، وتكون طفولته واضحة، كما يكون شديد التطلع، ومن السهل استثارته، ولو تسلمته أيد حكيمة فإن هذه المتاعب تتلاشى تدريجياً. ويجب ألا ننسى أنه من المحتمل جداً أن تظهر الخدوش النفسية المستترة والتي قد تصبح آثارها نشطة وتسبب أمراضا عصبية في مستقبل الحياة ـ وقد اتضح أن هذا خطر حقيقي بملاحظة الذعر المفاجئ الذي يصيب الأطفال الذين استعادوا ظاهرياً توازنهم العاطفي عندما يواجهون بأحد ممن شاركوهم خبرة الانفصال. وإذا لم يعالج قلق الطفولة بحنان بعد عودة الطفل إلى منزله فإن ذلك سيؤدى إلى تطورات سيئة في علاقة الطفل بأمه. إن مقابلة السلوك المعوج بالزجر والعقاب يؤدي بدوره إلى زيادة السلوك الطفولي وإلى كثرة المطالب وإلى حدة الخلق، وبهذه الطريقة تنمو الشخصية غير المستقرة المختلة الأعصاب، والتي تصبح غير قادرة على المواءمة بينها وبين نفسها أو مع غيرها، وغير قادرة بصفة خاصة أن توجد علاقة محبة وولاء مع الآخرين.
ورغم أن تتابع مثل هذه الأحداث يبدو مزعجاً إلا أنه من المؤكد غالباً أنها أقل فظاعة من حالة الطفل الذي يستجيب إما بالانطواء على نفسه، وإما بإبداء صداقة سطحية غير مستقرة - هذه النتائج - التي غالباً ما تكون نتيجة الانفصال المتكرر أو نتيجة الانفصال الذي حدث لمدة طويلة قبل بلوغ العامين والنصف من العمر وبدون الحصول على بديلة للأم – ما هي إلا نذيرا للمتاعب النفسية الرهيبة.
وهنا ربما يوجه السؤال: في أي عمر يصبح الطفل في مأمن من الأضرار نتيجة لبعده عن رعاية الأم؟
يتفق كل من درسوا الموضوع على أن الخطر يظل شديداً بين الثالثة والخامسة من العمر مع أنه أقل مما يحدث قبل ذلك، وفي هذه الفترة لا يعيش الأطفال محصورين في حاضرهم، ولكنهم من ثم يتخيلون في غموض الوقت الذي ستعود فيه أمهاتهم، وهذا التخيل مستحيل بالنسبة للأطفال الأقل من الثالثة - وبعد ذلك تسمح القدرة على الكلام للطفل ببعض التفسيرات البسيطة ويصبح أكثر استعداداً لفهم الأم البديلة، وفي هذه الفترة من العمر يمكن القول إنه في استطاعة المعاملة الحكيمة الواعية تخفيف الآثار السيئة، بينما يحدث رد فعل سيء يشبه غالباً ما يحدث للطفل بين السنة الأولى والثالثة من عمره إذا لم تتحقق هذه المعاملة الواعية.
ثم ينقص الخطر بنسبة أكبر بعد سن الخامسة، ولو أنه ليس هناك مجال للشك في وجود نسبة محترمة من الأطفال بين سن الخامسة والسابعة أو الثامنة لا تستطيع التكييف نفسها تماماً في حالة الانفصال وخاصة إذا كان مفاجئا ولم يعمل له تمهيد - وإليك صورة مؤلمة واضحة أدلى بها مريض كبير عما حدث له وهو صبي في السادسة حجز بالمصحة ثلاثة أعوام، وقد وصف ألم الحرمان من الأسرة ذلك الحرمان الميئوس منه، كما وصف بؤس الأسابيع الأولى التي أدت به إلى عدم المبالاة خلال الأشهر التالية - وصف كيف قام بصلات عاطفية مع رئيسة المربيات التي عوضته عن فقدان الأسرة. ويقول (ولكني شعرت بعد عودتي إلى المنزل أنه لا مكان لي فيه وأني دخيل عليه، وأخيراً أوجد هذا الجفاء الذي أحست به بعداً بيني وبين المنزل مرة ثانية، ولم تعترض صورة الأم طريقي بعد ذلك، وفي الواقع لم يعد في استطاعتي إيجاد علاقات مستقرة، وكان تجاوبي مبالغاً فيه، بل غالباً ما كان غير مرغوب فيه، وأصبحت دائماً عابساً مهموماً، كما صرت شريراً)، وأخيراً بعد أن وصف كيف فهم نفسه نوعاً فيمها تلا ذلك من السنين كتب يقول (إنه ما زالت لي جرائم، إن هذه الصورة التعسة لما ارتكبت من أخطاء نحو الآخرين تجعلني غير محتمل، وأصبح ذلك مهدداً لعلاقتي بأولادي)، إن الصعوبة التي يلاقيها الأطفال المحرومون لكي يصبحوا آباء ناجحين، ربما تكون أشد آثار الحرمان ضرراً.
قد أكدت هذه الصورة مجموعة قيمة من تاريخ حياة عشرات الأطفال الذين زادت أعراض أمراضهم العصبية أو الذين وصلوا إلى درجة أسوأ من المرض نتيجة فصلهم عن أمهاتهم. ومعظم عمليات الفصل مآلها المصحات - ونصف عمليات الفصل هذه حدثت في السنوات الثلاث الأولى، أما النصف الثاني فقد حدث بين السنة الثالثة والثامنة من العمر - وفي كثير من أحوال الفئة الثانية يستطيع الأطفال أن يصفوا بوضوح شعورهم وهم في المصحة، وقد ذكروا أن القلق العام كان سائداً بينهم نتيجة الاعتقاد بأنهم لن يعودا إلى أسرهم، أو أنهم أبعدوا لأنهم أشقياء. ومن ذلك ما ذكره صبي في السابعة والنصف من عمره، دخل المصحة ثلاث مرات تخللتها فترات نقاهة بالمنزل وذلك منذ كان في الثالثة والنصف من عمره إذ قال: (لقد ظننت أني لن أعود إلى المنزل، إذ بينما كنت في السادسة من عمري سمعت أختي تقول إنهم سيلقون بي مع القمامة وأني لن أعود) وطفل آخر وكانت بنتاً في السادسة وتسعة أشهر من عمرها، صاحت عندما أرسلت إلى مستشفى الحميات وهي في الثالثة تقول (سأكون بنتاً طيبة، لا ترسلوني) وعند عودتها إلى المنزل كانت هادئة جداً وجلست مفزوعة في ركن معظم الوقت - ومع أنها لم تذكر كلمة عن هذه التجربة إلا أنها كانت تلعب ألعاباً متقنة عن المصحة مع عرائسها، فكانت ترسلها إلى المصحة عقاباً لها على شقاوتها.
وتبين من فحص حالة الأولاد الذين أجلوا عن مواطنهم إبان الحرب العالمية الماضية وكانت أعمارهم بين الخامسة والسادسة عشرة، أن هناك عدداً كافياً من التقارير تذكر ردود فعل مضادة، مما يؤكد هذا البيان ويوضح أن الأولاد في هذه السن لا يضبطون عواطفهم - وقد قرر المدرسون أن مرض الحنين إلى المنزل كان منتشراً، وأن قوة التركيز في الأعمال المدرسية تضاءلت، وأن حالات التبول في الفراش والظواهر العصبية والتقصير تزداد، ولو أنه في كثير من الحالات لم تتخلف آثار سيئة، إلا أنه في حالات أخرى استمرت المشاكل بعد عودة الأطفال إلى مواطنهم.
هناك أسباب تدعو إلى الاعتقاد بأن جميع الأطفال الذين تقل أعمارهم عن الثالثة، وكثيرين ممن هم بين الثالثة والخامسة يقاسون من الحرمان - أما في حالة أولئك الذين تتفاوت أعمارهم بين الخامسة والثامنة فربما تكون النسبة ضئيلة. وهنا يعترضنا سؤال: لماذا يحدث هذا للبعض ولا يحدث للبعض الآخر؟ ذلك بعكس ما تجده في المجموعة الأقل سناً، لأن الأطفال في هذا السن كما كانت صلاتهم طيبة بأمهاتهم زاد تحملهم للعزل. إن الطفل السعيد الأمن في كنف أمه ومحبتها لا يكون شديد القلق، بينما الطفل غير الآمن في كنفها والذي يشك في طيبة مشاعرها نحوه يسيء تفسير معنى الأحداث. وقد يكمن أثر هذا التفسير الخاطئ في أعماقه، فلا يكون واضحاً لأي إنسان حتى ولا للطفل نفسه، وإن اعتقاد الطفل بأنه ما أبعد إلا لشقاوته تؤدي إلى القلق والكراهية وهذه بدورها تؤدي إلى سلسلة من العلاقات السيئة بوالديه. لذلك فإن الأولاد الذين يبلغون الخامسة أو الثامنة من أعمارهم والذين تعرضوا لمتاعب عاطفية من الممكن بسهولة أن تكون أحوالهم أشد سوءا نتيجة لعملية الانفصال، بينما ينجو الأطفال الذين في نفس السن ولم يتعرضوا لمثل هذه المتاعب، ومع ذلك فيتوقف الكثير بالنسبة إلى كلا المجموعتين على كيفية إعداد الطفل للموقف، وعلى طريقة معاملته إبانها، وعلى طريقة استقبال أمه له عند عودته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ المقصود بدار الرعاية هو البيت أو الأسرة التي تتبنى هؤلاء الأطفال أو ترعاهم لمدة معينة.
|
|
لصحة القلب والأمعاء.. 8 أطعمة لا غنى عنها
|
|
|
|
|
حل سحري لخلايا البيروفسكايت الشمسية.. يرفع كفاءتها إلى 26%
|
|
|
|
|
في مدينة الهرمل اللبنانية.. وفد العتبة الحسينية المقدسة يستمر بإغاثة العوائل السورية المنكوبة
|
|
|