أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-6-2017
3885
التاريخ: 17-5-2017
2844
التاريخ: 1-6-2017
2765
التاريخ: 11-12-2014
3771
|
1 - تحالف أحزاب العرب واليهود ضد النبي « صلى الله عليه وآله »
سماها الله تعالى حرب الأحزاب ، لأن أحزاب العرب واليهود تحالفوا فيها على غزو المدينة ، لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، واستئصال بنى عبد المطلب !
كان ذلك في شهر شوال من السنة الرابعة ، كما اختاره عدد من المؤرخين ومنهم صاحب الصحيح ، وهو الأقرب ، والمشهور أنها في السنة الخامسة . ويظهر أنها كانت في أواخر شوال ، لأن محاصرة بني قريظة التي كان بعدها مباشرة لمدة أسبوعين ، كانت في أواخر ذي القعدة وأوائل ذي الحجة .
وكانوا يحفرون الخندق من شهر رمضان فقد كان خوات بن جبير صائماً وأغمى عليه وهو يعمل في الخندق ، فنزلت فيه الآية : أُحِلَّ لَكُمْ لَيلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ . . وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَينَ لَكُمُ الْخَيطُ الأَبْيضُ مِنَ الْخَيطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ . الكافي : 4 / 98 .
وكان عدد جيش الأحزاب عشرة آلاف على أقل تقدير ، وروى بضعاً وعشرين ألفاً ، وكانوا عدة فرق : جيش قريش ، وجيش هوازن ، وبنى سُلَيم ، وبنى مرة ، وبنى أشجع ، وبنى أسد ، ثم يهود قريظة في شرقي المدينة .
وكان عدد المسلمين المدافعين عن المدينة تسع مئة ، إلى ألف مقاتل .
واستمر الحصار نحو شهر ، حتى استطاع بعض فرسان المشركين بقيادة عمرو بن ود العامري أن يعبروا الخندق ، فبرز اليه على ( عليه السلام ) وقتله وقتل بعض من عبر معه ، وهرب الباقون . ثم أرسل الله عليهم ريحاً فاضطرب عسكرهم وانهزموا !
واتفقت المصادر على أن تجميع الأحزاب ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) فكرة يهودية ، فبعد معركة بدر وأحُد ، وإجلاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنى النضير لنقضهم ميثاق التعايش ، ذهب حاخامات اليهود وزعماؤهم وفداً إلى مكة برئاسة الحاخام كعب بن أسد ، وكان هو الذي وقع عهدهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) . « فطافوا على وجوه قريش ودعوهم إلى حرب النبي . . . فقالوا لقريش : نحن معكم حتى نستأصل محمداً . . قال أبو سفيان : هذا الذي أقدمكم ونازعكم ؟ قالوا : نعم جئنا لنحالفكم على عداوة محمد وقتاله . قال أبو سفيان : مرحباً وأهلاً ، أحبُّ الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد .
زاد في نص آخر قوله : ولكن لا نأمنكم إلا إن سجدتم لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا ! قال النفر : فأخرج خمسين رجلاً من بطون قريش كلها أنت فيهم ، وندخل نحن وأنت بين أستار الكعبة حتى نلصق أكبادنا بها ، ثم نحلف بالله جميعاً : لايخذل بعضنا بعضاً ، ولتكونن كلمتنا واحدة على هذا الرجل ، ما بقي منا رجل ! ففعلوا ، فتحالفوا على ذلك وتعاقدوا ، فاتعدوا لوقت وقَّتوه .
فقال أبو سفيان : يا معشر اليهود أنتم أهل الكتاب الأول والعلم ، أخبرونا عما أصبحنا فيه نحن ومحمد ، ديننا خير أم دين محمد ؟ فنحن عُمار البيت وننحر الكوم « الناقة السمينة » ونسقى الحجيج ونعبد الأصنام ؟
قالوا : اللهم أنتم أولى بالحق ، إنكم لتعظمون هذا البيت ، وتقومون على السقاية وتنحرون البدن ، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم ، فأنتم أولى بالحق منه . فأنزل الله في ذلك : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً . النساء : 51 .
فلما قالوا ذلك لقريش نشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله . فخرجت اليهود حتى أتت غطفان ، وقيس عيلان ، وأخذت قريش في الجهاز ، وسيرت في العرب تدعوهم إلى نصرها ، وألَّبوا أحابيشهم ومن تبعهم .
ثم خرجت اليهود حتى جاؤوا بنى سُلَيم ، فوعدوهم يخرجون معهم إذا سارت قريش . ثم ساروا في غطفان فجعلوا لهم تمر خيبر سنة وينصرونهم ويسيرون مع قريش إلى محمد إذا ساروا ، فأنعمت بذلك غطفان .
ولم يكن أحد أسرع إلى ذلك من عيينة بن حصن . . وذكر البعض أن كنانة بن أبي الحقيق جعل نصف تمر خيبر لغطفان في كل عام » ! الصحيح من السيرة : 9 / 25 .
وفى سيرة ابن هشام : 2 / 402 : « قال ابن إسحاق : وكان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبنى قريظة : حيى بن أخطب ، وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع ، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق أبو عمار ، ووحوح بن عامر ، وهوذة بن قيس » .
أقول : لاحظ أن جولتهم شملت قبائل تهامة ونجد ، وأنهم أعطوا للنجديين موسم ثمار خيبر أجرة على حربهم ، كما تعهدوا أن يشاركوهم في المعركة .
وعندما وصل أبو سفيان بجيش الأحزاب إلى المدينة وحاصرها ، تحرك اليهود في حصونهم ، فقام كعب بنقض عهده مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومزق صحيفته ، وجمع رؤساء قومه وهم : الزبير بن باطا ، وشاس بن قيس ، وعزال بن ميمون ، وعقبة بن زيد ، وأعلمهم بما صنع من نقض العهد ! « الصحيح من السيرة : 8 / 41 » لكنهم جبنوا عن الخروج ، فتصور أبو سفيان أنهم غدروا به ، فساعد ذلك على هزيمته !
2 - كانت قريش تجمع الأحزاب والنبي « صلى الله عليه وآله » يحفر الخندق
رُوِى أن سلمان الفارسي « رحمه الله » اقترح على النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يحفروا خندقاً حول المدينة لمنع الأحزاب من دخولها ، فنزل جبرئيل ( عليه السلام ) وأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بذلك فخطَّ مكان الخندق وأمر المسلمين بحفره . ففي رسائل المرتضي : 4 / 117 : « أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحفر الخندق وكان قد أشار بحفره سلمان الفارسي ، فلما رأته العرب قالوا : هذه مكيدة فارسية . واسم الموضع الذي حفر فيه الخندق المذاد » .
ورجح صاحب الصحيح من السيرة : 9 / 79 قول الواقدي بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) هو الذي أشار بحفر الخندق ، فاختلف فيه المسلمون ، فتكلم سلمان عن الحكمة فيه ، وأن الفرس يخندقون على مدنهم لصد هجوم العدو ، فاقتنعوا بحفر الخندق .
ومن مصادرنا شرح الأخبار : 2 / 287 عن علي ( عليه السلام ) أن جبرئيل أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحفره .
3 - خطَّ النبي « صلى الله عليه وآله » مكان الخندق وقسَّم العمل فيه
قال في الصحيح من السيرة : 9 / 88 ، ملخصاً : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ركب فرساً وخطَّ لهم موضع الخندق ، ما بين جبل بنى عبيد خَرْبَى إلى راتج ، حسب قول الواقدي ، وعند القمي : الخندق طولاً من أعلى وادى بطحان غربى الوادي مع الحرة إلى غربى مصلى العيد ، ثم إلى مسجد الفتح ، ثم إلى الجبلين الصغيرين اللذين في غربى الوادي . وكان طوله نحواً من خمسة آلاف ذراع وعرضه تسعة أذرع ، وعمقه سبعة أذرع . وجعل له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثمانية أبواب ، على كل باب رجلاً من المهاجرين ورجلاً من الأنصار مع جماعة ، يحفظونه من تسلل العدو .
وكان الخندق من الجهة الغربية الشمالية للمدينة ، أما بقية الجهات فكان فيها حواجز طبيعية ، تضاريس أو بيوت ، يسهل منع العدو من النفوذ منها .
وجعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) معسكره مقابل الخندق في سفح جبل سلع ، فكان الجبل إلى يساره وخلفه ، وعن يساره حرة الوبرة الوعرة ، وعن يمينه حرة وأقم الوعرة .
وتفاوتت الرواية في مدة الحفر ويبدو أنها نحو شهر ، وقد عمل فيه المسلمون بسرعة ليتم قبل قدوم الأحزاب ، وفرغوا منه قبل وصولهم بثلاثة أيام .
وقسَّم النبي ( صلى الله عليه وآله ) العمل فكان المهاجرون يحفرون من جانب راتج إلى ذباب ، والأنصار يحفرون من ذباب إلى جبل بنى عبيد ، وجعل لكل قبيلة حداً ، وجعل كل أربعين ذراعاً بين عشرة ، وبدأ ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه في حفر الخندق فأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين وعلى ( عليه السلام ) ينقل التراب ، حتى عرق النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو يقول : لا عيشَ إلا عيش الآخرة . اللهم اغفر للأنصار والمهاجرين .
فلما نظر الناس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يحفر ، اجتهدوا في الحفر ونقلوا التراب ، فلما كان في اليوم الثاني بكَّروا إلى الحفر ، وكان ( صلى الله عليه وآله ) يحمل التراب على ظهره أو على عاتقه ، ثم يجلس حتى يستريح ، وجعل أصحابه يقولون : يا رسول الله نحن نكفيك فيقول : أريد مشاركتكم في الأجر . قال أبو واقد : ولقد رأيته يوماً بلغ منه فجلس ، ثم اتكأ على حجر على شقه الأيسر .
وكان المسلمون في فقر شديد أيام حفر الخندق ، حتى كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يشد على بطنه حجراً من الجوع .
وفى عيون أخبار الرضا : 1 / 43 ، عن علي ( عليه السلام ) قال : « كنا مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حفر الخندق إذ جاءته فاطمة « عليها السلام » ومعها كسرة خبز ، فدفعتها إلى النبي فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ما هذه الكسرة ؟ قالت : قرصاً خبزتها للحسن والحسين ، جئتك منه بهذه الكسرة ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث » !
4 - محاصرة الأحزاب للمدينة
أ . قال الله تعالى يصف جيش الأحزاب : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا . إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِى الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا . سورة الأحزاب 9 - 11 .
في المناقب : 1 / 170 : « إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ : أي من قبل المشرق . وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ : أي من المغرب . . فخرج إليه أبو سفيان بقريش ، والحارث بن عوف في بنى مرة ، ووبرة بن طريف ومسعود بن جبلة في أشجع ، وطليحة بن خويلد الأسدي في بنى أسد ، وعيينة بن حصن الفزاري في غطفان وبنى فزارة ، وقيس بن غيلان وأبو الأعور السلمى في بنى سُلَيم . ومن اليهود حيى بن أخطب ، وكنانة بن الربيع ، وسلام بن أبي الحقيق ، وهوذة بن قيس الوالي في رجالهم ، فكانوا ثمانية عشر ألف رجل ، والمسلمون في ثلاثة آلاف . وكان الكفار على الخمر والغناء والمدد والشوكة ، والمسلمون كأن على رؤوسهم الطير لمكان عمرو ! والنبي جاثٍ على ركبتيه باسط يديه ، باكية عيناه ، ينادى بأشجى صوت : يا صريخ المكروبين يا مجيب دعوة المضطرين ، إكشف همى وكربي ، فقد ترى حالي » .
وفى الصحيح من السيرة : 9 / 178 ملخصاً : « ذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرساً . وقال ابن إسحاق كان المسلمون سبع مئة ، وقال البخاري كانوا ألفاً أو نحوها ، ونرجح قول ابن إسحاق للأمور التالية :
1 - قصة إطعام جابر لأهل الخندق جميعاً وكانوا سبع مئة رجل أو ثمان مئة ، أو ألف رجل .
2 - روى عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنهم تسع مئة رجل ، وقد تكون تسع تصحيفاً لسبع .
3 - روى أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : أكتبوا لي من تلفظ بالإسلام فكتب حذيفة ألفاً وخمس مئة رجل ، وكان هذا عام الحديبية . وما جرى في الخندق يوضح أن عدد سكان المدينة لا يصل إلى الخمسة آلاف نسمة . ووافى المشركون المدينة وأحاطوا بها واختلفت الأقوال في عددهم ، فقال المسعودي : سارت إليه قريش وغطفان وسُلَيم وأسد وأشجع وقريظة ونضير ، وغيرهم من اليهود ، فكان عدة الجميع أربعة وعشرين ألفاً ، منها قريش وأتباعها أربعة آلاف . وقال ابن شهرآشوب : كانوا ثمانية عشر ألف رجل . . وقال المسعودي إنه كان معهم ثلاث مئة فرس وألف وأربع مئة بعير ، وقائدهم أبو سفيان صخر بن حرب » .
ب . قال في شرح الأخبار : 1 / 292 : « ونظر المشركون إلى الخندق فتهيبوا القدوم عليه ولم يكونوا قبل ذلك رأوا مثله ، وقالوا إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تعرفها ! فجعلوا يدورون حوله بعساكرهم وخيلهم ورجلهم ويدعون المسلمين : ألا هلم للقتال والمبارزة ، فلا يجيبهم أحد إلى ذلك ولا يرد عليهم فيه شيئاً . ولزموا مواضعهم كما أمرهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد عسكروا في الخندق ، وأظهروا العدة ولبسوا السلاح ووقفوا في مواقفهم ، وتهيب المشركون أن يلجوا الخندق عليهم » .
وجعلوا معسكراتهم بعيدة عن الخندق نسبياً حتى لا يكونوا في مرمى المسلمين .
« أقبلت قريش حتى نزلت بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بنى كنانة وأهل تهامة ، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد » . البحار : 20 / 199 .
« وكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوماً ، ويغدو خالد بن الوليد يوماً ، ويغدو عمرو بن العاص يوماً ، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوماً ، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوماً ، ويغدو ضرار بن الخطاب الفهري يوماً ، فلا يزالون يجيلون خيلهم ، ويتفرقون مرة ويجتمعون مرة أخري ، ويناوشون المسلمين ويقدمون رماتهم فيرمون ، وإذْ أبو سفيان في خيل يطيفون بمضيق من الخندق يطلب مضيقاً من الخندق ، فرماهم المسلمون حتى رجعوا . . وكان أسيد بن حضير يحرس في جماعة ، فإذا عمرو بن العاص في نحو المائة يريدون العبور من الخندق فرماهم حتى ولوا ، وكان المسلمون يتناوبون الحراسة وكانوا في قَرٍّ شديد وجوع . وكان عمرو بن العاص وخالد كثيراً ما يطلبان غرة ومضيقاً من الخندق يقتحمانه ، فكانت للمسلمين معهما وقائع في تلك الليالي . .
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يشارك في دفع المشركين عندما يقصدون الخندق ، ويوجه المسلمين إلى رميهم بالسهام أو الحجارة فيرجعون . وكان رماة المسلمين على أبواب الخندق وفى نقاط مناسبة ، وعمدة سلاحهم الحجارة ، وقد جمعوها أيام حفر الخندق : « ويخرج المهاجرون والأنصار في نقل التراب وعلى رؤوسهم المكاتل ، ويرجعون بها بعد إلقاء التراب منها ، وقد ملأوها حجارة من جبل سلع ، وهى أعظم سلاحهم ، يرمون بها » . إمتاع الأسماع : 1 / 225 .
« ومضى على الفريقين قريب من شهر ، لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة ، حتى أنزل الله النصر » . سعد السعود لابن طاووس / 138 .
ج . وقع حدثان في أيام الحصار أثَّرا على معنويات المسلمين : الأول : نقض بني قريظة عهدهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وانضمامهم عملياً إلى قريش . والثاني : إصابة سعد بن معاذ بسهم من المشركين إصابة شديدة ! فقد كانت قريش ومن معها من الأحزاب يحاصرون المدينة من غربيها ، وكانت مساكن بني قريظة شرقي المدينة « حَرَّة بني قريظة » فكانوا مع الأحزاب طوقاً شبه كامل عليها ، وكان خطر بني قريظة يعادل خطر بقية الأحزاب ! قالت أم سلمة رضي الله عنها : « شهدت معه مشاهد فيها قتال وخوف : المريسيع ، وخيبر ، وكنا بالحديبية ، وفى الفتح ، وحنين ، ولم يكن من ذلك أتعب لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا أخوف عندنا من الخندق ! وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة « الطوق » وأن قريظة لا نأمنها على الذراري ، فالمدينة تحرس حتى الصباح ، نسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا » . إمتاع الأسماع : 1 / 235 .
لذلك أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بتجميع النساء والأطفال في « الآطام » أي المباني المحصنة المرتفعة ، قال في الصحيح : 9 / 269 : « وكانت حراستهم تتركز على الأمور الرئيسية وهي : 1 - مركز قيادة النبي ( صلى الله عليه وآله ) . 2 - العسكر . 3 - الخندق . 4 - المدينة . 5 - الرصد لتحركات العدو . 6 - النساء والذراري وتعاهدهم في الآطام . 7 - أبواب الخندق .
قال النويري وغيره : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل ، وزيد بن حارثة في ثلاث مئة يحرسون المدينة ويظهرون التكبير ، وذلك أنه كان يخاف على الذراري من بني قريظة . وكان عباد بن بشر على حرس قبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع غيره من الأنصار يحرسونه كل ليلة . وكانت المدينة تحرس حتى الصباح يسمع فيها التكبير حتى يصبحوا » . والطبقات : 2 / 67 .
وكان مسؤول الحراسة والعسكر كله على ( عليه السلام ) ، ففي تفسير القمي : 2 / 186 : « وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمر أصحابه أن يحرسوا المدينة بالليل ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على العسكر كله ، بالليل يحرسهم ، فإن تحرك أحد من قريش نابذهم » .
وعندما نقض بنو قريظة عهدهم ومزقوا نسخته وأعلنوا الحرب على المسلمين : « كان الخوف على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من الخوف من قريش وغطفان . . وهمت بنو قريظة أن يغيروا على المدينة ليلاً ، وبعث حيى بن أخطب إلى قريش أن يأتيه منهم ألف رجل ومن غطفان ألف ، فيغيروا بهم فجاء الخبر بذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فعظم البلاء » . « الإمتاع : 1 / 233 » . فأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) إليهم « سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، وخوات بن جبير ، وعبد الله بن رواحة يستخبرون الأمر ، فوجدوهم مكاشفين بالغدر والنيل من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فشاتمهم سعد بن معاذ وكانوا أحلافه وانصرفوا ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمرهم إن وجدوا الغدر حقاً أن يخبروه تعريضاً لئلا يفُتُّوا في أعضاد الناس » . الصحيح : 9 / 197 .
ورفض ثلاثة أشخاص من بني قريظة نقض العهد وخرجوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأسلموا وكانوا معه ، وهم « بنو سَعْنة » : أسد وأسيد وثعلبة .
الصحيح : 8 / 138 .
« وأرسلت قريظة إلى أبي سفيان ومن معه من الأحزاب يوم الخندق ، أن أثبتوا فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم » . اللمع للسيوطي / 93 .
وفى الإمتاع : 1 / 241 ، أن أبا سفيان ذهب إلى بني قريظة يحثهم على مهاجمة المدينة ، فأبوا أن يقاتلوا حتى يأخذوا سبعين رجلاً من قريش وغطفان رهاناً !
وأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) زيد بن حارثة في ثلاث مئة ، وأسلم بن حريش في مئتين تتقدمهم خيل المسلمين وأمرهم أن يظهروا التكبير ، وشدد على حراسة المدينة من جهة قريظة ، وكان يرسل مجموعات الاستطلاع والكمائن ، فخافت قريظة !
ورووا قصة صفية عمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما كانت النساء والذراري في الآطام ، قالت : « فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن ، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ، ورسول الله والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آتٍ ، قالت فقلت : يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن ، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود ، وقد شغل عنا رسول الله وأصحابه فانزل إليه فاقتله ، قال : يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب ، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ! قالت : فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئاً احتجزت ثم أخذت عموداً ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته . قالت : فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت : يا حسان إنزل إليه فاسلبه ، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل . قال : مالي بسلبه من حاجة » . ابن هشام : 3 / 711 وأمالي الطوسي / 261 .
د . كان الوقت يعمل لصالح المسلمين بسبب فقدان الأحزاب مصدر تموين جيشهم وعلف خيلهم وإبلهم ، وبسبب تعدد قياداتهم واختلاف أمزجتهم ، فالوقت آخر الصيف وقد أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يجمعوا غلالهم ولا يتركوا شيئاً خارج المدينة .
قال في إمتاع الأسماع : 1 / 223 : « خرجت قريش ومن تبعها من أحابيشها في أربعة آلاف وعقدوا اللواء في دار الندوة ، وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، وقادوا معهم ثلاث مائة فرس وكان معهم ألف بعير وخمس مائة بعير .
ولاقتهم سُلَيم بمر الظهران في سبع مائة يقودهم سفيان بن عبد شمس وهو أبو أبى الأعور السلمي ، الذي كان مع معاوية بن أبي سفيان بصفين ، وخرجت بنو أسد وقائدها طليحة بن خويلد الأسدي ، وخرجت بنو فزارة في ألف يقودهم عيينة بن حصن ، وخرجت أشجع في أربع مائة يقودهم مسعود بن رحيلة . . وخرجت بنو مرة في أربع مائة يقودهم الحارث بن عوف . . .
وأقبلت قريش في أحابيشها ومن تبعها من بنى كنانة حتى نزلت وادى العقيق ، ونزلت غطفان بجانب أحد ومعها ثلاث مائة فرس ، فسرحت قريش ركابها في عضاة وادى العقيق ، ولم تجد لخيلها هناك شيئاً إلا ما حملت من علفها وهو الذرة . وسرحت غطفان إبلها إلى الغابة في أثلها وطرفائها . وكان الناس قد حصدوا زرعهم قبل ذلك بشهر ، وأدخلوا حصادهم وأتبانهم . وكادت خيل غطفان وإبلها تهلك من الهزل ، وكانت المدينة إذ ذاك جديبة » .
ه - . قويت معنويات الأحزاب بنقض بني قريظة عهدهم وإصابة سعد ، فكانوا ينتظرون حملة بني قريظة من الشرق ، ويطمعون بعبور الخندق من الغرب ، فيطبقوا على المسلمين ويستأصلوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما زعموا ! وقد أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) نصف جيشه أو أكثر لحراسة المدينة من بني قريظة ، وبقى في من معه يحرسون الخندق الذي يبلغ طوله نحو ثلاث كيلو مترات ، ويصدون محاولات الأحزاب لعبوره . وكان بعضهم ضعافاً وبعضهم ينامون ولذا كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يشارك بنفسه في حراسة الخندق . « الصحيح : 9 / 15 » . وفى ليلة رد محاولة للمشركين ثم رجع ونام : « وإذا بضرار بن الخطاب وعيينة بن حصن في عدة ، فركب ( صلى الله عليه وآله ) بسلاحه ثانياً فرماهم المسلمون حتى ولوا وفيهم جراحات » . الإمتاع : 1 / 233 .
5 - فرَّ أكثر المسلمين في حرب الخندق !
ووبَّخَهم الله في آيات الأحزاب لخوفهم ونقص إيمانهم ويقينهم ، وهدد الذين فروا منهم ونقضوا عهدهم بأن لايفروا . وسخرت الآيات من مرضى القلوب « المنافقين السياسيين » لأنهم قالوا : مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ! ومدح المؤمنين الصادقين الذين لم ترتجف قلوبهم ، لأنهم على يقين بالنصر : قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ .
لقد تجمعت عوامل على المسلمين : منها كثرة جيش الأحزاب ، ومحاولاتهم المستمرة للنفوذ من الخندق . وانضمام بني قريظة لهم ، وتهديدهم بالهجوم على المدينة . والأزمة الاقتصادية الشديدة عليهم . وإصابة سعد بن معاذ « رحمه الله » . وفعالية قريش واليهود داخل مجتمع المسلمين .
لكن أكثر ما أضعفهم أن بعضهم أخذ يستأذن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليتفقد بيته بحجة أنه قريب من قريظة فيذهب ولا يعود ! وبعضهم هرب بدون استئذان !
هذه هي الصورة الصحيحة للصحابة في غزوة الأحزاب ، لكن رواة قريش أخفوا مرضى القلوب ، والكاذبين في الاستئذان ، والمتخلفين عن العودة . وفرار هؤلاء مخفى لكنه فرار كامل الشروط ، فضحه الله بقوله : وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً ، فسماه فراراً بأشد أسمائه !
وفى حديث ابن عمر ، قال : « بعثني خالى عثمان بن مظعون لآتيه بلحاف فأتيت النبي فاستأذنته وهو بالخندق فأذن لي وقال : من لقيت فقل لهم إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا ، وكان ذلك في برد شديد ، فخرجت ولقيت الناس فقلت لهم إن رسول الله يأمركم أن ترجعوا . قال : فلا والله ما عطف على منهم اثنان أو واحد » . رواه الطبراني في الأوسط : 5 / 275 وصححه في مجمع الزوائد : 6 / 135 .
وفى حديث حذيفة ، ورواه الحاكم : 3 / 31 وصححه ، ووثقه مجمع الزوائد : 6 / 136 : « إن الناس تفرقوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليلة الأحزاب فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً ، فأتاني رسول الله وأنا جاثم من البرد ، وقال : يا ابن اليمان قم فانطلق إلى عسكر الأحزاب فانظر إلى حالهم . قلت : يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما قمت إليك إلاحياء منك من البرد » .
وفى حديث عائشة ، الذي رواه أحمد : 6 / 141 والزوائد : 6 / 138 وحسَّنه ، وصفت اختباء جماعة من الصحابة في حديقة ، منهم عمر وطلحة ، وذكرت أن عمر كان يتخوف من الهزيمة والفرار العام ! قالت : « خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس ، قالت فسمعت وئيد الأرض ورائي يعنى حس الأرض ، قالت فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحرث بن أوس يحمل مجنه ، قالت فجلست إلى الأرض فمر سعدٌ وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه فأنا أتخوف على أطراف سعد ، قالت وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم ، قالت : فمر وهو يرتجز ويقول : ليت قليلاً يدرك الهيجا حمل ما أحسن الموت إذا حان الأجل !
قالت : « فقمت فاقتحمت حديقة فإذا فيها نفر من المسلمين ، وإذا فيهم عمر بن الخطاب ، وفيهم رجل عليه سبغة له يعنى مغفراً فقال عمر : ما جاء بك ، لعمري والله إنك لجريئة ، وما يؤمنك أن يكون بلاء « هزيمة » أو يكون تَحَوُّز « فرار عام » !
قالت : فما زال يلومنى حتى تمنيت أن الأرض انشقت لي ساعتئذ فدخلت فيها . قالت فرفع الرجل السبغة عن وجهه فإذا طلحة بن عبيد الله فقال : يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم ، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله عز وجل » !
فحديث ابن عمر يقول إنهم عصوا أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وظلوا في المدينة إلا من ندر ! وحديث حذيفة يقول إنهم تفرقوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولم يبق معه إلا اثنا عشر ! وحديث عائشة يقول إنها خرجت من الحصن الذي كان فيه النساء وهو حصن بنى حارثة في المدينة ، « ابن هشام : 3 / 710 » وهو في جهة العوالي وليس في جهة الخندق « الحاكم : 4 / 50 » فمشت باتجاه الخندق فرأت سعداً ذاهباً مع جماعته ، فحادت عن الطريق ودخلت في بستان هناك ، فوجدت جماعة فيهم عمر وطلحة مختبئين ! وكان عمر يتحدث عن احتمال الهزيمة العامة وفرار المسلمين ! فيجيبه طلحة : أكثرت الكلام عن الفرار ، ونحن لسنا هاربين ، بل متحيزون إلى الله !
وينبغي التذكير بأن آية المتسللين : قدْ يعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيحْذَرِ الَّذِينَ يخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . نزلت في الفارين من حفر الخندق أو المرابطة عنده ، وهى شاملة لهم .
يضاف إلى ما تقدم ، شهادة البيهقي في سننه : 9 / 31 : « فلما اشتد البلاء على النبي وأصحابه نافق ناس كثير وتكلموا بكلام قبيح ، فلما رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما فيه الناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول : والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة والبلاء ، فإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمناً وأن يدفع الله عز وجل مفاتح الكعبة ، وليهلكن الله كسرى وقيصرولتنفقن كنوزهما في سبيل الله ! فقال رجل ممن معه لأصحابه : ألا تعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق وأن يغنيهم كنوز فارس والروم ، ونحن ههنا لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى الغائط ، والله لما يعدنا إلا غرواً ! وقال آخرون ممن معه : إئذن لنا فإن بيوتنا عورة وقال آخرون : يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا . وسمى ابن إسحاق القائل الأول : معتب بن قشير ، والقائل الثاني : أوس بن قيظي » ! وهى تسمية سياسية للتغطية على القائل الحقيقي !
ويضاف إلى ما تقدم شهادة القمي في تفسيره : 2 / 186 ، قال : « فلما طال على أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الأمر واشتد عليهم الحصار وكانوا في وقت برد شديد وأصابتهم مجاعة ، وخافوا من اليهود خوفاً شديداً ، تكلم المنافقون بما حكى الله عنهم . ولم يبق أحد من أصحاب رسول الله إلا نافق إلا القليل ! وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخبر أصحابه أن العرب تتحزب ويجيئون من فوق وتغدر اليهود ونخافهم من أسفل ، وأنه ليصيبهم جهد شديد ولكن تكون العاقبة لي عليهم ، فلما جاءت قريش وغدرت اليهود قال المنافقون : مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ، وكان قوم لهم دور في أطراف المدينة فقالوا يا رسول الله تأذن لنا أن نرجع إلى دورنا ، فإنها في أطراف المدينة ، وهى عورة ونخاف اليهود أن يغيروا عليها .
وقال قوم : هلموا فنهرب ونصير في البادية ونستجير بالأعراب ، فإن الذي كان يعدنا محمد كان باطلاً كله » .
6 - مرضى القلوب يتآمرون على النبي « صلى الله عليه وآله » مع الأحزاب
كان مرضى القلوب الذين حمَّلوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) هزيمة أحُد لأنه لم يشركهم في القيادة : لوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيئٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ! كانوا يأتمرون لحل القضية بزعمهم :
1 - فأشاعوا فكرة المصالحة مع النجديين بإعطائهم ثلث ثمار المدينة سنوياً لينصرفوا ، وقد أحبطها النبي ( صلى الله عليه وآله ) باستشارة الزعيمين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، وهو يعرف أنهما يرفضانها ، فرفضاها وانتهت .
وذكر بعضهم أن زعيمي النجديين عيينة والحارث جاءا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وطلبا منه ذلك ، « ابن شيبة : 8 / 501 » وكذب بعضهم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه هو الذي بعث لهما ! « الطبري : 2 / 238 » . وأنه كتب عهداً بذلك لعيينة بن حصن رئيس هوازن ، ثم تراجع عنه ! الصحيح من السيرة 9 / 242 .
2 - طرح بعضهم تسليم النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقريش فقال : « والله إن ندفع محمداً إليهم برمته نسلم من ذلك » ! « كتاب سُلَيم / 249 » لكن ذلك لم يكن ممكناً لهم !
3 - كان مرضى القلوب على صلة بأبى سفيان ، وطلب منهم أن يأخذوا نقطة ضعيفة من الخندق ويسهلوا عبورهم منها ، فإذا عبروا استغلوا الاضطراب في جيش النبي ( صلى الله عليه وآله ) وردموا الثغرة ليعبر جيش الأحزاب ، ويقضوا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
ومن المؤشرات على ذلك أن عمرو بن ود وجماعته ، أمروا جنودهم أن يتهيؤوا للقتال غداً قبل محاولتهم عبور الخندق ، لأنهم كانوا واثقين من نجاح عبورهم !
« مروا بمنازل بنى كنانة فقالوا : تهيؤوا يا بنى كنانة للحرب ، فستعلمون من الفرسان اليوم » . الإرشاد : 19 / 7 وابن هشام : 3 / 705 .
ويدل عليه أنه بمجرد أن عبر فرسانهم ركز النبي ( صلى الله عليه وآله ) اهتمامه على الثغرة ! فأمر علياً ( عليه السلام ) أن يبادر بسرعة فيأخذها ، فإن اعترض أحد من « المسلمين » فليقتله !
قال القاضي النعمان في شرح الأخبار : 1 / 294 : « وتسلل عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أكثر أهل المدينة فدخلوا بيوتهم كالملقين بأيديهم ، فاقتحم عمرو بن عبد ود وأصحابه الخندق على المسلمين وهم على هذه الحال ، فلما نظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى ذلك وأن خيلهم جالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع ، وقربوا من مناخ رسول الله ، تخوف أن يمدهم سائر المشركين فيقتحموا الخندق فدعى علياً ( عليه السلام ) فقال : يا علي إمض بمن خفَّ معك من المسلمين فخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها ، فمن قاتلكم عليها فاقتلوه ! فمضى على ( عليه السلام ) في نفر جمعوا معه يريدون الثغرة ، وقد كان المشركون هموا أن يلجوها ، فلما رأوهم وهم أقل من الذين اقتحموها منهم توقفوا لينظروا ما يكون من أمر أصحابهم معهم ، وعطف عليهم عمرو بن عبد ود بمن كان معه تعنق بهم خيلهم ، حتى قربوا منهم » .
كان مسؤول المنطقة التي فيها الثغرة أسيد بن حضير الذي صار فيما بعد من أبطال السقيفة ، فقد روى الواقدي أن الأحزاب حاولوا العبور منها وأن سلمان نظر إليها وقال لأسيد : « إن هذا مكان من الخندق متقارب ، ونحن نخاف أن تطفره خيلهم ، وكان الناس عجلوا في حفره ، وبادروا فباتوا يوسعونه حتى صار كهيئة الخندق » . الصحيح : 9 / 279 .
كان عرض الخندق تسعة أذرع وعمقه سبعة أذرع ، والذراع يساوى نصف متر أو أكثر ، « الأوزان والمقادير / 56 » فيكون عرضه نحو خمسة أمتار وعمقه ثلاثة أمتار ونصفاً . ومن الصعب أن يقفز الفرس هذه المسافة ، فيحتمل أن يكون أحدٌ ردم جانب الخندق ، ولا يكون ذلك إلا بغياب الحراسة ، أو تواطؤ الحراس ! وهذا يرجح وجود مؤامرة لعبور الأحزاب فبادر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأمر علياً بقتل من يعترض عمله فيها ! ويؤيد ذلك أن العبور كان بعد إصابة سعد بن معاذ « رحمه الله » .
7 - يقين النبي « صلى الله عليه وآله » بالنصر في غزوة الأحزاب وغيرها
فعندما ضرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) الصخرة في الخندق وخرج منها ثلاث برقات ، قال : « لقد فتح الله على في ضربتي هذه كنوز كسرى وقيصر ! فقال أحدهما لصاحبه : يعدنا بكنوز كسرى وقيصر ، وما يقدر أحدنا أن يخرج يتخلي » . الكافي : 8 / 216 .
وعندما بلغه أن قريظة نقضوا العهد وأعلنوا الحرب قال : « الله أكبر ، أبشروا يا معشر المسلمين ، أو قال : أبشروا بنصر الله وعونه » . الصحيح من السيرة : 9 / 199 .
وورد في تفسير قوله تعالي : وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ . أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان أخبرهم أنه سيتظاهر عليهم الأحزاب ووعدهم الظفر بهم ، فلما رأوهم تبين لهم مصداق قوله ، وكان ذلك من معجزاته ( صلى الله عليه وآله ) . البحار : 20 / 195 .
وفى الكافي : 2 / 561 2 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « كان دعاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليلة الأحزاب : يا صريخ المكروبين ، ويا مجيب دعوة المضطرين ، ويا كاشف غمى اكشف عنى غمى وهمى وكربي ، فإنك تعلم حالي وحال أصحابي ، واكفني هول عدوي ، فإنه لا يكشف ذلك غيرك » . ورويت له ( صلى الله عليه وآله ) أدعية أخري .
وفى مستدرك الوسائل : 5 / 281 : « دعا النبي ( صلى الله عليه وآله ) على الأحزاب يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ، واستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر والعصر ، فعرف السرور في وجهه قال جابر : فما نزل بي أمر غائض وتوجهت تلك الساعة إلا عرفت الإجابة » .
8 - من معجزات النبي « صلى الله عليه وآله » في غزوة الأحزاب
أ - منها : أن سلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن وجماعة ، كانوا يعملون في أربعين ذراعاً ، فخرجت عليهم صخرة كسَّرت معاولهم : « فصعد سلمان إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان في قبة تركية ، فأخبره فهبط معه وبطنه معصوب بحجر من الجوع ، ورأى شدة المكان فأخذ المعول وضربها ضربة فصدعها ، وبرق منها برق أضاء بين لابتى المدينة ، فكبَّر تكبيرة وكبر المسلمون ، ثم ضربها ثانية فكذلك ، ثم الثالثة فكذلك ، فصدعها . فأخذ بيد سلمان ورقي ، فسألوه فقال : إنه بالبرقة الأولى أضاءت له قصور الحيرة ومدائن كسري ، وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها ، وفى الثانية أضاءت له القصور الحمر من أرض الروم ، وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها ، وفى الثالثة أضاءت له قصور صنعاء وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها ! فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صدق !
فقال المنافقون : ألا تعجبون من محمد يمنيكم ويعدكم الباطل وأنتم تحفرون الخندق من الفَرَق لا تستطيعون أن تبرزوا !
وفى الخصال / 390 : « ثم ضرب الثالثة ففلق بقية الحجر وقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا ! » .
ب - ومنها : قال جابر بن عبد الله : اتفقت مع زوجتي سهيلة بنت مسعود الأنصارية ، أن تصلح ما عندهما وهو مد من شعير وشاة غير سمينة ثم ندعو النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى الطعام ، فسأله النبي ( صلى الله عليه وآله ) عما عنده فأخبره . فقال ( صلى الله عليه وآله ) كثير طيب ، ثم دعا أهل الخندق جميعاً وقال لهم : إن جابراً قد صنع لهم سوراً فأقبلوا معه ! قال جابر : فقلت والله إنها الفضيحة ! فأتيت المرأة فقلت لها قد جاءك رسول الله وأصحابه أجمعون ! فقالت : أنت دعوتهم أو هو دعاهم ؟ فقلت : بل هو دعاهم قالت : دعهم هو أعلم ! فأكل الجميع حتى شبعوا وقال ( صلى الله عليه وآله ) : كلوا واهدوا فإن الناس أصابتهم مجاعة شديدة ، فأكلنا وأهدينا فلما خرج رسول الله ذهب ذلك » . الصحيح : 9 / 148 .
ج - ومنها : قال جابر : « اشتد علينا في حفر الخندق كدانة « صخرة » فشكونا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو ، ثم نضح الماء على تلك الكدانة فعادت كالكندر « لينة » » . المناقب : 1 / 103 .
د - ومنها : أن ابنة بشير بن سعد جاءت بحفنة تمر إلى أبيها وخالها عبد الله بن رواحة ، فرآها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهى تلتمس أباها وخالها ، فأخذها منها في كفه فما ملأتها ، ثم أمر بثوب فبسط له ، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ، ثم أمر فاجتمعوا فجعلوا يأكلون منها حتى صدر أهل الخندق عنه ، وإنه ليسقط من أطراف الثوب !
البحار : 20 / 247 .
ه - - ومنها : أن أم متعب الأنصارية أرسلت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقعبة فيها حيس ، وهو في قبته مع أم سلمة فأكلت حاجتها ، ثم خرج بالقعبة فنادى مناديه : هلمَّ إلى عشائه ، فأكل أهل الخندق حتى نهلوا ، وهى كما هي ! الصحيح : 9 / 151 .
و - ومنها : « لما نزلت الأحزاب على المدينة عبأ أبو سفيان سبعة آلاف رامٍ كوكبة واحدة ، ثم قال : إرموهم رشقاً واحداً ، فوقع في أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) سهام كثيرة فشكوا ذلك إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلوح إلى السهام بكمه ، ودعا بدعوات فهبت ريح عاصفة فردت السهام إلى القوم ، فكل من رمى سهماً عاد السهم إليه ، فوقع فيه وجرحه » . البحار : 18 / 64 .
ز . ومنها : قال جابر : « خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى المسلمين وقال : جدوا في الحفر ، فجدوا واجتهدوا ولم يزالوا يحفرون حتى فرغ الحفر ، والتراب حول الخندق تل عال فأخبرته بذلك فقال : لا تفزع يا جابر فسوف ترى عجباً ، قال وأقبل الليل ووجدت عند التراب جلبة وضجة عظيمة . . فلما أصبحت لم أجد من التراب كفاً واحداً » . المناقب : 1 / 115 .
9 - جهاد علي « عليه السلام » في غزوة الأحزاب
جاء في خطبة الزهراء « عليها السلام » بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) تخاطب الصحابة : « حتى استنقذكم الله برسوله بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مُنِى ببُهْم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويطفئ عادية لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، وأنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون ، حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه أطلع الشيطان رأسه فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين » ! الطرائف / 264 .
فقد كان على ( عليه السلام ) عضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الشدائد ، حتى إذا جاء الرخاء وجدته مشغولاً في مهام النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ومعه نفر قليل من الصحابة ، أما غيرهم فكان هانئاً في ثمار جهودهم وجهادهم ! وفى غزوة الأحزاب كان حامل راية النبي ( صلى الله عليه وآله ) أي المسؤول عن كل جيشه ، فكان ينفذ خطته في حفر الخندق ، ويجمع أدوات الحفر من المدينة ، ويستعير عدداً منها من يهود قريظة ! « الصحيح : 9 / 103 » . وكان يسَرِّعَهم في الحفر ليكتمل الخندق قبل وصول جيوش الأحزاب ، ولا بد أنه ( عليه السلام ) كان يعمل في الحفر بقدر عشرة عمال أقوياء وأكثر ، لأنهم رووا أن سلمان « رحمه الله » كان يعمل بقدر عشرة أشخاص ، فأصابوه بالعين !
وعند وصول جيوش الأحزاب ، باشر على ( عليه السلام ) مهمته في حراسة الأبواب الثمانية للخندق ، وتفقد نقاط الضعف التي يمكن أن يطمع العدو بالعبور منها ، وأعد رماة السهام والأحجار لمواجهة أي مجموعة من العدو تقترب من الخندق ، وكان يشارك في رد محاولاتهم عندما يكون في جبهة الخندق .
وفى نفس الوقت كان يدير الجبهة الشرقية على المدينة ، جبهة بني قريظة ، بعد أن نقضوا عهدهم وهددوا المدينة ! ولا بد أنه عاش مس الجوع في تلك الأيام وكتمه كما عاشه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكتمه ثلاثة أيام حتى شد على بطنه حجر المجاعة ! ولا بد أن علياً ( عليه السلام ) فرح ودمعت عيناه عندما عرف أن فاطمة « عليها السلام » جاءت للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بنصف قرص شعير ، « عيون أخبار الرضا : 1 / 43 » . ولا نعلم هل أكل على ( عليه السلام ) منها عندما عرض عليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) أم بقي طاوياً ؟ ! لكن المؤكد أن الله يعينه على جوعه وجهده !
10 - شهادة سعد بن معاذ بسهم من المشركين
كان سعد بن معاذ رئيس الأوس بل رئيس الأنصار ، وهو مسلم قوى فدائى لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي أجابه عندما استشارهم في المضي إلى معركة بدر ، فقال : « بأبى أنت وأمي يا رسول الله ، إنا قد آمنا بك وصدقناك ، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك » ! تفسير القمي : 1 / 259 .
وكان سعد « رحمه الله » طويلاً جميلاً ، وعاش سبعاً وثلاثين سنة فقط . الطبقات : 3 / 433 . وصلى عليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : « لقد وافى من الملائكة سبعون ألفاً وفيهم جبرئيل يصلون عليه ، فقلت له : يا جبرئيل بما يستحق صلاتكم عليه ؟ فقال : بقراءته قل هو الله أحد قائماً وقاعداً ، وراكباً وماشياً ، وذاهباً وجائياً » ! الكافي : 2 / 622 .
وكان سعد محباً للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وعترته « عليهم السلام » ، بصيراً بخطط قريش ضدهم ، ولذا قال فيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « يرحمك الله يا سعد فلقد كنت شجى في حلوق الكافرين ! لو بقيت لكففت العجل الذي يراد نصبه في بيضة المسلمين كعجل قوم موسي ! قالوا : يا رسول الله أو عجلٌ يراد أن يتخذ في مدينتك هذه ! قال : بلى والله يراد ! ولو كان سعد فيهم حياً لما استمر تدبيرهم ، ويستمرون ببعض تدبيرهم ،
ثم الله تعالى يبطله . قالوا : أخبرنا كيف يكون ذلك ؟ قال : دعوا ذلك لما يريد الله أن يدبره » . « تفسير الإمام العسكري / 48 » . وبسبب هذه المكانة الخاصة لسعد « رحمه الله » ،
لا نستبعد أن يكونوا رموه بسهم عبر الخندق بمساعدة منافقين عملاء لهم !
وفى تفسير القمي : 2 / 187 : « كان ابن فرقد الكناني رمى سعد بن معاذ « رحمه الله » بسهم في الخندق فقطع أكحله ، فنزفه الدم فقبض سعد على أكحله بيده ثم قال : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها فلا أجد أحب إلى محاربتهم من قوم حادوا الله ورسوله ، وإن كانت الحرب قد وضعت أوزارها بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبين قريش فاجعلها لي شهادة ، ولا تمتنى حتى تقر عيني من بني قريظة ، فأمسك الدم وتورمت يده ، وضرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) له في المسجد خيمة ، وكان يتعاهده بنفسه » .
هذا وقد رووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « اهتز العرش لموت سعد بن معاذ » . « صحيح بخاري : 4 / 227 » . وروينا أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) سئل عما يقوله الناس ، فقال : « إنما هو السرير الذي كان عليه سعد » . « معاني الأخبار / 288 ومعجم السيد الخوئي : 9 / 94 » . أي اهتز سريره كر أمة له وليس عرش الله تعالى .
11 - عبور فرسان الأحزاب من ثغرة في الخندق
نرجح أن المشركين اتفقوا مع منافقين على تسهيل عبورهم ، فتفاجأ المسلمون ببضعة فرسان عبروا الخندق ، وهم : عمرو بن عبد ود العامري ، وابنه حسيل ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة وثلاثتهم من بنى مخزوم ، وضرار بن الخطاب ، ومرداس ، وهما فهريان .
وكان ابن عبد ود فارس العرب يعد بألف فارس ، ويسمى فارس يلْيل لأنه أقبل في ركب فعرضت لهم بنو بكر في عدد في واد قريب من بدر ، فقال لأصحابه : إمضوا ، فقام وحده في وجههم ومنعهم من أن يصلوا إليه !
عَبَرَ ابن عبد ودّ ورفقاؤه وأخذوا يجولون ويستعرضون قوتهم ، في السبخة التي تحت جبل سلع ، مقابل مركز قيادة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهى الآن مسجد الفتح ، وأخلى المسلمون الذين أمامهم المكان ! فلم يهتم النبي ( صلى الله عليه وآله ) للعابرين بقدر ما اهتم لسد الثغرة التي عبروا منها ، فنادى علياً ( عليه السلام ) فأسرع بمن معه لسد الثغرة ، وقد يكون مرَّ قريباً من ابن وُد وهو يطلب المبارزة وخلفه جماعته ، فقال له إصبر حتى أستأذن النبي في مبارزتك ، أو يختار لك من يبارزك ، وعاد إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فوجده يحث المسلمين على مبارزة عمرو ويضمن لمن بارزه الجنة ، وهم سكوت كأنما على رؤوسهم الطير ! فقال على ( عليه السلام ) : أنا له يا رسول الله ، فأمره بالجلوس ، وواصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) دعوته المسلمين ليتم الحجة عليهم فلم يجبه منهم أحد ! فقام على ( عليه السلام ) ثانيةً وقال : أنا له يا رسول الله ، فقال له : أجلس . وحسب رواية ابن إسحاق : يا علي إنه عمرو ، فأجابه : وأنا على يا رسول الله ! فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أدن مني ، فدنا منه فألبسه عمامته وأعطاه سيفه ، ودعا له ، وأطلق كلماته الرسولية بحقه .
وتقدم على ( عليه السلام ) مهرولاً نحو عمرو وهو يرتجز ، وذهب معه جابر الأنصاري وحذيفة وعمر والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، ليروا النتيجة . وكان ابن ود يستعرض قوته مرةً بسيفه ومرة برمحه ، أو يركزه في الأرض ويدور بفرسه حوله ، ويقول : أبرز إلى يا محمد ، ثم يقول : إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار ؟ ألا يحب أحدكم أن يقْدِم على الجنة ، أو يبعث عدواً له إلى النار ؟ !
ولقد بححت من الندا * ء بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن الشجا * ع موقف الخصم المناجز
إني كذلك لم أزل * متسرعاً نحو الهزاهز
إن الشجاعة في الفتي * والجود من كرم الغرائز
وكان عمرو بن عبد ود راكباً ، ومشى على ( عليه السلام ) نحوه راجلاً ، وهو يقول :
لاتعجلنَّ فقد أتاك * مجيب صوتك غيرُ عاجز
ذو نيةٍ وبصيرةٍ * والصدق مُنجى كلِّ فائز
إني لأرجو أن تقو * م عليك نائحةُ الجنائز
من طعنة نجلاء يبقي * ذكرها بين الهزاهز
وجرى بينهما كلام طويل ، حتى غضب عمرو ونزل عن فرسه وأهوى بسيفه إلى علي ( عليه السلام ) بضربة قوية ، فتلقاها على ( عليه السلام ) بترسه ، فشقت الترس والخوذة والعمامة ، ووصلت إلى رأسه ( عليه السلام ) فجرحته في قرنه ، فانفجر الدم يجرى على رأسه وكتفه ، ولم يتأخر على ( عليه السلام ) فضربه ضربة حيدرية على ترقوته ، كما قال البيهقي وابن إسحاق ، فهوى عمرو صريعاً وكبَّر على ( عليه السلام ) بصوته الجهورى فكبر النبي والمسلمون ، وتقدم ليحز رأسه فتفل عمرو في وجهه وشتم أمه ، فصبر ورجع خطوات ، قال : خشيت أن أضربه لحظ نفسي ، فتركته حتى سكن ما بي !
وجاء على ( عليه السلام ) برأس عمرو إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فمسح النبي ( صلى الله عليه وآله ) الدم والغبار عن عينيه ، ومسح مكان الضربة في رأسه ، ورجع على ( عليه السلام ) إلى الثغرة ليقطع الطريق على جماعة عمرو ، فطلب منه حسل بن عمرو المبارزة فبرز اليه وقتله ولم يمهله ! وهرب عكرمة بن أبي جهل ، وضرار الخطاب ، ونوفل بن عبد الله المخزومي فلحقهم على ( عليه السلام ) ، فأفلت عكرمة بعد أن ألقى درعه ، وأفلت ضرار ، وعلق نوفل في الخندق فلم تستطع فرسه الصعود من الطرف الآخر ، فأخذ المسلمون يرمونه بالحجارة فصاح بهم : قتلةٌ أجمل من هذه ! ينزل إلى بعضكم أقاتله ! فنزل إليه على ( عليه السلام ) ، فضربه وقتله .
وفى الطرائف / 60 ، عن أبي هلال العسكري ، قال : « أول من قال : جُعلت فداك ، علي ، لما دعا عمرو بن عبد ود إلى البراز يوم الخندق ولم يجبه أحد ، قال علي : جعلت فداك يا رسول الله أتأذن لي ؟ قال : إنه عمرو بن عبد ود . قال : وأنا علي بن أبي طالب ، فخرج إليه فقتله » .
وفى كنز الفوائد / 137 : « فتقدم إليه ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : برز الإيمان كله إلى الشرك كله . فلما هم أن يذبحه وهو يكبر الله ويحمده ، قال له عمرو : يا علي قد جلست منى مجلساً عظيماً فإذا قتلتني فلا تسلبنى حلتي ! فقال له أمير المؤمنين : هي أهون على من ذلك ! وذبحه وأتى برأسه وهو يتبختر في مشيته فقال عمر : ألا ترى يا رسول الله إلى علي كيف يتيه في مشيته ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنها مشية لايمقتها الله في هذا المقام . ثم نهض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فتلقاه ومسح الغبار عن عينيه » . وانتشر خبر قتل عمرو في المسلمين كالبرق ، ففرحوا واستبشروا ، ووقع على الأحزاب كالصاعقة وكان ذلك قبل ظهر يوم الأربعاء .
وواصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) دعاءه بعد صلاة الظهر ، فتغير الجو وجاءت الريح وعصفت بجيش الأحزاب فاضطربوا ، وأخذوا يفكرون بالإنسحاب ، وباتوا في ليلة ليلاء ، فأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) إليهم حذيفة متنكراً في الظلام ، فوصل إلى خيمة أبي سفيان واستطلع خبرهم ، وفى اليوم التالي بادروا إلى الرحيل : وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيظِهِمْ لَمْ ينَالُوا خَيرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ، بعلى ( عليه السلام ) ، والملائكة ، والرياح .
وكان ابن مسعود يقرأ الآية : وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ، بعلي ، وَكَانَ اللهُ قَوِيا عَزِيزًا . الإرشاد : 1 / 106 ، القمي : 2 / 182 ، الحاكم : 3 / 32 وابن هشام : 3 / 708 .
ورجع النبي ( صلى الله عليه وآله ) صبيحتها إلى المدينة ، وما إن صلى الظهر ووضع لباس حربه حتى جاءه جبرئيل وأمره بغزو بني قريظة ، فأرسل علياً ( عليه السلام ) أمامه ثم التحق بهم !
12 - علي « عليه السلام » يصف غزوة الأحزاب ومبارزته لعمرو
قال على ( عليه السلام ) في جوابه لسؤال أحد أحبار اليهود كما في الخصال للصدوق / 369 : « وأما الخامسة يا أخا اليهود ، فإن قريشاً والعرب تجمعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتقتلنا معه معاشر
بنى عبد المطلب ، ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة ، واثقة بأنفسها فيما توجهت له ، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فأنبأه بذلك فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار . فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف ، ترعد وتبرق ! ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يدعوها إلى الله عز وجل ويناشدها بالقرابة والرحم فتأبي ، ولا يزيدها ذلك إلا عتواً ! وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود ، يهدر كالبعير المغتلم ، يدعو إلى البراز ويرتجز ويخطر برمحه مرة وبسيفه مرة ، لا يقدم عليه مقدم ، ولا يطمع فيه طامع ، ولا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه ، فأنهضنى إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعممنى بيده وأعطاني سيفه هذا ، وضرب بيده إلى ذي الفقار ، فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواك إشفاقاً على من ابن عبد ود ! فقتله الله عز وجل بيدي ، والعرب لا تَعُدُّ لها فارساً غيره ، وضربني هذه الضربة ، وأومأ بيده إلى هامته ، فهزم الله قريشاً والعرب بذلك ، وبما كان منى فيهم من النكاية » .
13 - حذيفة « رحمه الله » يصف مبارزة علي « عليه السلام » لعمرو بن ود
في مناقب على ( عليه السلام ) : 1 / 222 ، قال ربيعة : « أتيت حذيفة بن اليمان فقلت : يا أبا عبد الله إنا نتحدث في علي وفى مناقبه فيقول لنا أهل البصرة : إنكم لتفرطون في علي وفى مناقبه ، فهل أنت تحدثني في علي بحديث ؟ فقال حذيفة : يا ربيعة إنك لتسألني عن رجل والذي نفسي بيده لو وضع عمل جميع أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله ) في كفة الميزان من يوم بعث الله محمداً إلى يوم الناس هذا ، ووضع عمل على يوماً واحداً في الكفة الأخرى لرجح عمله على جميع أعمالهم ! فقال ربيعة : هذا الذي لا يقام له ولا يقعد ! فقال حذيفة : وكيف لا يحتمل هذا يا ملكعان « أحمق » ! أين كان أبو بكر وعمر وحذيفة ثكلتك أمك ، وجميع أصحاب محمد يوم عمرو بن عبد ود ينادى للمبارزة ، فأحجم الناس كلهم ما خلا علياً فقتله الله على يديه ؟ ! والذي نفسي بيده لعمله ذلك اليوم أعظم عند الله من جميع أعمال أمة محمد إلى يوم القيامة » .
وفى تفسير مجمع البيان : 8 / 131 : « عن حذيفة قال : فألبسه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) درعه ذات الفضول ، وأعطاه سيفه ذا الفقار ، وعممه عمامته السحاب ، على رأسه تسعة أكوار ، ثم قال له : تقدم ، فقال لما ولي : اللهم احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوق رأسه ، ومن تحت قدميه .
قال ابن إسحاق : فمشى إليه وهو يقول : لاتعجلن فقد أتاك . . مجيب صوتك غير عاجز . . إلى آخر الأبيات . . قال له عمرو : من أنت ؟ قال : أنا علي . فقال : غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك ، فإني أكره أن أهرق دمك ! فقال على ( عليه السلام ) : لكني والله ما أكره أن أهرق دمك ! فغضب ونزل وسل سيفه كأنه شعلة نار ، ثم أقبل نحو على مغضباً ، فاستقبله على بدرقته ، فضربه عمرو بالدرقة فقدها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه ! وضربه على على حبل العاتق ، فسقط » .
وفى شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني : 2 / 10 ، بسنده عن حذيفة ، قال : « فجاء حتى وقف على عمرو فقال : من أنت ؟ فقال عمرو : ما ظننت أنى أقف موقفا أُجهل فيه ، أنا عمرو بن عبد ود ؟ فمن أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب ، فقال : الغلام الذي كنت أراك في حجر أبى طالب ؟ قال : نعم . قال : إن أباك كان لي صديقاً وأنا أكره أن أقتلك ! فقال له علي : لكني لا أكره أن أقتلك ، بلغني أنك تعلقت بأستار الكعبة وعاهدت الله عز وجل أن لا يخيرك رجل بين ثلاث خلال إلا اخترت منها خلة ؟ قال : صدقوا . قال : إما أن ترجع من حيث جئت . قال : لا تحدث بها قريش . قال : أو تدخل في ديننا فيكون لك ما لنا وعليك ما علينا . قال : ولا هذه . فقال له علي : فأنت فارس وأنا راجل ! فنزل عن فرسه وقال : ما لقيت من أحد ما لقيت من هذا الغلام ! ثم ضرب وجه فرسه فأدبرت ثم أقبل إلى علي وكان رجلاً طويلاً يداوى دبر البعيرة ، وهو قائم ، وكان على ( عليه السلام ) في تراب دق لا يثبت قدماه عليه ، فجعل على ينكص إلى ورائه يطلب جلداً من الأرض يثبت قدميه ، ويعلوه عمرو بالسيف وكان في درع عمرو قصر فلما تشاك بالضربة تلقاها على بالترس فلحق ذباب السيف في رأس على ( عليه السلام ) حتى قطعت تسعة أكوار حتى خط السيف في رأس علي . وتسيف على رجليه بالسيف من أسفل فوقع على قفاه ، فثارت بينهما عجاجة فسمع على ( عليه السلام ) يكبر ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قتله والذي نفسي بيده !
فكان أول من ابتدر العجاج عمر بن الخطاب ، فإذا على يمسح سيفه بدرع عمرو فكبر عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله قتله ! فحز على رأسه ثم أقبل يخطر في مشيته ، فقال له رسول الله : يا علي إن هذه مشية يكرهها الله عز وجل إلا في هذا الموضع . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلي : ما منعك من سلبه فقد كان ذا سلب ؟ فقال : يا رسول الله : إنه تلقاني بعورته . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمد لرجح عملك بعملهم ، وذلك إنه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا وقد دخله وهن بقتل عمرو ، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا وقد دخله عز بقتل عمرو » . والصحيح من السيرة : 9 / 333 وبعضه المناقب : 2 / 324 .
14 - رواية تفسير القمي لمبارزة على لعمرو
قال علي بن إبراهيم القمي « رحمه الله » في تفسيره : 2 / 182 : « فمر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يهرول في مشيه وهو يقول : لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز . . . الأبيات . . فقال له عمرو : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وختنه . فقال : والله إن أباك كان لي صديقاً قديماً وإني أكره أن أقتلك ! ما أمن ابن عمك حين بعثك إلى أن أختطفك برمحي هذا ، فأتركك شائلاً بين السماء والأرض لا حي ولا ميت ؟ !
فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : قد علم ابن عمى أنك إن قتلتني دخلت الجنة ، وأنت في النار ، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة ! فقال عمرو : وكلتاهما لك يا علي ؟ تلك إذا قسمة ضيزي !
قال على ( عليه السلام ) : دع هذا يا عمرو ، وإني سمعت عنك وأنت متعلق بأستار الكعبة تقول لايعرضن على أحد في الحرب ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها ، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال ، فأجبني إلى واحدة ! قال : هات يا علي ! قال : أحدها تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . قال : نحِّ عنى هذه ، فاسأل الثانية ، فقال : أن ترجع وترد هذا الجيش عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فإن يك صادقاً فأنتم أعلى به عيناً ، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره . فقال : إذاً تتحدث نساء قريش بذلك ، وتنشد الشعراء في أشعارها أنى جبنت ورجعت على عقبى من الحرب ، وخذلت قوماً رأَّسُونى عليهم !
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فالثالثة أن تنزل إلى فإنك راكب وأنا راجل حتى أنابذك . فوثب عن فرسه وعرقبه وقال : هذه خصلة ما ظننت أن أحداً من العرب يسومنى عليها ، ثم بدأ فضرب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالسيف على رأسه ، فاتقاه أمير المؤمنين بدرقته فقطعها ، وثبت السيف على رأسه .
فقال له على ( عليه السلام ) : يا عمرو أما كفاك أنى بارزتك وأنت فارس العرب ، حتى استعنت على بظهير ؟ ! فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مسرعاً على ساقيه قطعهما جميعاً ، وارتفعت بينهما عجاجة فقال المنافقون قُتل علي بن أبي طالب ، ثم انكشف العجاجة فنظروا فإذا أمير المؤمنين على صدره قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه ، فذبحه ثم أخذ رأسه وأقبل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو ، وسيفه يقطر منه الدم ، وهو يقول والرأس بيده :
أنا على وابن عبد المطلبْ * الموت خيرٌ للفتى من الهربْ
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي ماكرتَهُ ؟ قال : نعم يا رسول الله ، الحرب خُدعة .
وبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الزبير إلى هبيرة بن وهب فضربه على رأسه ضربة فلق هامته . وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عمر بن الخطاب أن يبارز ضرار بن الخطاب ، فلما برز إليه ضرار انتزع له عمر سهماً فقال ضرار : ويحك يا ابن صهاك أترمينى في مبارزة ! والله لئن رميتنى لا تركتُ عدوياً بمكة إلا قتلته ! فانهزم عنه عمر ومرَّ نحوه ضرار وضربه على رأسه بالقناة ثم قال : إحفظها يا عمر . . فكان عمر يحفظ له ذلك بعدما ولى فولاه » !
وروى أنهم وجدوا جمجمة عمرو بن ود ، فكيلت بها كيلجة فاستوعبتها ! « مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا / 69 » والكيلجة صاع إلا يسيراً المحلي : 5245 .
وأراد المشركون شراء جثة عمرو بعشرة آلاف ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى ! المناقب : 1 / 171 .
15 - أخ عمرو بن ود يواجه علياً « عليه السلام » في مكة !
أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله ) أبا بكر ليبلغ سورة براءة إلى المشركين ، فنزل جبرئيل بأمر الله تعالى : لا يؤدى عنك إلا أنت أو رجل منك ! أحمد : 1 / 151 والخصال / 369 .
فأمر بإرجاعه من الطريق وأرسل بها علياً ( عليه السلام ) ، فدخل على مكة ووقف في الموسم يقرأ عليهم سورة براءة . قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « لما قرأ قوله تعالي : بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِى الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ . . قام خداش وسعيد أخوا عمرو بن ود فقال : وما يسرُّنا على أربعة أشهر ، بل برئنا منك ومن ابن عمك فليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح ، وإن شئت بدأنا بك !
فقال على ( عليه السلام ) : أجل أجل ، إن شئت ، هلموا ! ثم واصل ( عليه السلام ) تلاوته : وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيرُ مُعْجِزِى اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ » . المناقب 1 / 392 .
16 - شبَّه الإمام الصادق « عليه السلام » يوم الأحزاب بيوم القيامة !
في الكافي : 8 / 278 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على التل الذي عليه مسجد الفتح في غزوة الأحزاب في ليلة ظلماء قَرَّة « باردة » فقال : من يذهب فيأتينا بخبرهم وله الجنة فلم يقم أحد ، ثم أعادها فلم يقم أحد ! فقال أبو عبد الله بيده : وما أراد القوم ، أرادوا أفضل من الجنة ؟ ! ثم قال : من هذا ؟ فقال : حذيفة . فقال : أما تسمع كلامي منذ الليلة ولا تَكَلَّم ، أقُبِرت ؟ فقام حذيفة وهو يقول : القَرُّ والضُّرُّ جعلني الله فداك منعني أن أجيبك . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : انطلق حتى تسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم ! فلما ذهب قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى ترده ، وقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يا حذيفة لا تحدث شيئاً حتى تأتيني ، فأخذ سيفه وقوسه وحجفته .
قال حذيفة : فخرجت وما بي من ضر ولا قر ، فمررت على باب الخندق ، وقد اعتراه المؤمنون والكفار . فلما توجه حذيفة قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونادي : يا صريخ المكروبين ، ويا مجيب المضطرين ، إكشف همى وغمى وكربي ، قد ترى حالي وحال أصحابي . فنزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا رسول الله ، إن الله عز ذكره قد سمع مقالتك ودعاءك ، وقد أجابك وكفاك هول عدوك ، فجثى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على ركبتيه وبسط يديه وأرسل عينيه ، ثم قال : شكراً شكراً ، كما رحمتنى ورحمت أصحابي . ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قد بعث الله عز وجل عليهم ريحاً من السماء الدنيا فيها حصي ، وريحاً من السماء الرابعة فيها جندل .
قال حذيفة : فخرجت فإذا أنا بنيران القوم ، وأقبل جند الله الأول ريح فيها حصي ، فما تركت لهم ناراً إلا أذرتها ، ولا خباءً إلا طرحته ، ولا رمحاً إلا ألقته ! حتى جعلوا يتترسون من الحصي ! فجعلنا نسمع وقع الحصى في الأترسة ، فجلس حذيفة بين رجلين من المشركين ، فقام إبليس في صورة رجل مطاع في المشركين فقال : أيها الناس إنكم قد نزلتم بساحة هذا الساحر الكذاب ، ألا وإنه لن يفوتكم من أمره شئ ، فإنه ليس سنة مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فارجعوا ولينظر كل رجل منكم من جليسه ! قال حذيفة : فنظرت عن يميني فضربت بيدي فقلت : من أنت ؟ فقال : معاوية ، فقلت للذي عن يساري : من أنت ؟ فقال سهيل بن عمرو ! قال حذيفة : وأقبل جند الله الأعظم ، فقام أبو سفيان إلى راحلته ، ثم صاح في قريش : النجاء النجاء ! وقال طلحة الأزدي : لقد زادكم محمد بشر ، ثم قام إلى راحلته وصاح في بنى أشجع : النجاء النجاء ! وفعل عيينة بن حصن مثلها ، ثم فعل الحرث بن عوف المزنى مثلها ! ثم فعل الأقرع بن حابس مثلها ! وذهب الأحزاب ، ورجع حذيفة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره الخبر ! وقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : إنه كان ليشبه يوم القيامة » !
17 - ضربة علي « عليه السلام » غيرت ميزان القوي !
فرح النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقتل على عمرو بن ود وأخبرهم بأن ميزان القوى قد تغير ! قال جابر بن عبد الله الأنصاري : « فما شبهت قتل على عمراً إلا بما قال الله تعالى من قصة داود وجالوت ، حيث يقول : فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعد قتله : الآن نغزوهم ولا يغزوننا » . إعلام الوري : 1 / 382 والإرشاد : 1 / 102 ، كنز الفوائد / 138 والحاكم : 3 / 34 ، سبل الهدي : 4 / 379 والخوارزمي / 171 .
وأدرك رؤساء القبائل أن موجة الإسلام قادمة لا محالة ، فأخذوا يفكرون بالتقرب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإعلان إسلامهم ، ليتجنبوا الخسارة أو يكسبوا موقعاً في دولته الجديدة المتوثبة ، فقال عمرو بن العاص لخالد بن الوليد : « والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكراً » ! « تاريخ الطبري : 2 / 313 » . ووافقه خالد على ذلك ، وبعد مدة قليلة جاءا مسلمين بعد الحديبية .
18 - رسالة أبي سفيان قبل هروبه بجيش الأحزاب !
عندما قرر الأحزاب الانسحاب كتب أبو سفيان إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بكبرياء : « لقد سرت إليك في جمعنا وإنا نريد ألا نعود إليك أبداً حتى نستأصلك ! فرأيتك قد كرهت لقاءنا وجعلت مضايق وخنادق ، فليت شعري من علمك هذا ؟ فإن نرجع عنكم فلكم منا يوم كيوم أحد تبقر فيه النساء » !
وبعث بها مع أبي أسامة الجشمي ، فقرأها له أبي بن كعب ، فكتب إليه ( صلى الله عليه وآله ) : « أما بعد فقديماً غرك بالله الغرور ، أما ما ذكرت أنك سرت إلينا في جمعكم ، وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا ، فذلك أمر الله يحول بينك وبينه ، ويجعل لنا العاقبة حتى لاتذكر اللات والعزي ! وأما قولك : من علمك الذي صنعنا من الخندق فإن الله تعالى ألهمني ذلك ، لما أراد من غيظك به وغيظ أصحابك . وليأتين عليك يوم تدافعنى بالراح ! وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأساف ونائلة ، وهبل حتى أذكرك ذلك » . الصحيح ة : 9 / 440 والإمتاع : 1 / 242 .
19 - إشادات النبي « صلى الله عليه وآله » بعلي « عليه السلام » يوم الأحزاب
روى المسلمون أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الإشادة بعلى ( عليه السلام ) وشهاداته بحقه : فمنها : أنه ألبسه درعه وأعطاه ذا الفقار وعممه بعمامته . ولما برز ومشى دعا له : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه .
ومنها : أنه رفع عمامته ورفع يديه إلى السماء وقال : اللهم إنك أخذت منى عبيدة بن الحرث يوم بدر ، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد ، وهذا أخي علي بن أبي طالب ، رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين .
ومنها : أنه علمه دعاء هو : اللهم بك أصول ، وبك أجول ، وبك أدرأ في نحره .
ومنها : عندما برز اليه قال ( صلى الله عليه وآله ) : برز الإيمان كله إلى الشرك كله .
ومنها : قال ( صلى الله عليه وآله ) : ضربة على يوم الخندق تعدل عمل أمتي إلى يوم القيامة . ضربة على تعدل عند الله عمل الثقلين . ضربة على أفضل عند الله من عمل الثقلين !
وأشهرها الحديثان الأخيران ، ولا يتسع الكتاب لبحثهما . راجع : الصحيح : 9 / 333 و 340 .
20 - معنى قول النبي « صلى الله عليه وآله » لعلي « عليه السلام » : وإنك لذو قرنيها
روى أن ذا القرنين : « بعثه الله إلى قومه فضُرب على قرنه الأيمن ، فأماته الله خمس مائة عام ، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر ، فأماته الله خمس مائة عام ، ثم بعثه الله إليهم بعد ذلك فملكه مشارق الأرض ومغاربها من حيث تطلع الشمس إلى حيث تغرب » . وقال رسول الله عن علي ( عليه السلام ) : وإن فيكم مثله » . الإيقاظ / 145 ، الدر المنثور : 4 / 241
وفتح القدير : 3 / 309 .
وفسره في القاموس : 4 / 258 ، بأنه ( عليه السلام ) : « ذو شجتين في قرني رأسه ، إحداهما من عمرو بن ود ، والثانية من ابن ملجم » .
وهذا يؤكد أن ضربة عمرو كانت على قرن رأسه ( عليه السلام ) . وفى رواية أن ضربة ابن ملجم وقعت على ضربة عمرو . المناقب : 2 / 327 .
وقد فسر بعضهم بذلك قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلى ( عليه السلام ) : « يا علي ، لك كنز في الجنة وأنت ذو قرنيها ، وشيعتك تعرف بحزب الله عز وجل » . أمالي الصدوق / 656 .
قال الراغب في المفردات / 401 : « وذو القرنين معروف ، وقوله عليه الصلاة والسلام لعلى رضي الله عنه : إن لك بيتاً في الجنة وإنك لذو قرنيها : يعنى ذو قرني الأمة ، أي أنت فيهم كذى القرنين » .
لكن ذكر الصدوق « رحمه الله » في معاني الأخبار / 206 ، أن معناه أنه والد الحسنين « عليهما السلام » لأنهما قرنا الجنة بمعنى قرطيها وزينتها . وفسره بوجه آخر : إنك صاحب الحجة على شرق الدنيا وغربها ، وآخذ بقرنيها . وهو مشكل . كما تردد الشريف الرضى في المجازات النبوية / 87 ، في تفسيره بين معان ، فذكر قرني الجنة بطرفيها ، لأنه يبلغ غايات المثابين فيها ، أو بمعنى قرني الأمة بمعنى طرفيها فأنت في أولها والمهدى في آخرها ، أو بمعنى صاحب العلم الظاهر والباطن ، أو بمعنى أنك رأس الأمة لأن الرأس فيه القرنان ، أو المضروب مثله على قرنيه . وكلها لا تخلو من إشكال ، وإن كان الأخير أقلها إشكالاً .
وفسره السيد ابن طاووس في سعد السعود / 65 ، والحر العاملي في الإيقاظ / 145 ، بأنه يقصد رجعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد موته كما رجع ذو القرنين بعد موته . وهو مشكل ، لأنه ( عليه السلام ) بعد الرجعة لا يضرب على قرنه الآخر .
21 - النبي « صلى الله عليه وآله » يكشف علاقة عمر بقادة الأحزاب
لم أجد ذكراً لأبى بكر في غزوة الخندق ، لكن ورد ذكر عمر في أربع قضايا :
أولها : حديث عائشة المتقدم وأنه هرب من الخندق مع طلحة واختبآ في بستان وكان عمر يتخوف هزيمة الباقين وطلحة يقول لسنا هاربين بل متحيزون إلى الله !
وثانيها : عندما عبر الخندق عمرو بن عبد ود وجماعته ، فأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) عمر أن يبرز لضرار بن الخطاب الفهري ، وكان أحد الذين عبروا مع ابن ود . ومن الغريب أن كُتَّاب السيرة حاولوا تغطية مبارزته لضرار بن الخطاب وعفو ضرار عنه ، مع أن ذلك حدث مرتين في أحُد ثم في الخندق ! وقد روته مصادرنا ورواه الواقدي وابن هشام وابن عساكر وغيرهم ! بل رووا أن خالد بن الوليد عفا عن عمر في أحد ولم يقتله ! قال ابن هشام : 2 / 282 : « وكان ضرار لحق عمر بن الخطاب يوم أحد فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول : أنج يا بن الخطاب ، لا أقتلك ، فكان عمر يعرفها له بعد إسلامه » .
وفى تاريخ دمشق : 24 / 392 و 396 : « فكان « ضرار » يقاتل أشد القتال ويحرض المشركين بشعره ، وهو قاتل عمرو بن معاذ أخا سعد بن معاذ يوم أحد ، وقال حين قتله : لاتُعْدَمَنَّ رجلاً زوَّجك من الحور العين ! وكان يقول زوجت عشرة من أصحاب محمد ! وأدرك عمر بن الخطاب فضربه بالقناة ثم رفعها عنه فقال : يا ابن الخطاب إنها نعمة مشكورة ، والله ما كنت لأقتلك » .
فما هو السبب في إخفاء أتباعه لذلك ؟ وما هو السبب في حب قادة قريش لابن الخطاب ، وهم الذين استماتوا لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعترته ، وشخصيات أصحابه !
ثم لماذا أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) عمر بن الخطاب العدوي أن يبرز إلى ضرار بن الخطاب الفهري ، وهو يعلم أن ضراراً يحب عمر ، فقد ظفر به في أحُد وعمر هارب فضربه على ظهره بعرض رمحه وقال له : والله لا أقتلك !
بحث هذا الموضوع في الصحيح من السيرة : 6 / 235 وذكر فيه قول ضرار حسب رواية الواقدي : « يا ابن الخطاب إنها نعمة مشكورة ، والله ما كنت لأقتلك » . ثم تساءل : لماذا ما كان ليقتله ؟ أليس هو الذي أذل قريشاً كما يدعون وعز به الإسلام كما يزعمون ؟ كما كان خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام فيقول : لقد رأيتُنى ورأيت عمر بن الخطاب حين جالوا وانهزموا يوم أحد وما معه أحد ، وإني لفى كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري ، فنكبت عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له ، فنظرت إليه متوجهاً إلى الشعب ! فلماذا هذه المراعاة من خالد لعمر ؟ ولماذا يهنئ أبو سفيان عمر بالنصر الذي أحرزوه على المسلمين ، ويقول له : أنعمت عيناً قتلى بقتلى بدر ! فأجابه عمر بقوله : إنها !
والقضية الثالثة : التي ذكر فيها عمر في الخندق ، أنه أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنقض بني قريظة عهدهم ، فمن أين عرف ذلك ؟ راجع : الصحيح من السيرة : 9 / 270 .
والقضية الرابعة : عندما غاب بعد قتل عمرو بن ود ، وكان الوقت ظهراً ، فغاب حتى المغرب ، وجاء من جهة الخندق وقال إنه كان يسب قريشاً إلى المغرب وكادت تفوته الصلاة ! وروى البخاري ذلك بروايات ، وزعمو أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاتته الصلاة كعمر !
والجواب على التساؤلات : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يعلم بعلاقة عمر مع زعماء الأحزاب والمحبة بينهم ، ولكنه أراد أن يفهم المسلمون ذلك !
ومن الغريب أن عمر كان قبل يومٍ فاراً مع طلحة في الحديقة التي آوت إليها عائشة وفيها نساء وأطفال ، وأن سعداً مر في ذلك اليوم ، ولما وصل إلى الخندق أصيب . وفى اليوم التالي لإصابة سعد كان عمر عند الخندق عندما عبره ابن ود وجماعته ، ولعله رجع من الحديقة التي رأته فيها عائشة وبقى طلحة هناك .
وقد ورد أن عمر كان يحب ضراراً فولاه في العراق والشام ، وشكاه أبو عبيدة بأنه يشرب الخمر فلم يعزله ! وكان عمر يحب شعره ويأمر المغنى في طريق الحج أن يغنيه به ، فقال ابن عوف لرباح المغني : « غننا ، فقال له عمر : إن كنت آخذاً فعليك بشعر ضرار بن الخطاب » ! الإصابة : 3 / 392 .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كما في كتاب سُلَيم بن قيس / 247 : « وقد علموا يقيناً أنى أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه وأفقههم وأقرأهم لكتاب الله ، وأقضاهم بحكم الله ، وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا عناء معه في جميع مشاهده ، فلا رمى بسهم ولا طعن برمح ولا ضرب بسيف ، جبناً ولؤماً ، ورغبة في البقاء .
وقد علموا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قاتل بنفسه فقتل أبي بن خلف ، وقتل مسجع بن عوف وكان من أشجع الناس وأشدهم لقاء وأحقهم بذلك .
وقد علموا يقيناً أنه لم يكن فيهم أحد يقوم مقامي ، ولا يبارز الأبطال ، ولا يفتح الحصون غيري ، ولا نزلت برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شديدة قط ولا كربهُ أمرٌ ولا ضيق ومستصعب من الأمر إلا قال : أين أخي علي ، أين سيفي ، أين رمحي ، أين المفرج غمى عن وجهي ، فيقدمنى فأتقدم فأفديه بنفسي ، ويكشف الله بيدي الكرب عن وجهه . ولله عز وجل ولرسوله بذلك المن والطول ، حيث خصني بذلك ووفقني له . وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ولا مبارزة قرن ، ولا فتح ولا نصر ، غير مرة واحدة ، ثم فر ومنح عدوه دبره ، ورجع يجبن أصحابه ويجبنونه ، وقد فر مراراً ، فإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم وتغير ، وأمر ونهي .
ولقد نادى ابن عبد ود يوم الخندق باسمه ، فحاد عنه ولاذ بأصحابه حتى تبسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مما رآى به من الرعب وقال ( صلى الله عليه وآله ) : أين حبيبي علي ؟ تقدم يا حبيبي يا علي . . والله يحكم بيننا وبين من ظلمنا حقنا ، وحمل الناس على رقابنا » .
أقول : ذكر ( عليه السلام ) أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قتل شخصين بيده هما أبي بن خلف ، وهو ابن قميئة حمل عليه في أحُد ليقتله فطعنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحربة في عنقه فمات منها في مكة . أما مسجع بن عوف فلم أجده فيما لدى من مصادر .
22 - طعنوا بالنبي « صلى الله عليه وآله » بأنه فاتته أربع صلوات !
زعموا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) انشغل عن الصلاة في معركة الأحزاب حتى ذهب وقتها ! فقد روى البخاري : 1 / 147 : « أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس ، فجعل يسب كفار قريش ! قال : يا رسول الله ماكدت أصلى العصر حتى كادت الشمس تغرب ؟ قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : والله ما صليتها ، فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب » ! ومعناه أن الحادثة كانت في يوم قتل على لعمرو بن ود وهبوب الريح عليهم وكانت يوم أربعاء ! وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يصل ذلك اليوم العصر ، أو فاتته أربع صلوات كما زعمت بعض رواياتهم ! وأن عمر ذهب إلى الخندق قبل صلاة العصر ، وكان مقابله قرشيون فكان يسبهم ويسبهم ويسبهم إلى قريب المغرب ، ولم يضرب أحد منهم الآخر بسهم كما ضربوا سعد بن معاذ ، ولا بحجر كما هو دأبهم ودأب المسلمين الذين يواجهونهم ! ثم رجع عمر سالماً غانماً وأدرك صلاة العصر على حافة الوقت ، فحكى ذلك للنبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال له أنت خير منى لأنى لم أصلها أبداً ! فرجعوا إلى المدينة مساء ذلك اليوم والمسافة من الخندق إلى المدينة نحو ساعة فوصلوا إلى بطحان وهو واد متصل بالمدينة ، « فتح الباري : 2 / 347 » فانتظروا النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى صلى العصر التي فاتته وصلوا المغرب معه !
وهذه المنقبة التي رواها عمر لنفسه لا تصح ، لأن رجوعهم إلى المدينة كان في الصباح ووصلوا قبل الظهر أو معه ، فنزل جبرئيل وأمرهم بحرب بني قريظة ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة .
ولا تصح أيضاً ، لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان في خيمته بعد قتل عمرو ، وواصل دعاءه حتى هبت الريح على الأحزاب ، وفى تلك الليلة بعث حذيفة واستطلع خبرهم .
ولا تصح أيضاً ، لأنها تنافى العصمة ، وعبودية النبي ( صلى الله عليه وآله ) الكاملة لربه .
ولأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لو انشغل عن صلاته لانشغل الذين كانوا معه ، فكيف فاتته من دونهم ، كما فاتت عمر دونهم ، لأنه ذهب إلى نقطة من الخندق !
والذي يصح أن عمر ذهب بعد قتل عمرو والتقى ببعض المشركين وتحدث معهم ، وما سبهم ولا سبوه ، ففاتته الصلاة ، وأراد أن يخفف عن نفسه أو يبرر ذلك لمن لامه ، فقال إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاتته الصلاة مثله ! وأنه هو صلاها قرب مغيب الشمس ، بينما لم يصلها النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى غابت !
قال المحقق البحراني « رحمه الله » في الحدائق الناضرة : 7 / 373 : « الرواية عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأنه شغل عن أربع صلوات يوم الخندق ، إنما هي من طرق المخالفين وليس في أخبارنا لها أثر ولا توافق أصولنا » . راجع : ألف سؤال وإشكال : 1 / 171 .
23 - من شعر الأحزاب ومبارزة علي « عليه السلام » لابن ود
روى ابن إسحاق وابن هشام : 3 / 733 شعر حرب الخندق ، ومبارزة على ( عليه السلام ) لابن ود ، وأورد بعضها في الصحيح : 9 / 382 . قال ضرار بن الخطاب الفهري :
ومشفقة تظن بنا الظنونا * وقد قدنا عرندسة طحونا
كأن زهاءها أحد إذا ما * بدت أركانه للناظرينا
ترى الأبدان فيها مسبغات * على الأبطال واليلب الحصينا
وجرداً كالقداح مسوماتٍ * نؤم بها الغواة الخاطئينا
كأنهم إذا صالوا وصلنا * بباب الخندقين مصافحونا
أناس لا نرى فيهم رشيداً * وقد قالوا : ألسنا راشدينا
فأحجرناهم شهراً كريتاً * وكنا فوقهم كالقاهرينا
نراوحهم ونغدو كل يوم * عليهم في السلاح مدججينا
بأيدينا صوارم مرهفات * نقد بها المفارق والشئونا
كأن وميضهن معريات * إذا لاحت بأيدي مصلتينا
وميضُ عقيقة لمعت بليلٍ * ترى فيها العقائق مستبينا
فلولا خندق كانوا لديه * لدمرنا عليهم أجمعينا
ولكن حال دونهم وكانوا * به من خوفنا متعوذينا
فإن نرحل فإنا قد تركنا * لدى أبياتكم سعداً رهينا
إذا جن الظلام سمعت نوحى * على سعد يرجعن الحنينا
وسوف نزوركم عما قريب * كما زرناكمُ متوازرينا
بجمع من كنانة غير عزل * كأسد الغاب قد حمت العرينا
فأجابه كعب بن مالك الأنصاري :
وسائلة تسائل ما لقينا * ولو شهدت رأتنا صابرينا
صبرنا لا نرى لله عدلاً * على ما نابنا متوكلينا
وكان لنا النبي وزير صدق * به نعلو البرية أجمعينا
نقاتل معشراً ظلموا وعقوا * وكانوا بالعداوة مرصدينا
ترانا في فضافض سابغات * كغدران الملا متسربلينا
وفى أيماننا بيض خفاف * بها نشفى مراح الشاغبينا
بباب الخندقين كأن أسداً * شوابكهن يحمين العرينا
فوارسنا إذا بكروا وراحوا * على الأعداء شوساً معلمينا
لننصر أحمداً والله حتى * نكون عباد صدق مخلصينا
ويعلم أهل مكة حين ساروا * وأحزاب أتوا متحزبينا
بأن الله ليس له شريك * وأن الله مولى المؤمنينا
فإما تقتلوا سعداً سفاهاً * فإن الله خير القادرينا
سيدخله جناناً طيبات * تكون مقامة للصالحينا
كما قد ردكم فلا شريداً * بغيظكم خزايا خائبينا
وقال مسافع الجمحي يبكى عمرو بن عبد ود :
عمرو بن عبد كان أول فارسٍ * جزع المذاد وكان فارس يليلِ
سمحُ الخلائق ماجدٌ ذو مرة * يبغى القتال بشكة لم ينكل
ولقد علمتم حين ولوا عنكم * أن ابن عبد فيهم لم يعجل
حتى تكنفه الكماة وكلهم * يبغى مقاتله وليس بمؤتلي
ولقد تكنفت الأسنة فارساً * بجنوب سلع غير نكس أميل
تسل النزال على فارس غالب * بجنوب سلع ليته لم ينزل
فاذهب على فما ظفرت بمثله * فخراً ولا لاقيت مثل المعضل
نفسي الفداء لفارس من غالب * لاقى حمام الموت لم يتحلحل
وقال الشيخ كاظم الأزرى « رحمه الله » من قصيدته الأزرية / 124 :
ظهرت منه في الوغى سطواتٌ * ما أتى القوم كلهم ما أتاها
يوم غصت بجيش عمرو بن ود * لهوات الفلا وضاق فضاها
وتخطى إلى المدينة فرداً * بسرايا عزائمٍ ساراها
فدعاهم وهو ألوفٌ ولكن * ينظرون الذي يشبُّ لظاها
أين أنتم عن قسورٍ عامري * تتقى الأسد بأسه في شراها
فابتدى المصطفى يحدث عما * تؤجر الصابرون في أخراها
قائلاً إن للجليل جناناً * ليس غير المجاهدين يراها
أين من نفسه تتوق إلى * الجنات أو يورد الجحيم عداها
من لعمرو وقد ضمنت على * الله له من جنانه أعلاها
فالتووا عن جوابه كسوام * لا تراها مجيبة من دعاها
وإذا هم بفارس قرشي * ترجف الأرض خيفةً إذ يطأها
قائلاً مالها سواي كفيل * هذه ذمة على وفاها
ومشى يطلب الصفوف كما تم * - شى خماص الحشا إلى مرعاها
فانتضى مشرفيه فتلقى * ساق عمرو بضربة فبراها
والى الحشر رنة السيف منه * يملأ الخافقين رجع صداها
يا لها ضربة حوت مكرمات * لم يزن ثقل أجرها ثقلاها
هذه من علاه إحدى المعالي * وعلى هذه فقس ما سواها » .
ثمان مسائل من قتل عمرو بن عبد ود
المسألة الأولي : نص العلامة في تذكرة الفقهاء : 9 / 83 : على أن خدعة على ( عليه السلام ) لعمرو في الحرب رواية عامية ، قال : ( روى العامة أن عمرو بن عبد ود بارز علياً ( عليه السلام ) ثم قال : فقال على ( عليه السلام ) : ما برزت لأقاتل اثنين ! فالتفت عمرو فوثب على ( عليه السلام ) فضربه ، فقال عمرو : خدعتني ! فقال على ( عليه السلام ) : الحرب خدعة ) .
لكن يظهر أن علي بن إبراهيم قبلها ، حيث قال في تفسيره : 2 / 182 : ( فقال له علي : يا عمرو أما كفاك أنى بارزتك وأنت فارس العرب حتى استعنت على بظهير ؟ فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مسرعاً على ساقيه قطعهما جميعاً . .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي ماكرتَهُ ؟ قال : نعم يا رسول الله ، الحرب خُدعة ) .
كما أفتى بها آقا ضياء العراقي في شرح التبصرة : 4 / 408 ، فقال : « نعم تجوز الخدعة في الحرب لفعل على ( عليه السلام ) بعمرو بن عبد ود ، وقال ( عليه السلام ) : الحرب خدعة » .
لكن صاحب الجواهر : 21 / 79 وهو أفقه من آقا ضياء ، اكتفى بإيرادها ، واستدل هو والسيد الخوئي ، منهاج الصالحين : 1 / 373 على جواز الخدعة ، برواية إسحاق بن عمار المعتبرة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال يوم الخندق : الحرب خدعة .
والنتيجة : أن الخدعة في الحرب جائزة ، لكن بعض فقهائنا توقف في أن علياً ( عليه السلام ) استعملها مع عمرو ، وبعضهم ثبت عنده ذلك لوجود قرائن على صحة رواية العامة . ولا شك أن التوقف أحوط وأكثر انسجاماً مع صفات على ( عليه السلام ) وأخلاقه .
المسألة الثانية : ذكرت الروايات أنه لما برز على ( عليه السلام ) لعمرو ، ذهب معه متفرجون من المسلمين وهم خمسة كما في رواية ابن إسحاق ، قال : وتقدم على ( عليه السلام ) مهرولاً نحو عمرو وهو يرتجز ، وذهب معه جابرالأنصاري ، وحذيفة ، وعمر ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، ليتفرجوا .
وقال القاضي المغربي في شرح الأخبار : 1 / 294 : ( ووقف المشركون من وراء الخندق ينظرون ما يكون منهما . ورفع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يده إلى السماء يدعو الله عز وجل لعلى بالظفر ) . ومعناه أن المتفرجين كانوا من الطرفين ، فالمشركون من وراء الخندق ، والمسلمون أمام خيمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في منحدر جبل سلع ، عند أول السبخة التي كانت ميدان المبارزة .
المسألة الثالثة : لم يأذن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلى من أول الأمر ، رغم سكوت المسلمين وإلحاح عمرو بالنداء ، ويبدو أن ذلك لإتمام الحجة عليهم ، لكن ذكرت الرواية أنه كان يريد أن يبرز له غير على ( عليه السلام ) لأن فاطمة « عليها السلام » كانت تخاف عليه !
( في كل ذلك يقوم على ليبارزه فيأمره النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالجلوس لمكان بكاء فاطمة « عليها السلام » عليه من جراحاته في يوم أحد ، وقولها ما أسرع أن يوتم الحسن والحسين باقتحامه الهلكات . فنزل جبرئيل عن الله تعالى أن يأمر علياً ( عليه السلام ) بمبارزته ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي أدن منى وعممه بعمامته وأعطاه سيفه ، وقال إمض لشأنك .
ثم قال : اللهم أعنه . فلما توجه إليه قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : خرج الإيمان سائره إلى الكفر سائره ) . مناقب آل أبي طالب : 2 / 325 .
المسألة الرابعة : نهى النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن المثلة بالمقتول حتى لو كان كلباً عقوراً ، وكانت المثلة بالأعداء من ثقافة الجاهلية وما زالت ، من قطع رؤوسهم وحملها إلى قادتهم والدوران بها في المدن والقري ! وأشهر من حملت رؤوسهم من بلد إلى بلد الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه رضوان الله عليهم .
ورووا عن غير طريق أهل البيت « عليها السلام » أنهم جاؤوا للنبي ( صلى الله عليه وآله ) برؤوس أعدائه ، ولا يصح عندنا ، ولا تصح روايتهم أن علياً ( عليه السلام ) جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) برأس عمرو بن ود ، وأنه في خيبر جاء له برأس مرحب . الكامل لابن عدي : 6 / 50 .
والمرجح عندنا أن معنى قولهم إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ذبحه أو قطع رأسه ، أنه أجهز عليه ، وليس فيه دلالة على أنه فصل رأسه أو حمله .
ويؤيده أنهم ضعفوا رواية مجيئه برأس عمرو إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) مجمع الزوائد : 6 / 152 .
كما رووا أن ابن مسعود جاء برأس أبى جهل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فحمد الله ، الإستيعاب : 3 / 1410 وأن أبا بردة بن نيارقال : ( جئت يوم بدر بثلاثة أرؤس فوضعتها بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ) نهاية ابن كثير : 3 / 343 وأن جابرالأنصارى قال إن محمد بن مسلمة جاء برأس كعب بن الأشرف إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) . الثقات لابن حبان : 1 / 215 .
لكن هذا لو صح فهو تصرف منهم ، ولا بد أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمرهم بدفنها .
فموقف النبي ( صلى الله عليه وآله ) الترفع عن التمثيل بالجثامين ، والتنزه عن اتخاذها وسيلة للتجارة أو الضغط على العدو . ويؤيد ذلك أن المشركين أرسلوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليشتروا جثة عمرو بن عبد ود بعشرة آلاف درهم ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى ! المناقب : 1 / 171 . ويؤيده ما رووه عن الزهري : ( لم يحمل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رأس إلا يوم بدر ) . سير السرخسي : 1 / 111 .
المسألة الخامسة : يناسب أن نذكر بعض من قتلهم الحكام وطافوا برؤوسهم ونصبوها في البلاد ليخوفوا من خالفهم ، ومعناه أن ثقافة الجاهلية استمرت في الأمة ، وأن ما نراه في عصرنا من وحشية وتمثيل في الجثث ، إرث متصل بالجاهلية ، ولا صلة له بالإسلام .
قال المؤرخ ابن حبيب في كتابه المحبر / 490 : ( ونصب معاوية رأس عمرو بن الحمق الخزاعي ، وكان شيعياً ، ودير به في السوق . ونصب يزيد بن معاوية رأس الحسين رضي الله عنه وقتل معه العباس وجعفر وعثمان وعبد الله ومحمد وأبا بكر بنى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، وأبو بكر بن الحسن والقاسم وعبد الله ابنا الحسن وعلى وعبد الله بن الحسين وعبد الله وجعفروعبد الرحمن بنو عقيل بن أبي طالب ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل ، ومسلم بن عقيل ومحمد وعون ابنا عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم ، فحملت رؤوسهم إلى يزيد بن معاوية ، فنصبها بالشام وبعث برأس الحسين رضي الله عنه فنصب بالمدينة !
ونصب المختار بن عبيد رأس عبيد الله بن مرجانة ورأس الحصين بن نمير السكسكي ورأس شرحبيل بن ذي الكلاع الحميري ، وكان إبراهيم بن الأشتر قتلهم يوم الحازر وبعث إليه برؤوسهم فبعث برؤوسهم إلى ابن الحنفية ، فنصبت رؤوسهم على باب المسجد الحرام ، فخرج ابن الحنفية من الطواف فرآها منصوبة فحمد الله وأثنى عليه .
فلما قتل مصعب بن الزبير المختار بعث برأسه إلى عبد الله بن الزبير فنصبه على باب المسجد الحرام وسمر في يد المختار مسماراً من حديد إلى جنب المسجد ، مسجد الكوفة فلم تزل مسمورة حتى قدم الحجاج فرآها فسأل عنها فأخبر بها فأمر بنزعها . ونصب مصعب بن الزبير رأس إبراهيم بن الحر الجعفي بالكوفة .
ونصب عبد الملك رأس إبراهيم بن الأشتر النخعي ، ورأس يحيى بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي .
ونصب عبد الملك رأس مصعب بمصر ثم رده فنصبه بدمشق فأخذته عاتكة بنت يزيد بن معاوية فغسلته وحنطته ودفنته .
ونصب عبد الملك بن مروان رأس عمير بن الحباب السلمى بدمشق .
ونصب الوليد بن يزيد رأس يحيى بن زيد بن علي رضي الله عنه وكان نصر بن سيار أنفذه إليه من خراسان .
ونصب يزيد بن عبد الملك رأس عبد الله بن موسى بن نصير وكان بعث بها إليه بشر بن صفوان الكلبي من إفريقية اتهمه بقتل يزيد بن أبي مسلم .
ونصب يزيد الناقص رأس الوليد بن يزيد في مسجد دمشق ما يلي باب الفراديس ، ونصب أيضاً رأس يوسف بن عمر الثقفي بدمشق .
ونصب أبو العباس أمير المؤمنين رأس مروان بن محمد بن مروان بالكوفة . ونصب الهادي رأس دحية بن المعصب بن الأسبغ بن عبد العزيز بن مروان ، وكان قتل بمصر فنصب رأسه ببغداد .
وقتل موسى بن عيسى بن موسى الحسين بن علي بن حسن بن حسن بن علي بفخ في الموسم فنصب الهادي رأسه ببغداد على الجسر ، ثم بعث به إلى خراسان وأمه زينب بنت عبد الله بن الحسن . ونصب طاهر بن الحسين بن مصعب رأس محمد بن هارون الأمين ببغداد على باب بستان مؤنسة ثم وجه به إلى المأمون بخراسان فنصبه هناك .
وبعث المأمون إلى الحسن بن سهل وهو بفم الصلح من خراسان برأس علي بن أبي سعيد ورأس عبد العزيز بن عمران الطائي ورأس خلف المصري ورأس مؤنس التاجر ، واتهمهم بدم الفضل بن سهل فنصبها الحسن بن سهل هناك . ونصب المأمون رأس أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي ببغداد .
ونصب المتوكل رأس إسحاق بن إسماعيل التفليسي ببغداد على باب العامة ، وكان بغا الكبير أنفذه من أرمينية ) .
المسألة السادسة : روى في مناقب آل أبي طالب : 1 / 381 : ( لما أدرك على ( عليه السلام ) عمرو بن عبد ود لم يضربه ، فوقعوا في علي ( عليه السلام ) فرد عنه حذيفة ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : مه يا حذيفة فإن علياً سيذكر سبب وقفته ، ثم إنه ضربه ، فلما جاء سأله النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن ذلك فقال : قد كان شتم أمي وتفل في وجهي ، فخشيت أن أضربه لحظ نفسي ، فتركته حتى سكن ما بي ، ثم قتلته في الله ) .
وقد يشكل على ذلك بأن علياً ( عليه السلام ) ليس عنده ثنائية في الغضب والرضا ، فغضبه ورضاه دائماً لله تعالى حتى لو كان لشتم أمه « عليها السلام » .
لكن يجاب عنه بأن حالات المعصوم ( عليه السلام ) في التقرب إلى الله تعالى قد تكون متفاوتة ، فأراد أن يقتله وهو في أعلاها مستوي ، كما أن عمرواً قد يكون تكلم بكلام كثير ، فتركه الإمام ( عليه السلام ) يتم كلامه ويسجل ذلك في صحيفة عمله .
المسألة السابعة : من نبل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه ترفع عن سلب عمرو ، بل لم أجد أنه سلب أحداً ممن قتلهم ! قال في مناقب آل أبي طالب : 1 / 384 :
( لما أردى ( عليه السلام ) عمرواً قال عمرو : يا ابن عم إن لي إليك حاجة ، لا تكشف سوأة ابن عمك ولا تسلبه سلبه ، فقال : ذاك أهون علي ، وفيه يقول ( عليه السلام ) :
وعففتُ عن أثوابه ولوَ انني
كنتُ المقطر بَزَّنى أثوابي
محمد بن إسحاق : قال له عمر : هلا سلبت درعه فإنها تساوى ثلاثة آلاف ، وليس للعرب مثلها ؟ قال : إني استحييت أن أكشف ابن عمي .
وروى أن أخت عمرو جاءت ورأته في سلبه ، فلم تحزن ، وقالت : إنما
قتله كريم .
وقال ( عليه السلام ) : يا قنبر لاتُعْرِ فرايسي ، أراد لا تسلب قتلاى من البغاة .
إن الأسود أسود الغاب همتها
يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
وفى تاريخ الخميس للديار بكري : 1 / 488 : ( وروى أن علياً لما قتل عمراً لم يسلبه فجاءت أخت عمرو حتى قامت عليه ، فلما رأته غير مسلوب سلبه قالت : ما قتله إلا كفؤ كريم ، ثم سألت عن قاتله قالوا : علي بن أبي طالب ، فأنشأت هذين البيتين . . )
فنلاحظ أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وفى لعمرو بوعده فلم يسلبه حتى درعه ، بينما ظل عمر يلومه على ذلك ، ولعل علياً ( عليه السلام ) منع عمر من سلبها ، ويظهر أن أخت عمرو جاءت لتأخذ جثته فوجدته بكامل ثيابه ودرعه ، فشهدت بنبل على ( عليه السلام ) .
فسبب عدم سلبه لعمرو أنه وعده كما وعد فارس قريش طلحة بن أبي طلحة في أحُد ؟ والأسباب الأخرى التي ذكرتها روايات إن صحت ، فهي أعذار مكملة .
المسألة الثامنة : عمرو بن عبد ود قرشي من بنى عامر بن لؤي ، وهم أقل درجة من بنى كعب بن لؤي ، ابن هشام : 2 / 489 .
وعدوه ثالث شجعان قريش ، أي بعد بنى عبد الدار وعتبة بن ربيعة ، وقد شهد مع المشركين معركة بدر وقتل اثنين من المسلمين : سعد بن خيثمة الأنصاري وهو من النقباء الحاكم : 3 / 189 وعمير بن أبي وقاص : الإستيعاب : 3 / 1221 .
قال الحاكم : 3 / 32 : ( قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة ، ولم يشهد أحداً ، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مشهده ) .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|