بينما كان هنري الثالث يحاصر باريس مع هنري نافار لدخولها تم اغتياله على ايدي أحد الرهبان الكاثوليك سنة 1589. ولما لم يكن له ولدا يخلفه في الحكم فقد آل العرش هنري نافار البروتستانتي. وبذلك انتقل الحكم في فرنسا من اسرة ڤالوا (Valois) الى اسرة بوربون التي انتهى حكمها لفرنسا بقيام الثورة الفرنسية، ولكن باعتلاء ملك بروتستانتي العرش الفرنسي تجدد النزاع بين البروتستانت والكاثوليك الذين يعضدهم ملك اسبانيا ولمدة أربع سنوات، فما كان من هنري النافار الا ان أعلن اعتناقه للكاثوليكية وبذلك خمدت ثورة الكاثوليك وفتحت له باريس ابوابها وأصبح ملكاً على فرنسا باسم هنري الرابع سنة 1594 بعد ان اعترفت به البابوية واسبانيا. سلك هنري الرابع في حكمه مسلكا حكيما مع الكاثوليك. فالتف حوله الكثيرين منهم. وبعد نضال سياسي مرير توصل إلى انهاء الخلاف بين الطرفين المتنازعين وان يسترجع الأراضي الفرنسية التي استولت عليها اسبانيا خلال الحرب الاهلية وان يمنح البروتستانت براءة نانت عام 1598 التي استطاع بواسطتها ان يضمن سلاما دائماً وتسوية سلمية رضيت بها الأطراف المتنازعة. ينص مرسوم نانت على شروط دينية وأخرى سياسية. فقد منح البروتستانت بموجبه إقامة الشعائر الدينية في أكثر المدن الفرنسية عدا باريس والمدن التي بها اسقفيات كاثوليكية. كما أجاز لهم المرسوم التمتع بالحقوق المدنية والحماية القانونية وتسلم المناصب الحكومية وعضوية البرلمانات وانشاء المدارس والمستشفيات الخاصة بهم. ويعلق فيشر على هذا المرسوم بقوله: "ولمرسوم نانت مكان ملحوظ في تاريخ الحضارة باعتباره اول اعتراف عام بان من الممكن ان تقوم اكثر من طائفة دينية واحدة في نفس الدولة، فقد جعلت هذه التسوية الشهيرة التسامح الديني – جزءاً من القانون الدستوري لفرنسا قبل الاعتراف به في إنجلترا أو المانيا لوقت طويل".

وكتب نور الدين حاطوم أيضا عن مرسوم نانت: "لقد قيل عن مرسوم نانت انه يستحق ان يعتبر تاريخاً في تاريخ العالم لأنه دشن عهد التسامح والتساهل الديني. وفي الواقع ان الرعايا في جميع الدول: في المانيا وانكلترا واسبانيا كانت مضطرة، تحت طائلة النفي، ان لم يكن تحت طائلة الموت، ان تدين بديانة نظام الحرية الدينية ولقد قبلت فرنسا بهذا النظام، لا عن احترام حقيقي لحقوق الوجدان، بل لأنها كانت مضطرة لقبوله بحكم العقل والفطنة اللذين امتاز بهما هنري الرابع"(1).

كان على هنري الرابع بعد ان أحل السلام الداخلي في مملكته، القضاء على الانقسام الذي عاشته فرنسا طيلة نصف قرن من الزمن. بحيث انعكس هذا الانقسام بدوره على جميع مرافق الحياة السياسية والادارية والاقتصادية دون ان يترك فرصة واحدة لاستعادة سلطة الملوك السابقين الذين استطاعوا مع ذلك خلال نضالهم لمركزة السلطة بين ايديهم ان يضعوا الدعامة الاولى لنظرية الحق الإلهي للملوك في الحكم والسلطة المطلقة.

وتنفيذاً لرغبة هنري الرابع الاصلاحية، عهد الى أخلص اصدقائه الدوق سوللي، (Sully) بتسوية الامور المالية. وفعلاً تمكن سوللي من معالجة هذه المشكلة بكفاءة تامة وذلك بإلغاء بعض الوظائف وتخفيف مصاريف البلاط المبالغ فيها وتنظيم جباية الضرائب وواردات الدولة. فاتخذ التدابير لإصلاح الزراعة التي كان يؤمن مع هنري الرابع بانها الركن الاساسي للثروة القومية. فخفف الاعباء عن الفلاحين ومنع الصيد في مزروعاتهم وخفض عنهم ضريبة الاعناق (Tallle) واستقدم الخبراء لاستصلاح الاراضي. كما انه شجع القطاع الصناعي بتطوير صناعة السجاد والزجاج والمنسوجات الحريرية. ولما كانت التجارة دعامة الاقتصاد الاساسية فقد شق سوللي الطرقات والجسور اللازمة لتنشيط التجارة الداخلية. وفي عهده اكتشف شامبلان (Camplain) مصب نهر سان لوران في كندا حيث اسست اول مستعمرة في القارة الاميركية وهي كيبك سنة 1608.

وامام تحدي هنري الرابع للعصبة الكاثوليكية المؤلفة من النمسا واسبانيا بزعامة اسرة الهابسبورغ وذلك بتحالفه مع البروتستانت في المانيا والاراضي المنخفضة اعاد الى اذهان الكاثوليك الفرنسيين سيرة هنري البروتستانتية فاغتاله متطرف كاثوليكي يدعى رافياك (Ravillac) سنة 1610. وهكذا استطاع هنري الرابع ان يضع اسس النهضة القومية لفرنسا التي تجلت عظمتها عهد لويس الرابع عشر (2).

..............................................

1- نور الدين حاطوم عصر النهضة الأوروبية دار الفكر الحديث بيروت 1968 ص257.

2- للتوسع في معرفة اصلاحات هنري الرابع انظر: MARTIN. M. M.: SULLY Le