أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-11-2017
2231
التاريخ: 2024-10-03
204
التاريخ: 20-10-2020
2707
التاريخ: 8-10-2017
2428
|
سألنا لماذا اعتبر النبي الجهاد جهادا أصغر مع كونه من أفضل الأعمال الصالحة وقد ينتهي إلى الذروة والقمة المتمثلة بالشهادة، وبالرغم من اشتماله على الصعاب والمتاعب، ثم دعا إلى جهاد من نمط آخر وسمّاه الجهاد الأكبر.
هل أن مخالفة النفس ومحاربة الأهواء النفسية جهاد واقعا؟ وهل أنها أكبر من ذلك الجهاد؟ وهل أن ظاهرة الحرب وأيام الدفاع المقدس التي عشناها في بداية الثورة، هي ظاهرة أصغر من الجهاد الأكبر؟ فقد انطلقنا بالبحث من هذا الموضوع.
ثم أردفنا إلى هذا الموضوع بعض المعلومات. وأجّلنا إثباتها إلى إشعار آخر. فكانت هذه المعلومات هي ان هناك عبادة سيئة وأساسية في مقابل عبادة الله، وهي عبادة الهوى. وهي النقطة المقابلة لجهاد النفس. فقرأت عليكم بعض الروايات في هذا المجال من قبيل ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث قال: (ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوىً متبع) (ميزان الحكمة، ج 13، ص 61).
ثم ذكرنا أن الروايات قد اعتبرت مخالفة الهوى نظام الدين، فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (نظام الدين مخالفة الهوى والتنزه عن الدنيا) (تصنيف غرر الحكم، ص 241). ما معنى نظام الدين؟ يعني خيط السبحة. فعلمنا أن الجهاد الأكبر ليس أكبر من الحرب والجهاد المسلح وحسب، بل إنه نظام الدين والنقطة المقابلة له هو اتباع الهوى. ثم ذكرنا أن العمل الرئيس والأساسي الذي يجب أن نقوم به طيلة حياتنا من أوّلها إلى آخرها ليس سوى جهاد النفس.
ـ لا يكفي العلم بأهمية جهاد النفس
ولكن لا تنحل المشكلة بمجرد أن قلنا إن أهم جهاد هو جهاد النفس، إذ من أجل أن ندرك هذا الكلام ونقتنع به، لابد أن نعي بعمق أن جهاد النفس محور عبادتنا وحياتنا.
أنا أعتقد أن تسعة وتسعين في المئة من الناس الذين سمعوا بالجهاد الأكبر ومخالفة النفس لم يفهموا معناه جيدا. كما أني أسوأ حالاً من جميعهم ولا سيما على مستوى العمل. ولكني أرى أن هذا الموضوع لم يأخذ موقعه المحوري في أذهان الناس ورؤاهم، فليست هناك رؤية صحيحة تجاه هذا الموضوع.
إننا نهدف عبر هذه السلسلة إلى تغيير الرؤى تجاه هذا الموضوع. فمن أجل إدراك هذه الحقيقة بعمق، ووجدان محورية جهاد النفس في الحياة والدين، ومن أجل أن يصبح هذا الجهاد همنا الرئيس في الحياة، لابد من كلام ونقاش وبحث مفصل، إذ لا تنحل المشكلة بكلمتين.
ثم بعد ما اتضحت لنا هذه الحقيقة واستوعبناها بكل وجودنا، حينئذ ننتقل إلى كيفية هذا الجهاد، وما هي الرغبات التي لابد من محاربتها وكم يجب أن نخالف أهواءنا. فلابد أن نسعى لاتضاح أصل هذه الحقيقة. فإن اتضحت سوف تسخّر ذهننا وإدراكنا بشكل كامل وسوف تكون حاضرة في ذهننا دائما، وتبشر بمراقبة مستمرة مؤثرة وموفقة. إنكم لستم اشخاصا سيئين، فلماذا تفرّطون بطاقاتكم؟ ولماذا تسمحون لقواكم أن تضعف وتتضاءل فتعجزون عن المراقبة؟ لأنكم تزعمون أن يجب عليكم أن تراقبوا أنفسكم في مئة قضية. ولكن القضية ليست كذلك. فلابد لكم من مراقبة قضية واحدة. أما دمج مئة موضوع في موضوع واحد بحاجة إلى فهم عميق جدا.
لابد أن تدرك هذه الحقيقة بكل وجودك يا أخي. العزيز! وهي أنك لا تحتاج إلى مواجهة الحرص والحسرة الباطلة، ولا تحتاج إلى الاحتكاك بموضوع الصدق والصبر وكثير من المواضيع الأخرى. كما لست بحاجة إلى الاحتكاك بالتكبر والتواضع. فأنت بغنى عن الاحتكاك بكثير من المواضيع، إذ قضيتك قضية واحدة فصب همتك كلها في معالجة هذه القضية.
لا مفر للمؤمن وغير المؤمن من جهاد النفس
لماذا جهاد النفس؟ أولاً، لا يخفى عليكم أيها الإخوة أن جهاد النفس عمل عسير. ومن جانب آخر لستم وحيدين في مخالفة هواكم، بل قد اجتمع الله ووجودكم والكون بأجمعه على مخالفة هواكم، سواء أكنتم مؤمنين أم كافرين. هذا معنى كونكم غير وحيدين.
يقول الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] لا (لقد خلقنا المؤمن في كبد). فلا سبيل لأحد إلى حذف الكبد والعناء من حياته.
الكبد والعناء وهو تلك الأحداث التي تقع بما لا تشتهي أنفسنا.
بالرغم من سلوك بعض المساكين الجهلة الذين يفسقون بهدف تخفيف الألم والعناء عن حياتهم وأولئك الذين يفرّون من الدين طلبا للمزيد من الراحة وفرارا من العناء، لا يستطيع أحد أن يخفف من عنائه بترك واجب أو ارتكاب محرم. ولا يشدد الالتزام بالدين من عناء الإنسان.
إن مخالفتك الهوى ليس من وظائفك فقط، بل هي من شؤون دنياك وشؤون ربك أيضا. فلن يسمح الله سبحانه لك بحياة بلا عناء ومنغصات. هذا هو الواقع شئت أم أبيت. ونرى هذه الحقيقة في العالم وهي أن لا مفر من العناء والكبد لأي إنسان مهما كان دينه وعمله.
هل تتصورون أن تحمّل العناء مختص بمن يريد أن يسلك الطريق إلى الله؟ كلا! فقد قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى من القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]. فجاءني بعض المستمعين الكرام وقال لي: إن كلامك مر جدا! فأرجو من الإخوة أن يمعنوا النظر في مضامين الأبحاث ليروا هل الكلام مرّ واقعا؟! أليس هذه الخطاب الصريح مستوحى من أسلوب القرآن إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]؟ فماذا يريد أن يفهمنا القرآن؟ ولماذا يتحدث بهذا القدر من التأكيد؟ إنه يخاطب الإنسان مهما كان دينه ومذهبه ومهما كان التزامه وتدينه. يقول له إنك في طريق ومسار ينتهي إلى لقاء الله، فهذا هو مصيرك المحتوم الذي لابد منه. ثم لا يخلو سيرك إلى الله مهما كان مضمونه ونوعيته، من السعي والكدّ والكدح الشديد.
يقول: {كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} [الانشقاق: 6] فهل أنا الذي أبالغ في التأكيد؟! لماذا يعطي الله سبحانه للناس هذه المعرفة بكل صراحة؟ لأن من شأن هذه المعرفة أن تسهل على الناس مصاعب الدين. فإنها تحكي عن حقيقة راقية جدا وتقول لك عش كيف شئت، فهل تزعم أنك تستطيع أن تعيش بلا أن تجاهد نفسك؟ بل إنك سوف تجاهد نفسك بلا شك. وتلذذ في الدنيا وتهرّب مهما شئت من مخالفة الهوى، فهل تتصور أنك سوف تنجح في هذا الهروب؟ كلا! فأنك سوف تخالف هواك بلا ريب.
وأنا أتصور أن ليس هناك بشارة تدفع الإنسان إلى مخالفة هواه أكثر من هذه الحقيقة الرائعة التي تعبر عنها هذه الآية المباركة: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، هل تنزعج من السيطرة على نفسك وتريد أن تطلق عنانها؟ لا بأس، كن كيف شئت ولكنك سوف تضطر إلى السيطرة على نفسك بلا شك.
في الأمس كنا نقول لا مفر ولا مخلص من الالم والعناء، وليس لك إلا أن تختار أحد أنواع المعاناة والآلام. أما في هذه الليلة أقول شيئا آخر (أيها الأحبة) وهو أنه هل تريد أن لا تجاهد نفسك مضافا إلى العناء الذي تفرضه عليك الحياة؟ فلا سبيل إلى ذلك إذ سوف تجاهد نفسك أكيدا. إذ في حركتك إلى الله تعالى سوف تسعى سعيا مصحوبا بالعناء والألم وهذا هو الكدح، أي سوف تجاهد نفسك، وإن كان بلا ثمر وطائل ونتيجة.
إن رؤية الله سبحانه وتعالى في القرآن رؤية دقيقة وخاصة جدا تختلف عن رؤانا بكثير. فقد قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]، فلعلك تقول: أفهل كانوا يعملون شيئا حتى تحبط أعمالهم؟ نعم! إذ كل الناس يعملون ولكن الله يقبل أعمال الصالحين فقط وإلا فالكفار والفاسقون يعملون ويكدّون ويكابدون ويجاهدون أنفسهم ويتحملون العناء والتعب والسهر وكلّ شيء.
أنظروا إلى من حولكم بتمعن. من الذي لا يجاهد هوى نفسه؟ أي إنسان وفي أي بلد وفي أي ثقافة؟! إن جميع الناس يجاهدون أهواءهم ويكفون عن الكثير من مشتهياتهم وكلّهم مؤدبون بمجموعة من الآداب والأصول وكلهم يتحملون العناء والألم في حياتهم، ولكن ما أكثر الناس الذين يجاهدون أنفسهم ويتحملون المشقات والصعاب والآلام والمحن والأحزان من أجل غايات تافهة لا قيمة لها فلا ينضجون ولا يرشدون ولا يترقون، أما أنت فاجعل جهادك الذي لا مناص منه جهادا صحيحا قيما كلما فررت - من جهاد النفس وركنت إلى أهوائك. سجّل الموقف، لترى أنك سوف تضطر إلى مجاهدة نفسك في نفس الموضوع ولكن بلا نتيجة وبغير صواب. إنها قاعدة لا يسمح الله لأحد بالفرار منها.
ـ إن فهم هذه القاعدة يقضي على حالة العجب
لا أريد أن أخوفك بذكر هذه الحقائق أبدا. ولكن أريد أن تخرج بهذه النتيجة من خلال هذا الكلام، وهو أن تناجي ربك وتقول له: إلهي أنا لم أفعل أي شيء بمجيئي إليك ومناجاتك في جوف الليل وتحمل العناء في سبيلك. أنا لم أفعل أي شيء ولم أضح بشيء. ماذا فعلت في جنب الله؟ هل عانيت وسهرت مثلا؟ كان لابد لك من المعاناة والسهر، فلو كنت لم تعان ولم تسهر مع الله، لعانيت وسهرت في محل آخر بلا نفع ولا رشد، بيد أنك عانيت وسهرت هنا فأجرت ورشدت. إذن العناء مشترك والسهر مشترك، فلا تمّن على الله ولا تحسب أنك شيء ولا تتوهم أنك قد ضحيت بشيء.
هل تعلمون يتحسّرون أهل النار؟ إنهم يتحسرون لأنهم قد عانوا وقاسوا بقدر المؤمنين، ولم تكن حياتهم الفاسقة في الدنيا حياة بلا عناء وألم وحزن. فيشعرون أنهم عاشوا في الحياة الدنيا بتعب وألم وعناء ثم صار مأواهم النار، أما أنت فعشت في الحياة الدنيا بنفس المقدار من العناء والكدح إن لم يكن أقل منهم، ولكن ذهبت إلى الجنان! ولعل هذه الحقيقة هي التي جعلت الانبياء يبكون ويصرخون حسرة على أممهم، إذ يرون مدى الخسران العظيم الذي يلحق بالإنسان إن لم يلتزم بدين ربه.
ـ قلب الإنسان محط تعارض الأهواء
أن تركيبة الإنسان قد اشتملت على أهواء ورغائب مختلفة، وهذا ما وفر الارضية لعناء الإنسان، إذ لا يقدر الإنسان على تلبية جميع رغباته، ولا مناص له من اختيار بعضها على حساب ترك الباقي.
لقد شاءت إرادة الله سبحانه أن يفرض الكبد والكدح على الانسان، فأعطاه رغبات وأهواء مختلفة، فبقي الانسان حائرا بين رغائبه، لا يدري ماذا يصنع. إنه يحب الله وفي نفس الوقت يحب الدنيا، ومن هذا التعارض تبدأ المعاناة والمشاكل. وهذا هو سر جهاد النفس.
لقد اجتمع في قلب الانسان حب الجديد من جانب والانس بالقديم من جانب اخر فهو ينزع إلى التجدد وفي نفس الوقت يميل إلى السنن وكذلك قد يخالف الظواهر الجديدة وغير المألوفة، وفي وقت آخر قد يرفض الشيء القديم. ولهذا يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (لقد علق بنياط هذا الانسان بضعة هي أعجب ما فيه وذلك القلب له مواد من الحكمة وأضداد من خلافها) (تصنيف غرر الحكم / ص 66). هكذا يصب الله الكبد والعناء على الانسان، ومن هذه النقطة المعرفية في وجود الانسان أي الرغبات المتضادة يبدأ جهاد النفس. طبعا هذا هو من أبسط نماذج وأساليب جهاد النفس.
هناك نموذج آخر وهو أن الوصول إلى الرغبات والمشتهيات لابد أن يمر من التضحية بمشتهيات وأهواء أخرى. فهذا الشاب الهاوي الذي يريد أن يشاهد مباراة كرة القدم في العاصمة مثلا، لابد أن يلوي عنق حبّ راحته ويسافر إلى العاصمة وينام في الشارع. هذا الشاب هو نفسه الذي كان حساسا بسريره ومخدته وشرشفه، أما ترك هذه الأسباب كلها وراح ينام في الرصيف أو في الحديقة ليشاهد المباراة عن قرب. فهو في الواقع قد جاهد نفسه وضحى ببعض رغباته في سبيل رغبات أخرى. ولا يمكن لك أن تصل إلى شيء من أمانيك ورغائبك ما لم تغض الطرف عن رغائب أخرى. فقد ركب الله سبحانه وجودك على أساس أن يكون جهاد النفس أحد مقتضيات إنسانيتك.
العالم الخارجي أيضا يفرض علينا أنواع المحن ويضطرنا إلى جهاد النفس
ولكن غير التضارب الموجود في داخل الانسان هناك عوامل أخرى من الخارج، وبودّي في هذه الليلة أن أتطرق إلى هذه العوامل. هناك عبارة فوق الرائعة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول فيها: (عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم) (نهج البلاغة، ص 511، ح 247) وفي الواقع يقف الانسان حائرا لا يدري كيف يشرح هذه العبارة الرائعة لأمير المؤمنين (عليه السلام). إن هذا الرجل العظيم والعارف بالله وأمير العارفين يقول أتدري أين عرفت الله وبماذا عرفته؟ لقد عرفته بفسخ العزائم. ما معنى فسخ العزائم؟ يعني عندما يخرّب الله حسابات الانسان وتخطيطاته وبرمجاته.
وكذلك الله سبحانه يريد أن يلفت أنظارنا إلى نفسه من خلال إفشال بعض التخطيطات والحسابات، لنلتفت إليه ونراه ونأخذه بعين الاعتبار. فهل قد رأيت الله في هذه الحالات؟ بعد عدة ليال سوف يقدر الله سبحانه وتعالى مقدرات عامنا القادم في ليلة القدر ومن المؤكد أنه سوف يقدر لنا بعض المشاكل والابتلاءات وإفشال بعض الحسابات والتخطيطات. لقد كشف أمير المؤمنين روحي وأرواح العالمين له الفداء في مطلع كتابه لابنه الامام الحسن (عليه السلام) عن هذه الحقيقة بكل صراحة، فقد بدأ كتابه بهذه العبارة (من الوالدِ الفانِ) وهي عبارة لا تعجب السامع. ثم قال (المُقرِ للزمانِ) يعني قد أقررت بغلبة الزمان عليّ فلم أتغلب على الزمان بل هو الذي سيطر عليّ. ما معنى سيطرة الزمان؟ يعني إنه يفرض عليك أحداثا لا تهواها. ثم قال (المستسلم للدهر) فعرف نفسه في سبع عبارات كلها من هذا القبيل تتحدث عن الضعف والموت والفناء. ثم انتقل الامام إلى ذكر خصائص مستلم الكتاب الذي هو شاب مقتبل العمر. فقال (إلى المولود المؤمل ما لا يدرك) يعني أكتب رسالتي إلى هذا الشاب الذي لا يدرك مناه ولا يصل الى آماله في هذه الدنيا.
(غرض الاسقام) (السالك سبيل من قد هلك) يعني قد استهدفته الأمراض! (رهينة الأيام) أي مقيد بالأيام وأحداثها. - فلو كنا إلى جانب أمير المؤمنين (عليه السلام) ونرى ما يكتب لابنه الامام الحسن (عليه السلام) لطلبنا منه أن يخفف من لحنه السلبي في الرسالة ولرجونا منه أن يستخدم عبارات إيجابية! - (الساكن مساكن الموتى)، هذا هو الأسلوب الايجابي لأمير المؤمنين (عليه السلام)! يعني الساكن في بيوت الأموات. يعني كان يسكن مكانك في هذا البيت وفي هذا الحي إنسان آخر قد مات، فسكنت أنت مكانه!
إن كتاب الواحد والثلاثين في نهج البلاغة هو أول كتاب أخلاقي وتربوي وتعليمي كتب في صدر الاسلام وعلى يد الرجل الأول في العالم بعد خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله). إنه وثيقة علوية وليست رواية كباقي الروايات. إنه كتاب تعليمي وليس كتاب مطالعة. يشتمل على دورة في المعارف الدينية. ثم في هذه الرسالة يذكر أربع عشرة خصلة لابنه الشاب وأغلبها سلبية على حد قولنا. لقد صارح أمير المؤمنين (عليه السلام) ابنه بحقائق العالم وقواعده. فلا يتوهم أحد أن الإمام لم يكن يحب ابنه ولولا ذلك لعطف عليه وتحدث معه بغير هذه العبارات!
انظروا كيف يعبر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن حبه الشديد لولده حيث قال: (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ فِيمَا تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي وجُمُوحَ الدَّهْرِ عَلَيَّ وإِقْبَالُ الْآخِرَةِ إِلَيَّ مَا يَزَعْنِي عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ والْاهْتِمَامِ بِمَا وَرَائي غَيْرَ أَنَّهُ حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ النَّاسِ هَمْ نَفْسِي فَصَدَفْنِي رَأْيِي وصَرَفْنِي هَوَايَ وصَرَّحَ لِي مَحْضُ أَمْرِي فَأَقْضَى بِي إِلَى جِدَ لَا يَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ وَ صِدْقٍ لَا يَشُوبُهُ كَذِبٌ وَ وَجَدْتُكَ بَعْضِي بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي حَتَّى كَأَنَّ شَيْئًا لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي وَ كَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي) (نهج البلاغة، ك31)،
فتيقن اخي العزيز بانك لا تصل الى امانيك في هذه الدنيا بلا ريب، إذ قد صمم الله آمالك بالنحو الذي لا تقدر على إنجاز جميعها في الدنيا. ولا سبيل للتخلص من قاعدة الدنيا فقد خلقنا في كبد ولابد أن نتحمل بعض العناء والآلام.
وعندما تتقرب إلى بعض آمالك يبعدها الله عنك. فأضف هذه المعلومة في هذه الليلة. إذن هناك تعارض وتضاد في داخلك بين الأهواء والرغبات يفرض عليك أن تجاهد نفسك، وفي نفس الوقت قد قدر الله مقدراتك في هذه الدنيا على أن لا تخلو حياتك من العناء والمحن.
ـ تعلم آداب تحمل العناء
إذن طأطئ رأسك لهذا القانون وتحمل العناء بلا اعتراض. وتعلم آداب جهاد النفس والعناء لتعاني معاناة جميلة وتصبر صبرا جميلا وترتقي وتتكامل. فلا وجود لحياة بلا عناء في هذه الدنيا ولا تبحث عنها، فمهما تخطط وتبرمج لإزالة المشاكل عن حياتك يخطط الله لإيقاعك في بعض المشاكل لتعاني في هذه الدنيا. رضوان الله تعالى على شهدائنا فقد رأيت أحدهم في الجبهة وقد أصيب بشضية وقطعت رجله فسقط على الأرض، فذهبت إليه وإذا رأيته يبتسم ويضحك وقال مبتسما ذهبت رجلي! أسال الله أن نحصل على هذه الروحية في مواجهة المشاكل.
ـ أفلا ينبغي أن ندبر حياتنا ونحاول لإزالة المشاكل والموانع في الحياة؟
أريد أن أجيب عن أحد أسئلتكم التي قد تبادرت إلى أذهانكم وسألها بعض الإخوة في الليالي الماضية. وهو أنه على أساس الأبحاث التي طرحناها إذن لا ينبغي أن نسعى لإزالة المشاكل بل ينبغي أن نستقبل الأزمات والمشاكل والمصائب؟! فهل واقعا لابد أن نعيش هكذا وهل هذا أمر معقول؟! لا عزيزي، من قال لك أن تعيش هكذا؟ سوف نقول في المستقبل أن لابد لنا من تلبية بعض غرائزنا وأميالنا ولابد أن نتمتع ببعض اللذائذ ولابد أن نصل إلى بعض آمالنا.
أما أنت الذي تقول: (إذن لنترك الدنيا وما فيها ولا نسعى لحل مشاكل الحياة ومصائبها) فهل تريد أن تسهل الأمر على نفسك؟! هل تريد أن تجلس أو ترقد في مكان ولا تسعى ولا تعمل ولا تكد ولا تبرمج وترفع جميع المسؤوليات عن نفسك؟! يجب عليك أن تسعى لحل مشاكل حياتك فلا تتخل عن مسؤوليتك. لعلك تقول: (هل يجب أن نحارب المصاعب والمشاكل ونتجه نحو الآمال ونبرمج ونخطط، وفي نفس الوقت تفشل بعض برامجنا ونقع في مشاكل، وفي نفس الوقت نبتسم ونرضا بقدر الله؟! فقد نجن أو نتهم بالجنون إن كنا هكذا!). نعم هذا هو الطريق ولعلك تتهم بالجنون إن سلكته فلا باس، فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف المتقين (ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ويقول قد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم) (نهج البلاغة، خ 193).
يقول أحد الروات زرت الامام الصادق (عليه السلام) لأعود أحد أولاده، فرأيت الإمام (عليه السلام) مهتما حزينا غير مستقر بسبب مرض ولده. بعد فترة جاء من جنب ولده ولم يكن أثر ذلك الهم والحزن على وجهه، فاستغربت وسألته عن السبب، فقال الإمام (عليه السلام): (إنّا أهل البيت إنما نجزع قبل المصيبة، فإذا وقع أمر الله رضينا بقضائه وسلمنا لأمره) (الكافي، ج 3، ص 225) إذن ليس معنى هذا الكلام أن لا يسعى الانسان لمعالجة مشاكله ولنيل آماله. برمج لحياتك وخطط لحل المشاكل ولكن الله سوف يبطل بعض مخططاتك. إذ إن لم تبرمج لحياتك ولم تعزم على حل مشاكلك فكيف يعرقل الله بعض أعمالك وشؤونك. إذن برمج وخطط واسعَ لحل مشاكل حياتك لكي تتوفر الفرصة لربك أن يلعب بأعصابك ويفشل بعض مخططاتك.
هل ينبغي أن نغض الطرف عن اللذات تماما؟ كلا، أبدا! لا يحق لك أن تترك اللذات برمتها: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، لعلك تقول: إن ذهبت لأتمتع بمتاع الدنيا ولذاتها، أولاً سوف يفشل الله محاولتي بين حين وآخر، كما سوف لا أحصل عليها بين حين وأخر، فما الفائدة من هذه المحاولة؟ الفائدة هي أنك سوف تحصل على بعض اللذائذ الحلال في الدنيا، ثانيا محاولاتك هي التي تهيء الفرصة لإفشالها من قبل الله.
لقد أجبتكم أيها الإخوة بمنتهى الصراحة. إنه موضوع بسيط وواضح جدا. لعلك تقول لي: أما قلت يا شيخنا بأن لابد أن نستقبل بعض الابتلاءات والمحن؟! نعم، إنه كذلك. ينبغي لك أن تختار بعض المحن وتجرها إلى نفسك وحياتك، وهنا مصائب وآلام أخرى ينبغي لك أن تفر منها، ولكنك ستصاب أكيدا ببعض المحن التي فررت منها. فان أصبت بشيء منها، لا تنفعل ولتظهر على ملامحك ابتسامة الرضا بقدر الله. وما أصعبها من ابتسامة بعد ما خطط الإنسان وبرمج وأعد حساباته.
ـ واحدة من أهم علامات اتباع هوى النفس والانانية
أيها الإخوة! هل تعرفون إحدى علامات اتباع الهوى والانانية؟! هي أن تصعب حياة الإنسان، فيصعبها أكثر بلجاجته. لماذا جعل الله جزاء من قتل نفسه نار جهنم خالدا فيها؟ لأنه لم يتحمل معاناته في الحياة، ولإنه لم يستطع على إصلاح مشاكله، فاخذ يقضي على حياته.
لا تنس أخي العزيز! كلما رسمت في حياتك رسما، وحدث خطأ في رسمك، فلا تمزق الورقة واللوحة كلها. لماذا لا تسمح لله أن يزعجك في جانب من جوانب حياتك؟ فابتسم لما يفعل الله في حياتك وارض بقدره. ليكن بعلمكم إخوتي الاعزاء باني أعطيكم الآن أحد أروع الوصايا العرفانية! فلا تنظروا إلى حالي الخرِب.
أحد علامات الانانية واتباع الهوى هو اللجاجة مع الله؟ عندما تغضب من مشكلة حصلت في حياتك وتخرج من طورك وتخرب الأول والتالي، فهذا يعني أنك ما عرفت قواعد اللعب في الدنيا.
اسمحوا لي أن أنقل لكم هذه الرواية بمناسبة هذا الكلام. روي عن الامام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: خرج رسول (صلى الله عليه وآله) يوم النحر إلى ظهر المدينة على جمل عاري الجسم فمر بالنساء فوقف عليهن ثم قال يا معاشر النساء تصدقن وأطعن أزواجكن فإن أكثركن في النار فلما سمعن ذلك بكين ثم قامت إليه امرأة منهن فقالت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في النار مع الكفار والله ما نحن بكفار فنكون من أهل النار. فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) (إنكن كافرات بحق أزواجكن) (الكافي، ج 5، ص 514) ولعله يعني أنهن إذا رأين عيبا في أزواجهن أو انزعجوا منه بسبب ما، ينكرن فضله كله ويبالغن في الاعتراض والاحتجاج ويكفرن بحقّه.
اللهم ارزقنا الشعور بالسعادة في حياتنا. ولكن لا تنسوا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]، اللهم اجعلنا فرحين مسرورين. ولكن {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6] اللهم اجعلنا باسمين بشوشين مع العلم بما جاء في كتاب أمير المؤمنين: (إلى المولود المؤمل ما لا يدرك) ومع علمنا بكلمة أمير المؤمنين (عليه السلام): (عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم). إلهي اجعلنا مسرورين مبتهجين متفائلين أثناء ما تفسخ عزائمنا وتمنعنا من نيل آمالنا وتخرب مخططاتنا.
إن آخر العرفان هو عشق العارفين لله واستغفارهم في الأسحار وبكاؤهم شوقا إلى الله. فما أردت أن نستمع إلى قصص العارفين وحالاتهم ونستأنس بها بلا أن نفهم منها شيئاً. فلنعرف طريقهم الذي سلكوه إلى أن وصلوا إلى تلك المقامات. فإن العارفين قد سلكوا هذا الطريق المليء بالابتلاءات والمحن، وقد هيأ الله لنا نفس هذا الطريق.
أول ما يفرضه الله عليك هو أن تتخلى عن رغباتك وأهوائك. ثم يصل إلى نفسك، ولابد حينئذ أن تذبح نفسك. إن تكليفك في أول المطاف هو أن تذبح اسماعيل نفسك. ولكن لا يبقى الأمر بهذا المنوال، إذ سوف تصل النوبة إليك فيجب حينئذ أن تضحي بنفسك وتقدم نفسك قربانا إلى الله.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|