أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-05-21
1233
التاريخ: 17-10-2014
1497
التاريخ: 17-10-2014
1158
التاريخ: 17-10-2014
1200
|
المقدّمة :
لقد كان موضوع المكّي والمدني من جملة الموضوعات القرآنية التي أُثيرت حولها الشُبهة والجدل ، وتنطلق الشُبهة هنا من أساسٍ هو :
إنّ الفروق والميزات التي تُلاحظ بين القِسم المكّي من القرآن الكريم والقِسم المدني منه ، تدعو في نظر بض المستشرقين إلى الاعتقاد بأنّ القرآن قد خضع لظروف بشريّة مختلفة ـ اجتماعية وشخصية ـ تركت آثارها على أُسلوب القرآن وطريقة عرضه ، وعلى مادّته والموضوعات التي عنى بها.
ويجدر بنا قبل أن ندخل في الحديث عن الشُبهات ومناقشتها أنْ نلاحظ الأمرين التاليين ، لما لهما من تأثير في فهم البحث ومعرفة نتائجه :
الأوّل :
إنّه لا بُدّ لنا أن نفرِّق منذ البدء بين فكرة تأثّر القرآن الكريم ، وانفعاله بالظروف الموضوعيّة من البيئة وغيرها ، بمعنى انطباعه بها ، وبين فكرة مراعاة القرآن لهذه الظروف ، بقصد تأثيره فيها وتطويرها لصالح الدعوة.
فإنّ الفكرة الأُولى تعني في الحقيقة : بشريّة القرآن ، حيث تفرض القرآن في مستوى الواقع المعاش ، وجزءاً من البيئة الاجتماعية ، يتأثّر بها كما يؤثِّر فيها ، بخلاف الفكرة الثانية ، فإنّها لا تعني شيئاً من ذلك ، لأنّ طبيعة الموقف القرآني الذي يستهدف التغيير ، وطبيعة الأهداف والغايات التي يرمي القرآن إلى تحقيقها قد تفرض هذه المراعاة ، حيث تحدِّد الغاية والهدف طبيعة الأسلوب الذي يجب سلوكه للوصول إليها.
فهناك فرق بين أنْ تفرض الظروف والواقع أنفسهما على الرسالة ، وبين أن تفرض الأهداف والغايات التي ترمي الرسالة إلى تحقيقها من خلال الواقع أسلوباً ومنهجاً للرسالة؛ لأنّ الهدف والغاية ليسا شيئين منفصلين عن الرسالة ليكون تأثيرهما عليها تأثيراً مفروضاً من الخارج.
فنحن في الوقت الذي نرفض فيه الفكرة الأولى بالنسبة إلى القرآن ، نجد أنفسنا لا تأبى التمسُّك بالفكرة الثانية في تفسير الظواهر القرآنية المختلفة ، سواء ما يرتبط منها بالأسلوب القرآني ، أو الموضوع والمادة المعروضة فيه.
الثاني :
إنّ تفسير أصل وجود الظاهرة القرآنية لا بُدّ أن يُعتبر هو المصدر الأساس في جميع الأحكام التي تصدر على محتوى القرآن وأُسلوب العرض فيه؛ فقد تكون النقطة الواحدة في القرآن الكريم سبباً في إصدار حكمين مختلفين نتيجةً للاختلاف في تفسير أصل وجود القرآن ، وسوف نورد بعض الأمثلة لهذا الاختلاف في الحكم عندما نذكر أنّ من شروط المفسِّر للقرآن أن يكون ذا ذهنيةٍ إسلامية (1).
ومن أجل ذلك فنحن لا نسوِّغ لأنفسنا أن نقبل حكماً ما في تفسير نقطةٍ حول القرآن الكريم ، لمجرّد انسجام هذا الحكم مع تلك النقطة ، بل لا بُدّ لنا أن ننظر أيضاً ـ بشكلٍ مسبق ـ إلى مدى انسجام الحكم مع التفسير الصحيح لوجود الظاهرة القرآنية نفسها.
إنّ الظاهرة القرآنية ـ كما سنشرحها في البحوث القادمة ـ ليست نتاجاً شخصياً لمحمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) ومن ثمَّ ليست نتاجاً بشريّاً مطلقاً ، وإنّما هي نتاجٌ إلهيّ مرتبط بالسماء ، وعلى هذا الأساس يمكننا أن نجزم بشكل مسبق ببطلان جميع الشُبهات التي تُثار حول المكّي والمدني؛ لأنّها في الحقيقة تفسيرات لظاهرة الفرق بين المكّي والمدني على أساس أنّ القرآن الكريم نتاج بشري.
وبالأحرى يجب أن يقال :
إنّ شُبهات المكّي والمدني ترتبط في الحقيقة بالشُبهات التي أُثيرت حول الوحي ارتباطاً موضوعيّاً؛ لأنّها ترتبط بفكرة إنكار الوحي ، ولكن مع ذلك ـ من أجل توضيح الحقيقة ـ قد نحتاج إلى مناقشة تفصيليّة للشُبهات التي أُثيرت حول الوحي بشكلٍ عام ، وحول المكّي والمدني بشكلٍ خاص؛ لإبراز نقاط الإثارة والتلاعب التي ذكرها المستشرقون ، وبيان انسجام الظواهر القرآنية المختلفة مع ظاهرة الوحي الإلهي ، ولذا فسوف نناقش هذه الشبهات بعد التحدّث عنها لإيضاح بطلانها من ناحية ، وتقديم التفسير الصحيح للفرق بين المكّي والمدني ـ بعد ذلك ـ من ناحيةٍ ثانية.
وللشُبهة حول المكّي والمدني جانبان :
جانب يرتبط بالأُسلوب القرآني فيها ، وجانب آخر يرتبط بالمادّة والموضوعات التي عرض القرآن لها في هذين القسمين. وفي كلٍّ من القسمين تُصاغ الشُبهة على عدّة أشكال ، نذكر منها صياغتين لكلِّ واحدٍ من القسمين :
أ ـ أُسلوب القِسم المكّي يمتاز بالشدّة والعنف والسباب :
فقد قالوا :
إنّ أُسلوب القِسم المكّي من القرآن يمتاز عن القِسم المدني بطابع الشدّة والعنف ، بل وبالسباب أيضاً؛ وهذا يدل على تأثُّر محمّد بالبيئة في مكّة التي كان يعيش فيها؛ لأنّها مطبوعةٌ بالغِلظة والجهل ، ولذا يزول هذا الطابع عن القرآن الكريم عندما ينتقل محمّد إلى مجتمع المدينة الذي تأثَّر فيه ـ بشكلٍ أو بآخر ـ بحضارة أهل الكتاب وأساليبهم.
وتستشهد الشُبهة بعد ذلك لهذه الملاحظة بالسور والآيات المكّيّة المطبوعة بطابع الوعيد والتهديد والتّعنيف ، أمثال : سورة (المسد) وسورة (العصر) وسورة (التكاثر) وسورة (الفجر) وغير ذلك.
ويمكن أن نناقش هذه الشبهة بما يلي :
أوّلاً :
بعدم اختصاص القِسم المكّي من القرآن الكريم بطابع الوعيد والإنذار دون القِسم المدني ، بل يشترك المكّي والمدني بذلك ، كما أنّ القسم المدني لا يختص أيضاً ـ كما قد يُفهم من الشُبهة ـ بالأسلوب اللّين الهادئ الذي يفيض سماحةً وعفواً ، بل نجد ذلك في المكّي ، والشواهد القرآنية على ذلك كثيرة.
فمن القِسم المدني الذي اتسم بالشدّة والعنف قوله تعالى :
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة : 24].
وقوله تعالى :
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة : 275]
و { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة : 278 ، 279].
وقوله تعالى :
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران : 10 - 12].
إلى غير ذلك من الآيات التي سوف نشير إلى بعضها قريباً.
كما نجد في القسم المكّي لِيناً وسماحةً ، نحو قوله تعالى :
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت : 33 - 35].
وقوله تعالى :
{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [الشورى : 36 - 43].
وقوله تعالى :
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر : 87 ، 88].
وقوله تعالى :
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر : 53].
وثانياً :
إنّه ليس في القرآن الكريم سبابٌ وشتمٌ ، كيف وقد نهى القرآن نفسُه في القِسم المكّي عن السب والشتم ، حيث قال تعالى :
{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام : 108].
وليس في سورة (المسد) أو (التكاثر) سبٌ أو بذاءة ـ كما يحاول المستشرقون أن يقولوا ذلك ـ وإنّما فيهما تحذير ووعيد بالمصير الذي ينتهي إليه أبو لهب والكافرون بالله.
نعم ، يوجد في القرآن الكريم تقريع وتأنيب عنيف ، وهو موجود في المدني كما هو في المكّي ـ وإن كان يكثر وجوده في المكّي ـ بالنظر لمراعاة ظروف الاضطهاد والقسوة التي كانت تمرُّ بها الدعوة ، الأمر الذي اقتضى أن يواجه القرآن ذلك بالعنف والتقريع ـ أحياناً ـ لتقوية معنويّات المسلمين من جانب ، وتحطيم معنويّات الكافرين من جانبٍ آخر ، كما سوف نشير إليه قريباً.
ومن هذا التقريع في السور المدنيّة قوله تعالى :
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ* وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ... صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}[البقرة : 6-18].
وقوله تعالى :
{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة : 61]
وقوله :
{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة : 90].
وقوله تعالى :
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة : 159].
وقوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران : 55 ، 56].
وقوله تعالى :
{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة : 60].
وقوله تعالى :
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة : 64].
ب ـ أُسلوب القِسم المكّي يمتاز بقِصَر السور والآيات :
وقالوا أيضاً :
إنّ من الملاحَظ قِصَر السور والآيات في القِسم المكّي على عكس القِسم المدني الذي جاء بشيءٍ من التفصيل والإسهاب؛ فنحن نجد أنّ السور المكّيّة جاءت قصيرةً ومعروضةً بشكلٍ موجَز ، في الوقت الذي نجد في القِسم المدني سورة البقرة وآل عمران والنساء وغيرها من السور الطوال.
وهذا يدل على انقطاع الصلة بين القِسم المكّي والقِسم المدني ، وتأثّرهما بالبيئة التي كان يعيشها محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) ، فإنّ مجتمع مكّة لمّا كان مجتمعاً أُمّيّاً لم يكن النبي بقدرته التبسُّط في شرح المفاهيم وتفصيلها ، وإنّما واتته القدرة على ذلك عندما أخذ يعيش مجتمع المثقّفين المتحضِّر في يثرب.
وتُناقش هذه الشُبهة بالأمرين التاليين :
الأوّل :
إنّ القِصَر والإيجاز ليسا مختصّين بالقسم المكّي ، بل توجد في القِسم المدني سور قصيرة أيضاً : كالنصر والزلزلة والبيّنة وغيرها ، كما أنّ الطول والتفصيل ليسا مختصّين بالقِسم المدني ، بل توجد في المكّي أيضاً سور طويلة : كالأنعام والأعراف.
وقد يُقصد من اختصاص المكّي بالقِصَر والإيجاز : أنّ هذا الشيء هو الغالب الشائع فيه.
وقد يكون هذا صحيحاً ، ولكنّه لا يدل بوجهٍ من الوجوه على انقطاع الصلة بين القسمين المذكورين من القرآن الكريم؛ لأنّه يكفي في تحقيق هذه الصلة أن يأتي القرآن الكريم ببعض السور الطويلة المفصِّلة في القِسم المكّي ، كدليلٍ على القدرة والتمكُّن من الارتفاع إلى مستوى التفصيل في المفاهيم والموضوعات.
إضافةً إلى أنّ من الملاحَظ وجود آياتٍ مكيّة قد أُثبتت في السور المدنيّة والعكس يصح أيضاً ، وفي كلا الحالتين نجد التلاحم والانسجام في السورة ، وكأنّها نزلت مرةً واحدة ، الأمر الذي يدل بوضوحٍ على وجود الصلة التامّة بين القسمين.
الثاني :
إنّ الدراسات اللُّغوية التي قام بها العلماء المسلمون وغيرهم دلّت على أنّ الإيجاز يُعتبر مظهراً من مظاهر القدرة الخارقة على التعبير ، وهو من ثمَّ من مظاهر الإعجاز القرآني ، وليس نقصاً أو عيباً في القسم المكّي؛ خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ القرآن قد تحدّى العرب بأن يأتوا بسورةٍ من مثله ، حيث يكون التحدّي بالسورة القصيرة أروع وأبلغ منه حين يكون بسورةٍ مفصّلة.
ج ـ لم يتناول القِسم المكّي في مادّته التشريع والأحكام :
وقالوا :
إنّ القِسم المكّي لم يتناول ـ فيما تناول من موضوعات ـ جانب التشريع من أحكام وأنظمة ، بينما تناول القِسم المدني هذا الجانب من التفصيل.
وهذا يعبِّر عن جانبٍ آخر من التأثُّر بالبيئة والظروف الاجتماعية ، حيث لم يكن مجتمع مكّة مجتمعاً متحضِّراً ، ولم يكن قد انفتح على معارف أهل الكتاب وتشريعاتهم ، على خلاف مجتمع المدينة ، الذي تأثَّر إلى حدٍّ بعيد بالثقافة والمعرفة للأديان السماوية كاليهودية والنصرانية.
وتُناقش هذه الشُبهة بالأمرين التاليين أيضاً :
أوّلاً :
إنّ القِسم المكّي لم يهمل جانب التشريع ، وإنّما تناول أُصوله العامّة وجملة مقاصد الدين ، كما جاء في قوله تعالى :
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ...} [الأنعام : 151-152].
كما طُرحت من خلاله مجمل النظريّات والتصوّرات القرآنية حول الكون والحياة والمجتمع والإنسان...
إضافةً إلى أنّنا نجد في القسم المكّي ، وفي سورة الأنعام (2) بالخصوص ، مناقشةً لكثيرٍ من تشريعات أهل الكتاب والتزاماتهم ، وهذا يدل على معرفة القرآن الكريم بهذه التشريعات وغيرها مسبقاً.
وثانياً :
إنّ هذه الظاهرة يمكن أن نطرح في تفسيرها نظريّةً أُخرى ، تنسجم مع الأساس الموضوعي لوجود الظاهرة القرآنية نفسها ، وهذه النظريّة هي أن يقال :
إنّ الحديث عن تفاصيل التشريع في مكّة كان شيئاً سابقاً لأوانه ، حيث لم يستلم الإسلام حينذاك زمام الحكم بعد ، بينما الأمر في المدينة على العكس ، فلم يتناول القسم المكّي تفاصيل التشريع؛ لأنّ ذلك لا يتفق مع المرحلة التي تمرُّ بها الدعوة ، وإنّما تناول الجوانب الأُخرى التي تنسجم مع الموقف العام ، كما سوف نشرح ذلك قريباً.
د ـ لم يتناول القِسم المكّي في مادّته الأدلّة والبراهين :
وقالوا : إنّ القسم المكّي لم يتناول أيضاً الأدلّة والبراهين على العقيدة وأُصولها ، على خلاف القسم المدني؛ وهذا تعبير آخر أيضاً عن تأثُّر القرآن بالظروف الاجتماعية والبيئيّة ، إذ عجزت الظاهرة القرآنية ـ بنظر هؤلاء ـ عن تناول هذا الجانب الذي يدل على عمق النظر في الحقائق الكونيّة ، عندما كان يعيش محمّدٌ (صلّى الله عليه وآله) في مكّة مجتمع الأُمّيّين ، بينما ارتفع مستوى القرآن في هذا الجانب عندما أخذ محمّدٌ (صلّى الله عليه وآله) يعيش إلى جانب أهل الكتاب في المدينة ، وذلك نتيجةً لتأثُّره بهم؛ لأنّهم أصحاب فكرٍ وفلسفةٍ ومعرفة بالديانات السماوية ، ولتطوّر الظاهرة القرآنية نفسها أيضاً.
وتُناقش هذه الشبهة من وجهين :
الأوّل :
أنّ القسم المكّي لم يخلُ من الأدلّة والبراهين بل تناولها في كثيرٍ من سوره ، والشواهد القرآنية على ذلك كثيرة وفي مجالات شتّى ، فمن نماذج وموارد الاستدلال على التوحيد قوله تعالى :
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ* وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ* وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ* وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[ الأنعام : 74 ـ 83].
وقوله تعالى :
{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون : 91].
وقول تعالى :
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء : 22 - 24].
وبصدد الاستدلال على نبوّة محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) وارتباط ما جاء به بالسماء :
{ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت : 48 - 51].
وبصدد الاستدلال على البعث والجزاء قوله تعالى :
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيد* رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ... أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}[ ق : 9 ـ 15].
وقوله تعالى :
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون : 115].
وقوله تعالى :
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الجاثية : 21 ، 22].
وهكذا تتناول الأدلّة جوانب أُخرى من العقيدة الإسلامية والمفاهيم العامّة ، بل إنّ القرآن الكريم تناول أكثر قصص الأنبياء والمناقشات والأدلّة التي دارت بينهم وبين أقوامهم في القسم المكّي من القرآن على ما سوف نعرف.
الثاني :
أنّه لو تنازلنا عن ذلك فمن الممكن تفسير هذا الفرق على أساس مراعاة طبيعة موقف المواجهة من الدعوة ، حيث كانت تواجه الدعوة في مكّة مشركي العرب وعَبَدة الأصنام ، والأدلّة التي كان يواجه القرآن بها هؤلاء أدلّة وجدانيّة ، من الممكن أن تستوعبها مداركهم ويقتضيها وضوح بطلان العقيدة الوثنيّة ، والقرآن ـ كما عرفنا ـ إنّما هو كتاب هداية وتغيير وتزكية ، وليس كتاباً
علميّاً ، فهو كان يواكب تطوّر الدعوة الإسلامية ومسيرتها في آياته ونزوله؛ وحين اختلفت طبيعة الموقف ، وأصبحت الأفكار المواجهة تمتاز بكثيرٍ من التعقيد والتزييف والانحراف ـ كما هو الحال في عقائد أهل الكتاب ـ اقتضى الموقف مواجهتها ، بأُسلوبٍ آخر من البرهان والدليل أكثر تعقيداً وتفصيلاً (3) .
___________________
(1) راجع بحث شروط المفسِّر.
(2) الآيات : 119 ـ 121 و 138 ـ 146.
(3) للمزيد من التفصيل في عَرْض الشبهات ومناقشتها ، راجع ما ذكره الزرقاني في (مناهل العرفان) 1 : 199.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|