أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-8-2016
1433
التاريخ: 2023-07-08
1127
التاريخ: 2023-08-06
1216
التاريخ: 2023-07-13
1116
|
اختلفت آراء العلماء في وجه اعتبار أقوال علماء الرجال في بيان المدح والذمّ، وتعيين الأسماء والكني وتحديد الطّبقات وغيرها، ممّا يرجع إلى أحوال رواة الرّوايات. والمذاهب وهنا ما يلي:
1. من جهة الشّهادة.
2. من جهة الخبرويّة.
3. من جهة الفتوى.
4. من جهة مطلق الظّن.
5. من جهة إحراز الخبر الموثوق به.
6. من جهة الاطمئنان.
7. من جهة مطلق النبأ.
ونعني بهذه الفقرة الأخيرة: الإخبار عن حس في الأحكام الكليّة والموضوعات.
فعن المشهور أنّها من باب مطلق النّبأ والخبر (1) فيعتبر فيهم ما يعتبر في الرّاوي.
وعن الشّهيد الثّاني وصاحبي المعالم والمدارك وغيرهم ممّن قال بالصّحيح الأعلى إنّها من باب الشّهادة، فيعتبر فيه: العدالة والتّعدد (2)، واللّفظ والحياة، وسائر شروط الشّاهد. وهذا هو المنسوب إلى المحقّق الحلّي وجماعة من الأصوليّين.
وفي رسالة الشّيخ الأنصاري في العدالة، المطبوعة مع المكاسب (3): مع ذهاب أكثرهم إلى أنّ التعديلات من باب الشّهادة، والله العالم.
وعن صاحب الفصول: أنّه من باب الفتوى والظّنون الاجتهاديّة المعتبرة بعد انسداد باب العلم وما هو بمنزلته، فيعتبر فيهم شروط المفتي. وعن بعضهم وإن لم يعلم قائله ـ إنّه من باب قول أهل الخبرة ـ فلا بدّ من إحراز كون الرّجاليّ من أهل خبرة.
وذهب الفاضل المامقاني في تنقيح المقال (4): إنّها نوع تثبت وتبيّن مورث للاطمئنان الّذي هو المدار والمرجع في تحصيل الأحكام الشّرعيّة من باب بناء العقلاء على الاعتماد عليه، وإن كان يظهر منه أخيرا أنّه من باب قول أهل الخبرة.
وقال: وأوضح شاهد على عدم كون الرّجوع إلى إخبارات أهل الرّجال من باب الشّهادة والفتوى اعتمادهم في جملة من أحوال الرجال على من لا يعتمد على فتواه ولا شهادته كبني فضّال الممنوع من قبول آرائهم؛ لفقد بعض شروط المفتي، وهو كونه إماميّا فيهم والمجوز فيهم للأخذ بما رووا.
وحيث إنّه قد أخذ في الخبر الابتناء على الحسّ المحض، وإخبار أهل الرّجال إخبار بأمر غير حسّي ضرورة عدم تعقل محسوسيّة العدالة تعيّن كون قبول إخباراتهم من باب الأخذ بقول أهل الخبرة المأخوذ في اعتباره الوثوق، ولا يضرّ عدم قائل به بعد قضاء الدّليل به، فتدبّر جيّدا (5).
أقول: الصّحيح ما نسب إلى المشهور، فهنا مقامان:
الأوّل: في إبطال سائر الأقوال.
الثّاني: في صحّة القول المختار.
أمّا المقام الأوّل، فنقول: أمّا الرّأي الأخير من أنّ اعتبار أقوال علماء الرجال من جهة إيراثها الاطمئنان، ففيه إشكال من جهتين:
الأوّل: إنّ الاطمئنان وإن كان كالقطع في الحجيّة، فإنّه طريق عقلائي في كافّة جهاتهم، حتّى في أمثال النفوس والفروج، والأموال الخطيرة. ومن الظّاهر اتّصال هذا البناء بزمان صاحب الشّريعة (صلى الله عليه وآله)، بل بزمان من قبله، بل لا يبعد تحقّقه في زمان آدم (عليه السلام) وشارع الإسلام (عليه السلام) لم ينه عن هذا البناء ولو برواية ضعيفة سندا، فهو عنده أيضا معتبر.
ودعوى ردعه بالآيات والرّوايات النّاهية عن اتّباع غير العلم، والعمل بالظّن ضعيفة جدّا، فإنّ الاطمئنان عند العرف علم ومبائن للظنّ، وإن كان بالنّظر العقلي نوعا منه، وعلى كلّ حال فمناقشة جملة من الأكابر منهم سيّدنا الأستاذ الحكيم
في حجيّة الاطمئنان في غير محلّه، بل خلاف عملهم اليومي. بل في مستمسكه (6) ما يدلّ على موافقته للمختار ورجوعه عمّا ذكره في عدم حجيّة الاطمئنان.
إذا: فلا شكّ في أنّ الاطمئنان طريق عقلائيّ شرعيّ في إثبات الأحكام الشّرعيّة، لكن ليس معنى ذلك هو أنّ الأحكام الشّرعيّة والموضوعات المستنبطة والموضوعات الخارجيّة الصّرفة، الّتي تترتّب عليها الأحكام الجزئيّة أو الكليّة لا يثبت شيء منها، إلّا بالاطمئنان، كما يظهر من كلام المامقاني، فإنّه كلام بلا دليل، بل هو مقطوع البطلان عند الفقيه.
نعم، لا شكّ في أنّ حجيّة الأمارات والأصول والطّرق تنتهي بالأخرة إلى القطع أو الاطمئنان، دفعا للدور والتّسلسل، لكن الأحكام ومبانيها منها ما هو مظنون الثبوت، ومنها: ما هو معلوم الثبوت. ومنها: ـ وهو الأكثر ـ ما هو ثابت تعبّدا، بل ربّما يكون مرجوح الثبوت، كما في بعض ما يستصحب.
الثّاني: إنّ قول الرجاليّين بالمدح أو الذّم لا يفيد الاطمئنان الفعليّ، كما يظهر لمن راجع أقوالهم، ولا سيّما مع بعد الزّمان بينهم وبين الرّواة. فقد تأخّر زمان الكشّي والنجّاشي والشّيخ وأضرابهم، من أقطاب الجرح والتعديل أكثر من قرنين عن زمان جملة من الرّواة، فكيف يحصل الاطمئنان بأقوالهم؟
وبالجملة: دعوى الاطمئنان الشّخصي خلاف الوجدان، إلّا لمن كان اعتقاده في حقّ هؤلاء الأعاظم مفرطا، كما رأينا بعض المجتهدين (7) فهو يدّعي القطع بوثاقة من وثقه الشّيخ الطّوسي، ولكنّه من النّوادر. وكأنّ الفاضل المامقاني أيضا عدل عن قوله هذا في أثناء كتابه، فيدّعي كثيرا أنّ الظّنون الرّجاليّة حجّة، ولا يدّعي الاطمئنان، ولكن الظّنون الرّجاليّة كغيرها داخلة تحت عموم المنع من غير مخصّص، والإجماع المدّعى على حجيّته ضعيف جدّا.
فالصّحيح: أنّ حصول الاطمئنان الفعلي في حجيّة قول الرّجالي غير لازم، ولا حاصل غالبا والظّن ـ إن حصل ـ غير حجّة وما تخيّله من تشكيل مقدّمات الانسداد في علم الرجال وأحوال الرّواة، فاستنتج منها حجيّة الظّن، ضعيف، كما تعرف من بيان القول المختار. وعلى تقدير سلامتها لا تنتج شيئا لما تقرّر في أصول الفقه من أنّ المناط في حجيّة الظّن هو جريان مقدّمات الانسداد في علم الفقه، فيعمل بالظّن حينئذ في علم الرجال وغيره، من مقدّمات الفقه. ولو كان باب العلم مفتوحا فيها غالبا، وإلّا فلا عبرة بالظّن الرّجالي واللّغوي وغيرهما، بل يرجع إلى الأصول المقرّرة للشّاك في مرحلة العمل، على أنّ نتيجة مقدّمات الانسداد هو التبعيض في الاحتياط كما أوضحه الشّيخ الأنصاري رحمه الله.
وأمّا القول بحجيّة أخبار أهل الرّجال من باب الشّهادة، فضعيف جدّا؛ لعدم وجود شرائط الشّهود في المعدلين والجارحين، ولو قيل: باعتبارها فيهم لبطل أكثر علم الرّجال أو كلّه. وبالجملة: الإجماع على اعتبار إيمان الشّاهد في الشّهادة، والاتّفاق على قبول قول عدّة من غير المؤمنين في علم الرجال يوجب الاتّفاق على عدم دخول التّعديل والجرح في الشّهادة فافهم (8).
واستدلّ للقول المزبور ـ كما في الفصول (9) ـ بقيام الإجماع على ثبوت العدالة بتعديل العدلين، وانتفاء الدليل فيما عداه فيقتصر عليه، ويرجع في غيره إلى الأصل. ويظهر ضعفه ممّا سيجيئ في القول المختار. وزاد عليه في المعالم بأن تزكية الرّاوي شهادة ومن شأنها اعتبار العدد فيها، لكنّه غير بيّن ولا مبين (10) أو معلوم العدم.
وإن شئت، فقل: إنّ الشّهادة فرد من الإخبار المطلق، إلّا أنّه قد أخذ في خصوصها إنشاء الإخبار بين يدي القاضي عند التّخاصم والتّنازع.
فإذا قال أحد: رأيت اليوم زيدا يقتل أو يزني أو يقول كذا وكذا، كان إخبارا جزما، ولكن إذا قاله عند القاضي عند تنازع المتنازعين فهو شهادة، واعتبار التّعدد في الشّهادة إنّما هو بدليل خاصّ.
ولو قيل: إنّ كلّ خبر شهادة، قلنا: لا يعتبر فيها التّعدد إلّا في المرافعات عند الحاكم خاصّة.
وأمّا دخولها في الفتوى فليكن مفروغ البطلان، فإنّ حجّية الفتوى مشروطة بأمور غير ممكنة أو غير موجودة في علم الرجال، فمنها الحياة، حيث اتّفقوا ـ سوى جمع شاذ ـ على أنّ تقليد الميت ابتداء غير جائز، مع أنّه لا إشكال في حجيّة أقوال علماء الرّجال في حقّنا، وإن كانوا أمواتا، ومنها الاجتهاد المطلق بداهة عدم جواز تقليد غير المجتهد، مع أنّه غير ثابت أو ثابت عدمه في حقّ كثير من المعدلين والجارحين، حتّى أنّ اجتهاد مثل: الكشّي والنجّاشي غير ثابت وهما من أركان هذا العلم وأقطابه، بل بهما أساسه وقوامه، والمتّيقّن تحقّق هذا الشّرط في الشّيخ الطّوسي والعلّامة وأضرابهما، على أنّ التزكية فضلا عن التّحسين ليست من الأمور الحدسيّة الاجتهاديّة كما ستعرف. ومضافا إلى أنّ مورد الاجتهاد هو الأحكام الكليّة والموضوعات المستنبطة دون الموضوعات الخارجيّة الجزئيّة.
ونسبة الفاضل المامقاني هذا القول إلى المحقّق الجليل صاحب الفصول (رحمه الله) غير صحيحة. وإليك بعض عبارة الفصول:
فالمختار عندي جواز التعويل في تعديل الرّاوي أو إثبات تحرّزه عن الكذب على
قول العدل الواحد، بل على مطلق الظّن سواء استند إلى تزكية العدل أو إلى سائر الأمارات الاجتهاديّة.
لنا إنّه قد ثبت ممّا حقّقنا سابقا أنّ التّعويل في الأخبار الآحاد على الأخبار الموثوق بصدقها وصحّة صدورها، ولا ريب أنّ الظّن بعدالة الرّاوي وتحرّزه عن الكذب ممّا يفيد الوثوق بصدق الرّواية، فيجب التّعويل عليه.
وأيضا: لا خفاء في أنّ التّمييز بين الرّجال مع اشتراكهم بين الثّقة وغيره كثيرا ما يتعذر إلّا بأعمال الظّنون والأمارات كملاحظة الطبقة والبلد وكثرة المصاحبة والرواية، وما أشبه ذلك.
وقد جرت طريقتهم في ذلك على مراعاة هذه الظّنون، ولم نقف على من يصرّح باعتبار خصوص شهادة العدلين أو العدل الواحد في ذلك.
وصاحب المنتقي مع مصيره إلى أنّ تزكية الرّاوي من باب الشّهادة وأنّه يعتبر فيها التعدّد، قد عوّل في تمييز المشتركات على أمارات ضعيفة، كما لا يخفى ... انتهى.
أقول: وأكبر الظّن إنّ الفاضل المامقاني (رحمه الله) أخذ مختاره الأوّل من هذه العبارة (11)، ومع هذا نسب إلى صاحبها ما نسب، فلاحظ. وكيف ما كان، ليست في هذه العبارة عين ولا أثر من أنّ أقوال علماء الرجال يجب أخذها تقليدا عند العجز عن إحراز الوثاقة والضعف اجتهادا، بل لا أعلم لهذا القول قائلا لحدّ الآن.
ثمّ إنّ ما أفاده صاحب الفصول من الوجهين يرد على الأوّل منهما أن التعويل على الخبر الموثوق به ـ وإن كان مذهب جمع ـ غير إنّ الأظهر جواز التعويل على خبر الثّقة وخبر الموثق لبناء العقلاء عليه، وإن لم يكن نفس الخبر موثوقا به.
وأمّا ما أفاده من إفادة الظّن بعدالة الرّاوي وتحرّزه عن الكذب الوثوق بالخبر، فهو عجيب! فإنّ الظّن بالعدالة يفيد الظّن بالصّدق دون الوثوق والاطمئنان، وقد مرّ أنّ الظّنّ غير حجّة إلّا ما خرج بالدليل، وإن أراد بالظّن بالعدالة الوثوق، فهو ممنوع من أصله كما مرّ.
وأمّا الوجه الثّاني من عمل الأصحاب بالظّن، ففيه انّه إثبات حجيّة الظّنّ بالإجماع المنقول الظّني، وهو كما ترى، ونحن نقول إنّ حصل الاطمئنان أو الحجّة الشّرعيّة فهو، وإلّا فلا بدّ من التوقّف، نعم، ما أفاده من عدم الحاجة إلى تعدّد العدلين صحيح.
وأمّا القول الأخير ففيه: أنّ الرجوع إلى أهل الخبرة إنّما هو في أمور نظريّة موقوفة على نوع تمارس وإعمال نظر، وليس كلّ أحد يعرف ذلك والوثاقة ليست كذلك، بل هي أمر حسّي واضح يعرفه كلّ أحد وليس السلف به بأعلم من الخلف.
وبعبارة أخرى صدق الخبرويّة المصطلح يتوقّف على حصول العلم من المقدّمات الحدسيّة والبعيدة عن الاحساس والمقام ليس كذلك، فإنّ الوثاقة؛ إمّا حسّية؛ وأمّا قريبة من الحسّ، ولذا تعرف وثاقة الثّقة زوجته وكلّ من باشره من الصغار والنسوان، ولا يكونون أهل الخبرة عرفا.
ثمّ إنّ المتيّقن من الرجوع إلى أهل الخبرة إنّما هو فيما إذا كان يوجب الوثوق والاطمئنان، كما ذكره صاحب الكفاية وأشار إليه المامقاني سابقا، وهو في المقام غير حاصل، ولكنّه يندفع بأنّه إن أريد الوثوق الشّخصي فهو غير لازم وإن أريد النّوعي فهو حاصل إلّا في توثيقات المتأخّرين كالعلّامة وأمثاله لأصحاب الأئمّة عليهالسلام، فإنّه لا يحصل الوثوق النّوعي منها، فتأمّل.
وأمّا ما ذكره الفاضل المذكور من عدم كون العدالة حسّية فاستنتج منه دخول الإخبار بها في أخبار أهل الخبرة لا في مطلق الإخبار المأخوذ فيها الحسّ ففيه إيرادان:
الأوّل: عدم اعتبار العدالة في حجيّة الخبر حتّى على مبناه، بل المعتبر فيها هو التحرّز عن الكذب، فقط.
الثّاني: إنّ العدالة وإن لم تكن حسّية إلّا أنّها قريبة من الحسّ ببروز آثارها المحسوسة وحال هذه الحدسيّات غير المحسوسة القريبة من الحسّ حال الموضوعات الحسيّة في إثباتها بخبر الواحد ببناء العقلاء.
إذا عرفت هذا، فنقول في إثبات المختار وهو المقام الثّاني: إنّه لا شكّ في بناء العقلاء على قبول خبر الثّقة في أحكامهم الكليّة العرفيّة والموضوعات الخارجيّة، وفي جميع أمورهم حتّى الخطيرة والشّارع المقدّس لم يردع عنه فيكون ممضيّا معتبرا، بل وردت الإخبار الكثيرة بحجّيته في الأحكام الشّرعيّة الكليّة ووردت الإخبار المعتبرة بحجّيته في بعض الموضوعات الخارجيّة للأحكام الجزئية (12)، وفي بعضها الآخر مع اعتبار التعدّد.
وعلى هذا إذا كان الرّجالي ثقة أي صادقا مأمونا وجب قبول قوله في الجرح والتعديل وفي بيان الاسم والكنيّة والطبقة والقبيلة وغير ذلك ممّا يرجع إلى حالات الراوي.
هذا ولكن المنسوب إلى المشهور عدم حجيّة خبر العادل في الموضوعات الخارجيّة إلّا ما خرج بالدليل وذلك لأجل رواية مسعدة بن صدقة الرادعة عن العمل فيها إلّا بالعلم والبيّنة.
وهي ما رواه المشائخ الثّلاثة كلّهم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام): كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم انّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة والمملوك عندك لعلّه حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة (13).
فذيل الرّواية يجعل العلم والبيّنة غايتين فقط، فلا يكون خبر الثّقة حجّة في الموضوعات. لكن الرّواية لا تصلح للردع عن بناء العقلاء المذكور من وجوه:
أوّلا: من جهة جهالة مسعدة بن صدقة فإنّه لم يرد فيه مدح معتبر يوجب حسنه فضلا عن وثاقته (14) وما ذكره المجلسي الأوّل رحمه الله في وجه توثيقه اجتهاد منه وهو ضعيف ولذا ضعفه جمع منهم ابنه العلّامة المجلسي في الوجيزة كما قيل، فالرّواية ساقطة ولا نقول بانجبارها بالشّهرة إن ثبتت (15).
وثانيا: إنّه ليس للرواية ظهور قوي في الحصر، نعم، صريح الرّواية الاختصار على الأمرين المذكورين، لكن هذا لا ينافي حجيّة غيرهما بدليل آخر كالاستصحاب واليد والإقرار والحلف، فيكون خبر الثّقة أيضا حجّة بالسّيرة المذكورة، ولا معنى للردع أصلا.
وثالثا: إنّ الاستدلال بها موقوف على أنّ المراد من البيّنة، البيّنة الاصطلاحيّة، أعني بها تعدّد المخبرين، كما كان يصرّ عليه سيّدنا الأستاذ الحكيم قدس سره، حينما ذاكرت معه هذا الموضوع في بيته.
فلو قلنا بعدم حقيقة شرعيّة أو متشرعيّة في زمان الصّادق (عليه السلام) للفظة المذكورة وإنّها استعملت بمعناها اللغوي الأعمّ من معناها الاصطلاحي، لكانت الرّواية شاملة للخبر الواحد أيضا فإنّه بيّنة عرفيّة إذا كان مخبره ثقة. وعليه يكون خبر الثّقة ـ سواء كان عادلا شرعيّا أم لا ـ حجّة مطلقا في الأحكام والموضوعات الّتي منها أحوال الرّواة كالوثاقة والعدالة والضعف، وغيرها فإذا أخبر بها الثّقة لزم قبولها.
وهذا الاحتمال هو الأرجح لما قرّرناه في شرح كفاية الاصول من التفصيل بين الألفاظ المستعملة في لسان النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله) والأئمّة عليهم السلام بالنسبة إلى ثبوت الحقيقة الشّرعيّة والمتشرّعية، فتلاحظ في الحكم بثبوت الحقيقة المذكورة وعدمه لكلّ لفظ، كثرة استعماله وقلّته.
والظّاهر عدم إثبات استعمال لفظ: (بيّنة) في لسان النّبي الأكرم والأئمّة عليهم السلام في معناه المصطلح عليه اليوم بحدّ يوجب نقلها إليه، ولا أقل من الشّك والأصل عدمه، نعم، استعمل فيه من باب استعمال المطلق في أحد أفراده لا من باب استعمال اللفظ في معناه. فتأمّل (16).
ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك وفرضنا ردع الشّارع عنه في الموضوعات، لكان لنا أيضا القول بحجيّة قول الرّجالي من باب النبأ، وتوضيح ذلك:
إنّ الموضوعات على قسمين:
أحدهما: ما هو موضوع لحكم جزئي كحياة زيد، وموت عمرو وكرّيّة ماء، ونجاسة ثوب وطهارة ظرف، وملكيّة حائط، والطلوع، والغروب، وأمثال ذلك.
ثانيهما: ما هو موضوع أو جزء موضوع للأحكام الكليّة كوثاقة زيد أو ضعفه، فإنّه يترتّب عليه حكم كلّي نقله عن الإمام.
وكقول اللغوي: إنّ اللفظة الفلانيّة معناها كذا إذا وردت في خبر متضمّن لحكم كلّي.
وكقول الرّاوي: بعد قول الإمام: إنّه يجب في هذا اليوم كذا: وكان اليوم يوم الجمعة.
وكقوله: إنّ الإمام قال كذا وكذا، وكان السّائل رجلا أو امرأة، وإن الإمام صلّي في مكان وقال إنّ الصلاة فيها واجبة أو ذات ثواب، ثمّ يقول الرّاوي، وكان المكان مسجد الكوفة مثلا.
وأمثال ذلك فإنّه لا شكّ لأحد في اعتبار قول الرّاوي، وإن كان في موضوع خارجي.
فالقسم الأوّل: بناء على الرّدع ـ لا يثبت بخبر الثّقة وهو واضح.
وأمّا القسم الثّاني، فلا مانع من شمول أدلّة حجيّة الخبر في الأحكام لها، فإنّ الإخبار عنها إخبار عن الأحكام الكليّة الشّرعيّة حتّى بناء على الرّدع المذكور.
ومنه انقدح إثبات الاجتهاد، بل سائر شرائط المجتهد كالعدالة وغيرها بخبر الثّقة، فإنّها موضوعات للأحكام الكليّة الشّرعيّة للمقلّد، نعم، مقتضى القاعدة عدم جواز الاقتداء بمثل هذا المجتهد، فإنّ عدالته الثابتة بخبر الثّقة إنّما هي كافية للتقليد والعمل بفتاويه، لا للاقتداء به في الصّلاة. وقبول شهادته في المرافعات، مثلا فإنّهما من الأحكام الجزئيّة الّتي لا بدّ من إقامة البيّنة عليهما بناء على هذا القول، فكما يقبل قول الرّاوي، بعد نقل الحكم.
وقول الإمام: إنّ اليوم كان جمعة، مثلا أو كان السّائل رجلا وهكذا غيره ممّا يتغيّر الأحكام الكلّيّة به، كذا يقبل في كلّ موضوع خارجي يترتّب عليه حكم كلّي كالاجتهاد والوثاقة والضعف دون الأعلميّة فإنّها حدسيّة محضة.
فإنّ قلت: فعلى هذا يجب قبول قول اللغوي أيضا فإنّه يترتّب عليه حكم كلّي ولا فرق بين قوله وقول الرّجالي ونحوه.
قلت: نعم، نلتزم به إلّا أنّ يمنع منه بأنّ قول اللغوي حدسي غير حسّي كالأعلميّة، لكن أجاب عند سيّدنا الأستاذ الحكيم قدس سره في حقائق الاصول بأنّ الحدس القريب من الحسّ لا بأس بالاعتماد عليه؛ ولذا بنوا على قبول الخبر المنقول بالمعنى مع أنّه ممّا نحن فيه. انتهى. ويمكن الخدش في الاستشهاد المذكور بأنّ البناء المزبور لدليل خاصّ، لا لما ذكره كما لا يخفى (17).
والمتحصّل من ذلك كلّه: إنّ قول الرّجالي في تعديله وتوثيقه وجرحه حجّة إذا كان ثقة ولا يعتبر فيه التّعدد والعدالة، والإيمان بالمعنى الأخصّ وشروط المفتي، والشّاهد وأهل الخبرة.
ويمكن أن يجعل ارتكاز العقلاء على اعتبار خبر الثّقة بمنزلة المخصّص المتّصل اللفظي للعموميات الدّالة على عدم حجيّة الظّن في عدم انعقاد ظهورها بالنّسبة إلى خبر الثّقة؛ ولذا لم يتغير بناء المسلمين في أعمالهم ومعاملاتهم كسائر العقلاء في الاعتماد على خبر الثّقة بعد نزول الآيات المشار إليها والله الأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا ينافي ما نسب إليهم من عدم اعتبار خبر الواحد في الموضوعات. نعم نقل صاحب المعالم ـ انظر: المعالم: 204 ـ عن نهاية العلّامة أنّه نسب إثبات العدالة بقول عدل واحد إلى أكثر العلماء. وعن المحقّق الهمداني في مصباحه: وهل تثبت النجاسة بأخبار عدل واحد أم لا؟ قولان وحكى عن المشهور العدم، وحكي عن بعض القول بالثبوت انتهى.
وهذا الأخير هو الأقوى بل الأظهر عدم اشتراط العدالة المصطلح، وكفاية كون المخبر ثقة مأمونا محترزا عن الكذب.
(2) انظر: معالم الدين: 204. حيث يدّعي أنّ تزكية الرّاوي شهادة، ومن شأنها اعتبار العدد فيها.
وظاهر الشّهيد الثّاني الاكتفاء بمزك واحد.
(3) المكاسب للشيخ الأنصاري: 326، بل نسبه إلى المشهور ـ كما سيأتي عن قريب.
(4) تنقيح المقال: 1 / 182، بعد نقل الأقوال المتقدّمة.
(5) ظاهر هذا الكلام: إنّه يميل إلى هذا القول أو يختاره بدلا عن مختاره الأوّل. وقال في محلّ آخر: أو من باب مطلق الظّن في الرّجال كما ادّعوا الإجماع عليه، وعلّلوه بانسداد باب العلم فيه. انظر: تنقيح المقال: 204، المقدّمة.
(6) مستمسك العروة الوثقى: 7 / 206.
(7) أعين: الشّيخ الورع الحسين الحلّي رحمه الله. وكان يدرس الفقه والاصول في مقبرة أستاذه الأصولي الشّهير المحقّق النائيني رحمه الله في النجف الاشرف، وبالغ في ذلك المحدّث الحرّ العاملي رحمه الله، حيث قال: وأمّا توثيق الرّاوي الّذي يوثّقه بعض علماء الرجال الأجلاء الثّقات، فكثيرا ما يفيد القطع مع اتّحاد المزكي لانضمام القرائن الّتي يعرفها الماهر المتتبّع. انظر: الوسائل: 20 / 115.
وليته أضاف وصف العالم بالغيب بعد صفة المتتبّع حتّى يصحّ كلامه.
(8) قال الشّهيد الثّاني: وفي الاكتفاء بتزكيّة الواحد العدل في الرّواية قول مشهور لنا ولمخالفينا، كما يكتفي بالواحد في أصل الرّواية، وهذه التزكية فرع الرّواية فكلّما (فكماض) لا يعتبر العدد في الأصل، فكذا في الفرع، وذهب بعضهم إلى اعتبار اثنين كما في الجرح، والتّعديل في الشّهادات. انظر: الدّراية: 69.
وقال: يثبت الجرح في الرّواة بقول واحد، كتعديله. على المذهب الأشهر ... انظر: المصدر: 72.
(9) بعد بحث حجيّة خبر الواحد بأربعة عشر ورقا تقريبا.
(10) وأمّا اعتبار الإيمان وأصل العدالة في الرّاوي، كما هو خيرة صاحب المعالم ونسبه إلى المشهور، فسيأتي بحثه عند الكلام في شروط الرّاوي في بحث مستقل إن شاء الله، وستعرف أيضا في محلّه أنّ إثبات عدالة الرّواة، ولو بخبر صادق واحد، غير ممكن في الغالب؛ لعدم دلالة كلمة الثّقة على العادل خلافا لجمع.
(11) أو من عبارة المحدّث الحرّ من الوسائل: 20 / 15 وهي: ثمّ اعلم أنّ توثيق علماء الرجال ليس من باب الشّهادة ... بل هو من جملة القرائن القطعيّة الّتي تدلّ على حال الرجل ... الخ، مبدلا وصف القطع بالاطمئنان.
(12) كصحيح هشام عن الصّادق (عليه السلام) في رجل وكّل آخرا: والوكالة ثابتة حتّى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه (فهه) بالعزل عن الوكالة: انظر: الوسائل: 13 / 286.
وصحيح حفص عنه (عليه السلام) في الرجل يشتري الأمة من رجل فيقول: إنّي لم أتاها. فقال: إن وثق به فلا بأس أن يأتيها. الوسائل: 13 / 39. وقريب منه صحيح ابن سنان لكن فيه: إن كان عندك أمينا فمسّها. وقريب منه صحيح أبي بصير الوسائل: 14 / 504، وغيرها من الرّوايات.
أقول: إذا اعتبر قول الثّقة في الوطيء اعتبر في غيره جزما، فافهم جيّدا. الوسائل: 14 / 226.
والمتتبّع يجد جملة وافرة من هذه الأحاديث في مختلف الأبواب. كجواز الصّلاة باذان الثّقة. الوسائل: أبواب الأذان والإقامة؛ ثبوت الوصيّة بقوله: باب 97 من وصايا الوسائل.
(13) الوسائل: 12 / 60 ط: الحديثة.
(14) وقيل: باتحاده مع مسعدة بن زياد الثّقة كما في حاشية الموسوعة الرجالية المجلد الأوّل، وقد أقام بعضهم عليه قرائن، لكنّها غير ثابتة. ولا حظ تفصيله وبيان شواهده في مجلة تراثنا: 203 ـ 229، عدد 53 ـ عام 1419.
(15) ومن هنا نطالب القائلين باعتبار البينة على تعديل الراوي بعموم حجيّة البيّنة؛ إذ لعلّ عمدة الدّليل عليه هي رواية مسعدة الّتي عرفت ضعفها.
وأمّا الإجماع المدعي في لسان صاحب الفصول وغيره عليه، فهو منقول غير معتبر.
(16) وجه التأمّل عدم البعد في انعقاد الحقيقة الشّرعيّة له أو المتشرعة حتّى في لسان الإمام الصّادق (عليه السلام)، كما يظهر لمن لاحظ الرّوايات الواردة في باب القضاء. ولذا ذهب المشهور خلافا للشيخ إلى عدم تحقّق التّعارض بين الشّاهدين والشّاهد والشّاهدتين وبين الشّاهد واليمين، وليس له وجه سوى عدم صدق البيّنة على الأخير وصدقها على الأوّلين، فافهم.
(17) إلّا أن يُقال: إنّ عمل اللغوي هو نقل المعاني المستعملة فيها الالفاظ، فهو يجمع ما يجده من المعاني الّتي يريدها أهل المحاورة والاستعمال، سواء كانت حقيقيّة أو مجازيّة، وينقلها إلينا وهذا أمر حسّي لا يحتاج إلى خبرية وإعمال حدس، نعم، هو من أهل الخبرة بالنظر إلى موارد الاستعمالات فقط لا في بيان المعاني الموضوعة لها الألفاظ. وبعبارة ثانية: ليس اللغوي من أهل الخبرة بالنسبة إلى تعيين ظواهر الألفاظ بالوضع أو بالقرينة العامّة. وعليه فإخباره عن استعمال اللفظ في المعاني من جهة مطلق النبأ، لا من باب الشّهادة المعتبرة فيها العدالة كما ذكر في تقرير دروس بعض أساتيرنا في أصول الفقه.
|
|
للتخلص من الإمساك.. فاكهة واحدة لها مفعول سحري
|
|
|
|
|
العلماء ينجحون لأول مرة في إنشاء حبل شوكي بشري وظيفي في المختبر
|
|
|
|
|
قسم العلاقات العامّة ينظّم برنامجاً ثقافياً لوفد من أكاديمية العميد لرعاية المواهب
|
|
|