أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-7-2016
7891
التاريخ: 2023-05-21
890
التاريخ: 27-6-2016
5252
التاريخ: 11-12-2019
933
|
ناقش أبو الريحان البيروني (تُوفّي 440هـ/1048م) العلاقة بين الحرارة وإشعاع الشمس المرئي، رافضًا القول إنَّ سبب وجودها يعود لوجود زوايا حَادَّة عند انعكاسه، وإنما السبب الرئيس هو تلازم الحرارة مع إشعاع الشمس، يقول في ذلك: «وقد قيل في سبب الحرارة الموجودة مع شعاع الشمس إنه احتداد زوايا انعكاسه وليس ذلك كذلك، بل هو موجود معه.»79 بناءً على ذلك فإن أي سطح سينعكس عنه الضوء فإن الحرارة الملازمة لأشعة الشمس ستنعكس أيضًا، ولا يُشترط أن يكون ذلك السطح صقيلا مثل المرآة المقعرة حتى يظهر الأثر الحراري.
ثم ينتقل ليُحدِّثنا عن الجسم الناري المماس لباطن فلك القمر، والذي يتسبب بتسخين جو الأرض أيضًا، وكيف تتولَّد الحَرَارة بداخله، والتي يعتقد البيروني أن سَبَبها هو الاحتكاك بين الهواء وذلك الجسم، وليس كما يعتقد البعض أن الحرارة خاصية أصيلة فيه.
قال البيروني: «وأما الجسم المماس لباطن الفلك، وهو النَّار، زعموا أنه أصلي طبيعي كالأرض والماء والهواء، وأن شكله كُروي، وعندنا أنه احتدام الهواء باحتكاك الفلك إياه وتسحيحه 80 ومماسته له من سرعة الحركة، وأنَّ شكله شبه جسم متولد من إدارة الشكل الهلالي على وتره، وذلك مطرد على ما يذهب إليه من أنه ليس ولا واحد من الأجسام الموجودة كائنًا في موضعه الطبيعي، وأنَّ كون جميعها حيث وجدت إنما هو بالقسر، والقسر لا يمكن أن يكون أزليَّا».81
أما من حيث التزامن، فإنَّ الأشعة الحرارية المترافقة مع أشعة الضوء وحرارة النار الفلكية يصلان للأرض معًا، ثم يقوم البيروني بتفنيد أقوال الآخرين، ويتفق مع من قال إنَّ حرارة الجو والحرارة الناجمة عن بطن الأرض قد يلتقيان ويسهمان في رفع حرارة الهواء المحيط بالأرض: «وكلا الحرَّين متكافئ الوصول إلى الأرض في الأزمنة الأربعة، وأما حر الأرض فإما أن يكون ما ينعكس من شعاعات الشمس من سطحها، وإما أن يكون بخاراتها التي يثيرها الحر المستكن في باطنها على مذهب قومٍ أو الطارئ عليها من خارج على مذهب آخرين؛ فإنَّ حركة البخار في الهواء تُكسبه حرارةً فأما حرارة النار فإنها لا تقرب ولا تبعد لأنَّ الفلك لا يزيد سرعة ولا بطئًا وأما الشعاعات المنعكسة فإنها غير منسوبة إلى الأرض، وأما البخارات فلها حد تنتهي إليه ولا تتجاوزه وما أظن القائل معتقدًا أن في الأرض حرًّا مُحتقنا يخرج من باطن الأرض إلى ظاهرها وقد احتمى الهواء بشعاعات الشمس ،فيلتقيان هذا وجه إن كان ولا بد.»82
بعدها يبحثُ البيروني في طبيعة الإشعاع الشمسي، وما قيل في حقيقته، وكيف يتسبب بتسخين جو الأرض، ويضع ثلاثة احتمالات:
(1) فهو إما جسيمات حرارية تخرج من جرم الشمس.
(2) أو يتشكل بسبب الاحتكاك بين كرة الهواء وكرة الشمس.
(3) أو أن شعاع الشمس يحتك بسرعة كبيرة بالهواء عندما يدخل جو الأرض فيجعله يسخن.
الاحتمال الأول سيعود لنقاشه في القرن 18م الرياضياتي السويسري ليونارد أويلر Euler .L (1707 – 1783م) وقد رفضه بدعوى لو أنَّ هذا الاحتمال صحيح فإنه سيسهم في استنفاد مادة الشمس بسرعة، نتيجة الخسارة في كتلتها واقترح بدلا من ذلك أن تكون جسيمات الأثير هي التي تحمل هذه الحرارة وتصل لجو الأرض وتجعله يسخن، كما سنجد تفصيل ذلك لاحقًا.83 لكن هنري كافندش سيختلف مع أويلر، ويُحاول أن يُثبت أن الأشعة الحرارية جسيمات مادية تخرج من الشمس.84
لكن البيروني لم يوضّح هنا رأيه بالموافقة أو الرفض لتلك الاحتمالات الثلاثة، قال البيروني: «فأما شعاع الشمس، فقد قيل فيه أقاويل كثيرة؛ فمن قائل إنه أجزاء نارية مشابهة لذات الشمس تخرج من جرمها، ومن قائل إنَّ الهواء يحتدم بمحاذاة الشمس كاحتدامه بمحاذاة النار إياه، وذلك عند من قال إنَّ الشمس حارة نارية، ومن قائل إن الهواء يحتدم بسرعة سلوك الشعاع فيه حتى كأنه بلا زمان، وذلك عند من قال بخروج طبيعة الشمس عن طبائع الأسطقسات الأربعة.» 85
وقد توضح رأي في طبيعة الإشعاع الشمسي، وطريقة انتقاله أكثر بعد أن ناقشها مع ابن سينا في المراسلات التي جرت بينهما؛ ففي المسألة التاسعة طرح البيروني على ابن سينا السؤال الآتي: «إن كانت الحرارات سالكة عن المركز، فلِمَ صَارَ الحَرُّ يصل إلينا من الشمس؟ والشعاعات أهي أجسام أم أعراض أم غير ذلك؟» 86
وكان جواب ابن سينا مؤيدًا للقائلين بأنَّ الحرارة تحدث بعد انعكاس الشعاع وتجمُّع أشعته ولا تكون مترافقة مع الإشعاع بحد ذاته، رافضًا إمكانية انتقال الحرارة مع الإشعاع، قال ابن سينا: يجب أن تعلم أنَّ الحرارات ليست بسالكة من المركز، لأنَّ الحرارة غير متحركة، اللهم إلا بالعَرَض لكونها في متحرك ككون إنسان متحرك في سفينة متحركة. ويجب أن تعلم أن حر الشمس ليس يصل إلينا بهبوطه من الشمس من فوق من وجوه أحدها أنَّ الحرارة لا تتحرك بذاتها. والثاني: أنه ليس جسم حار يهبط من فوق فيسخَّن ما سفل؛ فلذلك أيضًا الحرارة لا تنهبط من الشمس بالعرض. والثالث أنَّ الشمس أيضًا ليست بحارة، فالحرارة الحاصلة ها هنا ليست هابطةً من فوق لتلك الوجوه الثلاثة التي ذكرناها، ولكنها حادثة ها هنا من جهة انعكاس الضوء، وسخونة الهواء لذلك كما يُشاهد ذلك في المرايا المحرقة، ويجب أن تعلم أن الشعاعات ليست بأجسام؛ لأنها لو كانت أجسامًا لكان جسمان في مكان واحد، أعني الهواء والشعاع وإنما الضوء لون ذاتي للمشف من حيث هو مشف، وقد حده أرسطوطاليس في المقالة الثانية من «كتاب النفس»، ومن «كتاب الحس»، في المقالة الأولى بأنه كمال المشف من حيث هو مشف.» 87
وعندما عاد البيروني وناقش كيف للحرارة أن تأتي عن الشعاع بعد انعكاس الضوء، إذا كانت الحرارة لا تنتقل مع الضوء أصلا؟ فكان من ابن سينا أن كلف تلميذه النجيب محمد بن عبد الله أحمد بن المعصومي (تُوفّي نحو 460هـ / نحو 1068م) للرد على البيروني، فكان من المعصومي أن شرح للبيروني كيفية انتشار الضوء في الأجسام الشفافة، ووصوله إلى الأجسام غير الشفّافة التي ينعكس عنها فتظهر الحرارة بعد الانعكاس، وأكثر مَن يُظهر الأثر الحراري في الضوء هي المرايا المقعرة التي تعكس ضوء الشمس وتجمعه في بؤرة واحدة هي المحرق.
قال المعصومي: أمَّا سؤالك عن كيفية انعكاس الضوء، فيجب أن تعلم أن الضوء ينفذ في الجرم المشف فيؤدِّيه إلى الجرم الصُّلب الكثيف، فيظهر فيه حينئذ، فإذا كان بين الحرمين الصُّلبَين حرمٌ مُشف كالهواء، وظهر الضوء المصادر للجرم الكثيف في الآخر بواسطة الجرم المشف بينهما يُسمَّى ذلك انعكاسًا، وكُلَّمَا كان الجسم أصلب وأقبل للون كان الانعكاس منه أقوى، فإذا انعكس الضوء أحدث انعكاسه حرارة، حتى إذا قوي الانعكاس والتفَّ وتزاحم من أقطار كثيرة أُخر، وكما ترى في المرايا المحرقة، فالذي يقرب من جهة الأرض إلى الشمس يكون ضوءه أقوى لقربها ، ولأنه ينعكس على زوايا قائمة؛ أي إنه ينعكس منها على السمت الذي يصل منه إليها، فيكون مثل العمود، وتكون حرارتها أشد، وأما ما بعد عن الشمس من الأرض، فإنه ينعكس منها الضوء على زوايا منفرجة، فلا يلتقي الضوء حينئذٍ على سمت واحد؛ فلذلك يكون حَرُّها أضعف، ثم إن ذلك الضوء المنعكس من الأرض يضعُف كُلما بَعُد من الأرض إلى أن يفنى في وسط الجو، فهناك يكون الهواء على طبعه بالفعل وأما إنكارك لقوله: «بأن الضوء لون المشف من حيث هو مشف»، فإنما كان ذلك على وجه المجاز، لأنَّ الهواء وإن لم يكن له لون لكنه يظهر فيه الضوء، فجائز أن يُسمَّى لونًا له، وإن شئتَ قلتَ كمال المشف من حيث هو مشف، وهذا هو حد الضوء على الحقيقة، لأنَّ المشف لا يكون مُشِفًا إلا بالضوء، ومعنى قولنا: «كمال الشيء من حيث هو كذا»، هو أنَّ الشيء رُبَّما تكون له صفات كثيرة بمعان مختلفة، فيحصل له أحدها فيكون ذلك المعنى كمالًا له من حيث هو حساس لا من حيث هو ناطق، والبصر كمال له من حيث هو مبصر لا من حيث هو سامع، وتصور هذا اللفظ نافع لا يُستعمل في هذه العلوم كثيرًا، كما لا يكون الهواء مُشِفًا بالفعل ما لم يكن ضوء، اللهم إلا بالقوة كان الضوء له كمالاً من حيث هو مشف، لأنه خرج به من القوة إلى الفعل في كونه مُشفَّان.» 88
وهكذا دافع ابن سينا وتلميذه عن الفكر الأرسطي، فهما لا يُريدان لهذا الفكر أن يتغير من قبل أي شخص كان، ويُتابع المعصومي ردوده على البيروني الذي رفض فكرة تجسيم الشعاع، بأنَّ ابن سينا يتفق معه في ذلك، «وأمَّا اعتراضك على إنكار كون الشعاع أَجْسَامًا، بأنَّ قائل هذا القول يُثبت الخلاء فغير قادح فيما أجابك به الحكيم؛ لأنك ما دخلت معه مدخل المناظر، وإنما سألته عن كيفية الشعاع فبيَّنه لك، ولو سألته مسألة نفي الخلاء لبيَّنه أيضًا، وعلى أن فيما تكلم به الفيلسوف [أرسطو] في كتاب «السماع الطبيعي»، في المقالة الرابعة في إبطال الخلاء كفاية لمن تصوّره وتحققه.»89 لكن البيروني لا يُسَلِّم بنفي الخلاء، ويُحاول أن يرُدَّ المعصومي عليه اعتمادًا على القاعدة الأرسطية (إنَّ الطبيعة تكره الخلاء): «وأما اعتراضك بعد التسليم لنفي الخلاء أنَّ الشعاع أبدًا موجود من أكثر جوانب الأرض فما تقول في ضوء القمر وقت الكسوف، إن كان الضوء جرما فماذا يخلفه مكانه؟ إذ ليس الخلاء بموجود وعلى أنَّا نرى اطراح شعاع الشمس مقارنا للطلوع معًا في آن واحد، والجسم لا يتحرك ولا يقطع مسافةً إلا في زمان». 90
ويرى الباحث عبد الكريم اليافي أنَّ هذه المساءلة التي دارت بين البيروني وابن سينا وتلميذه المعصومي، لم تُطرح على طاولة البحث في العلوم الفيزيائية عند الأوروبيين إلا قريبًا من بداية القرن العشرين، وخصوصًا طبيعة الضوء ومصدر الطاقة. وقد لاحظنا كيف يستغرب البيروني من رفض ابن سينا أن يكون الشعاع جسما، وقوله بأنه مجرد صفة للأجسام المضاءة، ورفضه كذلك لحركة الحرارة، واعتباره أنها نتيجة انعكاس الضوء والشعاعات ومنقولة من طرف الأجسام المتحركة. وقد قرر البيروني أنَّ الحرارة موجودة في الشعاع نفسه وليست مجرد انعكاس للشعاع على الأجسام، وهذا الأمر قريب من تعريف العلم المعاصر للحرارة على أنها شكل من أشكال الطاقة.91
هوامش
79- البيروني، أبو الريحان، الآثار الباقية عن القرون الخالية، نشره إدوارد سخاو، إعادة طبعة لايبسك، 1878م، ص 257.
80- «سَحَحْتُ الماءَ وغيره أَسُخُهُ سحا، إذا صببته، وسَحَ الماءُ يَسُح سَحّا، أي: سَال من فوق، وكذلك المطر والدمع. وسَحَّة مائة سوط، أي: جلده. وسحابة سحوح. وتسحسح الماء؛ أي سال. ومطر سَحْساحُ، أي يسح شديدًا» عن: الصحاح، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (المتوفى: 393هـ)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، ط 4، ج 1، دار العلم للملايين، بيروت، 1987م، ص373.
81- البيروني، أبو الريحان، الآثار الباقية عن القرون الخالية، ص 257.
82- المرجع السابق نفسه، ص 257.
83- Samursky, Shmuel, Physical Thought, p. 342-343.
84- McCormmach, Russell, Henry Cavendish on the theory of heat, p. 54.
85- البيروني، أبو الريحان، الآثار الباقية عن القرون الخالية تحقيق إدوار سخاو، لايبزيغ، 1878م، ص 256-257.
86- اليافي، عبد الكريم حوار البيروني وابن سينا، ط 1، دار الفكر، دمشق، 2002م، ص 55.
87- المرجع السابق نفسه، ص 56.
88- اليافي، عبد الكريم، حوار البيروني وابن سينا، ص83.
89- اليافي، عبد الكريم، حوار البيروني وابن سينا، ص84.
90- المرجع السابق نفسه، ص 85.
91- المرجع السابق نفسه، ص 85.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|