أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-8-2016
1537
التاريخ: 29-8-2016
2500
التاريخ: 7-10-2020
2586
التاريخ: 29-8-2016
2021
|
سهل بن زياد (1):
وهو أبو سعيد الآدمي، وقد عدّ من أصحاب ثلاثة من الأئمة هم الجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام)، وقد اختلف علماء الفن في شأنه، فقد ادعى البعض وثاقته، وادعى آخرون اعتبار ما يرويه الكليني عن طريقه وإن لم تثبت وثاقته، وذلك إما مطلقاً أو فيما إذا كان المروي عنه ابن أبي نصر وأمثاله من ذوي الكتب المعروفة، فينبغي البحث عن كلتا الجهتين، فأقول:
الجهة الأولى: في حال سهل بن زياد.
وقد ضعّفه جمع من أعلام الرجاليين، حيث قال النجاشي (2): إنه (كان ضعيفاً في الحديث، غير معتمد فيه، وكان أحمد بن محمد بن عيسى يشهد عليه بالغلو والكذب، وأخرجه من قم إلى الري).
وقال ابن الغضائري (3): (كان ضعيفاً جداً، فاسد الرواية والدين (4)، وكان أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري أخرجه من قم، وأظهر البراءة منه، ونهى الناس عن السماع منه والرواية عنه، ويروي المراسيل ويعتمد المجاهيل).
وقال الشيخ في الفهرست (5): (ضعيف)، وقال في موضع من الاستبصار (6): (ضعيف جداً عند نقاد الأخبار، وقد استثناه أبو جعفر بن بابويه من رجال نوادر الحكمة).
والأصل في هذا الاستثناء هو أستاذ الشيخ الصدوق (قدس سره) أي محمد بن الحسن بن الوليد ــ الذي تسالم الكل على جلالته وعظم مقامه ــ فقد حكى النجاشي (7) أنّه كان يستثني من رواية محمد بن أحمد بن يحيى ما رواه عن
جماعة منهم سهل بن زياد الآدمي. ثم قال: (قال أبو العباس بن نوح: وقد أصاب شيخنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن الوليد في ذلك كله، وتبعه أبو جعفر بن بابويه (رحمه الله) على ذلك، إلا في محمد بن عيسى بن عبيد فلا أدري ما رابه فيه، لأنه كان على ظاهر العدالة والثقة).
ويظهر من ابن الغضائري في غير مورد أن الاستثناء المذكور لم يكن رأياً لخصوص ابن الوليد والصدوق من أصحابنا القميين، بل هو ما ذهب إليه غيرهما أيضاً، فقد قال في ترجمة محمد بن موسى السمان (8): إنه (تكلم القميون فيه بالرد، فأكثروا واستثنوا من كتاب نوادر الحكمة ما رواه). وذكر نحوه في ترجمة الجاموراني (9) أيضاً، فليلاحظ.
وكيف كان فهذا ما قيل في تضعيف سهل بن زياد.
وليس في مقابله سوى ما ورد من توثيقه في كتاب الرجال للشيخ (قدس سره) (10) عند عدّه من أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام).
ولكن قد شكّك جمع منهم السيد الأستاذ (قدس سره) (11) في صحة هذا الموضع من النسخة المتداولة من كتاب الرجال، وذلك من جهة خلو رجال ابن داود من التوثيق المذكور فيه، حيث لم يورده عنه، مع أنه عدّ سهل بن زياد في أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام) (12)، ومستنده فيه هو رجال الشيخ، كما هو واضح للمتتبع.
علماً أن ابن داود كان لديه كتاب الرجال بخط الشيخ (قدس سره)، وقد حكى عنه في عشرات الموارد، فيمكن أن يعدّ عدم إيراده توثيق سهل بن زياد عن الشيخ في رجاله دليلاً على خلو النسخة الأصلية من كتاب الرجال من التوثيق.
ولكن هذا الكلام ضعيف، لما نبّه عليه السيد الأستاذ (قدس سره) بنفسه في مواضع متعددة (13) من أن ابن داود وإن ذكر مراراً أنه رأى نسخة الرجال بخط الشيخ ولكن ليس هناك قرينة على أنه كان ينقل جميع ما ينقله عن كتاب الشيخ من تلك النسخة (14).
ويضاف إلى ذلك أن كتاب ابن داود كثير الخطأ والاشتباه في النقل عن المصادر، كما لا يخفى على المتتبع، ويصعب الاعتماد عليه في ذلك.
ومما يشهد على خطئه في المقام أن العلامة (قدس سره) قد ذكر في ترجمة سهل بن زياد (15) أنّه (اختلف قول الشيخ الطوسي (رحمه الله) فيه، فقال في موضع: إنه ثقة، وقال في عدة مواضع: إنه ضعيف).
ومن المعلوم بالتتبع أن العلامة (قدس سره) لم يكن يرجع إلى المصادر الأصلية ــ كرجال الكشي ورجال الشيخ وفهرسته ورجال النجاشي ــ عند تأليفه للخلاصة، بل كان يعتمد على ما حكي عنها في كتاب (حلّ الإشكال) لأستاذه ابن طاووس، وقد وقع جرّاء ذلك في بعض ما وقع فيه أستاذه من خطأ واشتباه، وليس هاهنا موضع شرحه.
وعلى ذلك فما حكاه (قدس سره) عن الشيخ من أنه وثق سهل بن زياد في بعض المواضع إنما هو مما أورده ابن طاووس عن الشيخ في كتابه. ولما كان من المرجح أن النسخ الأصلية من جملة كتب الشيخ ــ ومنها كتبه الرجالية ــ كانت في مكتبة السادة آل طاووس في الحلة فإن المظنون قوياً أن عدم إيراد ابن داود توثيق سهل بن زياد عن الشيخ إما غفلة منه (رحمه الله) أو لعدم رجوعه إلى النسخة الأصلية من رجال الشيخ في هذا الموضع، فتدبر.
والحاصل: أنه ليس هناك وجه يعتد به للتشكيك في اشتمال النسخة الأصلية من رجال الشيخ على توثيق سهل بن زياد.
وللسيد الأستاذ (رضوان الله عليه) كلام آخر في المقام (16)، وهو أنه لو كان رجال الشيخ بخطه الشريف مشتملاً على التوثيق فالمظنون قوياً كونه سهواً من قلمه المبارك، إذ كيف يمكن أن يوثق من قال عنه بنفسه: إنه ضعيف جداً عند نقاد الأخبار، الظاهر في أن ضعفه كان متسالماً عليه عندهم؟!
ويمكن أن يؤيد ما أفاده بما حكي عن السيد البروجردي (قدس سره) من أنه كان يرجّح أن رجال الشيخ (قدس سره) لم يخرج على يده من المسودة إلى المبيضة، فالنسخة المتداولة منه ليست سوى المسودة التي أعدّها الشيخ (قدس سره) ــ وربما بمعونة بعض تلامذته ــ ولم يتيسر له تبييضها، ولذلك وقعت فيها أخطاء كثيرة ولا سيما في فصل من لم يروِ عن الأئمة (عليهم السلام).
ولكن الصحيح أن استبعاد توثيق الشيخ (قدس سره) من قال عنه بنفسه في موضع آخر: إنه ضعيف جداً عند نقاد الأخبار في غير محله، فإن الظاهر أن مراده بنقاد الأخبار هو ابن الوليد ومن وافقه كالصدوق الذين استثنوا من رجال نوادر الحكمة جمعاً منهم سهل بن زياد ــ كما مرّ ــ وقد أشار في ذيل كلامه المذكور إلى هذا الاستثناء.
وعلى ذلك فلا غرابة في توثيقه لبعض من ضعّفهم هؤلاء، فإن له بعض النظائر الأخرى، كجعفر بن محمد بن مالك الذي هو أيضاً ممن استثناه ابن الوليد وأتباعه من رجال نوادر الحكمة، وحكاه الشيخ بنفسه في ترجمة محمد بن أحمد بن يحيى، ولكنه مع ذلك قد وثّقه في كتاب رجاله قائلاً (17): (ثقة ويضعفه قوم).
وبالجملة: إن الاختلاف في كلمات الشيخ (قدس سره) بأن يوثق شخصاً في كتاب ويضعفه في كتاب آخر ليس أمراً غريباً، بل هو واقع بالنسبة إلى غير واحد من الرواة كعمار الساباطي. ومنشؤه اختلاف المصادر التي كانت في متناول يده عند تأليف كلٍ من الكتابين.
وأما نسبته تضعيف سهل بن زياد إلى نقاد الأخبار فلا تعني اتفاق جميع أئمة الفن على ضعفه لكي يستغرب توثيقه له في موضع آخر، بل تعني ذهاب جمع معتبر منهم إلى تضعيفه، فلا ينافي اختياره لوثاقته في كتاب آخر استناداً إلى مصادر أخرى (18).
والحاصل: أن الأقرب هو اشتمال رجال الشيخ (قدس سره) على توثيق سهل بن زياد، وكونه مقصوداً له لا سهواً من قلمه الشريف.
وعلى ذلك فما ذكر في تضعيف الرجل مما تقدم إيراده معارض بتوثيق الشيخ (قدس سره) له فلا بد من إعمال ضوابط الترجيح بينهما.
وها هنا رؤيتان:
الأولى: ترجيح التضعيف على التوثيق، وهذا اختيار معظم الرجاليين ومنهم المحقق التستري (قدس سره) (19) حيث أفاد: أنه في مقابل كلام أحمد بن محمد بن عيسى الزعيم المعاصر لسهل الأعرف بحاله وما ذكره نقاد الرجال والأخبار وأئمة الفن كابن الوليد والصدوق وابن نوح والنجاشي وابن الغضائري يكون تفرد الشيخ (قدس سره) بتوثيقه في كتاب الرجال ساقطاً، أي لا يؤخذ به.
الثانية: ترجيح التوثيق على التضعيف، وهذا اختيار جمع آخرين كالمحقق البهبهاني والسيد بحر العلوم والمحدث النوري.
ويمكن تقريبه بأن يقال: إن الأصل في تضعيف سهل ــ كما تقدم ــ هو الموقف الصادر من بعض أصحابنا القميين كأحمد بن محمد بن عيسى وابن الوليد والصدوق، وقد تبعهم عليه أصحابنا العراقيون كابن نوح والنجاشي وابن الغضائري، وكذلك الشيخ في بعض كلماته، ولكن يبدو أن موقف أصحابنا في الريّ كان مختلفاً عن ذلك.
ولتحقيق الحال ينبغي البحث عن المواقف الثلاثة:
1 ــ موقف أصحابنا الرازيّين، والظاهر أنه لم يكن سلبياً من سهل بن زياد، إذ يبدو أنه بعد أن أخرج من قم وسكن الري وجد احتضاناً له من قبل أصحابنا هناك، فقد تتلمذوا عليه، ورووا عنه، وممن روى عنه جمع من مشايخ الكليني من أهل الري الذين يروي عنه بواسطتهم، ويعبّر عنهم بعدة من أصحابنا، وهم علي بن محمد بن إبراهيم الرازي الكليني الملقب بـ(علان) خال الكليني (قدس سره)، ومحمد بن أبي عبد الله، وهو محمد بن جعفر بن عون أبو الحسين الأسدي الكوفي نزيل الري، ومحمد بن الحسن وهو ــ فيما حققه السيد البروجردي (قدس سره) ــ أبو الحسن الطائي الرازي وكان من رجال الحديث في الري، ومحمد بن عقيل الكليني الرازي.
والملاحظ أن لسهل في الكافي وحده ما يزيد على ألف ومائتي رواية، وهو عدد كبير، ومن المعلوم أن الإكثار في الرواية عن الضعفاء كان أمراً معيباً عندهم وموجباً للقدح في الراوي، كما يظهر ذلك مما ذكر (20) في ترجمة أحمد بن محمد بن خالد البرقي وغيره. بل إن رواية الثقة عن الشخص الضعيف جداً كان يعدّ عندهم أمراً مستغرباً، كما يظهر ذلك مما ذكر (21) في ترجمة جعفر بن محمد بن مالك.
وعلى ذلك كيف يمكن التصديق بأن سهل بن زياد كان عند الأجلاء من أصحابنا من أهل الريّ بتلك المثابة من الضعف والسقوط الذي نقل عن أحمد بن محمد بن عيسى وابن الغضائري وغيرهما ومع ذلك رووا عنه؟!
بل كيف يمكن القول بأنه كان ضعيفاً عندهم وأكثروا الرواية عنه بهذا العدد الهائل من الروايات؟!
إن هذا مما يصعب البناء عليه، بل الأقرب في النظر أنه كان بناؤهم على وثاقته، كما ورد في رجال الشيخ (قدس سره)، ولعله استند فيه إلى ما حكي له من كلام البعض منهم، أو وجده في كتابه.
والحاصل: أن مقتضى الشواهد والقرائن أن موقف أصحابنا في الري من سهل بن زياد لم يكن كموقف بعض القميين منه، بل إنهم كانوا يعتمدون رواياته ويأخذون بها.
2 ــ موقف أصحابنا القميين، والظاهر أنه لم يكن موقفاً موحداً، فإن البعض منهم كمحمد بن يحيى العطار والحسن بن متيّل ومحمد بن الحسن الصفار ومحمد بن علي بن محبوب كانوا يروون عن سهل بن زياد ولا يجدون مبرراً لعدم سماع الحديث منه.
نعم أحمد بن محمد بن عيسى كان متشدداً في موقفه منه، ويتهمه بالغلو والكذب ــ كما مر عن النجاشي ــ وينهى الناس عن السماع منه والرواية عنه ــ كما مرّ عن ابن الغضائري ــ ولا يبعد أن اتهامه له بالكذب إنما هو من جهة اعتقاده بغلوه، فإنه لا ينفك عن الكذب عادة، كما أوضحته في البحث عن حال محمد بن سنان (22).
ولكن غلوّ سهل بن زياد مما يصعب تصديقه، فإن ما نقل عنه من الروايات بشأن الأئمة (عليهم السلام) مما لا يختلف في مضامينه عما يعتقده سائر الإمامية، كما أن الغلاة لا يرون تكليفاً ولا يعتقدون عبادة بل ولا حلالاً ولا حراماً، ولا يجتمع الغلو والعبادة وتعليمها، والحال أننا إذا راجعنا كتاب الكافي نجد لسهل من أول كتاب الطهارة إلى آخر الديات في أكثر الأبواب خبراً أو أزيد، ومثل هذا الشخص كيف يقال عنه أنه غالٍ؟!
هكذا أفاد المحدث النوري (قدس سره) (23) وقد فصّل الكلام في نفي الغلو عن سهل بما لا مزيد عليه.
والحقيقة: أن أحمد بن محمد بن عيسى الذي هو الأصل في اتهام سهل بن زياد بالغلو والكذب ممن يصعب الاعتماد على جرحه وقدحه، فإن الذي يظهر من حاله أنه كان ممن يتسرع في الطعن في الرواة، ثم يتراجع عنه.
فقد حكى ابن الغضائري (24) أنه طعن في أحمد بن محمد بن خالد البرقي وأبعده عن قم، ثم أعاده إليها واعتذر إليه، ولما توفي مشى في جنازته حافياً حاسراً ليبرئ نفسه مما قذفه به.
وحكى النجاشي (25) عن الكشي عن نصر بن الصباح أنه قال: ما كان أحمد بن محمد بن عيسى يروي عن ابن محبوب من أجل أن أصحابنا يتهمون ابن محبوب في روايته عن أبي حمزة الثمالي ثم تاب ورجع عن هذا القول.
وحكى الكشي (26) عن علي بن محمد القتيبي عن الفضل بن شاذان أن أحمد بن محمد بن عيسى تاب واستغفر من وقيعته في يونس لرؤياً رآها!!
فهل مثل هذا الشخص الذي كان يتسرع في القدح في الآخرين ــ من الثقات والأجلاء ــ ثم يتراجع عن ذلك لاحقاً، وربما استناداً إلى الرؤيا ونحوها ممن يمكن الاعتماد على جرحه؟!
بل قد يقال (27): (إن إخراجه للبرقي من قم لروايته عن الضعفاء واعتماده للمراسيل مما يرفع الوثوق بمثل هذه التصرفات المبنية على العنف والقسوة، الناشئة عمّا له من قوة ونفوذ في البلد، فإنه وإن أمكن حمله على الصحة في نفسه، إلا أنه لا طريق لاستكشاف وهن من يتصدى لمقاومته بنحو تقبل شهادته المذكورة).
والحاصل: أن طعن أحمد بن محمد بن عيسى في سهل بن زياد مما لا سبيل إلى الوثوق به.
وأمّا استثناء ابن الوليد والصدوق سهل بن زياد في ضمن آخرين من رجال كتاب نوادر الحكمة، فيمكن أن يقال: إنه لا يدل بالضرورة على ضعف هؤلاء، بل يمكن أن يكون من جهة أنه روي عنهم في هذا الكتاب مضامين غير صحيحة رووها عن الضعفاء والمجاهيل فاقتضى ذلك استثناء رواياتهم.
وهذا هو الأنسب بعبارة الشيخ (قدس سره) في الفهرست عند حكاية الاستثناء حيث قال (28): (قال أبو جعفر ابن بابويه: إلا ما كان فيها من غلو أو تخليط وهو الذي يكون في طريقه..).
وبالجملة: لم يظهر من ابن الوليد والصدوق تضعيف من استثنيا رواياتهم من نوادر الحكمة، وإنما الحكم بكونها مما تتضمن الغلو والتخليط، وقد يكون السبب في ذلك هو اعتماد الثقة للضعيف وروايته عنه ما لا يصح صدوره من الإمام (عليه السلام).
فالنتيجة: أن المؤكد من موقف أصحابنا القميين في تضعيف سهل بن زياد هو ما صدر من أحمد بن محمد بن عيسى، ومرّ أنه مما لا يمكن الاعتماد عليه. وأما الآخرين فلم يظهر منهم تضعيفه في نفسه.
3 ــ موقف أصحابنا العراقيين، والظاهر أن الأساس فيه هو ما حكي عن القميين بشأن سهل بن زياد، وحيث مرّ الخدش فيه، فلا وجه للاعتماد على ما يستفاد من النجاشي وابن الغضائري والشيخ في الفهرست والاستبصار من الطعن فيه.
ويضاف إلى ذلك ما قيل (29) من (أن طعن النجاشي غير صريح في تضعيفه، لأن ضعف الحديث باصطلاح القدماء لا يراد به ضعف نقل الشخص للرواية الراجع إلى عدم وثاقته، بل ضعف الحديث الذي يرويه، لعدم التزامه بالاقتصار على رواية الأحاديث المعتمدة، فهو نظير الطعن بالرواية عن الضعفاء أو اعتماد المجاهيل الذي أشار إليه ابن الغضائري.
نعم نقله عن أحمد بن محمد بن عيسى أنه كان يشهد عليه بالكذب وعدم رده له ظاهر في توقفه في وثاقته).
(كما أن طعن ابن الغضائري لا اعتماد عليه مع ما هو المعروف عنه من تسرعه في الطعن وتشبثه فيه بأدنى شبهة).
(وأما تضعيف الشيخ (قدس سره) له في الفهرست فهو معارض بتوثيقه له في كتابه ــ في أصحاب الهادي (عليه السلام) ــ الذي قيل: إنه متأخر عن الفهرست تأليفاً، لإشارته إليه فيه، فيكون مقدماً عليه، ولا أقل من تساقطهما والرجوع في توثيق الرجل إلى ظهور حال علي بن إبراهيم وابن قولويه في توثيقه، لأنه من رجال كتابيهما، المؤيد أو المعتضد بما أشرنا إليه من إكثار الكليني وغيره من الأصحاب من الرواية عنه).
هذا ما يمكن أن يقال في المناقشة فيما ذكر من القدح في سهل بن زياد، وترجيح توثيقه.
ويمكن التعقيب عليه بما يأتي:
1 ــ أما ما ذكر بشأن موقف الرازيين من أصحابنا تجاه سهل فهو لا يخلو من مبالغة، فإن أقصى ما يمكن أن يقال هو أنهم كانوا لا يعتقدون أن الرجل بتلك المثابة من الضعف الذي مرَّ عن أحمد بن محمد عيسى وابن الغضائري. وأما أنه كان ثقة عندهم فهذا عارٍ عن الدليل.
ويحتمل أن حاله عندهم كان حال الكثير من الرواة الذين يعرف حديثهم تارة وينكر أخرى، ولم يتأكد ضعفهم ولا وثاقتهم.
بل يحتمل أنه كان ضعيفاً عندهم أيضاً ومع ذلك روى عنه جمع منهم، وليسوا هم بالعدد الكبير بل بضعة أشخاص ــ فيما ورد في أسانيد الروايات الموجودة بأيدينا ــ وبعضهم ممن ذكر أنه كان يروي عن الضعفاء، كمحمد بن جعفر بن عون، وهو محمد بن أبي عبد الله.
ولم يثبت عن أي من هؤلاء أنه روى عن سهل روايات كثيرة، بل لعلهم لم يرووا عنه إلا كتبه جملة، وقد رواها عنهم كذلك الكليني، ثم أورد جملة من رواياتها في كتابه الكافي بعد حصول الاطمئنان له بصحتها، كما هو طريقة القدماء في العمل بأخبار الضعفاء.
وعلى ذلك فلا يصدق على أيّ من مشايخ الكليني أنه أكثر الرواية عن الضعيف، كما لا يصدق ذلك على الكليني نفسه، لأنه روى تلك الروايات مع الواسطة. فإن ما كان يُعدّ موجباً للقدح في الرجل عندهم هو أن يروي كثيراً عن الضعفاء مباشرة، وأما أن يورد روايات الضعفاء التي رواها له مشايخه الثقات فلم يكن موجباً للطعن فيه بوجه، كما يظهر ذلك بتتبع كلماتهم.
وبالجملة: إن أقصى ما يمكن ادعاؤه بشأن موقف أصحابنا في الري من سهل بن زياد هو أنه لم يكن عندهم غالياً كذاباً كما كان يقول أحمد بن محمد بن عيسى، أو فاسد الرواية والمذهب كما كان يقول ابن الغضائري. وأما إنه لم يكن ضعيفاً أصلاً فلا يمكن إثباته بدليل.
ثم إنه لا غرو في أن يكون شخص في نظر جمع في غاية الضعف والسقوط، ولا يراه جمع آخر كذلك، بل يرونه من الثقات الأجلاء. فهذا جعفر بن محمد بن مالك، قال فيه ابن الغضائري (30): (كذاب، متروك الحديث جملة، وفي مذهبه ارتفاع، ويروي عن الضعفاء والمجاهيل، وكل عيوب الضعفاء مجتمعة فيه).
وقال النجاشي (31) بعد أن ضعفه أشد التضعيف: (ولا أدري كيف روى عنه شيخنا النبيل الثقة أبو علي بن همام، وشيخنا الجليل الثقة أبو غالب الزراري (رحمهما الله)).
ومع ذلك قال الشيخ (32): (ثقة، ويضعفه قوم، روى في مولد القائم (عليه السلام)
أعاجيب).
وهذا المفضل بن عمر قال النجاشي (33): (فاسد المذهب، مضطرب الرواية، لا يعبأ به. وقيل: إنه كان خطابياً. وقد ذكرت له مصنفات لا يعول عليها).
وقال ابن الغضائري (34): (ضعيف، متهافت، مرتفع القول، خطابي.. ولا يجوز أن يكتب حديثه).
ومع ذلك عدّه الشيخ المفيد (قدس سره) (35) من خاصة أبي عبد الله وبطانته وثقاته الفقهاء الصالحين، ومدحه آخرون أيضاً.
2 ــ وأما ما تقدم بشأن موقف أصحابنا القميين من سهل بن زياد فيلاحظ عليه..
أولاً: إن روايات محمد بن يحيى العطار ومحمد بن الحسن الصفار وأضرابهما عن سهل بن زياد محدودة جداً، فلا يمكن أن تجعل مؤشراً إلى اعتمادهم عليه.
وثانياً: إنه لا سبيل إلى المناقشة في شهادة أحمد بن محمد بن عيسى على سهل بالغلو والكذب بما مرّ.
فإن تشديد القميين ــ بصورة عامة ــ في الغلو وعدّهم بعض ما لا يعدّ غلواً عندنا من أول درجات الغلو وإن كان أمراً صحيحاً، إلا أن الغلو الذي يستحق به صاحبه البراءة منه ونهي الناس من السماع عنه والطرد من البلد لا يناسب أن يكون من الدرجات الدنيا من الغلو.
وأما كون رواياته الموجودة بأيدينا ذات مضامين صحيحة فيما يتعلق بالعقائد، وروايته لأحكام العبادات ونحوها، فهو لا يقتضي عدم غلوه، فإن معظم الغالين لهم روايات من هذا القبيل، وأما رواياتهم التي كانت متضمنة
للغلو فهي في الغالب مما لم تصل إلى أيدي المتأخرين، إذ جرى استبعادها والتخلص منها غالباً عند تأليف الجوامع.
ويحتمل أن سهل بن زياد لما سكن الريّ عدل عن طريقته التي كان عليها في قم، فلم يعد يبث بين أهل الري ما كان يعتقده من الغلو. ولعله غيّر أيضاً من سلوكه العملي إذا كان قد تمثّل الغلو فيه من بعض الجهات، ولذلك تلقاه أهل الريّ بالقبول ورووا عنه.
وأما ما استشهد به المحدث النوري (رحمه الله) (36) على عدم غلوه من مكاتبته للإمام العسكري (عليه السلام) في سنة (255) على أساس أن هذه المكاتبة كانت بعد ما جرى لسهل على يد أحمد بن محمد بن عيسى، لأن الأخير لم يدرك الإمام العسكري (عليه السلام)، فهو اشتباه غير متوقع من مثله (طاب ثراه)، فإن أحمد بن محمد بن عيسى قد بقي حياً إلى سنة (274) أو (280) حيث مشى في جنازة البرقي ــ كما ذكر في ترجمته ــ بل ذكر ابن حجر (37): أنه كان في حدود الثلاثمائة.
فمن المظنون قوياً أن المكاتبة المذكورة كانت قبل زمن طويل مما صدر منه بحق سهل بن زياد.
مضافاً إلى أنه لا دلالة في مكاتبته للإمام (عليه السلام) على عدم غلوه وكذبه. ولعله (عليه السلام) وجد مصلحة في الردّ على رسالته التي سأل فيها عن توحيد الله تعالى ليكون حجة عليه وعلى غيره من الغالين.
وثالثاً: إن ما ذكر من أن أحمد بن محمد بن عيسى كان ممن يتسرع في القدح والطعن ثم يتراجع عنه لاحقاً، وربما استناداً إلى الرؤيا التي لا تصلح أن يعتمد عليها في هذا المجال. مخدوش بأن تراجعه عما صدر منه من الطعن بحق بعضهم إن دلّ على شيء فإنما يدل على ورعه وخضوعه للحق متى تبين له، حتى إذا اقتضى ذلك اعترافه بالخطأ علانية، بالرغم من أنه مما لا يسهل على مثله، حيث كان يتبوأ موقع الزعامة في بلده قم.
هذا مضافاً إلى أنه لم يثبت رجوعه عما صدر منه إلا بشأن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، وأما بشأن يونس بن عبد الرحمن والحسن بن محبوب فلم يثبت أصل ما حكاه الكشي من قدحه فيهما، لعدم ثبوت وثاقة نصر بن الصباح والقتيبي.
وبذلك يظهر أنّه لا وجه للتشنيع عليه بأنه كان يعتمد على الرؤيا أحياناً. مع أن تنبه الشخص إلى خطأه بسبب رؤيا يراها مما لا غرابة فيه أصلاً.
ورابعاً: إن ما قيل من أحمد بن محمد بن عيسى قد أخرج أحمد بن محمد بن خالد البرقي من قم لروايته عن الضعفاء واعتماده المراسيل، وهذا مما يرفع الوثوق بمثل هذا التصرف المبني على العنف والقسوة.. في غير محله، كما يظهر ذلك بملاحظة عبارة ابن الغضائري ــ الذي هو الأصل في حكاية ذلك ــ حيث قال (38): (طعن عليه ــ أي البرقي ــ القميون، وليس الطعن فيه، وإنما الطعن فيمن يروي عنه، فإنه كان لا يبالي عمن يأخذ، على طريقة أهل الأخبار. وكان أحمد بن محمد بن عيسى أبعده عن قم، ثم أعاده إليها، واعتذر إليه.. ولما توفي مشى أحمد بن محمد بن عيسى في جنازته حافياً حاسراً ليبرئ نفسه مما قذفه به).
وهذه العبارة واضحة الدلالة على أن طعن القميين في البرقي كان أبعد من كونه راوياً عن الضعفاء ومعتمداً للمراسيل، بل إنهم كانوا يطعنون عليه في نفسه، وأن أحمد بن محمد بن عيسى ــ بالذات ــ قد قذفه بأمرٍ ما، وأخرجه لذلك من قم، لا لمجرد كونه غير متحرج في الرواية عن الضعفاء واعتماد المجاهيل، فإن هذا مما كان ثابتاً على البرقي، باعتراف ابن الغضائري نفسه، فلم يكن مورداً لتراجع أحمد بن محمد بن عيسى عن موقفه تجاهه وإعادته إلى قم بعد إخراجه منها.
وبالجملة: لا أساس لما قيل من أن إبعاد أحمد بن محمد بن عيسى البرقي عن قم كان لروايته عن الضعفاء واعتماده للمجاهيل، وهو يكشف عن ممارسته للعنف والقسوة فيما لا يستدعي ذلك، فلا يبقى وثوق بتصرفاته المماثلة له، كما جرى بالنسبة إلى سهل بن زياد.
وأما القول بأن النفي والإبعاد مما لا مبرر له أصلاً حتى بحق الغالين والكذابين، إذ لم يرد في الشرع الحنيف ما يدل عليه. فهو مردود بأنه قد يكون من مقتضيات النهي عن المنكر، فإن الذين يبثون الأكاذيب والعقائد الفاسدة بين الناس ويزيفون وعيهم إذا لم توجد طريقة أخرى لمنعهم من ذلك ووصل الأمر إلى النفي والطرد عن البلد يجوز ذلك، بل يتعين في حق من له القدرة عليه. وكان أحمد بن محمد بن عيسى كذلك، وقد أبعد بالإضافة إلى سهل بن زياد بعضاً آخرين، منهم محمد بن علي الصيرفي أبو سمينة، الذي كان من الغالين والكذابين المشهورين، حيث نزل عنده في قم في البداية ولما اشتهر أمره بها نفاه عنها.
ولا غضاضة على أحمد بن محمد بن عيسى فيما صنعه من ذلك أبداً (39).
هذا وقد يقدح في أحمد بن محمد بن عيسى من جهة ما ورد في خبر الخيراني (40) عن أبيه من كتمانه الشهادة على إمامة الإمام الهادي (عليه السلام).
ولكن الخبر المشار إليه ضعيف سنداً، لعدم توثيق الخيراني، حتى لو بني على كون أبيه هو خيران الخادم المعلوم وثاقته، مع أنه ليس عليه شاهد واضح.
مضافاً إلى أن هذا الخبر لا يقتضي إلا صدور هفوة من أحمد بن محمد بن عيسى في شبابه، وقد بقي بعد ذلك عشرات السنين وعظُمَ مقامه والكل متفق على مكانته المتميزة، وقد أشار إليها الصدوق (قدس سره) (41) في ضمن كلام له قائلاً: (وكان أحمد بن محمد بن عيسى في فضله وجلالته يروي عن أبي طالب عبد الله بن الصلت القمي ــ رضي الله عنه ــ).
فيلاحظ أنه عدّ رواية أحمد بن محمد بن عيسى عن عبد الله بن الصلت
القمي ميزة للأخير، مع أن الرجل كان ثقة مسكوناً إلى روايته، كما ذكر في ترجمته (42). فهو إن دلّ على شيء فإنما يدل على مدى جلالة أحمد بن محمد بن عيسى، وما كان يحظى به من مكانة رفيعة بين الأصحاب.
وقد قال عنه النجاشي (43): (أبو جعفر (رحمه الله) شيخ القميين ووجيههم وفقيههم غير مدافع). ومثل هذا ما ذكره الشيخ في الفهرست (44) وقد وثقه صريحاً في كتاب الرجال (45).
وبالجملة: لا مجال للتشكيك في مكانة أحمد بن محمد بن عيسى، وبالتالي التقليل من أهمية القدح الصادر منه بحق سهل بن زياد.
وخامساً: إن ما تقدم من أن استثناء ابن الوليد والصدوق لسهل بن زياد وآخرين من رجال نوادر الحكمة لا يدل على ضعفهم ليس بصحيح، فإن استثناء روايات جمع من جهة اشتمالها على الغلو والتخليط ظاهر جداً في القدح فيهم والطعن في وثاقتهم.
ويؤكد ذلك الكلام المتقدم الذي عقّب به ابن نوح على ما ذكره ابن الوليد، فإنه لولا دلالة الاستثناء على تضعيف المذكورين لما كان هناك وجه لاستغراب ابن نوح من استثناء العبيدي، معللاً ذلك بأنه كان على ظاهر العدالة والثقة.
وهذا أيضاً هو ما فهمه الشيخ والنجاشي وابن الغضائري من الاستثناء المذكور، كما يظهر ذلك جلياً مما ذكروه في تراجم الرجال المستثنين في كتبهم، فلاحظ.
والحاصل: أنه لا ينبغي الإشكال في أن ذكر سهل بن زياد في عداد من استثنوا من رجال نوادر الحكمة يقتضي ضعفه. بل هذا من عمدة ما يمكن
الاستدلال به على ذلك. ومن الغريب عدم الإشارة إليه في كلمات بعض من تعرض لحاله كالمحدث النوري (رحمه الله).
3 ــ وأما ما ذكر بشأن موقف العراقيين من أصحابنا تجاه سهل بن زياد من أنهم تبعوا فيه أصحابنا القميين فلا يمكن المساعدة عليه، فإن الذي يظهر من النجاشي وابن الغضائري بل وكذا الشيخ (قدّس الله أسرارهم) أنهم ما كانوا يأخذون بتضعيفات القميّين إلا بعد التدقيق والتمحيص، ومن هنا اختلفوا معهم في غير واحد من الموارد.
فالنجاشي خالف ابن الوليد والصدوق في توثيق الحسين بن الحسن اللؤلؤي، وذكر في ترجمة محمد بن موسى السمّان أن ابن الوليد كان يقول فيه (46): (إنه كان يضع الحديث) وعقّبه النجاشي بقوله: (والله أعلم) مما يدل على تأمله في ذلك وعدم تبنّيه لما قاله ابن الوليد، كما ردَّ على أحمد بن محمد بن عيسى في كلام ستأتي الإشارة إليه.
وأما ابن الغضائري فطالما خالف القميين فيما ذكروه، ومن نماذج ذلك ما ذكره في ترجمة أحمد بن الحسين بن سعيد قائلاً (47): (قال القميون: كان غالياً وحديثه ــ فيما رأيته ــ سالم) وتقدم آنفاً ما قاله في ترجمة أحمد بن محمد بن خالد من أنه (48): (طعن القميون عليه، وليس الطعن فيه، إنما الطعن فيمن يروي عنه).
ومرَّ أن الشيخ وثّق جعفر بن محمد بن مالك بالرغم من تضعيف القميين له باستثنائه من رجال نوادر الحكمة، مشيراً إلى ذلك بقوله: (ويضعفه قوم).
والحاصل: أنه لا مجال للقول بأن أصحابنا العراقيين كانوا يتبعون القميين فيما يصدر منهم من قدح وتضعيف اعتماداً عليهم من غير تدقيق زائد، فليس لتضعيفهم في مثل ذلك قيمة مضافة.
وأما ما ذكر من أن قول النجاشي بشأن سهل بن زياد: إنه (كان ضعيفاً الحديث) لا يدل على تضعيفه، فهو أيضاً مما لا يمكن المساعدة عليه، فإن قولهم: (فلان ضعيف في الحديث) إنما هو في مقابل قولهم: (فلان ثقة في الحديث)، والمتبادر منه إرادة ضعف حديث الشخص من حيث ضعف نفسه، لا ضعف من رواه عنه.
ولو كان الشخص ثقة في نفسه ولكنه يروي الأحاديث الضعيفة لقيل فيه كما قاله النجاشي (49) في محمد بن أحمد بن يحيى: (ثقة في الحديث إلا أن أصحابنا قالوا: كان يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، ولا يبالي عمن أخذ، وما عليه في نفسه مطعن من شيء) فيلاحظ أنه وصفه بالوثاقة في الحديث ثم أشار إلى ضعف جملة من أحاديثه من جهة روايته عن الضعفاء واعتماده للمراسيل.
وأما أن يذكر فلان بأنه ضعيف في الحديث ويراد ضعف الحديث الذي يرويه من جهة غيره فهذا خلاف الظاهر.
ويبدو أن الذي دعا جمعاً إلى تفسيره بذلك هو أن النجاشي قال في محمد بن خالد البرقي أنه كان ضعيفاً في الحديث، في حين وثقه الشيخ وابن الغضائري، ونص الأخير على أنه كان يروي عن المطعونين، فجعلوا هذا قرينة على أن مراد النجاشي بما ذكره في حقه هو ضعف ما يرويه من الأحاديث، ثم فسروا بذلك التعبير المذكور أينما ورد في التراجم. ولكنه تأويل لا يحمل الكلام عليه إلا بقرنية، وهي مفقودة في المقام.
بل يمكن القول: إن القرينة هنا على خلافه، حيث لم يكتفِ النجاشي بقوله في سهل: (كان ضعيفاً في الحديث) بل أضاف إليه قوله: (غير معتمد فيه) ثم عقّبه بالحكاية عن أحمد بن محمد بن عيسى أنه كان يشهد عليه الغلو والكذب، فهذا الكلام بمجموعه كالصريح في ضعف سهل بن زياد.
ومن الغريب ما قيل من أن عدم ردّ النجاشي على ما نقله عن أحمد بن محمد بن عيسى يدل على توقفه في وثاقة سهل، فإنه لا دلالة فيه على ذلك
بوجه، بل هو ظاهر في قبوله بما ذكره وإقراره عليه. وإلا لعقّب عليه بما يشير إلى خلافه كما صنع ذلك في بعض الموارد الأخرى، كما في ترجمة علي بن محمد شيرة القاساني حيث قال (50): (كان فقيهاً، مكثراً من الحديث، فاضلاً، غمز عليه أحمد بن محمد بن عيسى وذكر أنه سمع منه مذاهب منكرة. وليس في كتبه ما يدل على ذلك).
وقد تقدم آنفاً أنه عقّب على ما حكاه عن ابن الوليد من اتهام محمد بن موسى السمان بالوضع بقوله: (والله أعلم) فلو كان شاكاً في اتهام أحمد بن محمد بن عيسى لسهل بن زياد بالغلو والكذب لعقّب عليه بمثل ذلك.
والحاصل: أنه لا ينبغي الإشكال في دلالة ما ذكره النجاشي على عدم وثاقة سهل، والتشكيك في ذلك في غير محله جداً.
أما ما ذُكر بشأن ابن الغضائري من أنه يتسرع في القدح ويتشبث فيه بأدنى شبهة فقد أوضحت الجواب عنه وحشد الشواهد على خلافه في الكلام حول كتاب ابن الغضائري، فليراجع (51).
وأما ما قيل من أن تضعيف الشيخ في الفهرست معارض بتوثيقه في كتاب الرجال الذي قيل أنّه متأخر عن الفهرست تأليفاً، لإشارته إليه فيه، فيكون التوثيق مقدماً على التضعيف، ولا أقل من تساقطهما والرجوع في توثيق الرجل إلى ظهور حال علي بن إبراهيم وابن قولويه في توثيقه.
ففيه مواقع للخدش:
أولاً: إن كتاب الرجال وإن كان متأخراً عن الفهرست في التأليف، ولكن ليس الدليل على ذلك هو الإشارة والإرجاع إليه فيه كما قيل، فإنه يحتمل أن يكون ذلك مما أضافه عليه لاحقاً، كما نجده قد أرجع في خاتمة مشيخة التهذيب إلى الفهرست، مع أن من المقطوع به أنه مما ألّفه بعده وأن الإرجاع إليه من الإضافات اللاحقة. والشاهد عليه أنه لم يرجع إليه في خاتمة مشيخة الاستبصار المتأخر تأليفاً عن التهذيب.
ويضاف إلى ذلك: أنه قد ذكر (قدس سره) اسم كتاب الرجال في عداد مؤلفاته في الفهرست قائلاً (52): (كتاب الرجال من روى عن النبي والأئمة الاثني عشر ومن تأخر عنهم) فإن لم يحتمل التزامن بينهما في التأليف يدور الأمر بين كون ما أشير به إلى الفهرست في كتاب الرجال من الإضافات اللاحقة عليه وكون ما أشير به إلى الرجال في كتاب الفهرست كذلك، ولا يمكن البناء على أي من الاحتمالين من دون قرينة واضحة.
هذا والصحيح أن يستشهد على تأخر الرجال عن الفهرست تأليفاً بما ورد في ترجمة زرارة بن أعين في الفهرست عند ذكر أخوته وأولادهم من قوله (قدس سره) (53): (لهم أيضاً روايات عن علي بن الحسين والباقر والصادق (عليهم السلام)، نذكرهم في كتاب الرجال إن شاء الله تعالى) فإن هذه العبارة واضحة الدلالة على أنّه لم يكن قد ألّف كتاب الرجال آنذاك، وإنما كان من قصده تأليفه لاحقاً.
ولكن مع ذلك لا يمكن الوثوق بأن كل ما ورد في كتاب الرجال هو متأخر عما ورد في الفهرست، فإن الإضافة على الكتب بعد الانتهاء من تأليفها أمر متداول بين المؤلفين.
ومن نماذج ذلك في كتب الشيخ (قدس سره) ما تقدم آنفاً من الإرجاع إلى الفهرست في خاتمة مشيخة التهذيب.
ومنها: إضافة اسم كتاب الرجال إلى قائمة مؤلفاته في الفهرست.
ومنها: إيراد تاريخ وفاة السيد المرتضى (قدس سره) في خاتمة ترجمته في الفهرست، فإن من الواضح من سياق الترجمة أنها كتبت في أيام حياة السيد، حيث دعا له في أولها بطول العمر.
والملاحظ أنه لم يصنع مثل ذلك في كتاب الرجال، فإن ترجمة السيد فيه قد كتبت أيضاً أيام حياته ولم يضف إليها تاريخ وفاته بعد ذلك.
وتجدر الإشارة إلى أنه يحتمل أن يكون بعض الاختلاف بين نسخ الفهرست، وكذلك بين نسخ الرجال في الاشتمال على بعض الفقرات من التوثيق أو غيره ــ مما أشير إليه في الطبعات المحققة من الكتابين (54) ــ ناشئاً من إدخال الشيخ (قدس سره) بعض الإضافات عليها بعد الانتهاء من تأليفهما وانتشار نسخهما، فتدبر.
وكيف كان فلا وثوق بتأخر التوثيق الوارد في كتاب الرجال عن التضعيف الوارد في الفهرست وإن كان كتاب الرجال متأخراً عنه في التأليف.
وثانياً: إنه لو سلمنا ثبوت تأخر التوثيق الوارد في الرجال عن التضعيف الوارد في الفهرست إلا أنه لا سبيل إلى إحراز تأخره عن التضعيف الوارد في الاستبصار، ومعه لا سبيل إلى الأخذ به في مقابله، كما هو ظاهر.
وثالثاً: إن ما ذكر من أنه مع تأخر التوثيق عن التضعيف تكون العبرة به، ولا أقل من تساقطهما والرجوع إلى توثيق الآخرين لسهل بن زياد، غير تام.
فإنه إذا بني على حجية قول الرجالي من باب حجية رأي أهل الخبرة ــ نظير الفتوى في الفقه ــ فلا بد من الالتزام بتقديم التوثيق المتأخر، مثل ما إذا صدر من الفقيه فتوى بالحِلّ تارة وبالحرمة أخرى فإنه يؤخذ بالمتأخر منهما، ولا عبرة بالمتقدم، ولا يُحكم بتساقطهما والرجوع إلى الغير.
وإن بني على حجية قول الرجالي من باب حجية خبر الثقة في الموضوعات، على أساس استناده إلى نقل كابر عن كابر ــ كما هو مبنى السيد الأستاذ (قدس سره) ــ فيقع التعارض بين التوثيق المتأخر والتضعيف المتقدم، ولا مجال للترجيح بالتأخر الزماني، فإن من أخبر عن واقعة حسّية بخبرٍ ثم أخبر عن الواقعة نفسها بخلاف الخبر الأول لا يعتد العقلاء بالخبر الثاني لمجرد تأخره.
نعم إذا حصل الوثوق باشتباهه في خبره الأول ولو من جهة اعترافه بخطأ
منشئه فهو أمر آخر، وإلا فيتعامل مع الخبرين معاملة الخبرين المتعارضين، بل الخبر الصادر من شخص غيره موافقاً لمضمون أحد الخبرين يكون أيضاً طرفاً في التعارض للخبر الآخر، لا أنه يتساقط الخبران الصادران من الشخص الأول ويعتمد على ما صدر من الثاني.
وبالجملة على هذا المبنى لو سُلّم وجود توثيق لسهل بن زياد غير توثيق الشيخ له يكون طرفاً للمعارضة مع التضعيف الصادر من الشيخ، لا أنه يكون هو المرجع بعد تساقط تضعيف الشيخ وتوثيقه.
ورابعاً: إنه لا يوجد توثيق لسهل بن زياد غير توثيق الشيخ له في كتاب الرجال، فإن ورود اسمه في (كامل الزيارات) لا يدل على توثيق جعفر بن محمد بن قولويه له، كما هو موضح في محله.
وكذلك ورود اسمه في (تفسير القمي) لا يقتضي كونه موثقاً من قبل علي بن إبراهيم، كما تقدم في الفصل الثالث (55).
هذا مضافاً إلى أن سهل بن زياد ليس ممن ورد اسمه في أصل تفسير القمي بل في القسم المزيد عليه من قِبل بعض تلامذته، فقد ذكر في موضعين منه (56)، والراوي عنه في كلا الموضعين هو محمد بن أبي عبد الله، وهو في طبقة علي بن إبراهيم، أي الطبقة الثامنة، وليس ممن يروي عنه علي بن إبراهيم، بل يروي عنهما تلميذهما الكليني ومن في طبقته.
وبالجملة لا يوجد في مقابل قدح أحمد بن محمد بن عيسى وابن الوليد والصدوق وابن نوح والنجاشي وابن الغضائري وحتى الشيخ في الفهرست والاستبصار ما يقتضي وثاقة سهل بن زياد عدا توثيق الشيخ (قدس سره) له في كتاب الرجال. وهذا التوثيق وإن لم يكن معارضاً بالتضعيف الصادر من نفسه لما كان يصلح لمقابلة القدح الصادر من أمثال ابن الوليد وابن نوح والنجاشي وابن الغضائري من أئمة الفن، لما يعرفه الممارس من تقدم هؤلاء على الشيخ (قدس سره) في علم الرجال، فكيف وهو معارض بما صدر منه نفسه من التضعيف؟!
والحاصل: أن البناء على وثاقة سهل بن زياد مع كل ما صدر في حقه من القدح والتضعيف في غاية الإشكال.
وبهذا يظهر أنه ليس من السهل أن يقال: (إن الأمر في سهل سهل) كما ورد في كلمات عدد من أعلام المتأخرين كالأستاذ الأكبر المحقق البهبهاني (57) والمحقق القمي (58) والسيد صاحب الرياض (59) والسيد صاحب مفتاح الكرامة (60) والشيخ صاحب الجواهر (61) والشيخ الأعظم الأنصاري (62) والسيد الحكيم (63) وآخرين.
هذا تمام الكلام في الجهة الأولى، أي فيما يتعلق بوثاقة سهل بن زياد وضعفه.
الجهة الثانية: أنه بعد البناء على عدم ثبوت وثاقة سهل بن زياد، فهل مقتضى ذلك عدم الاعتداد بشيء من الروايات التي وقع في أسانيدها ــ وعمدتها ما في الكافي حيث يبلغ عددها ما يقارب الألف ومائتي رواية ــ أو أنه يمكن الاعتماد عليها إما مطلقاً أو في خصوص ما إذا كانت مروية بطريقه عن ابن أبي نصر وأمثاله من أصحاب الكتب المشهورة؟
فيه كلام بين الأعلام (رضوان الله عليهم):
فقد ذكر السيد بحر العلوم (قدس سره) (64): (أن الرواية من جهته ــ أي سهل بن زياد ــ صحيحة، وإن قلنا بأنه ليس بثقة لكونه من مشايخ الإجازة، لوقوعه في طبقتهم، فلا يقدح في صحة السند كغيره من المشايخ الذين لم يوثقوا في كتب الرجال، وتعدّ أخبارهم ــ مع ذلك ــ صحيحة.. فإنهم ــ أي مشايخ الإجازة ــ إنما يذكرون في السند لمجرد الاتصال والتبرك، وإلا فالرواية من الكتب والأصول المعلومة حيث إنها كانت في زمان المحمدين الثلاثة ظاهرة معروفة كالكتب الأربعة في زماننا، وذكرهم المشايخ في أوائل السند كذكر المتأخرين الطريق إليهم مع تواتر الكتب وظهور انتسابها إلى مؤلفيها).
ولكن هذا الكلام مما لا يمكن المساعدة عليه:
أولاً: فلأنه إن تم فإنما يتم بالنسبة إلى من لم يكن بنفسه صاحب كتاب ــ كأحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد ــ فيقال: إن دور مثله في نقل الأحاديث لا يكون إلا شرفياً بحتاً، وهو إجازة كتب الآخرين، وأما إذا كان الشيخ الواقع في السند صاحب كتاب يحتمل أن يكون الحديث مأخوذاً من كتابه، فلا سبيل إلى البناء على كونه شيخ إجازة حتى يستغنى عن إثبات وثاقته.
وسهل بن زياد كان كذلك، حيث ذكر له بعض الكتب ككتاب التوحيد وكتاب النوادر ــ وهذا الأخير رواه النجاشي بإسناده عن محمد بن يعقوب عنه ــ فاحتمال كون الروايات التي وقع في طريقها في الكافي مأخوذة من كتبه ــ ولو في الجملة ــ احتمال قائم لا سبيل إلى دفعه، ولا يصح أن يقاس الكليني بالشيخ الذي صرح بأنه إنما يبتدأ باسم من أخذ الحديث من أصله وكتابه.
وثانياً: إنه لو سلّم أن مصدر الكليني في الأحاديث التي رواها عن طريق سهل لم يكن كتبه بل بعض الكتب والأصول الأخرى التي أجاز له روايتها، ولكن لا دليل على أن تلك الكتب والأصول جميعاً كانت مشهورة متداولة بكثرة في عصر الكليني (قدس سره) بحيث كان احتمال الدسّ والتزوير فيها ضعيفاً جداً، فإن من الواضح أنه لا يكفي ــ في الاعتماد على النسخة المروية عن طريق من لم تثبت وثاقته ــ كون أصل الكتاب معروفاً ومعلوم الانتساب إلى صاحبه، بل لا بد أن تكون نسخه معروفة متداولة في ذلك العصر بحيث يُطمئن بعدم الدسّ والتزوير ونحوهما في تلك النسخة، فإنه متى ما كان الكتاب كثير النسخ يضعف احتمال وقوع التغيير والتبديل في نسخته الواصلة إلى الشخص عن طريق من لم تثبت وثاقته.
ولم يعلم أن جميع الكتب التي اعتمدها أصحاب الجوامع في تآليفهم إنما كانت من هذا القبيل، أي متداولة النسخ بكثرة، بل المظنون ــ بمقتضى القرائن والشواهد ــ خلاف ذلك. وليس مقصود الصدوق (قدس سره) بقوله في مقدمة الفقيه (65) من أن: (جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة، عليها المعول وإليها المرجع)، أن جميع تلك الكتب كانت متداولة النسخ بحد يستغنى معه عن الطرق إلى نُسخها، بل مقصوده أنها كانت كتباً مشتهرة بين الأصحاب من حيث الاعتماد عليها والأخذ بما ورد فيها. ولا ينافي ذلك لزوم التأكد من صحة نسخها من خلال طرق صحيحة أو بعض الشواهد والقرائن.
والحاصل: أن محاولة تصحيح روايات سهل بن زياد في الكافي بصورة عامة من حيث كونه من مشايخ الإجازة غير تامة.
نعم يظهر من العلامة المجلسي الأول (قدس سره) أنه يتبنى هذه المحاولة ولو بصورة محدودة وذلك بالنسبة إلى خصوص الروايات التي رواها عن الحسن بن محبوب وابن أبي نصر البزنطي.
قال (قدس سره) (66) عند تعرضه لإحدى روايات سهل المروية عن البزنطي في الكافي: (وطريق الكليني وإن كان فيه سهل بن زياد لكن الظاهر أنه شيخ إجازة كتاب ابن أبي نصر هنا وفي كل المواضع، لأنه ليس بصاحب كتاب، وكتاب ابن أبي نصر وأمثاله مثل حماد وابن أبي عمير وصفوان كان متواتراً عندهم).
وقال في موضع آخر (67) بشأن بعض أخبار سهل عن ابن محبوب في الكافي: (إن الظاهر القريب من العلم أن الكليني رواه عن كتاب ابن محبوب ويذكر الطرق لاتصال السند).
وإذا تم ما أفاده (قدس سره) في تصحيح روايات الكليني عن سهل عن الحسن بن محبوب وابن أبي نصر فهو نافع جداً، فإن عدد تلك الروايات يزيد على خمسمائة رواية ــ حسب ما أحصاها السيد البروجردي (قدس سره) (68) ــ وهو عدد كبير.
والملاحظ أن مبنى ما ذكره (قدس سره) أمران:
الأول: أن كتب البزنطي وابن محبوب كانت مشهورة متداولة النسخ في عصر الكليني ولم تكن بحاجة إلى الطريق إليها، كما هو حال الكتب الأربعة في الأعصار الأخيرة.
الثاني: أن سهل بن زياد لم يكن له كتاب يحتمل أن تكون الروايات المروية في الكافي عن طريقه مقتبسة من ذلك الكتاب، فإنه لم يذكر لسهل إلا كتاب التوحيد وكتاب النوادر، والأول يختص بباب معين من أبواب الأصول، وأما النوادر فمن المستبعد جداً اشتماله على ما يزيد على خمسمائة حديث عن ابن أبي نصر وابن محبوب وحدهما، وعلى ذلك يتعيّن أن يكون الكليني (قدس سره) قد أخذ تلك الروايات من كتب البزنطي وابن محبوب فتكون معتبرة.
ونظير هذا الكلام يجري بالنسبة إلى رواة آخرين أيضاً، فإن الظاهر أن ما رواها الكليني عن طريق سهل عن محمد بن الحسن بن شمّون ــ وهي تزيد على ثمانين رواية ــ قد أخذها من كتب ابن شمّون (69)، وما رواها عن سهل عن جعفر بن محمد الأشعري عن عبد الله بن ميمون القداح ــ وهي تقرب من تسعين رواية ــ قد أخذها من كتاب ابن القداح، وما رواه عن سهل عن علي بن أسباط ــ وهي تزيد على خمسين رواية ــ قد أخذها من كتاب ابن أسباط، وهكذا.
والحاصل: أنه إذا أحرز أن الكتاب الذي أخذ الكليني منه ما رواه بطريق سهل كان كتاباً مشهوراً معروفاً لم يضر عدم ثبوت وثاقة سهل بالاعتماد على ما رواه، إذ في مثله ينحصر دوره في إجازة ذلك الكتاب فيكون دوراً شرفياً بحتاً وغير مؤثر في صحة النقل.
هذا هو ما أفاده العلامة المجلسي الأول (قدس سره) مع بعض التوضيح.
ولكنه لا يخلو من ضعف، فإنه يمكن المناقشة في الأمر الأول بأنه لم يثبت أن جميع كتب ابن محبوب وابن أبي نصر كانت كتباً معروفة مشهورة. نعم لعل كتاب المشيخة لابن محبوب والجامع للبيزنطيّ كانا كذلك، ولكن لكل منهما كتب أخرى أيضاً فأنى لنا معرفة أن الكليني أخذ جميع ما رواه عن سهل عن ابن محبوب والبزنطي من كتابيهما المعروفين المتداولين؟!
ويمكن المناقشة في الأمر الثاني بأن استبعاد اشتمال كتاب النوادر لسهل بن زياد على ألف ومائتي حديث وكون خمسمائة منها عن ابن محبوب وابن أبي نصر استبعاد في غير محله، فقد ذكر الشيخ (قدس سره) (70): أن كتاب النوادر للحسن بن محبوب كان ألف ورقة. وهو حجم كبير جداً، فلو كان كتاب نوادر سهل بن زياد بمقدار العشر من ذلك لكفى في احتواء العدد المذكور من الأحاديث.
إن قلت: يمكن إثبات أن مصدر الكليني فيما نقله عن الحسن بن محبوب وابن أبي نصر غير كتاب سهل بوجه آخر، وهو أن الملاحظ أن ما يرويه عنهما تارة يكون بسند واحد، وأخرى بسند مزدوج، وثالثة بأزيد من سندين، وهذا يدل على أنه لم يكن يأخذ أحاديثهما من كتاب سهل، وإلا لم يكن الطريق إليهما متعدداً في بعض الأحيان بل كان واحداً دائماً.
وقد أشار إلى هذا المعنى العلامة المجلسي الأول (قدس سره) (71) قائلاً: (كان له طرق ــ أي الكليني ــ كثيرة إلى كتبه ــ أي كتب ابن محبوب ــ ولتفنن الطريق يروي في كل مرة بطريق من طرقه وقد يجمع جميع طرقه عنه).
قلت: إن هذا الوجه مخدوش، ولو سلم عن الخدش لكان يستغنى به عن إثبات شهرة نسخ كتب ابن محبوب والبزنطي في عصر الكليني، لأن بعض الطرق المشار إليها صحيح بلا إشكال ــ كما سيتضح مما سيأتي ــ.
ووجه الخدش فيه: هو أن هناك احتمالاً آخر في المقام لا يمكن إغفاله، وهو أن يكون الكليني (قدس سره) قد أخذ روايات الحسن بن محبوب والبزنطي من مصادر متعددة، ولذلك اختلفت أسانيده إليها، كما يلاحظ ذلك بالنسبة إلى الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيبين، حيث يظهر مما ذكره في المشيخة أنه قد أخذ بعضاً مما رواه عن ابن محبوب من الكافي (72)، وبعضه من كتبه ومؤلفاته (73)، وبعضه الآخر من نوادر أحمد بن محمد بن عيسى (74)، وغير ذلك.
وأيضاً يظهر من المشيخة أن ما رواه عن أحمد بن محمد بن عيسى قد أخذ بعضه من نوادره (75)، وبعضه من الكافي (76)، وبعضه من كتاب محمد بن علي بن محبوب (77)، وغير ذلك.
ويحتمل مثل ذلك في الكافي، بأن يكون بعض ما رواه الكليني عن الحسن بن محبوب مما أخذه من كتاب سهل، وبعضه من كتاب علي بن إبراهيم، وبعضه من كتاب محمد بن يحيى العطار أو أحمد بن محمد بن عيسى، وبعضه من كتاب الحسن بن محبوب نفسه.
وفي الحالة الأخيرة يذكر أسانيده الثلاثة إلى كتاب الحسن بن محبوب فيقول (78): علي بن محمد عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى وغيره عن أحمد بن محمد وعلي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن محبوب. أو يذكر سندين منها فقط فيقول (79): علي بن محمد وغيره عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن محبوب. أو يقول (80): عدة من أصحابنا عن سهل وعلي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن محبوب.
وكذا الحال بالنسبة إلى ابن أبي نصر فقد يأخذ حديثه من كتاب سهل، وقد يأخذه من كتاب علي بن إبراهيم، وقد يأخذه من كتاب محمد بن يحيى أو أحمد بن محمد بن عيسى، وقد يأخذه من كتاب ابن أبي نصر نفسه.
وفي الحالة الأخيرة قد يذكر طريقين إلى كتابه فيقول (81): علي بن محمد عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن أبي نصر. أو يقول (82): علي بن إبراهيم عن أبيه وعلي بن محمد عن سهل بن زياد عن ابن أبي نصر.
وقد يذكر ثلاثة طرق (83) فيقول: عدة من أصحابنا عن سهل وعلي بن إبراهيم عن أبيه وعلي بن محمد عن أحمد بن محمد عن أبي نصر.
وبالجملة: احتمال أن يكون اختلاف الأسانيد إلى روايات ابن محبوب والبزنطي ناشئاً من اختلاف المصادر التي اعتمدها الكليني في نقلها احتمال وارد ولا دافع له.
وهناك احتمال آخر ــ ولعله الأرجح ــ وهو كون تعدد الأسانيد من جهة الجمع بين المصادر، أي أنه إذا وجد الحديث في كتاب سهل عن ابن محبوب مثلاً أورده بسنده، وإن وجده في كتاب سهل وكتاب محمد بن يحيى أو أحمد بن محمد بن عيسى أورده عنهما، وإن وجده في كتاب علي بن إبراهيم أيضاً أورده عن الثلاثة وهكذا.
وممّا يشهد لهذا أنّه روى في بعض المواضع (84) عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى عن أحمد بن محمد وحُميد بن زياد عن ابن سماعة عن ابن محبوب، مع أن حميد بن زياد عن ابن سماعة ليس من طرقه إلى كتاب ابن محبوب، كما يظهر ذلك للمتتبع.
وهذه الطريقة أي إيراد الرواية الواحدة عن عدة مصادر والجمع بين أسانيده المنتهية إلى أحد الرواة طريقة معروفة بين المحدثين، وممن جرى عليها المحقق الفيض الكاشاني في تأليفه الوافي، حيث جمع فيه روايات الكتب الأربعة وأورد أسانيد رواياتها بالطريقة المذكورة.
وعلى ذلك فلا سبيل إلى التأكد من أن الكليني قد أخذ من كتب ابن محبوب والبزنطي شيئاً مما أورده من رواياتهما، بل المحتمل قوياً أنه قد أخذها جميعاً من كتب مشايخه، أو مشايخ مشايخه. وكل ما يقال غير ذلك فلا يتعدى في أحسن الأحوال إلا الظن الذي لا يغني عن الحق شيئاً.
فتحصل من جميع ما تقدم: أنه لا سبيل إلى تصحيح روايات سهل بن زياد، لعدم ثبوت وثاقته، ولا كونه مجرد شيخ إجازة فيما رواه الكليني بطريقه عنه، حتى في رواياته عن الحسن بن محبوب وابن أبي نصر من أصحاب الكتب المشهورة فضلاً عن غيرهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|