الجيوبوليتيكا Geopolitik والجيوستراتيجية Geostrategy

من خلال العلاقة ما بين الجغرافية السياسية وقوة الدولة برز اتجاه جديد لدى بعض الجغرافيين السياسيين الذين ركزوا اهتمامهم على هذه الناحية بالذات (قوة الدولة)، والتزام فريق منهم حدود المصلحة القومية الذاتية الضيقة لدولة معينة ، بينما استخدم فريق آخر هذه العلاقة بشكل أوسع وأشمل، سواء على المستوى العالمي او في حالتي السلم والحرب. ومن هنا ظهر اتجاهان مختلفان في التطبيق الجغرافي السياسي هما: الجيوبوليتيكا ، والجيوستراتيجية ، الأولى بمفهومها الضيق والثانية بمفهومها الواسع.

وكان من نتيجة اهتمام بعض الجغرافيين السياسيين بعلاقة الجغرافية السياسية بقوة الدولة انكمش موضوعها في النصف الأول من هذا القرن في حدود الجيوبوليتيكا الضيقة وكان أكثر المتحمسين لهذا الاتجاه او النزعة وأشدهم تطرفاً هم الجغرافيون السياسيون الألمان والتي أصبحت فيما بعد سلاح فعال بيد السياسة النازية علماً بأن هذه التسمية (الجيوبوليتيكا) وردت لأول مرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على لسان المؤرخ والسياسي السويدي كيلين Rudolf Kyellen الذي عاش من سنة ١٨٦٤ الى سنة ١٩٢٢. وتعريف الجيوبوليتيكا بانها العلم الذي يبحث عن العلاقة بين الأحداث السياسية والأرض ، ومعنى هذا فهو يربط السياسة بالأرض ، فهي تعتمد بذلك على الأسس الجغرافية وخاصة الجغرافية السياسية ، فالجيوبوليتيكا تمهد للعمل السياسي ، وتعطي الأسس اللازمة للحياة السياسية ، يجب ان تكون الجيوبوليتيكا الضمير الجغرافي للدولة

وفي تعريف آخر لأوتومول Otto Maull أحد كتاب معهد ميونيخ وأحد أتباع ها وسهوفر : تعني الجيوبوليتيكا بالدولة وتحاول حل جميع المشكلات الخاصة بمجالها الأرضي ، فالجيوبوليتيكا اذن تعنى بدراسة المطالب المكانية للدولة ، بينما تفحص الجغرافية السياسية ظروف مجالها الأرضي الحالي. فالجيوبوليتيكا نظام يزن ويقيم موقف ما ، وفي النهاية يبحث عن الطريق العلمي لتنفيذ السياسة . ويذهب Weigert الجغرافي الأمريكي الى ان الجيوبوليتيكا هي استعمال الأسس والمبادئ الجغرافية في لعبة القوة ، بينما يعرفها تايلور  Taylor بأنها الجغرافية السياسية مشحونة بالعواطف ، من ثم تكمن فيها دعوة العمل. على الرغم من أن الجيوبوليتيكا هي وليدة الجغرافية السياسية، او بكلمة أخرى ان الجغرافية السياسية هي الأصل الذي تفرعت عنه الجيوبوليتيكا كما يقول ها وسهوفر ، فإن ثمة اختلافات فيما بينهما حيث يلاحظ ان الجغرافية السياسية تبحث في الدولة وتعنى بتحليل بيئتها الطبيعية والبشرية تحليلاً موضوعياً ، تقوم الجيوبوليتيكا بدراسة الوضع الطبيعي للدولة من ناحية مطالبها في مجال السياسة الدولية.

والجيوبوليتيكا دراسة ديناميكية ، عرضة لعوامل التغيير ، على حين أن العوامل الجغرافية في العلاقات الدولية وهي أساس دراسة الجغرافية السياسية) ثابتة ويوجز الدكتور امين محمود عبد الله الاختلافات بين الجغرافية السياسية والجيوبوليتيكا على النحو التالي:

1- ان الجيوبوليتيكا ترسم خطة لما يجب ان تكون عليه الدولة بينما الجغرافية السياسية تدرس كيان الدولة كما هو في الواقع.

2- ان الجيوبوليتيكا ترسم حالة الدولة في المستقبل بينما تقتصر الجغرافية السياسية على رسم صورة الدولة في الماضي والحاضر.

3- ان الجيوبوليتيكا متطورة متحركة Dynamic ، بينما الجغرافية السياسية أميل الى ان تكون ثابتة.

4- ان الجيوبوليتيكا تجعل الجغرافية في خدمة الدولة، بينما الجغرافية السياسية مرآة للدولة تعكس صورتها الحقيقية كما تدرس السياسة العالمية، من وجهة نظر قومية ضيقة ومغرضة بينما الجغرافية السياسية علم حذر وتقوم دراسته على أساس موضوعي.

5- ان الجيوبوليتيكا تعتنق فلسفة القوة ، وترسم الخطط الاستراتيجية التي يحقق السيطرة، بينما الجغرافية السياسية تدرس مقومات القوة دراسة متجردة غير متأثرة بدوافع معينة.

وكنتيجة منطقية للاتجاه الجديد المتمثل بالجيوبوليتيكا الذي اتخذ نهجاً متميزاً عن الجغرافية السياسية ، إن برز اتجاه آخر معارض له هادفاً الى توسيع دائرة الجغرافية السياسية بما يتفق مع المفهوم الأوسع والميدان الأرحب لعلم الجغرافية العام، وبالتالي ظهرت الحاجة الى اصطلاح آخر يتفق مع الأهمية الكبرى للجغرافية بالنسبة للعلاقات القومية والدولية ككل . ولننظر مثلاً في صلة الموقع بالتجارة الخارجية او الأحلاف العسكرية او أثر طبيعة الحدود في الامتزاج الثقافي او علاقة الطبوغرافيا بالتجارة الخارجية، ان هذه المسائل وغيرها تتميز بالديناميكية أكثر مما تتميز بالثبات والجمود ، وهي ذات صلة وثيقة في نفس الوقت بأبحاث السياسة والتخطيط . انها (باختصار) هي الجغرافية التطبيقية في مجال العمل او هي الجيوستراتيجية.

والتعريف المألوف للاستراتيجية انها التخطيط العسكري في مجال التطبيق ، ومع ذلك فقد تجاوز مفهوم الاستراتيجية العمل العسكري الى العمل الاقتصادي والسياسي ، فأصبحت تعني جميع جوانب التخطيط ، العسكري والاقتصادي والسياسي ، في اطارها العملي او التطبيقي.

وعلى ذلك فان الجيوستراتيجية هي التخطيط السياسي والاقتصادي والعسكري ، الذي يهتم بالبيئة الطبيعية من ناحية استخدامها في تحليل او تفهم المشكلات الاقتصادية او السياسية ذات الصفة الدولية . او تبحث الجيوستراتيجية في المركز الستراتيجي للدولة او للوحدة السياسية متناولة بالتحليل الى عناصره او عوامله الجغرافية العشرة ، وهي : الموقع ، والحجم ، والشكل ، والاتصال بالبحر ، والحدود ، والعلاقة بالمحيط ، والطبوغرافيا ، والمناخ ، والموارد ، والسكان.