أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-5-2020
1702
التاريخ: 21-2-2021
1665
التاريخ: 22-5-2022
1361
التاريخ: 2024-06-06
675
|
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): "يا علي أوحى الله تبارك وتعالى إلى الدنيا: اخدمي مَن خدمني وأتعبي من خدمك" (1).
الدنيا مرحلة انتقاليّة:
مِن الغريب حقّاً أن ينصهر الإنسان في حبّ الدنيا فلا شغل شاغل له إلا الدنيا ويضحى وكأنّ الدنيا جزء من قواه وكيانه الذي لا يمكنه أن يستغني عنه فيعيشها بروحه ومشاعره وأحاسيسه وأفكاره بما لا يبقي جانباً من جوانبه الإنسانيّة إلّا وقد ملأه حبّ الدنيا، وحينئذٍ تكون كلّ موازينه وتصرّفاته والمعادلات التي يؤمن بها ولا يتعامل بغيرها دنيويّة وعادة الأمور الدنيويّة لها بريق يخطف أبصار الذين غرّتهم الدنيا وخُدعوا بها. وهم بالمقابل لا يدركون أنّ هذا البريق له عمر وينتهي في لحظة ما.
يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "ضلال العقل يُبعد من الرشاد ويفسد المعاد" (2).
لا شكّ أنّ الدنيا ونعمها جميلة وجذّابة تستهوي الإنسان ولكنّ العاقل هو الذي يأخذها ويسخّرها لخدمته وغير العاقل يسخّر نفسه لخدمة دنياه.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "الدنيا دار ممرّ لا دار مقر والناس فيها رجلان: رجل باع فيها نفسه فأوبقها ورجل ابتاع نفسه فأعتقها" (3).
فإنّ الله (عزّ وجلّ) قد سخّر الدنيا وما فيها للإنسان لكي يسخّرها من أجل الوصول إلى أهدافه السامية. يقول الشاعر:
لو كان يُهدى إلى الإنسان قيمته *** لكان يُهدى لك الدنيا وما فيها
وهذا هو المنهج الصحيح؛ لأنّ الغاية من خلق الإنسان هو وصوله إلى كماله ومن ثّمّ البقاء والخلود في الجنّة وهذا نوع كمال آخر ومن أجل وصوله إلى ذلك فقد سخّر الله له العديد من مخلوقاته في الحياة الدنيا فكانت الدنيا وما فيها مرحلة عبور وانتقال ولم تكن غاية ومحطّة بقاء ولذلك فإنّ جميع ما في الدنيا موسوم بالفناء والاضمحلال كما يقول الشاعر:
ألا كلُّ شيءٍ ما سوى الله باطلُ *** وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ
والإنسان الواعي يدرك هذا بقليل من التأمّل والتدبّر ولكن عندما يغيب الفكر والوعي يبدأ هدف الإنسان بالتلاشي في داخله فينظر إلى الأمور الدنيويّة وكأنّها أهداف لا بدّ من الوصول إليها وينظر إلى الدنيا وكأنّها محطته الأخيرة. نعم يمكن أن يعتقد الإنسان بالآخرة ولكن هذا الاعتقاد غير واضح في سلوكه بل إنّه يعيش الفكرة على طرفَي نقيض فيلاحظ إحاطة الأشياء به واستغراقه بها ولا ينقطع عن التفكير بها والركض وراءها لأنّه يشخّصها باعتبارها هدفاً له بعد أن فقد هدفه الرئيسيّ.
ولذلك نلاحظ أنّ القرآن الكريم عندما يعرض الحياة الدنيا يستعرضها وكأنّها مراحل انتقالية لا يجب التمسك بها فالقرآن يسمها بسمات تدلّ على ضعتها وتسافلها.
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].
وجاء في تفسير الآية (4) أنّ اللعب هو عمل منظوم لغرض خيالي كلعب الأطفال. واللعب هو عكس الجديّة والعمل المثمر. فيصف الدنيا وكأنّها لعب ينتهي في لحظة ما، عكس العمل الجدّي المثمر فإنّه يتمتّع بالاستمراريّة والعطاء.
ثمّ يقول تعالى: "لهو" واللهو، ما يشغل المرء عمّا يهمه. فيصفها باللّهو؛ لأنّها تصرف الإنسان عمّا يهمّه إلى ما لا يهمّه فيفقد هدفه العظيم وينصرف إلى قضايا وأمور تنتهي في الدنيا ولا ثمرة لها في الآخرة هذا إذا لم تضر في الدنيا.
عن الشيخ البهائي (ره):
إنّ الخصال الخمس المذكورة في الآية (لعب - لهو- زينة - تفاخر - تكاثر) مرتّبة بحسب سنيّ عمر الإنسان ومراحل حياته فيتولّع أولًا باللعب وهو طفل أو مراهق ثمّ إذا بلغ واشتدّ عظمه تعلّق باللهو والملاهي ثمّ إذا بلغ أشدّه اشتغل بالزينة من الملابس الفاخرة والمنازل العالية ثمّ يبدأ بالتفاخر وإذا شاب سعى في تكثير المال والولد (5).
ثمّ بعد أن يعرض لنا القرآن حقيقة الدنيا يريد أن يقرّب المعنى الواقعيّ لها إلى نفوسنا فيقول تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20] فهو مثل لزينة الحياة الدنيا التي يغترّ الإنسان بها فهي في بهجتها وزخارفها كمثل مطر أعجب الزرّاع؛ لأنّه يسبّب عذوبة وخصوبة التربة ونموّ النبات ثم يتحرّك هذا النبات إلى أن يكون يابساً مصفرّاً لا فائدة منه (6) .
والدنيا وأهلها هكذا أيضاً فلا ينبغي أن ننظر إلى الدنيا وكأنّها محور ترتكز حوله قلوبنا وأفكارنا بل لا بدّ أن تكون الدنيا وما فيها أمراً مساعداً لكي ترتكز قلوبنا وأفكارنا إلى محور آخر وهو الآخرة وحبّ الله (عزّ وجلّ).
يقول الإمام علي (عليه السلام): "لو كانت الدنيا عند الله محمودة لاختصّ بها أولياءه لكنّه صرف قلوبهم عنها ومحا عنهم منها المطامع" (7).
ويقول (عليه السلام): "إن كنتم تحبّون الله فأخرجوا من قلوبكم حبّ الدنيا" (8). فالإمام يؤكّد على أن يكون المحور لدى الإنسان هو حبّ الله وتكون الدنيا أمراً ثانوياً.
حب الدنيا:
إنّ الله سبحانه لا يجمع في قلب حبّين فإمّا حبّ الدنيا وإمّا حبّ الله {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] لأنّ حبّ الإيمان والآخرة غير حبّ الدنيا والملذّات فالحبّان على طرفَي نقيض. نعم يمكن التوفيق بينهما عندما يجعل الإنسان الأمور الدنيويّة مسخّرة من أجل الإيمان لا العكس. وكلما ازداد حب الدنيا في قلب الإنسان كلما ابتعد رويداً رويداً عن حب الله عز وجل لأن الدنيا كمثل السراب "مَن سعى في طلب السراب طال تعبه وكثر عطشه" (9).
فأحياناً يتصوّر الإنسان أنّه عندما يحصل على هذا المقدار من الدنيا فإنّه حينئذٍ سوف ينصرف منها إلى الله (عزّ وجلّ) ولكن كلّا فإنّه سوف يتابع ويركض وراء الأمر الثاني ومَن بعده يركض وراء الثالث وهكذا يركض ويركض حتّى يموت وعندها يلتفت إلى أنّه خرج من الدنيا صفر اليدين.
فإذا جمع الإنسان (1000) دينار مثلاً فإنّه يسعى نحو إضافة صفر آخر إلى هذا الرقم وهكذا كلّ يوم يفكّر في زيادة الأصفار إلى الرقم حتّى إذا أدركه الموت تركها جميعاً وانصرف خاسر العمر.
عبرَ من الدنيا:
يُحكى أنّ أحد الأغنياء كان يمتلك أراضي زراعيّة كثيرة وواسعة جداً فقال ذات يوم لأحد الفقراء من المزارعين: اركض حول هذا المكان وبقدر ما ركضت وقطعت المسافات تكون تلك الأراضي لك فجعل الرجل الفقير يركض ويركض من الصبح إلى الظهر فأصابه التعب والإرهاق فأخذ قسطاً من الراحة ثم عاود الركض طمعاً منه في الحصول على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي إلى أن شارف الليل فوقع ميتاً ولم يحصل على شبر واحد من هذه الأراضي. وهذه نتيجة كلّ إنسان يسعى وراء الدنيا للدنيا فقط ويترك الآخرة، فحبّ الدنيا يجذب الإنسان.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "النّاس في الدنيا عاملان عامل في الدنيا للدنيا قد شغلته دنياه عن آخرته يخشى على مَن يخلف الفقر ويأمنه على نفسه فيفني عمره في منفعة غيره..." (10).
ويقول (عليه السلام): "طالب الدنيا تفوته الآخرة ويدركه الموت حتّى يأخذه بغتة ولا يدرك من الدنيا إلاً ما قسم له" (11).
ويحصل حجاب غليظ بينه وبين ربّه (عزّ وجلّ): {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] أي أنّ الذنوب التي اكتسبوها حالت بينهم وبين أن يدركوا الحقّ والحقيقة والأهداف فتصوّروا أنّ الدنيا هدفهم وفيها خلودهم "ولا يجتمع الفناء والبقاء ولا تجتمع الآخرة والدنيا" (12).
ولعلّ من هنا تتحوّل العبادات إلى طقوس شكليّة فاقدة للروح والتأثير فتصبح الصلاة مجرّد حركات وبعض أذكار وكذا الصوم مجرّد جوع وعطش.. فالتأثير الروحيّ للعبادة يضمحل ولا تكون حاجزة له عن المنكرات والذنوب لأنّها فقدت معناها في داخل الإنسان الدنيويّ وأصبحت روحه مع قلبه وفكره مشغولة بالدنيا ولوازمها ومن أجل ذلك كان "حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة" (13).
لأنّ ولاء الإيمان تلاشى والأثر الروحيّ للعبادة اختفى فلا مانع يمنع الإنسان من الإتيان بالمنكرات والذنوب. فهو يرتكب أنواع المعاصي والذنوب من أجل الحصول على حفنة من التراب أو لذة شهويّة تنتهي بدقائق معدودة. ثم تزول كافّة الشهوات والملذّات وتبقى تبعاتها السيّئة تلاحق الإنسان وتنعكس عليه في الدنيا.
بين الدنيا والآخرة:
في اليوم السابع من شهر محرم الحرام أرسل الحسين (عليه السلام) عمرو بن قرظة الأنصاريّ إلى ابن سعد بطلب الاجتماع معه ليلاً بين المعسكرين فخرج كلٌّ منهما في عشرين فارساً فقال الحسين (عليه السلام): يا ابن سعد أتقاتلني أما تتّقي الله الذي إليه معادك؟ فأنا ابن من قد علمت ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنّه أقرب إلى الله تعالى؟ قال عمر: أخاف أن تُهدم داري قال الحسين (عليه السلام): أنا أبنيها لك. فقال: أخاف أن تُؤخَذ ضَيعتي قال (عليه السلام): أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز ويُروى أنّه قال لعمر: أعطيك (البغيبغة) وكانت عظيمة فيها نخل وزرع كثير دفع معاوية فيها ألف ألف دينار فلم يبعها منه فقال ابن سعد: إنّ لي بالكوفة عيالاً وأخاف عليهم من ابن زياد القتل. هنا نلاحظ سيطرة حب الدنيا على قلب ابن سعد حتّى صار كلّ فكره ومنطقه المال والضياع والبيت والعيال.. حتّى بلغ من حبّه للدنيا أن يقود جيشاً لمحاربة سيّد شباب أهل الجنّة وابن رسول الله وحجّة الله على الخلق ولمّا يئس الحسين منه قام وهو يقول ما لك ذبحك الله على فراشك عاجلاً ولا غفر لك يوم حشرك فوالله إنّي لأرجو ألّا تأكل من بُرّ العراق إلاً يسيراً قال ابن سعد مستهزئاً: في الشعير كفاية. وأوّل ما شهده ابن سعد من غضب الله عليه هو ذهاب ولاية الريّ فلم يحصل على شيء منها ومن ثمّ ذُبح على فراشه قتيلاً (14).
فهذا نموذج من الذين جانبوا الآخرة وركنوا إلى الدنيا ووثقوا بها اعتقاداً منهم أنّها خالدة لهم وأنّ أعمارهم متطاولة فيفعلون ما يشاؤون وهم لا يعلمون أنّ المعاصي والذنوب التي يرتكبونها كافية لإهلاكهم في الدنيا، وتعذّبهم في الآخرة العذاب الخالد. فابن سعد عندما اجتمع بالحسين (عليه السلام) وكأنّه اجتماع بين الدنيا والآخرة كان يمثّل الدنيا بكلّ ألوانها والحسين (عليه السلام) كان يمثّل الآخرة بكلّ معناها.
كيف تخدمنا الدنيا:
وقد ورد في الحديث أيضاً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "إنّ الله جلّ جلاله أوحى إلى الدنيا أن أتعبي من خدمك واخدمي من رفضك" (15).
لأنّه لا ينبغي للإنسان المؤمن أن يغيب عنه التوحيد الأفعاليّ بل عليه أن يستشعر آثاره دائماً إذ لا مؤثّر في الوجود إلاً الله. فالله (عزّ وجلّ) هو الذي وضع الأسباب في الدنيا وهو قادر على تبديلها بأسباب أخرى أو تذليلها أو تعطيلها عن القيام بدورها. فأولياء الله والمؤمنون الذين يخدمون الله والذين جانبوا الدنيا وترفّعوا عنها وركنوا إلى الله (عزّ وجلّ) وعاشوا فكرة الإيمان بكلّ روحهم وجوارحهم وفكرهم هؤلاء تخدمهم الدنيا وذلك بأن يسخّر الله لهم الأسباب ويذلّلها لهم ويسهّل أمورهم ولا يحجب دعاءهم. فهم في غنى عن الدوار حول الأمور الدنيويّة بل إنّهم اكتفوا بالله فكان الله كفايتهم. {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
فمثلاً نرى أنّ الله قد عطّل قانون النار في الإحراق من أجل خليله النبيّ إبراهيم (عليه السلام). وإنّه تعالى قد عطّل قانون الماء في الإغراق فكان عيسى (عليه السلام) يمشي عليه وهكذا هلمّ جرّاً.
أمّا الذين توجّهوا إلى الدنيا فحسب واهتمّوا بها فهؤلاء تتبعهم الدنيا ثمّ لا يحصلون على شيء منها إلا ما قسم الله لهم. فهؤلاء لأنهم ابتعدوا عن الله (عزّ وجلّ) وقعوا في ظلمات الدنيا والمادة فجهلوا الأسباب والمسبّبات وما عادوا يعلمون ماذا يفعلون فترى خطواتهم مضطربة غير منظّمة تارة يركضون من هنا وراء أمر وتارة يركضون من هناك وراء أمر آخر وهكذا إلى أن يفاجئهم الموت بعد شقاء وعناء وتعب.
جاء في الحديث: «يا موسى إنّ عبادي الصالحين زهدوا في الدنيا بقدر علمهم وسائر الخلق رغبوا فيها بقدر جهلهم وما من أحد عظّمها فقرّت عيناه فيها ولم يحقّرها أحد إلاً انتفع بها" (16).
موقفان من الدنيا:
الإنسان المستغرق في حبّ الدنيا لطالما يعيش المعاصي والذنوب لأنّ تفكيره دائماً في حدود (الأنا) والمصلحة الشخصيّة والمنافع الفرديّة التي تعود عليه بالنفع فهو مثلاً عندما يفكّر في الحصول على أمر ما تراه يجاهد ويسعى من أجله لأنّه يسدّ شيئاً من شهواته وملذّاته ويشبع رغبته ولذا فهو يتحرّك في إطار الذات منها وإليها حسب. أمّا الإنسان الذي يُقتل في سبيل الله فلو تأمّلنا حركته لرأيناه قد تجرّد من حدود (الأنا) بل إنّه يعيش فكرة التجرّد والروح والتسامي، إنّه يرى حياته من أجل الآخرين ويرى مصلحتهم ومنافعهم قبل مصالحه بل إنّه يعيش الآلام بدلهم فنراه يتحمّل أشدّ أنواع العذاب والجراح إلى أن يُقتَل فتزهق روحه من أجل أن يسعد الآخرين ويعيشوا حياتهم الطبيعيّة. فالشهيد هو ذلك الإنسان الذي يعيش في آفاق مكانيّة أوسع ليشمل قلبه كلّ المظلومين والمضطهدين فيرى في قتله نجاة لهم ويعيش آفاق زمانيّة رحبة ومتطاولة ليشمل المستقبل. وعكسه الإنسان المحبّ للدنيا فهو يعيش الأفق النفسيّ الداخليّ لذاته فقط ولا يخرج منه أبداً. وهو الفرق الذي صنع من قطرات دم سيد الشهداء (عليه السلام) مساجد يُذكر فيها اسم الله ومن قبره مناراً تحبو إليه الملايين من كلّ بقاع العالم لتقتبس منه نوراً ومنهجاً ومن سيرته أسوة حسنة، بينما يزيد وعمر بن سعد وغيرهما.. لم نسمع يوماً أنّ أحداً تأسّى بهما أو انتفع بشيء من سيرتهما السيئة.
فزيد بن علي يُقال إنّ ما تبقّى من جسده الشريف أوصال مقطّعة صغيرة ولكنّه مع ذلك علم يذكره التاريخ الإسلاميّ بكلّ إجلال وإعظام ولكن الحجّاج مثلاً مع سطوته وبطشه أنظر كيف يذكره التاريخ: يقول السيوطي (17): "ولو لم يكن من مساوىء عبد الملك إلا الحجّاج وتوليته إيّاه على المسلمين وعلى الصحابة يهينهم ويذلّهم قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يُحصى فضلاً عن غيرهم وختم عنق أنس وغيره من الصحابة ختماً يريد بذلك ذلّهم فلا رحمه الله ولا عفا عنه". على الرغم من تعصّب السيوطي للمذهب السنّي قال الأصمعي: قال عبد الملك بن مروان للحجّاج: إنّه ليس أحد إلاً وهو يعرف عيبه فعب نفسك. فقال الحجّاج: أعفني يا أمير المؤمنين، فأبى عليه فقال: أنا لجوج حقود حسود. فقال عبد الملك: ما في الشيطان أقبح ممّا ذكرت (18).
وعلى العموم فهناك رؤيتان للأمور فمرّة ينظر الإنسان نظرة معنويّة في الحياة ويخطّ منهجه على أساسها ومرّة ينظر نظرة ماديّة ويرسم منهجه وفقاً لها فالإنسان الذي يهتمّ بالمعنويّات والأمور التي تضفي على الروح رفعة وشموخاً يرى حقارة الدنيا وتسافلها أمثال الذين ينذرون أنفسهم في سبيل الله (عزّ وجلّ) وفي سبيل الإنسانيّة.
والقسم الثاني يرى العكس فإنّه يرى الدنيا جنّة وهدفاً فنراه يقتل نفسه من أجلها.
يُحكى أنّ رجلاً غنيّاً قال لأحد الفقراء: لماذا لا تعمل أكثر. فقال الفقير ولماذا؟ قال: لكي تحصل على الثروة والمال. فقال الفقير: وماذا أصنع به؟ قال الغني فيكون لك دار كبيرة فيها كلّ ما تريد وتكون سعيداً فيها فأجابه الفقير: أنا الآن غني بفقري وأشعر بالسعادة فلماذا أتعب نفسي على سعادة لا أعلم أأحصل عليها أم لا.
فالشهيد يعيش بروحه وأعماله تتحوّل إلى فيوضات تُصبّ منها الرحمة، والإنسان العاصي يعيش ببدنه وأعماله تتحوّل إلى لعنات وعذابات تُصب فوق رأسه.
الدنيا لا تسع الإنسان:
قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118].
نزلت الآية في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أميّة وذلك أنّهم تخلّفوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يخرجوا معه في غزوة تبوك ولم يكن لهم عذر وإنّما تثاقلوا عن الخروج فعندما رجع الرسول الأكرم من الحرب ندموا على عدم خروجهم فتقدّموا إليه معتذرين فلم يكلّمهم الرسول وأمر المسلمين بعدم مكالمتهم أو الاختلاط بهم فهجرهم الناس جميعاً حتّى الصبيان ثم جاءت نساؤهم إلى رسول الله فقلنَ يا رسول الله هل نعتزلهم؟ فقال: لا ولكن لا يقربوكنّ. فضاقت عليهم الأرض {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي أنّ الأرض برحبها ضاقت عليهم بل {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} حتّى أنفسهم لم تعدّ لتسعهم فقرّروا أن يتفّرقوا ويتوجّهوا إلى الله بالتوبة فبقوا خمسين يوماً متوجّهين لله (عزّ وجلّ) حتّى تاب الله عليهم (19).
هذه القصة تعطي الإنسان درساً بليغاً وهو أنّ الدنيا على وسعتها قد تقصر عن احتضان الإنسان واستيعابه فالإنسان الذي غرس حبّ الدنيا في قلبه لا يظنّنّ أنّه بهذا الغرس سوف تستمر حياته. بل إنّ الحياة تزدهر بفضل الإيمان بالله. فحبّ الدنيا دائماً يربك العلاقات الاجتماعية لأنّ المنافع الشخصيّة ستكون مقدّمة على كافة القضايا المعنويّة الأخرى. وحبّ الله ينظّم العلاقات الاجتماعيّة ويقوّي أواصر الإرتباط. ولذلك عندما انشد هؤلاء الثلاثة إلى الأرض واختاروا الدنيا على الآخرة لم تسعهم الأرض أبداً. لأنّ اختيارهم للدنيا قطع كلّ الأواصر الروحيّة التي هي أساس العلاقات الاجتماعيّة لا سيما علاقة الأمّة بالقيادة الربانيّة المتمثّلة بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).
التوازن العام:
إنّ الاعتدال فى كافّة الأمور من علامات التعقّل والوعي، فالاعتدال فى الأطعمة والأشربة يضمن سلامة الإنسان والاعتدال في الأمور الجنسيّة يضمن للإنسان توازنه واتزانه ولذلك جاء في الشرع المقدس أنّ الرجل لا يجوز له أن يترك مجامعة الزوجة أكثر من أربعة أشهر، لكيلا تتعرّض المرأة للانزلاق وفي نفس الوقت، إنّ الإكثار من المجامعة بشكل غير عقلائيّ وغير منظّم فيه سلبيّات ماديّة جسديّة ومعنويّة. وكذا الاعتدال في العطاء والإنفاق حتّى إنّ القرآن الكريم يقول مشيراً إلى هذا الجانب:
{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] فالإنسان عندما ينفق يجب ألّا ينفق بالشكل الذي يصبح معه فقيراً خالي اليدين من المال ولا أن يمسك بأمواله ويبخل بها ويمنع عنها. وهكذا الاعتدال في كلّ شيء. وكذلك التوجّه إلى الدنيا والآخرة لا بدّ فيه من الاعتدال والتوازن؛ فالتوجّه إلى الآخرة ليس معناه أن يترك الإنسان الدنيا ويلتجىء إلى الوحدة والخلوة وعدم الاستفادة من نعم الله في الدنيا. والتوجّه إلى الدنيا ليس معناه أن يتعلّق قلبه في الدنيا كاملاً فينسى الله ويذوب الإيمان بين طيّات ملذاتها. بل إنّ الدنيا وُضعت وجُعلت لكي تكون منطلقاً إلى الله (عزّ وجلّ) "إنّ الدنيا ماضية بكم على سنن وأنتم والآخرة في قرن" (20).
فهي وكلّ ما فيها بمثابة علّة وسبب لغاية أخرى ونضرب مثالاً لتوضيح المعنى: مثلاً لو قيل لأحد المسابقين عليك الوصول إلى الهدف الكذائيّ بواسطة هذه السيّارة فإذا فزت في السباق تكون السيارة لك هنا ستكون السيّارة سبباً موصلاً إلى الهدف ولولاها لعلّه لا يصل ولا يحصل على السيّارة. فبدأ السباق وانطلق الآخرون بينما ظلّ هذا الشخص مندهشاً بالسّيارة وجمالها وهو يدور حولها ويرمي بنظراته عليها متعجّباً برونقها. فلا هو استخدمها ليصل إلى هدفه ولا هو حصل عليها بالنتيجة فحال الدنيا كهذه فهي سبب، إذا أخذها الإنسان بهذا القيد وبهذا العنوان ليصل إلى كماله وربّه فسوف يحصل على الآخرة والدنيا معاً، وإذا تعلّق بها وترك أمر الآخرة فلا الدنيا بباقية له ولا الآخرة مضمونة. لأنّ حال الدنيا أنّها محدّدة بالزمان والمكان وكلاهما متغيّران غير ثابتين إذن حال الدنيا التغيّر وعدم الاستقرار أو البقاء لأحد فلا بدّ أن يكون هناك اعتدال بين التوجّه إلى الدنيا والتوجّه إلى الله (عزّ وجلّ) أي بين الأسباب وبين الهدف إذ إنّ الوصول إلى الهدف بلا واسطة وسبب أمر محال والتعلّق بالأسباب مع عدم وضوح الهدف أمر لا نتيجة منه لأنّ الأسباب سوف تنتهي في وقت ما.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): "أبعد ما يكون العبد من الله (عزّ وجلّ) إذا لم يهمّه إلا بطنه وفرجه" (21).
إنّ البطن والفرج من الأسباب التي جُهّز بها الإنسان ليستخدمها في الدنيا في طريق الهداية والإيمان ولكن عندما يغلب حبّ الدنيا على قلب الإنسان تتحوّل الأسباب إلى أهداف فيضل الإنسان عن طريقه.
فعلى الإنسان أن يجعل حبّ الله والتوجّه له بالعبادة والقلب والفكر و.. هدفاً أمامه في كلّ حين ويسعى أيضاً في طلب الدنيا وما يحتاجه منها من مأكل ومشرب ومركب ومسكن و.. ولكن بدون أن يكون هناك خلط بين الأمرين فلا يصبح الهدف أمراً ثانوياً وتصير الوسائل أهدافاً. بل عليه أن يلاحظ نفسه في كلّ عمل ويعرضه على الهدف الرئيسيّ ويرى مدى تطابق عمله مع هدفه. فلا يُصبح الإنسان راهباً أو متصوّفاً ولا يكون إنساناً عاصياً خارجاً عن حدود التشريع، فلا إفراط ولا تفريط لأنّ كلا الطرفين ليسا من الدين في شيء، فلا الرهبنة والتصوّف من الدين ولا العصيان منه. بل هناك حدود ومفاهيم ومبادىء أنزلها الله تعالى وقال تمسّكوا بها لأنّ فيها النجاة والحياة. وبنفس الوقت جعل الدنيا كمرحلة غير ثابتة ليعيش فيها الإنسان شيئاً من العمر ومن حقّه أن يستمتع بالملذّات التي أحلّها الله (عزّ وجلّ). وليس المطلوب منه أن يترك الدنيا وملذّاتها المحلّلة من أجل الدين والآخرة بل إنّه لولا هذه لما وصل إلى تلك. فلولا الطعام لما استطاع الإنسان القيام لعبادة الله ولولا البيوت والسكن لما حافظ الإنسان على نفسه وهكذا.. ولذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "ينبغي لمَن أيقن ببقاء الآخرة ودوامها أن يعمل لها" (22).
فعلى الإنسان أن يعمل ويهيّىء الأسباب الداعية إلى حفظه وسلامته وسلامة عائلته وأن يرتّب عمله الذي يرتزق منه أو يقتني الحاجيّات التي لا بدّ منها وبنفس الوقت يهيّىء الأسباب التي تضمن سلامته في الآخرة ونجاته من النار وهو التمسّك بدين الله والعمل بما أمر به.
الدنيا متجر أولياء الله:
النّاس عادة ينظرون إلى الدنيا من زاوية (حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة) هذا صحيح وواقعيّ إذا تعلّق القلب بحب الدنيا. ولكن إذا حافظ الإنسان على توازنه ولم يفرّط في حبّه للدنيا أتكون مذمومة؟
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) عنها إنّها مزرعة الآخرة أي أنّ أولياء الله من خلال وجودهم في الدنيا يعملون ويجاهدون ويقدّمون الأعمال والجهود من أجل الحصول على رضا الله ومن أجل تكوين رصيد ضخم من الحسنات التي تثقل ميزانهم في الآخرة فلولا الدنيا لما وجدت لهم فرصة للعمل والعبادة. والحديث يضرب لنا أروع تمثيل فالأعمال الخيريّة التي يفعلها المؤمنون في الدنيا هي بمثابة زرع تظهر ثمرته في الآخرة عند الحساب فضلاً عن ثمار الدنيا التي يحصدونها.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "فتزوّدوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غدا..ً" (23).
فهو (عليه السلام) يؤكّد أنّ التزوّد إلى الآخرة يكون من الدنيا وفي الدنيا لأنّها محلّ العمل والامتحان والآخرة محلّ الحساب، وحري بالإنسان أن يسرع ويسعى من أجل العمل والتزوّد من الدنيا للآخرة لأنّها زائلة متغيّرة ولأنّ الموت قاطع للعمل {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]. "فكأنّ ما هو كائن من الدنيا عن قليل لم يكن وكأنّ ما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل" (24).
فالإمام دائماً يؤكّد على هذا الجانب لكيلا يغيب عن فكر الإنسان أبداً وهو أنّ الدنيا من صفاتها الفناء والتحوّل. ولكن مع ذلك فهو في بعض كلماته الشريفة يمجّد الدنيا ويمدحها لأنّها مهد للعمل الصالح كما هي مهد للعمل الطالح وهي موطن أولياء الله وأنبيائه ومهبط وحيه، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "إن الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزوّد منها ودار موعظة لمن اتّعظ بها، مسجد أحبّاء الله ومُصلّى ملائكة الله ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنّة.. فذمّها رجال غداة الندامة وحمدها آخرون يوم القيامة ذكرتهم الدنيا فتذكّروا" (25).
فالدنيا هي التي خرج منها رجال إلهيّون عظماء قادوا البشريّة إلى الكمال والخير فالرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) كان قد عاش في الدنيا وكذا أهل البيت (عليهم السلام) كلّهم ولكن لم تستهوهم الدنيا فتصرّفهم عن هدفهم بل أخذوا منها ما أعانهم على الطاعة والعبادة وصحبة الأخيار وصناعة الرجال. فالدنيا هي التي عاش فيها الحسين (عليه السلام) ويزيد ولهذا هي دار موعظة فالمسألة ليست بالمسمّيات بأن هذه دنيا إذاً هي مذمومة وهذه آخرة إذاً ممدوحة بل المسألة هي السلوك والعمل واختبار الإنسان هو الذي يحدّد هذه من تلك، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38].
الدنيا المذمومة:
من خلال ما مرّ يتّضح أنّ ذمّ الدنيا أو مدحها ليس من حيث إنّها دنيا وإنّما من حيث إنّها دار بلاء وامتحان وفتنة فالإنسان يعرّض فيها لامتحان الله (عزّ وجلّ) فإذا نجح وصبر كانت الدنيا بالنسبة له ممدوحة لأنّه من خلالها يصل إلى الجنة فهي طريق السعادة. وإذا فشل في الامتحان وسقط وانحرف عن الطريق المستقيم كانت دنياه مذمومة لأنّها فترة اكتسب فيها السيئات والمعاصي ثم في الختام تكون النار مثواه. ولكن عادة الدنيا أنّها محفوفة بالمكاره والمخاطر والابتلاءات وإلى جانبها الزخارف التي لو التفت إليها الإنسان لانزلق ولذلك كانت المذموميّة من صفاتها الشائعة وإلاً فالدنيا بحدّ ذاتها ممدوحة ولذلك اختارها الله ميراثاً لأوليائه وخلفائه. قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]. وهي حكومة العدل الإلهيّة حكومة الإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف أرواحنا له الفداء) ولكنّها تكون مذمومة عندما يترك الدين ويضيع من أجلها، عندما يغلب حبّ الدنيا على حبّ الله وعندما تصبح الدنيا الهمّ الأكبر والهدف الأسمى، والشغل الشاغل للمرء دوماً؛ حينئذٍ تكون دنيا حقيرة ومذمومة وهي المعنيّة في كلمات الأئمة في ذم الدنيا.
عن الصادق (عليه السلام): "مَن أصبح وأمسى والدنيا أكبر همّه جعل الله تعالى الفقر بين عينيه وشتّت أمره ولم ينل من الدنيا إلاً ما قسم الله له.." (26).
إنّ تفضيل الدنيا على الدين سلوك له نتائج وخيمة وأضرار فظيعة ضمن قانون السببيّة، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "لا يترك الناس شيئاً من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلاً فتح الله عليهم ما هو أضرّ منه" (27).
أمّا في الأمور العامّة التي تضرّ بالمجتمع فالأمر واضح من خلال حدوث الكوارث الطبيعيّة أو انتشار أمراض غير متوقعة وغير ذلك
الحرمان من نعمة الولاية:
يُحكى أنّ رجلاً كان محبّاً للدنيا والمال ولكنّه ظاهراً من أهل الخير حينما حضرته الوفاة جاء أحد الأشخاص ليلقّنه الشهادتين فطلب منه أن يشهد بالربوبيّة فقال: أشهد أن لا إله إلاً الله ثمّ لقّنه الشهادة الثانية فقالها: وأشهد أنّ محمداً رسول الله ثم لقّنه الشهادة الثالثة فلم يجب وكلّما كرّرها عليه كلّما امتنع وحارت الناس في أمره إلى أن غاب عنه الوعي وبعد فترة أفاق من غيبوبته واستوى جالساً كأنّ شيئاً لم يكن به عندها سأله الملقّن لماذا لم تتشهد الشهادة الثالثة وهي ولاية علي بن أبي طالب؟ فقال: بينما أنا بين الحياة والموت كنت أسمع منك ما تقول ولكن كلّما أردت أن أتكلّم كان يعرض أمامي شيطان وهو يحمل صرّتي التي فيها أموالي وبعض الأشياء الثمينة وكان يقول لي: إذا تشهّدت بالولاية فإنّي سأحرق هذه الصرّة فكان قلبي يتعلّق بها كلّما أردت الكلام وكان لساني لا ينطلق لأنّني كنت في فكر الصرّة فأعرضَت نفسي عن أمر الولاية لهذا لم أستطع أن أتشهّد وإنّي تائب إلى الله من عملي هذا.
انظر كيف أنّ حبّ الدنيا يكون حاجزاً ومانعاً من الحق وإذا قوي واشتدّ حرم الإنسان حتّى من الاعتراف بالولاية - والعياذ بالله - التي يتوقّف مصير الإنسان عليها. هذه هي الدنيا المذمومة وهذا واقعها السيء، هذه هي الطريقة المنحرفة من السير في الحياة الدنيا.
نموذجان:
الشيخ مرتضى الأنصاري (قدّه) من الرجال الإلهيّين الذين زهدوا في هذه الحياة الدنيا ووطّنوا أنفسهم على خدمة الدين (كان نموذجاً في التقى وكثرة الصلاة والصِّلات والعلم أصولاً وفروعاً والعمل وحسن الأخلاق وعاش مع ذلك عيش الفقراء المعدمين متهالكاً في إنفاق كلّ ما يُجلَب إليه على المحاويج من المؤمنين في السرّ خصوصاً غير مريد للظهور والمباهاة إلى أن انتهت إليه رئاسة الدين العامّة في شرق الأرض وغربها وصارت كتبه ودراستها محور أهل العلم إلى يومنا هذا وكانت قد عُرضت عليه أموال من الهند كبيرة جداً فأبى أن يقبلها وهي أموال عظيمة) (28).
وإنّ تجّار بغداد جمعوا مبلغاً كبيراً من أموالهم وخصّصوه للشيخ الأنصاري وسلّموا المبلغ لأحدهم وأرسلوه إلى النجف، وطلبوا منه أن يقول للشيخ: هذا المبلغ ليس من الحقوق الشرعيّة، (الخمس، الزكاة) حتّى تستشكل بالاحتفاظ به لنفسك إنّه من أصل أموالنا، ونحن نهبه لك لتوسّع على نفسك لأنك في سنّ الشيخوخة، ووضعك الاقتصادي كما نعلم.
ورغم إصرارهم لم يقبل الشيخ المبلغ وقال: أليس هي خسارة كبرى لي؟
إنّي بعد أن أمضيت عمري فقيراً أجعل نفسي الآن غنيّاً، وأمحو اسمي من طومار الفقراء وسجلّهم، فأحرم نفسي في يوم الجزاء من ثوابهم (29).
وبلغ من التواضع ما يعجز الوصف عنه فكان في مقامه الشامخ ومنزلته العظيمة يدعو تلامذته بين الآونة والأخرى لحضور درس الأخلاق عند أحد طلّابه وكان يجلس حاله حال بقيّة الطلبة مستمعاً غير متكبّر.
فهذا عالم من علمائنا الأعاظم. وهناك عالم من علماء بني إسرائيل وهو بلعم بن باعوراء الذي كان يُلقي دروس التوحيد على الناس وكان الشخصية الثالثة بعد النبي موسى وأخيه هارون (عليه السلام) هذا الشخص جلس يوماً وهو يفكّر في أمره ومنزلته وأنّه صاحب مقام وجهود واليه يعود الفضل في نجاة بني إسرائيل وبدأ الشيطان يدخل إليه من باب إعجابه بنفسه إلى أن قارن نفسه بموسى بل ظنّ واعتقد أنّه أفضل منه. وفي اليوم التالي قام كعادته ليلقي دروس الحكمة والتوحيد وعندما استوى جالساً وقد أخذه العجب والكبر كلّما أراد أن يتكلّم لم يجد شيئاً في ذاكرته وكلّما حاول أن يطرح أمراً رأى نفسه خالياً من أيّ علم والقرآن الكريم يصف حاله في أروع صورة: يقول تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176]
وقيل عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام):
إنّه أُعطي بلعم بن باعوراء الاسم الأعظم، وكان يدعو به فيُستجاب له، فمالَ إلى فرعون، فلما مرّ فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون لبلعم: فادعُ الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا، فركب حمارته ليمرّ في طلب موسى (عليه السلام) فامتنعت عليه حمارته فأقبل يضربها فأنطقها الله (عزّ وجلّ) فقالت: ويلك على ماذا تضربني؟ أتريد أن أجيء معك لتدعو على نبي الله وقوم مؤمنين؟ فلم يزل يضربها حتّى قتلها وانسلخ الاسم من لسانه وهو قوله تعالى: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175] (30).
فالله (عزّ وجلّ) يصف حالة انتكاسة بلعم وعجبه بنفسه بالخلود والالتصاق بالأرض لأنّ هذا النمط من التفكير وهو العجب أو التكبّر على الآخرين لا سيما على أولياء الله من صفات أهل الدنيا والمحبّين لها وإن لم يصرّحوا بذلك علنا. فالشيخ الأنصاري - رحمة الله عليه - مثال للتواضع والزهد وأسوة للعاملين للإسلام. وبلعم عبرة لمَن أحبّ الدنيا وانصهر في قاعها العميق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مدينة البلاغة: ج1، ص 414.
(2) تصنيف غرر الحكم: الآمديّ، ص 55، ح513.
(3) النهج: ح133، ص 163 نسخة المعجم.
(4) الميزان: ج19، ص 164، ط ـ بيروت.
(5) نقلاً عن المصدر السابق بتصرّف.
(6) راجع المصدر نفسه لمزيد من التفصيل.
(7) تصنيف غرر الحكم: ص 143، ح2576.
(8) تصنيف غرر الحكم: ص 141، ح2510.
(9) تصنيف غرر الحكم: ص 136، ح 2375.
(10) تصنيف غرر الحكم: ص 140، ح2469.
(11) تصنيف غرر الحكم: ص 140، ح2486.
(12) تصنيف غرر الحكم: ص 141، ح2506.
(13) الكافي: ج2، باب حبّ الدنيا، ح1، ص 238.
(14) راجع مقتل الحسين (عليه السلام): ص 205 ـ 206 لزيادة في التفصيل.
(15) سفينة البحار: ج13، ص 125، ط ـ إيران.
(16) الكافي: ج2، باب حبّ الدنيا، ح9.
(17) تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: ص 220، ط ـ إيران.
(18) سمط النجوم العواليّ: ج3، ص 181، ط ـ مصر.
(19) راجع البحار: ج21، ص 204 وما بعدها، باب غزوة تبوك، ط ـ بيروت.
(20) تصنيف غرر الحكم: ص 134، ح2320.
(21) الكافي: ج2، كتاب الكفر والإيمان، باب حبّ الدنيا، ص 241، ح14.
(22) تصنيف غرر الحكم: ص 157، ح 29869.
(23) النهج: من خطبة له في المبادرة إلى صالح الأعمال، ح64، ص 23، نسخة المعجم.
(24) المصدر السابق: ص 45.
(25) النهج: ح131، ص 162 ـ 163 نسخة المعجم.
(26) الكافي: ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب حبّ الإيمان، ص 241، ح15.
(27) النهج: ح106، ص 160 نسخة المعجم.
(28) أعيان الشيعة: ج10، ص 118.
(29) نجفيّات: ص 89 نقلاً من سيماء الصالحين، ص 336.
(30) سفينة البحار: ج1، ص 382، ط ـ إيران.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|