أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-3-2016
3584
التاريخ: 22-11-2017
3558
التاريخ: 16-7-2022
1676
التاريخ: 2-04-2015
3502
|
الإمام الحسين عليه السلام في نظر الأمّة
كان الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام، في نظر الأمّة والمجتمع، أعظم الخلف ممّن مضى[1]، والبقيّة الباقية من أهل بيت النبوة، وبقيّة آية التطهير وآية المودّة وآية المباهلة، حتّى عند أعدائه من بني أميّة[2] والمنحرفين عنه[3]، وكان الصحابة والتابعون يطلقون عليه لقب سيّد أهل الحجاز[4]، وسيّد العرب[5]، والسيّد الكبير الذي ليس على وجه الأرض، يومئذٍ، أحدٌ يساميه ولا يساويه[6]، وكان المخلصون وكلّ مَن أهمّه أمر الإسلام ينتظر منه التحرّك[7].
وقد كان الصحابة والتابعون وكلُّ مَن تناقل واهتمّ بالحديث النبويّ، يعرف بأنّه سيّد الشهداء، وأنّه يُقتَل مظلومًا في كربلاء، وأنّ شفاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لن تنال قَتَلَتَه. إنّهم كانوا يعرفون الطاغية الذي يأمر بقتله، ومَن يقود الجيش الذي يقتله، ومَن يحمل الرأس الشريف[8]، ويتداولون الأخبار التي استفاضَت في التحذير من خذلانه، والنهي عن عدم نصرته، ومع ذلك، فقد تجاوب القليل مع الأوامر النبويّة، وتخاذل الأكثر[9].
منهج الإمام الحسين عليه السلام بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام
لقد عاصر الإمام الحسين عليه السلام، بعد استشهاد أخيه الإمام الحسن عليه السلام، عشر سنوات من حكم معاوية، الذي كشف واقع أهدافه، بكلّ صراحة، بعد إبرام وثيقة الصلح مع الإمام الحسن عليه السلام، ولخَّصَها في أنّ هدفه هو الاستيلاء على السلطة والسيطرة على الحكم[10].
وكان معاوية يتدرّج في تنفيذ المخطّط الأمويّ، الذي أفصح عنه أبو سفيان حين تولّى عثمان منصب الحكم، إذ اعتبر خلافة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كرةً يتلاعب بها صبيان بني أميّة[11].
ولم يسكت الإمام الحسين عليه السلام بعد إبرام الصلح مع معاوية، بل كان يتحرَّك وفق مسؤوليّته تجاه شريعةِ ربّه وأمّةِ جدِّه صلى الله عليه وآله وسلم، بصفته وريث النبوّة بعد أخيه الإمام الحسن عليه السلام، مراعيًا ظروف الأمّة، ومراقبًا لمدى تدهورها، وساعيًا للمحافظة على ثمرة جهود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فحاول اختراق حصار التضليل الأمويّ، عبر أنشطة مختلفة، من الوعظ والإرشاد، إلى حلقات التدريس، إلى الخطب في التجمّعات العامّة في موسم الحجّ، بل حتّى في مجلس معاوية نفسه، فعرّف مكانة أهل البيت عليهم السلام وفضلهم[12], وأنّهم حجج الله على خلقه، أحياءً وأمواتًا[13].
وقد عمل الإمام، في فترة حكم معاوية، على تحصين الأمّة ضدّ الانهيار التامّ. ويمكن أن نلخّص مجمل نشاطه في هذه الفترة، فيما يأتي:
1. رفض بيعة يزيد
أعلن الإمام الحسين عليه السلام رفضه القاطع لبيعة يزيد، بعدما قرّر معاوية أن يسافر إلى المدينة ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين، وقد اتّسم موقف الإمام عليه السلام مع معاوية بالشدّة والصرامة[14].
2. التنديد بسياسة معاوية، واستقبال المعارضة
أعلن الإمام الحسين عليه السلام، وفي مناسبات مختلفة، اعتراضه على سياسة معاوية، وعلى نقضه لشروط الصلح، واحتجّ على ممارسات وُلاتِه وظلمهم وانحرافاتهم. وأخذ يحذّر المسلمين، علنًا، من سياسة معاوية الهدّامة.
ولمّا استشهد الإمام الحسن عليه السلام، تحرّكت الشيعة في العراق، وكتبوا إلى الحسين عليه السلام في خلع معاوية والبيعة له، وأخذَت الوفود تترى على الإمام من جميع الأقطار الإسلاميّة، وهي تعجّ بالشكوى وتستغيث به, نتيجة الظلم والجور الذي حلّ بها، وتطلب منه القيام بإنقاذها من الاضطهاد، فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهدًا وعقدًا، لا يجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة, فإذا مات معاوية، نظر في ذلك[15].
3. الاحتكاك بسلطة معاوية، واختبار ردّة فعله
وكان أوّل احتكاك بين الإمام الحسين عليه السلام وبني أميّة، في اليوم الأوّل من إمامته. فبعد شهادة أخيه الحسن[16] عليه السلام، أراد الإمام عليه السلام دفنَه قرب جدِّه صلى الله عليه وآله وسلم، فاستنفر مروانُ بن الحكم بني أميّة وأمَّ المؤمنين عائشة، وكاد يقع القتال بينهم وبين بني هاشم، إذ خرجت أمُّ المؤمنين على بغلةٍ أحضرها لها مروان، ومنعَت الإمام عليه السلام من دفن أخيه قرب جدِّه. وقد حال الإمام عليه السلام دون نشوب قتال وسفك دماء، وصيّةً من الإمام الحسن[17] عليه السلام. لقد كانت هذه الحادثة إيذانًا بصورةِ ما سوف يكون عليه الوضع بين الإمام الحسين عليه السلام والأمويّين.
وكان معاوية ينفق أكثر أموال الدولة على تدعيم ملكه، كما كان يهب الأموال الطائلة لبني أميّة, لتقوية مركزهم السياسيّ والاجتماعيّ، وكان الإمام الحسين عليه السلام يشجب هذه السياسة، ويرى ضرورة إنقاذ الأموال من معاوية، الذي يفتقد حكمُه لأيِّ أساسٍ شرعيّ، ولا يقوم إلّا على القمع والإرهاب. وقد اجتازَت على المدينة أموالٌ من اليمن إلى خزينة دمشق، فعمد الإمام عليه السلام إلى مصادرتها وتوزيعها على المحتاجين، وكتب إلى معاوية: من الحسين بن عليّ، إلى معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد، فإنَّ عِيرًا مرَّت بنا من اليمن، تحمل مالًا وحُلَلًا وعنبرًا وطيبًا إليك، لتودعها خزائن دمشق، وتعلّ بها بعد النهل بني أبيك، وإنّي احتجتُها فأخذتُها، والسلام. وقد أجابه معاوية برسالةٍ يهدّده فيها بمَن يأتي بعده, يعني يزيد[18].
4. إعلان المعارضة في موسم الحجّ
حجَّ الإمام الحسين عليه السلام وعبد الله بن عبّاس وعبد الله بن جعفر معه، قبل موت معاوية بسنة. فجمع الحسين عليه السلام بني هاشم، رجالهم، ونساءهم، ومواليهم، وشيعتهم من حجَّ منهم، ومن الأنصار ممّن يعرفه الحسين عليه السلام وأهل بيته. فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمئة رجل، وهم في سرادقه، عامّتُهم من التابعين، ونحو من مئتَي رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم. فقام فيهم الحسين عليه السلام خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَذَا الطَّاغِيَةَ قَدْ فَعَلَ بِنَا وَبِشِيعَتِنَا مَا قَدْ رَأَيْتُمْ وَعَلِمْتُمْ وَشَهِدْتُمْ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنْ صَدَقْتُ فَصَدِّقُونِي، وَإِنْ كَذَبْتُ فَكَذِّبُونِي. أَسْأَلُكُمْ بِحَقِّ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ، وَحَقِّ قَرَابَتِي مِنْ نَبِيِّكُمْ، لَمَّا سيرتم (سَتَرْتُمْ) مَقَامِي هَذَا، وَوَصَفْتُمْ مَقَالَتِي، وَدَعَوْتُمْ أَجْمَعِينَ فِي أَنْصَارِكُمْ مِنْ قَبَائِلِكُمْ، مَنْ أَمِنْتُمْ مِنَ النَّاسِ وَوَثِقْتُمْ بِهِ، فَادْعُوهُمْ إِلَى مَا تَعْلَمُونَ مِنْ حَقِّنَا، فَإِنِّي أَتَخَوَّفُ أَنْ يَدْرُسَ هَذَا الْأَمْرُ، وَيَذْهَبَ الْحَقُّ وَيُغْلَبَ، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُون"[19].
الموقف الأمويّ من الإمام الحسين عليه السلام
لم تكن أيّة مواجهة علنيّة بين الإمام الحسين عليه السلام ومعاوية في مصلحة الأمويّين، وقد اعتمد معاوية هذا الموقف، طالما بقي الإمام عليه السلام ضمن حدود المعارضة الكلاميّة السلميّة، وملتزمًا بالصلح[20]. وقد حاول معاوية أن يبرز هذا الموقف بعناوين أخرى، تظهر وكأنّه يحتفظ بكرامةٍ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإمام الحسين عليه السلام، أو كأنّه حريصٌ على أن لا يسفك هذا الدم الغالي من بني عبد مناف[21].
إذًا، فعدم التعرُّض للإمام عليه السلام بالأذى في عصر معاوية، كان بشرط عدم تحرُّكِه ضدّه، وإلّا فالسيف[22]. ومع ذلك، فقد بقي الإمام عليه السلام تحت رقابة أمنيّة مشدّدة من عملاء معاوية في المدينة، حتّى في خصوصيّات الإمام البيتيّة[23].
لماذا لم تحصل النهضة الحسينيّة في حياة معاوية؟
رفض الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام أن يكون معاوية حاكمًا، ولم يساوم على ذلك، ولم يداهن، وخاض حربًا طاحنةً لمنعه وطرده من الشام، وكان هذا موقف الإمام الحسن عليه السلام، لولا تخاذل أهل العراق. إذًا، فأسباب القيام على معاوية ومحاربته ودوافع ذلك كانت، وما زالت، إلى عصر الإمام الحسين عليه السلام، وهو ما صرّح به الإمام نفسه حين قال: "وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَعْرِفُ أَفْضَلَ مِنْ جِهَادِكَ"[24].
لكن، هل كان بإمكان الإمام الحسين عليه السلام أن يحقِّق أحد أهدافه لو تحرّك ضدّ معاوية؟ طلب الإصلاح في أمّة جدِّه؟ أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أو إزالة حكومة معاوية؟ وإلّا فتعريض الأمّة لصدمة مروّعة، بقتله وأهل بيته، بحيث تستيقظ الأمّة من غفلتها، وتتحرّر، وتعرف الحقّ وأهله؟
بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام واغتياله من قِبل معاوية، ونقض معاوية لبنود الصلح، تحرّك أهلُ العراق، وطالبوا الإمام الحسين عليه السلام بالتحرُّك والثورة ضدّ معاوية، حيث إنّ الحسين عليه السلام كان يملك الدليل المقبول لثورته، ولكنّه لم يستجب لطلباتهم، وآثر السكون ما دام معاوية حيًّا. وذلك للأسباب الآتية:
الأوّل: الوفاء بالعهد خُلُقٌ إسلاميّ رفيع، يمثّله الإمامُ المعصوم أحسن تمثيل، ولا يسوّغ الإمامُ لنفسه أن يهبط إلى مستوى معاوية في نقضه للعهد.
الثاني: كان بإمكان معاوية أن يستغلّ هذا النقض، كورقةٍ رابحة يستعملها ضدّ الإمام الحسين عليه السلام، ويضلّل به الرأي العامّ[25].
الثالث: إنّ السبب الرئيس الذي دفع الإمام الحسن عليه السلام إلى الصلح مع معاوية، وهو تخاذل المسلمين عن نصرة ابن بنت نبيّهم، ما زال مستمرًّا في عصر الإمام الحسين عليه السلام، فقد ذاق هؤلاء مرارةَ الصراع بين معاوية، الذي لم يكن مكشوفًا بعد، والإمام عليّ عليه السلام، وبين أمّ المؤمنين عائشة وطلحة والزبير، زوج النبيّ وأصحابه وعليّ عليه السلام، وبين الخوارج، الذين كانوا يدّعون الزهد والعبادة، وعليّ عليه السلام، فأنزلوا عليًّا عليه السلام إلى مستوى معاوية، الذي كان يرمي الوصول إلى الحكم بكلّ سبب، ولم يكن لهذا التصدّي منه والحرص على استلام السلطة أيَّ مسوّغ رساليّ، وإلى مستوى عائشة أو طلحة أو الزبير، وإلى مستوى الخوارج، ولم يستطع المسلمون تحمُّل الأعباء التامّة لقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وأتعبَتْهم التضحيات الجمّة في الجمل وصفّين والنهروان، فأخذ جمهورُهم يتهرّب من أعباء تحمُّل المسؤوليّة الشرعيّة، نحو محاولة التشكيك في أصل الأهداف الكبرى التي من أجلها يجاهد الإمام عليّ عليه السلام وأولاده من بعده، هذا التشكيك الذي تحوّل إلى نكول وتخاذل وفرار.
وحينما يستفحل هذا الشكّ، ويتحوّل إلى حالة مَرَضيّة، كما حدث ذلك في عصر الإمام الحسن عليه السلام، لم يكن بالإمكان علاجها حتّى بالتضحية، بل لا بدّ من الصبر والتأنّي, ليتّضح لعامّة المسلمين مدى دَجَل معاوية، ومدى تظاهره بالإسلام، ومدى التزام أهل البيت عليهم السلام بمبادئهم الرساليّة.
وقد فضح معاوية نفسَه وكشف عن واقعه، بعد نقضِه لكلّ بنود الصلح مع الإمام الحسن عليه السلام، وكان لا بدّ للشاكّين في سلامة خطّ أهل البيت عليهم السلام من الاكتواء بلظى النار التي سعّرها لهم معاوية، وأخذ يؤجّجها بكلّ ضراوة. وكان ترشيح يزيد وفرض البيعة له بالخلافة هو آخر الخطّ لمعاوية، ومهَّدَ معاوية لذلك باغتيال الإمام الحسن عليه السلام, ليخلو له الجوّ، وقد ذكر له التأريخ أكثر من
محاولة ومراوغة لتحقيق مأربه هذا، وتحكيم الجاهليّة بثوبٍ جديد في ربوع الدولة الإسلاميّة.
فلو استشهد الإمام الحسين عليه السلام والحالة هذه، فسوف لا يكون لقتله أيّة فائدة تعود على الدين والأمّة، بل ربّما يكون ضرر ذلك أكثر من نفعه، وذلك عندما يُلحِق ذلك معاوية الداهية بحملة دعائيّة مغرضة، يقضي فيها على الأمل الوحيد للأمّة، ويفصل المجتمع المسلم، نفسيًّا وفكريًّا، عن أهل البيت عليهم السلام بشكل عامّ، وعن أئمّتهم بصورة خاصة.
وخلاصة الأمر: إنّ قتل الإمام الحسين عليه السلام في زمن معاوية ليس فقط لا يجدي ولا ينفع، وإنّما يكون فيه قضاءٌ تامٌّ على الأمل الوحيد للدين والأمّة وللحقّ. وبمقدار ما يكون هذا خيانة حقيقيّة ظاهرة لذلك كلّه، كان استشهاد الإمام الحسين عليه السلام بعد ذلك، في كربلاء، وفاءً للدين وللأمّة وللحقّ، عندما لم يَعُدْ انحرافُ الحُكم وعداؤه للدين خافيًا على أحد، ولم يكن بعد للدهاء والمكر، وللسياسات المنحرفة، أن تتستّر عليه، ولا أن تقلِّل من وضوحه.
وأصبح السكوت عليه في تلك الظروف هو الخيانة للدين، وللأمّة، وللحقّ. وإلّا فإنّ الإمام الحسين عليه السلام قد عاش في حكم معاوية بعد استشهاد أخيه الإمام الحسن عليه السلام عشر سنوات، ولم يقم بالثورة ضدّه، مع أنّ الإمام الحسين عليه السلام، الذي سكت في زمن معاوية، هو نفسه الذي ثار في زمان يزيد، كما أنّ الانحراف والظلم الذي كان في زمانه عليه السلام، قد كان في زمان أخيه عليه السلام. وما ذكرناه هو المبرِّر لسكوته هناك، وثورته هنا.
وصحيحٌ أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان كارهًا للصلح[26]، ولكنّ الإمام الحسن عليه السلام أيضًا كان له كارهًا. غير أنّ هذا الصلح، على الكراهية التي كانت فيه، كان خيرًا للأمّة[27]، وإن لم يكن الأفضل, لأنّها لم تكن مستعدّة، ولم تكن تملك إمكانيّة القيام بالأفضل منه، وهو الجهاد والتضحية من أجل الانتصار على الطغيان الأمويّ وإسقاطه[28]. وأمّا أخبار اعتراض الإمام الحسين عليه السلام على أخيه، فهي من وضع الأمويّين وأتباعهم، فإنّ فيها من سوء التخاطب بين الحسن والحسين عليه السلام ما يؤكّد أنّها مفتعَلة[29].
هذا، وقد تمدَّح الإمام الحسين عليه السلام أخاه الإمام الحسن عليه السلام على صلحه مع معاوية، واعتبره إيثارًا لله عند مداحض الباطل[30].
وكتب أهل الكوفة أكثر من مرّة إلى الإمام الحسين عليه السلام، يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية، وفي كلّ ذلك يأبى عليهم[31]، وقد أمرَهم بلزوم بيوتهم، وبالصبر، والترقُّب، والتخفِّي عن أعين السلطة، والانتظار، والتكتّم على ميولهم وأفكارهم، ما دام معاوية حيًّا[32]. فالقول بأنّ سبب عدم ثورته على معاوية إنّما هو عدم بيعة الناس له في زمنه، لا يصحّ. هذا وإنّ الناس كانوا قد بايعوا الإمام الحسن عليه السلام، فلماذا سكت؟ ولماذا لم يطالبه الإمام الحسين عليه السلام بالقيام؟ ولماذا يمدحه على صلحه لمعاوية[33]؟
موت معاوية وطلب يزيد البيعة من الإمام الحسين عليه السلام
مات معاوية منتصف رجب من سنة ستّين من الهجرة، عن عمر تجاوز سبعين سنة، وخلّف بعده ولده يزيد. فكتب يزيد إلى ابن عمّه الوليد بن عتبة، والي
المدينة، يأمره بأخذ البيعة من الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام قبل أن يعلم أهلُ المدينة بالأمر، ولا يرخّص له في التأخّر عن ذلك، ويقول: إنْ أبى عليك، فاضربْ عنقَهُ، وابعَثْ إليَّ بِرأسِهِ[34]. ولعلّ الاستعجال بأخذ البيعة من الإمام الحسين عليه السلام قبل أن يعلم أهل المدينة بالأمر، كان نصيحةً من مروان بن الحكم للوالي[35] الذي أحضره الوليد واستشاره في أمر الإمام الحسين عليه السلام، فقال: إنّه لا يقبَل، ولو كنتُ مكانَك لضربتُ عنقَه، فقال الوليد: ليتني لم أكُ شيئًا مذكورًا.
ثمّ بعث الوليد إلى الإمام الحسين عليه السلام في الليل، فاستدعاه قبل أن يفشو الخبر، وكان عليه السلام في المسجد النبويّ، جالسًا مع عبد الله بين الزبير[36]، فعرف الإمام الحسينُ عليه السلام الذي أراد، فدعا بجماعةٍ من أهل بيته ومواليه، وكانوا ثلاثين رجلًا، وأمرَهم بحمل السلاح، وقال لهم: "إِنَّ الْوَلِيدَ قَدِ اسْتَدْعَانِي فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يُكَلِّفَنِي أَمْرًا لَا أُجِيبُهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَأْمُونٍ، فَكُونُوا مَعِي. فَإِذَا دَخَلْتُ، فَاجْلِسُوا عَلَى الْبَابِ، فَإِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتِي قَدْ عَلَا، فَادْخُلُوا عَلَيْهِ لِتَمْنَعُوهُ مِنِّي"[37].
ثمّ صار الإمام الحسين عليه السلام إلى الوليد، فوجد عنده مروان بن الحكم، فنعى الوليد معاوية، فاسترجع الإمام الحسين عليه السلام، ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه ليزيد. فلم يُرِد الإمام الحسينُ عليه السلام أن يصارحه بالامتناع من البيعة، وأراد التخلّص منه بوجهٍ سلميٍّ، فقال له: "إنّي أراكَ لا تقنَع أو تجتزئ ببيعتي سرًّا حتّى أبايعه جهرًا، فيعرف ذلك الناس"، أو "دون أن نظهرها على رؤوس الناس علانية"، أو قال له: "لا خيرَ في بيعةِ سِرٍّ، وَالظاهرةُ خيرٌ، فإذا حضرَ الناسُ كانَ أمرًا واحدًا".
فقال له الوليد: أجل.
فقال الإمام الحسين عليه السلام: "تصبحُ وترى رأيَك في ذلك".
فقال له الوليد: انصرِف على اسمِ اللهِ، حتّى تأتينا معَ جماعةِ الناسِ.
فقال له مروان: واللهِ، لئنْ فارقَكَ الحسينُ الساعةَ ولم يبايِعْ، لا قدرْتَ منهُ على مثلِها أبدًا، حتّى تكثَّر القتلى بينكم وبينه، ولكن احبِس الرجلَ، فلا يخرج من عندك حتّى يبايع، أو تضرب عنقَه.
فلمّا سمع الحسين عليه السلام مروان، صارحهما، حينئذٍ، بالامتناع من البيعة، وأنه لا يمكن أن يبايع ليزيد أبدًا، فقال لمروان: "ويلي عليك يابن الزرقاء! أنتَ تأمر بضرب عنقي؟! كذبتَ والله، ولؤمتَ.
والله، لو رام ذلك أحدٌ من الناس، لسقيتُ الأرضَ من دمِه قبل ذلك، وإنْ شئتَ ذلك، فرم ضربَ عنقي، إن كنتَ صادقًا!".
ثمّ أقبل على الوليد، فقال: "أيّها الأمير، إنَّا أهلُ بيتِ النبوّة، ومعدنُ الرسالة، ومختلفُ الملائكة، ومحلُّ الرحمة، بنا فتحَ الله، وبنا ختمَ. ويزيد رجلٌ فاسقٌ، شاربُ الخمرِ، قاتلُ النفسِ المحترَمَة، معلنٌ بالفسقِ، ومثلي لا يبايعُ مثلَهُ، ولكن نصبحُ وتصبحون، وننظُرُ وتنظرون، أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة"[38].
وسمعَ مَن بالباب من الهاشميّين الإمام الحسينَ عليه السلام، فهمّوا بفتح الباب وإشهار السيوف، فخرج إليهم الإمام الحسين عليه السلام سريعًا، فأمرَهم بالانصراف إلى منازلهم، وتوجَّهَ إلى قبر جدِّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[39]، ثمّ عاد إلى منزله مع الصبح[40].
وكانت تلك الليلة هي ليلة السبت، لثلاثٍ بقين من رجب سنة ستّين. فلمّا أصبح، خرج من منزله يستمع الأخبار، فلقيه مروان، فقال له: يا أبا عبد الله، إنّي لكَ ناصحٌ، فأطِعني ترشدْ، فقال الإمام الحسين عليه السلام: وما ذاك؟ قل حتّى أسمع.
فقال مروان: إنّي آمرُك ببيعةِ يزيدَ بنِ معاويةَ، فإنّهُ خيرٌ لكَ في دينِكَ ودُنياكَ.
فقال الإمام الحسين عليه السلام: "إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَعَلَى الإِسْلَامِ السَّلَامُ إِذْ قَدْ بُلِيَت الأُمَّةُ بِرَاعٍ مِثْلِ يَزِيد".
وطال الحديث بينه وبين مروان، حتّى انصرف عليه السلام وهو غضبان. فلمّا كان آخر نهار السبت، بعث الوليد إلى الإمام الحسين عليه السلام ليحضر فيبايع، فقال لهم الإمام الحسين عليه السلام: "أصبِحوا، ثمَّ ترون ونرى"، فكفّوا عنه تلك الليلة، ولم يلحّوا عليه، واشتغلوا بابن الزبير[41]، فعزم عليه السلام على الخروج من المدينة...
الوضع السياسيّ في المدينة عند وصول خبر موت معاوية
إنّ حوادث الليلة التي وصل فيها خبر موت معاوية إلى المدينة، تكشف عدّة أمور مهمّة:
أوّلًا: إنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يخشى من عمليّةِ إطفاءٍ لثورتِه قبل أن تضطرم، عبر اغتياله سرًا، أو في عمليّةِ مواجَهةٍ محدودةٍ مفتعَلة، تتبعها مسرحيّة مكذوبة يقوم الأمويّون بإخراجها، ومن ثمّ تُجهض الثورة الحسينيّة من أوّلها. ولذلك، كان احتياط الإمام عليه السلام شديدًا، فقد طلب من ثلاثين مقاتلًا من بني هاشم وأنصارهم مرافقته وحمايته، حتّى لو وصل الأمر إلى حدِّ اقتحام قصر الإمارة بدون استئذان، إذا سمعوا صوته عليه السلام قد علا.
ثانيًا: طلب الإمام عليه السلام أن تكون البيعة علنيّة، ولكنّ الإمام عليه السلام لم يكن ليبايع يزيد، لا سرًّا ولا جهرًا، كما أنّه بسبب القوّة العسكريّة التي رافقته، والتي تدلّ على أنّه كان مستعدًّا للاشتباك، يظهر أنّه احتاط لكي لا يتمّ إحراجه بالبيعة.
إذًا، هو لم يكن يريد البيعة أصلًا، فلا بدّ من أنّ طلبَه أن تكون البيعة علنيّة, لكي يستثمر الاجتماع العامّ لأهل المدينة غدًا، مع ما في هذا الاجتماع من رموز الصحابة والتابعين, فإذا رفض البيعة علنًا، وفضح حقيقة يزيد، وذكّرَهم بموقعه عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وفي القرآن، ودعاهم إلى مبايعته ونصرته، فقد ينقلب الوضع لمصلحته. ولكنّ مروان انتبه إلى مراد الإمام الحسين عليه السلام، فضيّق عليه الفرصة التي أتاحها له الوالي حينما قبل بالتأجيل، وذلك عبر التلفُّظ بتهديد الإمام بالقتل هنا، وفي هذه الغرفة، إذ سوف يصبح الإمام عليه السلام، حينئذٍ، بين محذورَين: إمّا الاستسلام للابتزاز والسكوت والخضوع، وإمّا الرفض للابتزاز وكشف ورقته التي يخبّئها هنا، وقد اختار الإمام عليه السلام الخيار الثاني، فأعلن عن موقفه، وتخلّى عمّا كان يتأمّله من ذلك الاجتماع العامّ إن حصل.
ثالثًا: يظهر أنّ مروان بن الحكم كان منافسًا قويًّا للوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ويريد منه إمّا أن يقتل الإمام الحسين عليه السلام، فيتخلص الأمويّون من ألدّ أعدائهم على يد الوليد، وإمّا أن لا يفعل، فيسهّل عمليّة عزله واحتلال مكانه واليًا على المدينة.
رابعًا: يظهر من كثير من النصوص، أنّ الوليد بن عتبة كان خائفًا على آخرته من التورُّط في قتل الإمام الحسين عليه السلام[42]، إلّا أنّه مع ذلك، كان بنظر الإمام الحسين عليه السلام غير مأمون[43]، إذ قد يُقدِم على ارتكاب جريمة كبيرة إذا ما أُحرِجَ حرجًا شديدًا, ولذلك لم يرغب الإمام السير طويلًا في استفزازه. ومع أنّ الإمام بقي يومَين وليلتَين بعد تلك الليلة، ومع أنّه تجوَّل في المدينة نهارًا، واستعدّ مع أهله وأنصاره، وبشكل علنيّ، للخروج إلى مكّة، وخرج على الطريق العامّ، فإنّ الوليد لم يبادر إلى عملٍ ضدّ الإمام، وهذا كان من دوافع يزيد إلى عزله بعد ذلك.
ويظهر أيضًا أنّ الوليد كان واليًا مناسبًا لسياسة معاوية، المبنيّة على المرونة والدهاء مع أعدائه، وعدم الحمق والنزق في الإدارة، ولكنّه لم يكن مناسبًا لتمثيل يزيد، فأراد معالجة مشكلة الإمام عليه السلام على طريقة معاوية، كما أنّه لم يعلن موت معاوية، ولم يَدعُ إلى اجتماع عامّ إلّا بعد خروج الإمام عليه السلام من المدينة، وهذا من دهائه، فقد أراد تفويتَ الفرصة على الإمام عليه السلام، ولكنّ مرونة الوليد ودهاءه، على كلّ حال، ساعد الإمام عليه السلام على الخروج مبكرًا من المدينة، دون أيّ ممانعة أو مضايقة، ما سهّل حركة الإمام بعد ذلك، بينما كان من المفروض - حسب سياسة يزيد ومروان - التضييق على الإمام وفرض الإقامة الجبريّة عليه, من أجل إجباره على البيعة، أو قتله في المدينة، حتّى تخنق الثورة في مهدها.
الخيارات المطروحة أمام الإمام الحسين عليه السلام
لقد كان أمام الحسين عليه السلام عدّة حلول ممكنة، بعد أن طلب يزيد منه البيعة، وهدّده بالقتل إن لم يبايع:
الأوّل: أن يبايع يزيد.
الثاني: أن يرفض البيعة ويبقى في مكّة أو المدينة.
الثالث: أن يلجأ إلى بلد من بلاد العالم الإسلاميّ، حتّى يلتفّ حوله العدد الكافي لمواجهة هذه الدولة.
الرابع: أن يتحرّك ويغادر المدينة إلى مكّة، منتظرًا تحرُّك أهل الكوفة وبيعتهم له، فإذا ما حصل ذلك، فإنّه يتوجّه نحو العراق، ويخوض المعركة الفاصلة مع الدولة الأمويّة، التي كان يعلم أنّه سوف يستشهد فيها، وبالطريقة التي وقعَت.
وكان اختياره للموقف الأخير قائمًا على أساس إدراكه لطبيعة الظرف الذي تعيشه الأمّة الإسلاميّة، فإنّ جزءًا كبيرًا من الأمّة الإسلاميّة قد فقد - مع قيام الدولة الأمويّة، وخصوصًا خلال عهد معاوية - إرادته وقدرته على مواجهة النظام الأمويّ، وهو يشعر بالذلّ والاستكانة والشلل وعدم القدرة على التحرُّك. فقد كان حجم الإرهاب الأمنيّ الأمويّ مفاجئًا للإنسان العربيّ، الذي لم يدرِ كيف يتعامل معه، وهو الذي اعتاد على الفرديّة في كلّ تفاصيل حياته، بينما كانت إزالة النظام الأمويّ وهزيمته تحتاج إلى تكتُّل وتظافر وتعاون واتّحاد وإطاعة لقائدٍ أو لحزبٍ يكون في مستوى القدرة على تحدّي النظام الأمويّ وإزالته، ولم يكن سوى الإمام الحسين عليه السلام مؤهّلًا لذلك.
هذا وإنّ جزءًا كبيرًا آخر من الأمّة الإسلاميّة قد هان عليه أمر الإسلام، فلم يعد يهتمّ إلاّ بمصالحه الشخصيّة، وتضاءلَت أمامه الرسالة الإسلاميّة، فهو انضمّ إليها سلاّبًا نهّابًا، يقاتل من أجل الغنيمة، ويطمع بالعيش الرغيد.
ولكنّ جزءًا كبيرًا من الأمّة الإسلاميّة كان يعلم تمامًا أنّ خسارةً كبيرةً تحيق بالأمّة الإسلاميّة من خلال تبديل الخلافة إلى قيصريّة وكسرويّة، وأنّه في عهد معاوية، طرأ تغيُّر أساسيّ على مفهوم الخلافة نفسه، فلم تعد الخلافة حكمًا للأمّة، بل حوّلها معاوية إلى حكم كسرى وقيصر، وهو تحويلٌ خطيرٌ في المفهوم، أراد معاوية أن يُلبسَه ثوب الشرعيّة، ولكنّ هذا التحويل لم يُواجَه بالمعارضة والرفض من قِبل الصحابة، بل سكتوا واستكانوا، فأمكن أن تنطلي حيلة معاوية على الكثير من السذّج والبسطاء من العوامّ، إذ يرون في سكوت الصحابة إمضاءً له، وكان في ذلك إحراجٌ شديد للإمام الحسين عليه السلام، وهو الصحابيّ والممثِّل للدين والقرآن والإسلام، فكيف يسكت؟ ألا يُفهَم من سكوته الإمضاء لهذا التحوُّل؟
ثمّ إنّ حقيقة موقف الإمام الحسن عليه السلام في مسألة الصلح لم تكن معروفةً لجمهور المسلمين وعمومهم، إلّا داخل دائرةٍ خاصّة ومحدودة جدًّا، كانت تعيش هذه المسألة عن قُرب، بل حتّى الأقربين كانوا غير قادرين على فهمها، كبعض أصحاب الإمام الحسن عليه السلام، الذي خاطبَه يومًا بكلامٍ لا يخلو من عدم الاحترام، قائلًا: السلامُ عليكَ يا مُذِلَّ المؤمنين!.
فكيف بأهل العراق بشكل عامّ؟ وكيف بمن كان يعيش في أطراف العالم الإسلاميّ، كأقاصي خراسان، حيث لم يعش المحنة يومًا بعد يوم، ولم يكتوِ بالنار التي اكتوى بها الإمام الحسن عليه السلام في الكوفة، من قواعده وأعدائه، وإنّما كانت تصلُه الأخبار عبر المسافات الشاسعة بين الكوفة وأطراف خراسان مثلًا؟
فهؤلاء كلّهم لم يفهموا أنّ صُلحَ الحسن مع معاوية وتنازُلَه عن الخلافة مؤقّتًا، ليس اعترافًا بشرعيّة معاوية والأطروحة الأمويّة، بل هو تصرُّف اقتضته الضرورة والظروف الموضوعيّة التي كان يعيشها الإمام الحسن عليه السلام.
فكان لا بدّ للإمام الحسين عليه السلام من أن يختار موقفًا يعالج فيه مشكلة هذه الانهيارات كلّها في موقف الجمهور الإسلاميّ، بأن يعيد إلى الأمّة إرادتها التي فقدتها بالتميّع الأمويّ، وإيمانها بالرسالة، وشعورها بأهميّة الإسلام، وأن يكشف
معاوية ويرفع عنه التستُّر بأصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّهم سكتوا على تحويل الخلافة إلى كسرويّة وقيصريّة، وذلك عن طريق رفضه شخصيًّا لذلك التحويل، مهما كان الثمن، على أساس أنّه من الصحابة ويمثّلهم، وأنّه رمز لهم، والبقيّة الباقية من الصحابة.
ولا بدّ أيضًا من أن يختار الإمام الحسين عليه السلام الموقف الذي يشرح فيه، حتّى لمن كان بعيدًا عن الأحداث، أنّ تنازل الإمام الحسن عليه السلام لم يكن إقرارًا بحقٍّ ما لمعاوية، ولا لبني أميّة، وأنّ أهل البيت يرفضون تحويل خلافة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى كسرويّة وقيصريّة.
فما هو الموقف الذي يحقّق هذه الأهداف كلّها معًا؟
أمّا مبايعة يزيد بن معاوية، فسوف تكرّس كلّ المخاطر والمحاذير، وليسَت خلافة يزيد كخلافة أبي بكر وعمر وعثمان, لأنّ خلافة هؤلاء جاءت من بيعة محدودة، أو من شورى، أو بتعيينٍ لا يستبطن التوريث العائليّ والتمليك الشخصيّ، وأمّا هنا، في حالة يزيد بن معاوية، فقد أصبحَت تركةً يحصل عليها الورثة بالتوريث العائليّ الخاصّ.
إذًا، فالتحويل هنا على مستوى المفهوم، وسوف يعني، على مستوى التطبيق، خسارة احتمال عودة الإمامة إلى أهل البيت إلى الأبد! وتنازُل الإمام الحسن عليه السلام كان مؤقّتًا، فلم يكن بالإمكان أن تمضي عمليّة التحويل هذه دون أن يقف أهل البيت، الذين هم القادة الحقيقيّون للأمّة، الموقف الدينيّ الواضح المحدّد منها.
وأمّا الموقف الثاني، فهو لا يحقّق ذلك المكسب الذي يريده الإمام الحسين عليه السلام أيضًا, وذلك لأنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يؤكد أنّه لو بقي في المدينة أو في مكّة، رافضًا للبيعة، لقُتِلَ من قِبَل بني أميّة، حتّى ولو كان متعلّقًا بأستار الكعبة... وهذا القتل ليس كالقتل الذي استطاع أن يحرّك البقيّة الباقية من عواطف المسلمين تجاه رسالتهم ودينهم، حتّى ولو كان هذا القتل من خلال مواجهة عسكريّة في المدينة، كان يحتمل احتمالًا كبيرًا وقوعها بعد تعرُّض الإمام عليه السلام لعمليّة اغتيال مدبَّرة من قِبَل الوالي[44]. وحتّى لو فرضنا رفضَ الوالي لتطبيق تلك الفكرة، إلّا أنّ يزيد لن يعدم واليًا أمويًّا آخر يقوم بالمهمّة، بل لعلّ في بعض الأخبار ما يصرّح بأنّ الأمويّين دسّوا على الإمام الحسين عليه السلام مَن يقوم باغتياله[45]. فإرجاع الناس إلى عقيدتهم، من خلال إثارة المتبقّي من عواطفهم ومشاعرهم، لن يتحقّق من خلال قتلٍ عابرٍ سهلٍ من هذا القبيل، بل لا بدّ من أن تُحشَد له كلّ المثيرات والمحرّكات.
ولذلك، كان السبب الرئيس لخروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة، ليس مجرَّد الخشية من الاغتيال، بل كان الخوف من أن تُخنَق ثورتُه باغتياله، وتُكتَم أنفاسُها سرًّا، قبل أن تشتعل، وفي ظروفٍ يقوم الأمويّون بإعدادها وإخراجها، وتذهب فيها نفسُ الإمام الحسين عليه السلام رخيصةً في ظروفٍ ملتبسةٍ، ثمّ يقوم الأمويّون بالاستفادة من الحادثة كعادتهم، وتحويل آثارها لمصلحتهم.
وأمّا الموقف الثالث، فهو وإن كان أسلم من الأوّل والثاني على الخطّ القصير, لأنّه يمكنه أن يعتصم بشيعته في اليمن مثلًا إلى برهةٍ معيّنة، لكنّه سوف ينعزل ويحيط نفسَه بإطارٍ منغلق عن مسرح الأحداث، بينما لابدّ أن يباشر عمله التغييريّ على مسرح الأحداث، الذي كان، وقتئذٍ، هو الشام والعراق ومكّة والمدينة, كي يمكن لهذا العمل أن يؤثّر تربويًّا وروحيًّا وأخلاقيًّا في العالم الإسلاميّ كلّه.
وعليه، كان لا بدّ أن يختار الموقف الرابع، الذي استطاع أن يهزّ به ضمير الأمّة من ناحية، ويشعرها بأهميّة الإسلام وكرامة هذا الدين من ناحية ثانية. وأن يدحض عمليّة تحويل الخلافة إلى كسرويّة وقيصريّة من ناحية ثالثة، وأن يوضّح للمسلمين كلّهم مفهومَ التنازل عند الإمام الحسن عليه السلام، وأنّه لم يكن موقفًا إمضائيًّا، وإنّما كان أسلوبًا تمهيديًّا لموقف الإمام الحسين عليه السلام.
وإذا كانت الهزيمة النفسيّة للأمّة هي الحالة المرَضيّة العامّة التي قد تعرّضَت لها الأمّة المسلمة في عصر الإمام الحسين عليه السلام، فالحسين حين يريد معالجة هذا المرض المستشري في جسمها، لا بدّ له أن يقدّم الموقف النظريّ والعمليّ معًا تجاه الوضع القائم، ويضع النقاط على الحروف، بنحوٍ ينتهي إلى اجتثاث جذور هذا المرض الخبيث.
ومن هنا، كانت الثورة المسلَّحة بالشكل المثير جدًّا، والذي يستنهض النفوس الميّتة، ويحييها من سباتها، ويبدِّل جُبنَها إلى الشجاعة، ووهنَها إلى الإقدام، هو الحلّ الوحيد للأزمة التي حلَّت بالأمّة المسلمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد رفض الإمام الحسين عليه السلام، رفضًا قاطعًا، بيعةَ يزيد، ولم يكن هذا الرفض سلبيًّا، بل كان رفضًا إيجابيًّا متحرِّكًا باتّجاه نقض البنيان الأمويّ، طلبًا للإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يكن الإمام الحسين عليه السلام ليسكت، حتّى لو سكت عنه النظام الأمويّ، بل كان خروجه فعلًا ابتدائيًّا، درءًا للخطر الذي أخذ يتهدَّد الإسلام بخلافة يزيد.
والأمر الآخر أنّ الإمام عليه السلام كان أمامه التهديد الأمويّ، إنْ هو لم يبايع، ولو بايع، فإنّه سيعطي في مثل هذه الحالة الوثيقةَ الشرعيّة للحكّام الأمويّين الظلمة، وسيطفئ بذلك بصيص الأمل الذي ترصده الأمّة في تلك الشخصيّة المعارِضة, أعني شخصيّة الإمام عليه السلام.
وفي حالة رفضه، فإنّه أمام خيارَين: إمّا الموت الذي قرّره الأمويّون له، ولو كان متعلّقًا بأستار الكعبة، وإمّا الرحيل إلى إحدى المناطق التي يمتلك فيها شعبيّة وشيعة، ولا تتعدّى هذه المناطق اليمن والكوفة والبصرة، ومن المعلوم أنّ الطلب الأمويّ سوف يلاحقه في هذه المناطق، بلا فرق. وما دامت الكوفة تحتوي أكثر القواعد الشعبيّة المؤيّدة له، بالإضافة إلى الطلب الشديد من قِبَل أهلها، فإنّ الخيار الصحيح لا بدّ أن يكون بالرحيل إلى الكوفة، عاصمة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام. ولهذا، رفض الإمام عليه السلام إلحاح أخيه محمّد بن الحنفيّة وممانعته من الذهاب إلى الكوفة، كما رفض طلب ابن عبّاس، الذي أشار على الإمام عليه السلام بالذهاب إلى اليمن.
الخروج من المدينة
لم يكن خروج الإمام الحسين عليه السلام سرِّيًّا، ولا خوفًا من السلطة الأمويّة، فقد كان موكبه من الضخامة، بحيث لا يخفى على الأعين المراقبة، كما أنّه اطمأنّ إلى أنّ الوليد لن يُقدِم على عملٍ أرعنٍ ضدّه، بل كان يتمنّى خروجَه, لكي لا يُبتَلى بدمه. ولعلّ اختيار الليل كان للتستُّر على حركة الحرم النبويّ، ولكي لا تتصفَّح أعين الناس النساء، إذا ما كان الخروج نهارًا[46].
وخرج معه بنو أخيه، وإخوته، وجلّ أهل بيته، إلّا محمّد بن الحنفيّة وعبد الله بن جعفر. وكان معه من أنصاره، عبد الله بن يقطر الحميريّ، الذي اشتهر بأنّه أخو الإمام الحسين عليه السلام من الرضاعة, لأنّ أمّه كانت حاضنةَ الإمام الحسين عليه السلام، وسليمان بن رزين، وأسلم بن عمر، وقارب بن عبد الله الدئليّ، ومنجح بن سهم، وكلّهم من مواليه، واستشهدوا معه في كربلاء، وسعد بن الحرث الخزاعيّ، ونصر بن أبي النيزر، وهما موليان لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام، والحرث بن نبهان مولى حمزة بن عبد المطلب، وجون بن حوى مولى أبي ذرّ الغفاريّ[47]، وعقبة بن سمعان، الذي أُسِر في كربلاء بعد نهاية المعركة، فادّعى أنّه مملوك، فأُطلِق سراحُه[48]، وهو الذي روى بعض أحداث الطفّ في روايات أبي مخنف، وذهب بعض علماء الإماميّة إلى أنّه استشهد في كربلاء[49].
ولمّا عزم الإمام الحسين عليه السلام على الخروج من المدينة، مضى في جوف الليل إلى قبر أمّه، فودّعها، ثمّ مضى إلى قبر أخيه الحسن عليه السلام، ففعل كذلك. ثمّ خرج الإمام عليه السلام من المدينة في جوف الليل، وسار إلى مكّة، وهو يقرأ: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[50].
ولزم الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكّبْتَ الطريقَ الأعظمَ، كما فعل ابن الزبير, كي لا يلحقك الطلب، فقال: "لا، والله، لا أفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاضٍ"[51].
لماذا لم يتوجّه الإمام الحسين عليه السلام مباشرة إلى العراق؟
لقد كان اختيار العراق مركزًا للثورة في ثقافة الثورة الحسينيّة منذ بدايتها، بل منذ الإخبار عنها في ملاحم الأخبار النبويّة. وبغضّ النظر عن ذلك، فقد كانت الكوفة هي الأقرب إلى الاستجابة من بين بقيّة المدن، فمكّة والمدينة لم يكن فيهما عشرون رجلًا يحبّون أهل البيت عليهم السلام، والبصرة كانت بأغلبها محسوبةً على بني أميّة، والشام كانت مغلقةً لصالح الأمويّين، والثائرون المحبّون لأهل البيت كانوا من أهل الكوفة، وقد تمَّت اتّصالاتٌ بهم بعد الصلح، وبعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام، ونصحهم فيها الإمام الحسين عليه السلام بالانتظار والتربُّص. وقد تحدَّث الإمام الحسين عليه السلام مع أمّ سلمة عن مصرعه في العراق[52]، كذلك مع أخيه عمر الأطرف، الأخ التوأم لرقيّة، ابن الصهباء التغلبيّة[53].
ولم يتوجّه الإمام الحسين عليه السلام مباشرة إلى العراق, لأنّه كان يحتاج إلى هامشٍ من الزمن، يُظهِر فيه العراقيّون إرادتَهم ورغبتَهم وبيعتَهم. وبما أنّ بقاءه في المدينة، انتظارًا لذلك، كان سوف يشكّل خطرًا على الثورة، ويحتمل خنقها في مهدها باغتياله، كما تقدّم، فقد فضّل الإمام جعل هذا الهامش الزمنيّ في حركةٍ له إلى مكّة أوّلًا، حيث يلوذ بالبيت، ويؤخّر عمليّة اغتياله، وتظهر بيعة أهل العراق له خلال ذلك الزمان، وتنضج ظروف ثورته، شعبيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، بعد أن استكملت أسبابها ودوافعها الرساليّة والعقائديّة في المدينة، وحتّى قبل وفاة معاوية.
لقد كان القرار بالثورة جاهزًا في المدينة ولم يكن ينتظر بيعة أهل العراق ولكن بيعة أهل العراق كانت سوف تقرر مكان وزمان الثورة، وقد صرّح الإمام بذلك في لقائه مع أخيه عمر الأطرف وأخيه محمّد بن الحنفيّة[54].
الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرمة
دخل الإمام الحسين عليه السلام مكّة في ليلة الجمعة 3 شعبان[55]، وهو يقرأ: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ﴾[56]،[57] وخرج منها إلى العراق في 8 ذي الحجّة، فكان مكثُه فيها مئة وخمسة وعشرين يومًا، وتُعتَبر من أطول مراحل الثورة الحسينيّة، ومع ذلك، فهي من أقلّ مراحلها نصوصًا، ومعظم الحوادث التي سُجِّلَت اقتصرَت على وقائع الأيّام الأخيرة منها.
سبب اختيار مكّة
لعلّ موسم الحجّ كان من أهم أسباب اختيار الإمام لها، فهو مناسبة جيّدة للدعاية السياسيّة ضدّ النظام الأمويّ، وللتحضير لثورته، كذلك مكّة أيّام الموسم هي المكان المناسب للقاء بوفود العراق، لمعرفة تطوُّر الوضع هناك، ومدى استعداده لقدوم الإمام إليه.
من هنا، نشير إلى أنّ الإمام عليه السلام لم يقصد مكّة إلّا بما هي مكان لموسم الحجّ، ولم يقصدها لذاتها، فقد كانت مكّة، منذ الأيّام الأولى للبعثة النبويّة، إلى مرحلة الهجرة النبويّة إلى المدينة، إلى ما جرى بعد ذلك من صراعات وحروب في الجمل وصفّين، مركزًا لأعداء أهل البيت عليهم السلام ولذريّة عليّ بن أبي طالب عليه السلام. فبعد سنتَين من شهادة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، يقول الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام: "مَا بِمَكَّة وَالمدِينَةِ عشْرُونَ رَجُلًا يُحِبُّنَا"[58].
نزل الإمام الحسين عليه السلام في منزل عمّه العبّاس بن عبد المطّلب[59]، في شُعَبِ عليّ[60]، فلم يكن الإمام عليه السلام راغبًا في توريط أحدٍ من الناس في مشاكل مع الأمويّين فيما لو نزل عنده، وكانت منازل بني هاشم قد باعها عقيل في خلال الهجرة النبويّة في المدينة, لأنّ قريش كانت تصادر أموالهم ودُورهم، ففضَّل بيعَها، والظاهر أنّ ذلك كان برضاهم[61].
مراسلة أهل البصرة
كتب الإمام الحسين عليه السلام إلى رؤساء الأخماس بالبصرة، وإلى أشرافها، فكتب يزيد بن مسعود النهشليّ إلى الحسين عليه السلام جوابه، مبديًا فيه استعداده للنصرة، وقرأ الحسين كتابه، ودعا له بالأمن يوم الخوف، والإرواء يوم العطش الأكبر. ولكن لمّا تجهّز للخروج لنصرة سيّده الحسين عليه السلام، بلغَهُ قَتْلَه، فجزع من انقطاعه عنه[62]. وأما الأحنف بن قيس، فقد كتب للحسين عليه السلام: أمّا بعد، فاصبر، إنّ وعدَ اللهِ حقٌّ، ولا يستخفَّنَّك الذين لا يوقِنون[63].
وأمّا المنذر بن الجارود، فإنّه جاء بالكتاب والرسول إلى عبيد الله بن زياد، في عشيّة الليلة التي يريد ابن زياد أن يذهب في صبيحتها إلى الكوفة. فأخذ عبيد الله الرسولَ، فصلبه، ثمّ خطب الناس، وتوعّدهم على الخلاف، وخرج من البصرة، واستخلف أخاه عثمان عليها[64].
كان العراق هو المكان الأنسب للثورة، إذ لم يكن مغلقًا، كالشام، للأمويّين، وكان الإمام الحسين عليه السلام ينتظر موقفًا جيّدًا من أهل الكوفة، ولم يكن ينتظر اتّصالًا إيجابيًّا من أهل البصرة، يبادر إلى دعوته وبيعته, لوجود ثقلٍ للأمويّين في البصرة، ولقلّة المحبّين لعليّ بن أبي طالب عليه السلام فيها، خصوصًا بعد معركة الجمل، ولوجود والٍ أمويّ قويٍّ وإرهابيٍّ مستبدٍّ فيها، وهو عبيد الله بن زياد، ولأنّ توزيعها إلى خمسة أقسام أمنيّة تحت قيادة زعيم عشيرة من عشائرها، سهَّلَ مراقبتَها وضبطَها أمنيًّا، خصوصًا إذا علمنا أنّ من بين هولاء الخمسة كان واحدٌ فقط يميل إلى آل عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وهو الأحنف بن قيس[65]، رغم ما في سجلِّه أيضًا من مواقف تشير إلى ضعف اعتقاده وتهاونه وتقاعسه عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام. وأمّا الآخرون، فقد كان مالك بن مسمع أمويًّا في ميوله[66]، وكان مسعود بن عمرو بن عدي الأزديّ في جيش أمّ المؤمنين وصديقًا حميمًا لعبيد الله بن زياد، وهو الذي هرّبَه إلى الشام بعد موت يزيد وحماه[67]، وكان قيس بن الهيثم السلميّ واليًا للأمويّين في خراسان، وعلى شرطتهم في البصرة، وموظّفًا عند عبيد الله بن زياد، ثمّ كان من الذين قاتلوا المختار تحت راية ابن الزبير[68]، وأمّا المنذر بن الجارود العبديّ، فبعد أن خان عليًّا عليه السلام الذي ولاّه، فوبّخه أمير المؤمنين عليه السلام[69]، خان الإنسانيّة والإسلام والشرف، حينما سلّم عبيد الله بن زياد سليمان بن رزين، رسول الإمام الحسين، فقتله، فكان أوّل شهداء الثورة الحسينيّة[70].
الاتّصال بالبصرة
كما ذكرنا، بادر الإمام للاتّصال بأهل البصرة، عبر هؤلاء الذين ذكرناهم, لأنّهم الواسطة الوحيدة إلى أهل البصرة، الذين كانوا لا يتحرّكون إلا بإرادة هؤلاء الزعماء. ولذلك، لم يجد الإمام طريقًا إلى الناس هناك، وإلى إلقاء الحجّة عليهم، إلّا إرسال الرسائل مباشرةً إليهم، ولعلّ خيرًا يظهر منهم. وبالجملة، لم تخلُ البصرة من محبّين وموالين وقفوا إلى جانب الحسين واستشهد بعضُهم معه في كربلاء[71]، وكان يزيد بن مسعود النهشليّ، أحد رؤوس الأخماس في البصرة، الوحيدَ الذي كان موقفه إيجابيًّا من دعوة الإمام الحسين عليه السلام[72].
الموقف الأمويّ في المدينة بعد خروج الإمام الحسين عليه السلام منها
وصلت أخبار الموقف المتهاون للوالي الأمويّ على المدينة، الوليد بن عتبة، من الإمام الحسين عليه السلام إلى يزيد بن معاوية، الذي أغضبه موقف الوليد، فبادر إلى مجموعة إجراءات أمنيّة وسياسيّة، فعزل الوليد بن عتبة عن ولاية المدينة، وأضاف ولايتها إلى عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق، والي مكّة آنذاك[73]، في محاولةٍ لتوحيد السيطرة على العمل الأمنيّ في الحجاز، وجَعْلِهِ في يدٍ واحدة، احتياطًا لخروج الإمام الحسين عليه السلام. وقد قدم عمرو بن سعيد الأشدق المدينة في شهر رمضان، بعد خروج الإمام الحسين عليه السلام منها، فهدّد أهل المدينة وأنذرهم، وامتدح يزيد بن معاوية، وهدّد ابن الزبير، ولكنّه تجنّب التعرُّض للإمام الحسين عليه السلام[74]. ثمّ قام يزيد باتّصالات سياسيّة لمحاولة تطويق الثورة الحسينيّة قبل انطلاقها، فأرسل رسالة لعبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب[75]، فيها ترغيب وترهيب، وتحذير من شقّ عصا الطاعة (وكأنّ الطاعة مفروضة!)، وهي نمطٌ من خطاب المصادرة الذي اعتمده معاوية، والإيحاء بأنّ الإمام الحسين عليه السلام كان طالبَ مُلكٍ ودنيا[76].
وأرسل رسالة أخرى إلى أهل المدينة، يهدّدهم ويحذّرهم من الثورة عليه، فأرسل أهل المدينة هذه الرسالة إلى الإمام الحسين في مكّة، فأجاب عليها مزدريًا به، في جوابٍ مختصر يشير فيه إلى القطيعة التامّة بين الإسلام والكفر، ضارِبًا المثل بآية قرآنيّة كانت هي كلّ الجواب ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾[77]، والسلام[78].
الموقف الأمويّ في مكّة بعد وصول الإمام الحسين عليه السلام إليها
كان عمرو بن سعيد الأشدق أمويًّا متعصّبًا ومبغضًا لأهل البيت عليهم السلام، فظًا غليظًا، جبّارًا متكبرًّا، معتزًا بجاهليّته وأمويّته، لا يبالي ولا يستحي من ادّعاء ما ليس له أهلًا، ومحبًّا ليزيد ومعاوية[79].
وحينما وصل الإمام الحسين عليه السلام إلى مكّة، وتوافد الناس إليه، توجَّهَ إليه عمرو بن سعيد الأشدق، وسأله: ما إقدامُك؟ فقال الإمام عليه السلام: "عائذًا بالله، وبهذا البيتِ"[80]، ولم يُفصِح الإمام عليه السلام عن شيء من حقيقة موقفه، إلّا أنّه أراد أن يُحرِجَ هذا الطاغية الأمويّ بالقاعدة الأساسيّة التي ينبغي أن لا يزول عنها أيّ طاغية، لا في جاهليّة ولا في إسلام، وهي أنّ هذا حرمُ الله تعالى، ومن دخله كان آمنًا.
وفي خلال المدّة التي قضاها الإمام في مكّة، لم يظهر من الأمويّين أيّ إجراء عسكريّ عنيف ضدّ الإمام عليه السلام, ولعلّ ذلك بسبب ازدحام مكّة بالحجيج، ولأنّ الإمام عليه السلام كان يتحرّك محاطًا بحمايةٍ من أنصاره وأهل بيته، أو لأنّ الوالي الأمويّ لم يكن يملك قوّة عسكريّة كافية للاصطدام بالإمام عليه السلام.
ومع ذلك، فإنّ هناك من الدلائل التاريخيّة ما يكفي لإثبات أنّ الأمويّين كانوا عازمين على اغتيال الإمام الحسين عليه السلام في مكّة، حتّى ولو أخّروا ذلك إلى ما بعد انقضاء موسم الحجّ، وبعد أن تفرغ مكّة من الوافدين، ممّا سرّع خطوات خروج الإمام عليه السلام من مكّة[81].
تطوُّر الأحداث في الكوفة بعد موت معاوية
يظهر أنّ نبأ موت معاوية وصل إلى أهل الكوفة بعد وصول الإمام الحسين عليه السلام إلى مكّة[82]. فلم تصل إليه رسائل من الكوفة خلال وجوده في المدينة, لأنّ الوقت لا يتّسع لوصول الخبر من دمشق إلى العراق، ثمّ للاجتماع وكتابة الرسائل، ثمّ وصول الرسائل من العراق إلى المدينة قبل خروج الإمام الحسين منها، وكما علمنا، فإنّ الإمام عليه السلام مكث يومَين فقط في المدينة بعد ورود النعي بمعاوية.
وأمّا الرسائل التي كانت تصل من العراق، والتي تحضّ الإمام الحسين عليه السلام على الثورة على معاوية[83] بعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام، فإنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يمتنع عليهم، ويذكر لهم أنّ بينه وبين معاوية عهدًا لا ينقضه حتّى تمضي المدّة، فإذا مات معاوية، نظر في ذلك.
وكان الاجتماع الأوّل لرؤوس أهل الكوفة في منزل سليمان بن صرد الخزاعيّ، وبحضور المسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر، وخرجَت أوّل رسالة وأخطرها من الكوفة إلى الإمام الحسين عليه السلام، فوصلَت في العاشر من شهر رمضان[84]، وبعد يومَين على هذه الرسالة، خرج قيس بن مسهّر الصيداويّ، ومعه نحو من مئة وخمسين رسالة من الرجل والاثنين والأربعة[85].
ثمّ رسائل أخرى بعد يومَين[86]، ثمّ أخذَت الرسائل تترى على الإمام عليه السلام، يسألونه القدوم عليهم، وهو مع ذلك يتأنّى ولا يجيبهم، فورد عليه في يومٍ واحدٍ ستّمئة كتاب، وتواترَت الكتب، حتّى اجتمع عنده منها، في نُوَبٍ متفرّقة، اثنا عشر ألف كتاب[87].
الإمام الحسين عليه السلام والصحابة والتابعون في مكّة
عكف الناس على الإمام الحسين عليه السلام، يفدون إليه، ويقدمون عليه، ويجلسون حوله، ويستمعون كلامه، وتركوا عبد الله بن الزبير، الذي ساءه ذلك، ولكنّه لزم مصلاّه عند الكعبة، وجعل يتردّد إلى الحسين عليه السلام في جملة الناس، وقد تراجع وزنُه وذكره، وتضاءل أمام ابن بنت رسول الله، سيّد الحجاز، بل سيّد أهل الأرض، ولكنّه بقي يختلف إلى الإمام الحسين عليه السلام صباحًا ومساءً[88].
ينقسم موقف الصحابة والتابعين، الذين التقوا الإمام الحسين عليه السلام وحاوروه وطرحوا عليه اقتراحات ومواقف، إلى عدّة اتّجاهات وميول، تتراوح بين الاستسلام للأمويّين، والفرار من وجههم في الأرض، والتربّص بانتظار حصول تبدُّل في موازين القوى بين الإمام الحسين عليه السلام والأمويّين من أجل إحراز نصرٍ مضمون...
إلّا أنّ أحدًا من هؤلاء جميعًا، حتّى أقرب المقرَّبين منهم، كابن عبّاس ومحمّد بن الحنفيّة وعبد الله بن جعفر، لم يكن يتصوّر سقفًا أعلى من طموحات تحقيق نصر على الحكم الأمويّ، يتمكّن من استرداد الدولة من قبضته، وهو سقف تحقيق شهادةٍ تضرب في أعماق التاريخ والوجدان، وتهزّ كلّ عروش الظالمين إلى يوم القيامة، وتحفظ أصل دين الإسلام، وليس فقط استرداد قيادة الدولة الإسلاميّة.
عبد الله بن العبّاس
أمّا عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلب، فقد حاول جهده ثنيَ الإمام الحسين عليه السلام عن التوجُّه إلى العراق، وقد رأى أنّه لا بدّ من أن يتحرّك أهلُ الكوفة ويخلعوا أميرهم الأمويّ، ثمّ إذا استقرّ الوضع هناك، يستطيع الإمام أن يذهب إلى العراق، وإلّا فإنّ الذهاب، وهم يطيعون أميرهم ويعطون الإمام الكلام فقط، خطيرٌ جدًّا[89].
لم يرفض، إذًا، عبد الله بن عبّاس نظرية الثورة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلّا أنّه رأى لها سياقًا عرفيًّا، وحسبما يتصرّف القادة الثائرون عادةً، إذا ما أرادوا الاعتماد على الشعب وعلى الطاقة الجماهيريّة، فإنّ على الجماهير أن تثور، وأن تقدّم السلطة للقائد، وأمّا أن يغامر القائد ويعتمد على إمكانيّة التحرك معه من الجماهير أو احتمال ذلك، فهذا يأباه طبعُ من يخطِّط تخطيطًا حكيمًا للاستيلاء على السلطة. ولكنّ أمرًا جوهريًّا فات عبد الله بن عبّاس، وهو أنّ أفق الثورة الحسينيّة كان أعلى وأعمق من استرداد الدولة وإنجاز إصلاحات اجتماعيّة وسياسيّة، وأنّ ما كان يخطّط له الإمام عليه السلام هو بُعدٌ رساليٌّ تأسيسيٌّ، سوف يكون من ثماره الآنيّة استرداد الدولة وإنجاز تلك الإصلاحات.
ولم يكن اقتراح ابن عبّاس جامدًا، بل كان يستند إلى إمكانيّة الالتجاء إلى أمكنة بعيدة، يستطيع أن ينظِّم فيها الإمام الحسين عليه السلام قواه العسكريّة والشعبيّة، ويستقطب الأنصار، ومن ثمّ يخوض حربًا منتصرة على الأمويّين[90].
كيف واجه الإمام عليه السلام طرح عبد الله بن العبّاس؟
لقد أخبره، أوّلًا، بأنّ هناك خطّة أمويّة لاغتياله في الحرم، حتّى ولو لم يبايع ووقف موقفًا سلبيًّا من قضيّة الثورة، ثمّ أخبره ثانيًا، في محاولةٍ لإفهام ابن عبّاس، بأنّ المجال ما زال متّسعًا لأخذ القرار النهائيّ بالتوجُّه إلى العراق، وأنّه باقٍ في الحرم "فإنّي مستوطنُ هذا الحرمِ، ومُقيمٌ فيه أبدًا ما رأيْتُ أهلَهُ يحبّوني وينصروني، فإذا هم خذلوني، استبدلتُ بهم غيرَهم"[91]. والإمام عليه السلام يعلم أنّه لا يوجد من أهل مكّة من يحبّه ويحبّ أهل بيته، فترك الحسم والجواب النهائيّ حتّى تستبين الأمور، وابن عبّاس يعلم بموقف أهل مكّة من أهل البيت عليهم السلام، فاستقرّ بذلك في نفس ابن عبّاس أنّ الإمام عليه السلام، إذًا، خارجٌ، لا محالة[92].
وفي محاولة، لعلّها كانت الأخيرة بينهما، وقبل خروجه عليه السلام من مكّة بيوم أو يومَين، حسم الإمام عليه السلام أَمْرَهُ مع ابن عبّاس، وصرّح له بأنّه لا بدّ من العراق، وأنّه إن يُقتَل بالعراق أحبّ إليه من أن يُقتَل بمكّة، فإنّه إذا كان مقتولًا لا محالة، وأنّ ما قضى الله فهو كائن، فالهجوم والتقدُّم إلى الأمام أفضل من النكوص والتراجع[93].
محمّد بن الحنفيّة
التقى به الإمام الحسين عليه السلام في المدينة، قبل خروجه إلى مكّة، فاقترح عليه خطَّةَ حشدِ عناصر القوّة العسكريّة والشعبيّة, من أجل التأثير في ميزان القوى مع الدولة الأمويّة، بدعوة الناس إليه، ولو بالتنقُّل من بلد إلى بلد، ومن جبل إلى جبل، انطلاقًا من المدينة، إلى مكّة، إلى اليمن، وإلّا فإلى الوديان والجبال والبوادي... وهكذا[94].
رسالة الإمام عليه السلام إلى محمّد بن الحنفيّة ومن قِبله من بني هاشم[95]
وخلال وجوده في مكّة، أو بعد خروجه منها[96]، بعث الإمام الحسين عليه السلام إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة، ومَن قِبَلَهُ من بني هاشم في المدينة، رسالة نصّها:
"بسم الله الرحمن الرحيم
مِن الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، إِلى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَمَنْ قِبَلَهُ مِنْ بَنِي هَاشِم:
أمّا بعدُ، فإنَّ مَنْ لَحِقَ بِي اسْتُشْهِدَ، وَمَنْ لَمْ يَلْحَقْ بِي لَمْ يُدْرِك الفَتْحَ، وَالسَّلَام"[97].
وقد لحق محمّد بن الحنفيّة بالإمام في مكّة[98]، بعد هذه الرسالة، ولكنّه لم يلحق به إلى العراق. حيث اقترح على الإمام، في الليلة الأخيرة التي خرج في صبيحتها إلى العراق، المكوث في الحرم، فصرّح
له الإمام بخشيته من أن يغتاله الأمويّون في الحرم، فيكون بذلك هو الذي تتحدَّث عنه الروايات النبويّة، والذي تستباح به حرمة المسجد الحرام، وأنّ ذنوبه لو وُزِنَت بذنوب الثقلين لوزنتها، وأنّ عليه نصف عذاب العالم[99]، ولو نجح الأمويّون في قتل الإمام الحسين عليه السلام في الحرم، فسوف يروّجون، عبر قصّاصيهم وكذّابيهم، أنّه هو المقصود بتلك الروايات النبويّة.
ثمّ التقى محمّد بن الحنفيّة بالإمام للمرّة الأخيرة، متعجّبًا من إصرار الإمام على التوجّه إلى العراق، فصرّح له الإمام عليه السلام بطرفٍ من المشروع الإلهيّ الذي يسعى إليه، عبر إخباره بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أتاه وأمره بالخروج مع أهل بيته "فإنَّ اللهَ قد شاءَ أن يراكَ قتيلًا... وَشاءَ أن يراهُنَّ سبايا"[100].
لماذا لم يلتحق محمّد بن الحنفيّة بالإمام عليه السلام في العراق؟
الظاهر من بعض الأخبار أنّ محمّد بن الحنفيّة كان مريضًا مرضًا شديدًا أيّام خروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكّة، ثمّ إلى العراق، بحيث إنّه لم يكن يقوى على حمل السيف أو الرمح[101].
وفي بعض آخر، فإنَّ الإمام الحسين عليه السلام قال له: "وأمّا أنتَ، يا أخي، فلا عليك أن تقيم في المدينة، فتكون لي عينًا، ولا تُخْفِ عَلَيَّ شيئًا من أمورهم"[102]. إلّا أنّ هذه الروايات لم تكفِ في تحصيل الباحث القطع واليقين في السبب الذي منع محمّد بن الحنفيّة من الالتحاق بالإمام الحسين عليه السلام.
وعلى كلّ حال، سواء كان محمّد بن الحنفيّة معذورًا في عدم التحاقه بالإمام عليه السلام، أم لم يكن معذورًا، فقد فاته فتحٌ جليل, لأنّ الإمام الحسين عليه السلام جعلَه قرين الشهادة، هذا الفتح الذي ما زال، إلى يومنا هذا، أمنيّةً لكلّ مَن يحيي أمر الإمام الشهيد عليه السلام وأصحابه وأهل بيته.
عبد الله بن جعفر
وأمّا عبد الله بن جعفر، الذي كان صحابيًّا[103] نشأ في حجر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكان على ميمنة أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين، إماميًّا[104] جريئًا في قول الحقّ[105]، فقد اتّصل بالإمام الحسين عليه السلام عبر رسالةٍ حاول فيها ثنيه عن المسير إلى العراق[106]، تبعًا لابن عبّاس ومحمّد بن الحنفيّة، بناءً على رؤيتهم لموازين القوى، ولاعتقادهم أنّ أفق الثورة الحسينيّة هو إحرازُ نصرٍ سياسيّ عسكريّ على الدولة الأمويّة، واسترداد قيادة الدولة.
لكنّ عبد الله بن جعفر لم يلتحق بالثورة الحسينيّة، بل عاد من الطريق[107]، على الرغم من أنّ زوجته زينب بنت الإمام عليّ بن أبي طالب عليهما السلام قد رافقت الإمام الحسين عليه السلام في ثورته حتّى النهاية، وعلى الرغم من أنّ ولدَيه[108]، أو أولاده[109] قد رافقوا الإمام أيضًا، واستشهدوا معه في كربلاء.
عبد الله بن عمر
وأمّا عبد الله بن عمر، فنأتي معه إلى مستوى آخر منخفض في التعامل مع الثورة الحسينيّة، فقد رفض أصلَ الثورة، ودعا الإمام عليه السلام إلى الدخول في ما دخل فيه الناس، وإلى مبايعة يزيد، والصبر عليه، كما صبر لمعاوية من قبل[110]، مع أنّه سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمرَ بنصرة الحسين عليه السلام، وسمع ابن عبّاس يروي حديثًا مشابهًا عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وسمع من الإمام الحسين عليه السلام يطلب منه أن ينصره[111].
ومع ذلك، قعد ابن عمر، وتخلّف عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام بلا عذر، بل دعاه إلى متاركة بني أميّة، والقعود عن الثورة، ولزوم منزله، وأنّ بني أميّة لن يقتلوه حتّى ولو لم يبايع.
ولكن، من قال لابن عمر ذلك؟ هل كان على اتّصال ببني أميّة، ويريد إغراء الإمام بالمكوث في مكّة لإجهاض الثورة في مهدها؟
قد يكون الجواب إيجابيًّا، إذا علمنا أنّ ابن عمر قد عاش في نعيم المال الأمويّ, من أجل أن يبايع ليزيد[112]، وأنّه بايع يزيد، واعتبر نَكْثَ بيعتِه من أعظم الغدر[113]، بل كان مع معاوية ويزيد من أوّل الطريق[114]، وعرضٌ سريع لهويّته التاريخيّة يكشف الكثير من شخصيّته، فقد وصفه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بأنّه سيّء الخُلُق، صغيرًا وكبيرًا[115].
عبد الله بن الزبير
هو عبد الله بن الزبير بن العوّام، وأمّه أسماء بنت أبي بكر، وخالته أم المؤمنين عائشة، وقد عُدَّ من صغار الصحابة[116], لأنّه وُلِدَ في السنة الأولى أو السنة الثانية من الهجرة، وقد وصفه أمير المؤمنين عليه السلام في واحدٍ من أخباره بالمغيّبات، قائلًا: "خَبٌّ ضَبٌّ، يَرُومُ أَمْرًا وَلَا يُدْرِكُهُ، يَنْصبُ حبَالَةَ الدِّينِ لِاصْطِيَادِ الدُّنْيَا، وَهُوَ بَعْدُ مَصْلُوبُ قُرَيْش"[117].
وهو الذي رغّب عثمان بن عفّان، أثناء الحصار، بالتحوّل إلى مكّة، لكنّ عثمان أبى ذلك، قائلًا: إنّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "يُلحِد بمكّة كبشٌ من قريش، اسمه عبد الله، عليه مثل نصف أوزار الناس". وقد سمع هذا الإنذار مرّة ثانية، حينما حذّره عبدُ الله بن عمر بن الخطّاب، بقوله: إيّاك والإلحاد في حرم الله، فأَشهَدُ لَسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "يُحلّها، (أو تُحَلُّ به) رجل من قريش، لو وُزِنَت ذنوبه بذنوب الثقلين، لوزنتها"، فانظر يابن الزبير لا تكونه![118].
وكان عبد الله بن الزبير من أهمّ العوامل التي أثّرت في تغيير مسار أبيه، وفي هذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "مَا زَالَ الزُّبَيْرُ مِنَّا حَتَّى نَشَأَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ"[119].
وهو الذي حرّض عائشة على مواصلة المسير إلى البصرة، حين قصدَت الرجوع بعد نباح كلاب الحوأب عليها.
وهو الذي بقي أربعين يومًا لا يصلّي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته، حتّى الْتَاتَ عليه الناس، فقال: إنّ له أهل بيت سوء، إذا ذكرتُه اشرأبَّت نفوسُهم إليه وفرحوا بذلك، فلا أحبُّ أن أقرَّ أعينَهم بذلك[120].
وهو الذي دعا ابن عبّاس ومحمّد بن الحنفيّة وجماعة من بني هاشم إلى بيعته، فلمّا أبوا عليه، جعل يشتمهم ويتناولهم على المنبر، ثمّ قال: لتبايعنّ أو لأحرقنّكم بالنار! فأبوا عليه، فحبس محمّد بن الحنفيّة في خمسة عشر من بني هاشم في السجن[121].
وقد كان يُبغِض بني هاشم، ويلعن عليًّا عليه السلام ويسبّه، وكان حريصًا جدًّا على الإمارة والسلطة، وكان يدعو الناس إلى طلب الثأر قبل موت يزيد، فلمّا مات، طلب المُلك لنفسه، لا للثأر[122]، وكان، مع ذلك، متّصفًا بصفاتٍ وخلالٍ تنافي أخلاقيّات الرئاسة، ولا يصلح معها للخلافة، إذ كان بخيلًا، سيّء الخُلُق، حسودًا، كثير الخلاف, ولذا تراه أخرج ابن الحنفيّة، ونفى ابن عبّاس إلى الطائف[123].
وقد عانى الناس أيّام سلطته القصيرة أنواع البؤس والجوع والحرمان، وخصوصًا الموالي، فقد لاقوا منه أنواع الضيق.
وعندما وصل الإمام الحسين عليه السلام إلى مكّة، اشتدّ ذلك على ابن الزبير, لأنّه كان قد طمع أن يبايعه أهل مكّة، فلمّا قدم الحسين عليه السلام شقّ ذلك عليه، غير أنّه لا يُبدي ما في قلبه إلى الحسين، لكنّه يختلف إليه، ويصلّي بصلاته، ويقعد عنده، ويسمع حديثه، وهو يعلم أنّه لا يبايعه أحدٌ من أهل مكّة والحسين بن عليّ عليه السلام بها, لأنّ الحسين عليه السلام عندهم أعظم في أنفسهم من ابن الزبير[124]، الذي لزم مصلاّه عند الكعبة، وجعل يتردّد في غضون ذلك إلى الحسين عليه السلام في جملة الناس، ولا يمكنه أن يتحرّك بشيء ممّا في نفسه مع وجود الحسين عليه السلام، لِما يعلم من تعظيم الناس له، وتقديمهم إيّاه عليه، وميلهم إليه عليه السلام, لأنّه السيّد الكبير، وابن بنت رسول الله، ليس على وجه الأرض، يومئذٍ، أحدٌ يساميه ولا يساويه[125].
من هنا، كان كلُّ هَمِّ عبد الله بن الزبير وأقصى أمنيّته أن يخرج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة, لتخلو له، وكان يظنّ أنّ ما يضمره خافٍ على الإمام عليه السلام، غير أنّ أمره كان أظهر من أن يخفى.
كانت شخصيّة عبد الله بن الزبير قلقة مضطربة، انعكست على آرائه ومواقفه، فقد كان طامحًا للرئاسة، إلى الدرجة التي ساوى فيها بينه وبين الإمام عليه السلام في مسألة الحقّ بالخلافة، فيقول له: ونحن أبناء المهاجرين وولاة الأمر دونهم، بل وصل به التعلُّق الأعمى بالرئاسة حدًّا، توهّم أن يكون هو الخليفة، مع وجود الإمام، فيقول له: فأَقُمْ إنْ شِئتَ، وَتُولّيني أنا الأَمْرَ.
ومع ذلك، فقد كان الإمام عليه السلام يسايره ويحاوره، دون أن يُظهِر له أنّه يعرف حقيقة مشروعه، الذي كان فيه استحلالٌ للبيت وانتهاكٌ لحرمته، وقد قال له الإمام ذلك صراحةً: "إنَّ أبي حدَّثَني أنَّ بها كبشًا يَستَحِلُّ حُرْمَتَها، فما أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أنا ذلك الكبش"[126].
وكان الإمام عليه السلام حريصًا على أن لا يتوهّم أحدٌ أنّه يخفي شيئًا بخصوص هذه المحاورات، فكان يصرّح لمن يراهما يتحادثان بحقيقة موقف ابن الزبير.
إضافة إلى ذلك كلِّه، كان الإمام عليه السلام يلقي الحجّة على عبد الله بن الزبير في وجوب الخروج والثورة معه على بني أميّة... ولكنّ هذه الحجّة لم تؤثّر في نفس ابن الزبير, لأنّه كان يتمنّى خروج الحسين عليه السلام, لكي يدعو إلى نفسه، ويخلو له الجوّ.
دعوة أهل الكوفة والإعلان عن الاستعداد للبيعة
لمّا بلغ أهل الكوفة موت معاوية وامتناع الحسين عليه السلام من البيعة، أرجفوا بيزيد، وعُقِدَ اجتماعٌ في منزل سليمان بن صرد الخزاعيّ، فأرسلوا وفدًا من قِبَلِهم، وعليهم أبو عبد الله الجدليّ، وكتبوا إليه معهم.
ثمّ لبثوا يومَين، وأنفذوا قيس بن مسهّر الصيداويّ وعبد الرحمن بن عبد الله بن شدّاد الأرحبيّ وعمارة بن عبد الله السلوليّ إلى الحسين عليه السلام، ومعهم نحو مئة وخمسين صفحة من الرجل والاثنين والأربعة، وهو مع ذلك يتأنّى ولا يجيبهم، فورد عليه في يومٍ واحد مئة كتاب، وتواترَت الكتب، حتّى اجتمع عنده اثنا عشر ألف كتاب، ثمّ لبثوا يومَين آخرَين، وسرحوا إليه هاني بن هاني السبعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، وكانا آخر الرسل، وكتبوا إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، للحسين بن عليّ، من شيعته من المؤمنين والمسلمين، أمّا بعد، فحيّهلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل، ثمّ العجل العجل، والسلام[127].
رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة
... ثمّ كتب مع هاني بن هاني وسعيد بن عبد الله، وكانا آخر الرسل:
"بسم الله الرحمن الرحيم
مِنَ الحسينِ بنِ عليٍّ، إلى الملأ مِن المؤمنينَ وَالمسلمينَ، أمّا بعدُ، فإنَّ هانِيًا وسعيدًا قدِما عَلَيَّ بكتبِكم، وكانا آخرَ مَن قدِمَ عَلَيَّ مِن رُسُلِكُم، وقد فهمتُ كلَّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلِّكم: إنّه ليس علينا إمامٌ، فأقبِل، لعلَّ اللهَ أنْ يجمعَنا بِك على الحقِّ والهدى. وإنّي باعثٌ إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مُسْلِم بن عقيل بن أبي طالب، وأمرتُه أن يكتبَ لي بحالكم وخبركم ورأيكم ورأي ذوي الحجى والفضل منكم، وهو متوجِّهٌ إليكم، إن شاء الله، ولاقوّة إلّا بالله، فإنْ كنتُم على ما قَدِمَتْ به رسلُكم، وقرأتُ في كتبِكم، فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه، ولا تخذلوه، فإنّي أقدم إليكم وشيكًا، إن شاء الله. فلَعُمري، ما الإمامُ العاملُ (الحاكمُ) بالكتابِ، القائمُ بالقسطِ، الداينُ بدين الحقِّ، الحابسُ نفسه على ذات الله، كالذي يحكم بغير الحقِّ، ولا يهتدي سبيلًا، والسلام"[128].
ثمّ طوى الكتاب، وختمه، ودعا بمسلم بن عقيل، فدفع إليه الكتاب، وقال:
"إنّي موجِّهُك إلى أهلِ الكوفةِ، وسيقضي اللهُ مِن أمرِكَ ما يحبُّ ويرضى، وأنا أرجو أنْ أكونَ أنا وأنتَ في درجةِ الشهداءِ، فامْضِ بِبركةِ اللهِ وعونِهِ، حتّى تدخُلَ الكوفةَ، فإذا دخلْتَها، فانزِلْ عندَ أوثقِ أهلِها، وادْعُ الناسَ إلى طاعَتي، فإنْ رأيْتَهم مجتمِعِينَ على بيعَتي، فعجِّلْ عَلَيَّ بِالخبرِ، حتّى أعملَ على حسابِ ذلك، إنْ شاءَ اللهُ تعالى".
ثمّ عانقه الحسين عليه السلام، وودّعه، وبكيَا جميعًا[129].
مسلم بن عقيل رسول الحسين عليه السلام إلى الكوفة
خرج مسلم بن عقيل عليه السلام من مكّة، في منتصف شهر رمضان سنة ستّين للهجرة - وقد كان من أشجع بني عقيل وأرجلهم[130]، فقد كان أحد قيادات ميمنة جيش أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في صفّين - ودخل الكوفة في اليوم الخامس من شهر شوّال من السنة نفسها[131].
وأوصاه الإمام الحسين عليه السلام أن ينزل عند أوثق أهل الكوفة[132]، وقد رُوِيَ أنّه نزل عند مسلم بن عوسجة[133]، كما رُوِيَ أنّه نزل عند هاني بن عروة ابتداءً[134]، لكنّ الأشهر هو أنّ مسلمًا عليه السلام نزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفيّ ابتداءً، ثمّ تحوّل منها بعد ذلك إلى دار هاني[135].
الأسلوب السرّيّ في تعبئة أهل الكوفة
كان لا بدّ لمسلم من اعتماد السرّ والرفق في تعبئة أهل الكوفة، حتّى يستكمل العدد والعدّة الكافيَين لتأهيل الكوفة للقيام معه، أو مع الإمام عليه السلام بعد أن يصل إليها[136]، وقد كانت الأجواء المعنويّة والسياسيّة مؤاتية للتحرُّك, ولذلك، فقد اتّخذ له مركزًا في أحد البيوت، وابتدأ يجتمع بالناس الذين أخذوا يتوافدون عليه، أفرادًا وجماعات، ويبايعون الإمام الحسين عليه السلام، وأقبلَت الشيعة تختلف إليه، فلمّا اجتمعَت إليه جماعةٌ منهم، قرأ عليهم كتابَ الحسين، فأخذوا يبكون...[137]. وأخذ عددُ الذين يبايعون مسلمًا من أهل الكوفة يتزايد يومًا بعد يوم، حتّى بايعه ثمانية عشر ألف رجل في سترٍ ورفق![138].
حينئذٍ، كتب مسلم إلى الإمام عليه السلام بذلك، وأرسله مع عابس بن أبي شبيب الشاكريّ:
أمّا بعدُ، فإنّ الرائدَ لا يكذبُ أهلَه، وقد بايعني من أهلِ الكوفةِ ثمانية عشر ألفًا، فعجِّل الإقبالَ حين يأتيك كتابي هذا، فإنَّ الناسَ كلَّهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأيٌ ولا هوى، والسلام[139].
إنّ هذه البيعة كانت، من جهة أهل الكوفة، تعبيرًا عن الحبّ والولاء من جانبهم للإمام عليه السلام، ليس أكثر، ولم يكن معناها أنّ كلّ الذين يبايعون قد تحوّلوا إلى تشكيلات منظَّمة من سرايا وكتائب وقطعات مسلَّحة جاهزة للقتال، فكانت هذه مَهمَّة أخرى لمسلم، ومرحلة أدقّ وأصعب من مرحلة تحصيل البيعة وإعلان الولاء. فكان على مسلم، الذي يمثّل قوّة سياسيّة، كانت بعيدةً عن الكوفة طوال عشرين عامًا، أن يختصر عشرين عامًا، كانت السلطة الأمويّة خلالها تبني أقوى تشكيلاتها الأمنيّة، وأخطبوطها الإرهابيّ، وامتداداتها القبليّة والعشائريّة, ولذلك، كانت المواجهة غير متكافئة تمامًا، فمجرّد البيعة لا يعني وجود القوّة، حتّى لو كان عدد المبايعين ثمانية عشر ألفًا.
ففي أحد الاجتماعات التي عُقِدَت مع مسلم، وبايعه فيها الناس، على كثرة من حضر هذا الاجتماع ممّن هو محسوبٌ على التشيُّع، لم يقم إلّا ثلاثةٌ، استشهدوا بعد ذلك في كربلاء، أظهروا لمسلم استعدادهم التامّ لامتثال أمره، والتضحية في هذا السبيل[140]، بينما كان هناك كثرة أظهرت أنّها تحبّ الحقّ، ولكنّها تكره أن تموت من أجله[141].
ولمّا تزايد عدد المبايعين لمسلم، انتشر أمرُه وفشا بين الناس، وكان لا بدّ للسلطة الأمويّة من أن تعلم، والظاهر أنّ النعمان بن بشير بن سعد الخزرجيّ، والي الكوفة، لم يكن مستعدًّا لتنفيذ استعمال القوّة ضدّ مسلم، والمبادرة إلى الهجوم عليه, إمّا لأنّ مسلمًا كان في بيت صهره المختار، وإمّا لأنّه كان يتبنّى سياسة معاوية، وهي تحاشي المواجهة العلنيّة مع الإمام الحسين عليه السلام، بحيث إنّ معاوية لو اضطرّ إلى مواجهة علنيّة وقتال ضدّ الإمام الحسين عليه السلام، وظفر به، لعفا عنه، وليس ذلك حبًّا للإمام عليه السلام، وإنّما لأنّ معاوية يعلم أنّ إراقة دم الإمام علنًا، وهو بتلك القدسيّة البالغة في قلوب الأمّة، كفيلٌ بأن يفصل الأمويّة عن الإسلام، ويذهب بجهود حركة النفاق عامّة، والحزب الأمويّ خاصّة، أدراج الرياح، خصوصًا تلك الجهود التي بذلها معاوية في مزج الأمويّة بالإسلام في عقل الأمّة وعاطفتها، بحيث إنّه لم يعد أكثرُ هذه الأمّة يعرفُ إلّا الإسلام الأمويّ، حتّى صار من غير الممكن بعد ذلك الفصل بين الإسلام والأمويّة، إلّا إذا أُرِيقَ ذلك الدم المقدَّس، دم الإمام عليه السلام، ضدّ الحكم الأمويّ.
فكان النعمان بن بشير يعتقد أنّ يزيد سوف يطبِّق سياسة معاوية في تجنُّب الاصطدام الدمويّ مع رمز الإسلام المحمّديّ الأصيل آنذاك، الحسين بن عليّ، خوفًا من وقوع الفرز بينه وبين الإسلام الأمويّ، ومن ثمّ انكشاف اللعبة النفاقيّة التي كان يحتاج إليها معاوية في بناء ملك بني أميّة واستمراريّته!
وإمّا لأنّ القوّة المعنويّة لنهضة مسلم كانت قد انتشرت، بحيث إنّها تحتاج، لمواجهتها، إلى استعمالٍ شرسٍ وعنيفٍ للسلطةِ الأمنيّة، ولم تكن شخصيّة النعمان، لذاتها، قادرة على ذلك.
هذه هي الاحتمالات الممكنة، فلم يكن النعمان بن بشير محبًّا لأهل البيت عليهم السلام، ولا ذا مَيلٍ إليهم[142]، بل كان له ولأبيه تاريخٌ أسود طويل في نصرة حركة النفاق بعد موت النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وكان عثمانيّ الهوى، يجاهر ببُغضِ عليٍّ عليه السلام، ويُسيءُ القولَ فيه، وقد حاربَه يومَ الجمل وصفّين، كذلك فلم يكن النعمان حليمًا ناسكًا، يحبّ العافية، ويغتنم السلامة[143]، بل تلميذًا نبيهًا في مدرسةِ معاوية السياسيّة، فكان يتضعّف مكرًا وحيلةً، ويعوّل على الأسلوب السرّيّ والخدعة الخفية, للقضاء على الثورة والتخلُّص من مسلم بن عقيل، بل التخلُّص حتّى من الإمام عليه السلام نفسه.
وعلى كلّ حال، لم يَرُقْ موقفَه لحلفاء بني أميّة في الكوفة[144]، فأخذَت تتوالى رسائلُهم إلى يزيد في الشام[145]، تخبره بمستجدّات حركة الأحداث في الكوفة، وبموقف النعمان بن بشير منها، وقد أجمعَت على أنّه إنْ كان لك بالكوفة حاجة، فابعث إليها رجلًا قويًّا، يُنفِّذ أمرك، ويعمل مثلَ عملِك في عدوِّك، فإنّ النعمان بن بشير رجلٌ ضعيفٌ، أو هو يتضعّف[146].
عبيد الله بن زياد والي الكوفة الجديد
استدعى يزيد مستشارَه ومستشارَ أبيه من قبل، سرجون بن منصور النصرانيّ، وسأله عن رأيه في مَن يكون الوالي على الكوفة بدلًا من النعمان، فأشار عليه سرجون باستعمال عبيد الله بن زياد، قائلًا: بأنّ هذا هو رأي معاوية أيضًا، وأخرج له كتابًا كان معاوية قد كتبه بذلك قبل موته[147]، فأخذ يزيد بهذا الرأي، وضمّ الكوفة والبصرة إلى عبيد الله بن زياد، وبعث إليه بعهده الجديد، وأمره باعتقال مسلم أو قتله.
وما إن تسلَّم عبيد الله بن زياد رسالةَ يزيد، حتّى أمر بالجهاز من وقته، والمسير والتهيّؤ إلى الكوفة من الغد[148]. فلمّا أشرف عليها، نزل حتّى أمسى ليلًا، ولمّا صار في داخل المدينة في جنح الظلام, وكان معتَمًّا بعمامةٍ سوداء وهو متلثّم، والناس قد بلغهم إقبال الحسين عليه السلام، فقالت امرأةٌ: الله أكبر! ابن رسول الله، وربّ الكعبة! فتصايح الناس، وظنّوا أنّه الإمام الحسين عليه السلام، وقالوا: إنّا معك أكثر من أربعين ألفًا. وازدحموا عليه، حتّى أخذوا بذنب دابّته، فأخذ لا يمرّ على جماعةٍ من الناس، إلّا سلَّموا عليه، وقالوا: مرحبًا بك يابن بنت رسول الله، قدمت خير مقدم! فرأى من تباشرهم بالحسين ما ساءه[149].
وسار حتّى وافى القصر بالليل، ومعه جماعة قد التفّوا به، لا يشكّون أنّه الحسين عليه السلام، فأغلق النعمان بن بشير الباب عليه وعلى خاصّته، فناداه بعضُ مَن كان معه ليفتح لهم الباب، فاطّلع عليه النعمان، وهو يظنّه الحسين عليه السلام، فقال: يابن رسول الله، مالي ولك؟ وما حملَك على قصد بلدي من بين البلدان؟ أنشدك الله إلّا ما تنحَّيتَ. والله، ما أنا بمسلِّمٍ إليك أمانتي، وما لي في قتالك من إرب.
فجعل لا يكلّمه، ثمّ إنّه دنا وتدلّى النعمان من شُرف القصر، فقال له ابن زياد: افتح، لا فتحت! فقد طال ليلُك! وحسر اللثام عن فيه.
وسمعها إنسانٌ خلفَه، فنكص إلى القوم الذين اتّبعوه من أهل الكوفة على أنّه الحسين عليه السلام، فقال: يا قوم، ابن مرجانة، والذي لا إله غيره! فعرفه النعمان، ففتح له، وتنادى الناس: ابن مرجانة! وحصبوه بالحصباء، ففاتهم ودخل القصر[150]، وضربوا الباب في وجوه الناس[151].
أظهرَت كيفيّة دخول ابن زياد الكوفة مدى الشلل في الجهاز الأمنيّ الأمويّ، ومدى الحالة العامّة المعنويّة المؤيِّدة للإمام الحسين عليه السلام.
تفعيل التشكيلات الأمنيّة الأمويّة في الكوفة
هو المَهمَّة الأولى التي عمل ابن زياد عليها. فبعد أن دخل القصر، واطّلع على حقيقة مجريات حركة الأحداث في الكوفة، مهَّدَ لقراراته وإجراءاته، بخطابٍ إرهابيٍّ، توعّد أهلَ الكوفةِ فيه بالسوط والسيف، ورغّبَهم بالانقياد[152].
ثمّ أتبعَ خطابَه بإجراءات أمنيّة، تمثّلَت في إعادة ضبط التشكيلات الأمنيّة وتفعيلها، وأهمّ فئة فيه هم العرفاء, أي المسؤولين الأمنيّين المباشرين في الأحياء ووسط القبائل، فاستدعاهم وأخذهم أخذًا شديدًا، وطلب منهم تزويده بالتقارير: اكتبوا إليَّ الغرباء، ومَن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، ومَن فيكم من الحروريّة، وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق. فمَن كتبهم لنا فبرِئ، ومَن لم يكتب لنا أحدًا، يضمن لنا ما في عرافته ألّا يخالفنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغٍ، فمَن لم يفعل، برئتُ منه الذمّة، وحلال لنا ماله وسفك دمه. وأيّما عريفٍ وُجِدَ في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحدٌ لم يرفعه إلينا، صُلبِ على باب داره، وأُلغِيَت تلك العرافة من العطاء، وسُيِّر إلى موضعٍ بعمان الزارة[153].
لقد كان لمبادرة ابن زياد هذه أهمّيّة كبيرة في تحويل الأحداث في ساحة الكوفة إلى غير المجرى الذي كانت تجري فيه بهدوء تحت إشراف ابن عقيل، إذ كان العرفاء
الواسطة بين السلطة والناس آنذاك، فهم المسؤولون عن أمور القبائل، يوزّعون عليهم العطاء، ويقومون بتنظيم السجلّات العامّة، التي فيها أسماء الرجال والنساء والأطفال، ويُسَجَّل فيها من يُولَد ليُفرَض له العطاء، ويُحذَف منها الميّت ليحذف عطاؤه، وكانوا أيضًا مسؤولين عن شؤون الأمن والنظام، وكانوا أيّام الحرب يقومون بأمور تعبئة الناس لها، ويخبرون السلطة بأسماء المتخلّفين عنها، وتُعاقب السلطةُ العرفاءَ أشدّ العقوبة، إذا أهملوا واجباتهم أو قصّروا فيها. ولقد كان للعرفاء، بعد هذا القرار، دورٌ كبيرٌ في تخذيل الناس عن الثورة، وإشاعة الخوف والرهبة بينهم، كما كان لهم بعد ذلك دورٌ كبير في زجّ الناس لحرب الإمام الحسين عليه السلام.
ولمّا سمع مسلم بن عقيل بمجيء ابن زياد إلى الكوفة، ومقالته التي قالها، وما أخذ به العرفاء والناس، لم يعد بقاؤه في دار صهر الوالي نافعًا، إذ لم يعد هذا في السلطة، وكان عليه أن يبادر إلى الاستعانة بعناصر قوّة سريعة، لا تعتمد فقط على البيعة والولاء لأهل البيت، بل على عنصر الولاء القبليّ، لمواجهة التطوّر الأمنيّ الجديد، الذي تمثّل باستنهاض القوّة الأمنيّة الأمويّة وتفعيلها، خصوصًا وأنّ المختار ليس له من القوّة القبليّة في الكوفة ما يجعله في منعة، بعكس ما عليه هانئ بن عروة المراديّ مِن العزّة والقوّة القبليّة في الكوفة[154].
فخرج من دار المختار حتّى انتهى إلى دار هانئ بن عروة المراديّ، شيخ مذحج، من أقوى قبائل الكوفة، وزعيمها، فدخلها، فأخذَت الشيعةُ تختلف إليه في دار هانئ، على تَسَتُّرٍ واستخفاءٍ من عبيد الله، وتواصوا بالكتمان...[155].
تصفية وجوه الشيعة وحبسهم
اتّخذ ابن زياد وضعية الهجوم، للسيطرة على زمام الأمور، والقضاء على حركة مسلم، فبادر إلى تقصّي رجال الشيعة في الكوفة وإلقاء القبض عليهم وقتلهم، فحبس ميثم التمّار وقتله، وصُلِبَ معه تسعة آخرون في دُفعة واحدة، وقتل رشيد الهجريّ[156]، وحبس المختار وعبد الله بن الحارث[157]، وسليمان بن صرد، وإبراهيم بن مالك الأشتر[158].
محاولة اكتشاف مركز مسلم بن عقيل
كان الهَمُّ الأكبر لعبيد الله بن زياد، منذ بدء تفعيله لجهازه الأمنيّ، هو معرفة مكان مسلم بن عقيل، وقد تَمَّ له ذلك بسهولة، من خلال عميلٍ تظاهر بأنّه رجل من أهل الشام ومن أهل حمص[159]، وأنّه مولى لذي الكلاع الحميريّ في الشام، وأنّه محبٌّ لأهل البيت، وأنّه يحمل مالًا لهم، حتّى لا يكون بإمكان مسلم بن عوسجة أن يسأل ويستفسر عن حقيقة حاله في قبائل الكوفة. ولعلّ أهل حمص، آنذاك، قد عُرِفَ أنّ فيهم من يحبّ أهل البيت عليهم السلام، فيكون ذلك مدعاةً لاطمئنان مَن يتّخذه معقل منفذًا لاختراق حركة مسلم، ومن المعروف عن جلّ الموالي حبّهم لأهل البيت عليهم السلام.
فاخترق هذا العميل الموانع الأمنيّة المحيطة بمسلم، ووصل إلى مركزه، عبر إيقاع مسلم بن عوسجة في الفخّ.
ولا يحتاج تعرُّفُه على ابن عوسجة إلى كثير جهد ومشقة، إذ كان وجيهًا شيعيًّا معروفًا في الكوفة، وقد كشف له معقل عن سرّ سهولة تعرّفه عليه، حين قال له: سمعتُ نفرًا يقولون: هذا رجلٌ له علمٌ بأهل هذا البيت، فأتيتُك لتقبض هذا المال، وتدلّني على صاحبك فأبايعه، وإن شئتَ أخذتُ البيعةَ له قبل لقائه[160]. ولقد عبّر له ابنُ عوسجة عن استيائه لسرعة تعرّفه عليه، وقوله: ... ولقد ساءتني معرفتك إيّاي بهذا الأمر مِن قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته...[161].
إنّ عبارة مسلم بن عوسجة - ولقد ساءتني معرفتُك إيّاي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته - تدلّ على مدى سيطرة عبيد الله بن زياد على الشارع، وعلى مدى سريّة حركات مسلم بن عقيل وتكتّمها وخفائها، وتدلّ أيضًا على أنّ تشكيلات مسلم لم تنضج بعد وتنمو بشكل يصحّ الاعتماد عليها والانطلاق بها[162].
كشف موقع مسلم بن عقيل
ثمّ إنّ ابن عوسجة أخّر معقلًا أيّامًا، قبل أن يطلب الإذن له، وكان يجتمع معه في منزله هو تلك الأيّام، اختلف إليّ أيّامًا في منزلي، فإنّي طالبٌ لك الإذن على صاحبك...[163]، ثمّ لم يدخله على مسلم بن عقيل حتّى طلب له الإذن، فأذن له.
وهكذا، استطاع عبيد الله بن زياد اختراق جماعة مسلم عبر هذا العميل، الذي أوصله مسلم بن عوسجة إلى مقرّ مسلم في دار هانئ، حيث كان يمكث النهار بطوله يراقب الغادين والرائحين، وفي الليل كان يضع عبيد الله بن زياد في حصيلة معلوماته.
فكرة اغتيال عبيد الله بن زياد في دار هانئ بن عروة
وسواء كان المريض في الروايات هو هانئ بن عروة، أو هو شريك بن الأعور الهمدانيّ، وسواء كان الذي وضع خطّة الاغتيال وحرّض عليها هو هانئ بن عروة، أم هو شريك، إلّا أنّ الثابت أنّ مسلمًا رفض تنفيذ هذه الخطة, لأنّ هانئ أَبَى وكره أن يتمّ الاغتيال في داره، أو لأنّ امرأةً في داره هي التي أبَتْ ذلك، ولا غرابة في ذلك، فليس من أخلاق أهل البيت خيانة الأمانة، ولا الفتك ولا الغدر بمن استضافهم وأدخلهم دارَه، فقد كانت خطّة الاغتيال، وإنْ حقَّقَت نصرًا عاجلًا، تُعتَبَر نقيصةً في الأخلاق السياسيّة لأهل البيت، لِما فيها من الإساءة وعدم الوفاء لهانئ، خصوصًا وأنّ عمليّة الاغتيال هذه سوف تكون في عُرف العربِ سببًا في السبّة والمعابة على هانئ، فقد جاء عبيد الله ليزوره أو ليعوده، والعرب لا تسيء إلى ضيفها، حتّى ولو كان عدوًّا[164].
اعتقال هانئ بن عروة
بعد أن علم عبيد الله بن زياد بموقع مسلم، قرّر المبادرة إلى الهجوم، وكانت أوّل خطوة اعتقال هانئ، فاستدرجَه عبر رؤوس أهل الكوفة، فاستأمن، ودخل القصر متخلّيًا عن الحذر، حيث واجهَهُ عبيد الله بن زياد بالجاسوس، فأوقع في يده واعترف، لكنّه بادر إلى الهجوم، معتمدًا على قوّة عشيرته، ولكنّ عبيد الله بن زياد اعتقله، وساعده قريبُه عمرو بن الحجّاج في تفريق عشيرته حينما جاءت لنجدته، كما لعب شُرَيْحٌ القاضي دورًا سيّئًا في التعمية على العشيرة، فبقي هانئ معتقلًا في القصر، واستطاع عبيد الله بن زياد إخراج قبيلة مذحج من ساحة المعركة، وجُرِّدَ مسلم بن عقيل من قوّةِ قبيلةٍ كانت ستكون تحت تصرّفه لو أنّ هانئًا طليق[165].
انتفاضة مسلم بن عقيل
هل كان ينبغي لأهل الكوفة المعارِضين للحكم الأمويّ أن يعدّوا العدّة ويستبقوا الأمور، والمبادرة إلى السيطرة على الوضع في الكوفة قبل مجيء الإمام عليه السلام إليها، وذلك بالقيام بإجراءات وقائيّة احترازية، كاعتقال الوالي الأمويّ ومعاونيه، ومنع الخروج من الكوفة لحجب أخبارها عن مسامع السلطة الأمويّة أطول مدّة ممكنة، حتّى يصل الإمام عليه السلام، فيمسك بزمام الأمور، ويقود الثورة؟
لم يكن من الممكن أن تصدر هذه المبادرة من أهل الكوفة، حتّى مع وجود ذوي الخبرات العسكريّة فيهم. وإذا كان من المظنون جدًّا أن تكون فكرة هذه المبادرة قد خطرَت في ذهن بعضهم، إلّا أنّها لم يكن من الممكن لها أن تتحوّل إلى مبادرة جماعيّة تنفيذيّة على الأرض.
فقد كان أهل الكوفة من قبائل شتّى، لكلّ قبيلة وجهاؤها وأشرافها المتعدّدون، ولكلٍّ منهم تأثيرٌ في قبيلته، لا يتعدّاه إلى القبائل الأخرى، ولم يكن من السهل أن يكون لهذا العدد الكبير من القبائل عميدٌ واحد يرجعون إليه في أمورهم، ويصدرون عن رأيه وقراره وأمره. كذلك، لم يكن من السهل أبدًا أن تصدر مواقفهم إزاء الأحداث عن تنسيق بينهم وتنظيم يوحّد بين تلك المواقف. لقد كان ذلك شبيهًا بالمستحيل في ذلك الزمان.
ولقد ترسّخَت هذه الحالة في أهل الكوفة خاصّة، والعراق عامّة, نتيجة السياسات التي مارسها معاوية، وبتركيز خاصّ على الكوفة، وكان عمادها الإرهاب والقمع والمراقبة الشديدة والاضطهاد والقتل، الذي تعرّض له كثير من أهل الكوفة، ومِن زعمائهم خاصّة، وبثّ عناصر الفرقة والتناحر بين القبائل, الأمر الذي زرع بين الناس، على مدى عشرين سنة، الحذر المفرط والخوف الشديد من سطوة النظام الأمنيّ الأمويّ، وضعف الثقة بالنفس، وعدم الاطمئنان بعضهم لبعض، والفرديّة في اتّخاذ الموقف والقرار.
ولم تكن جميع قبائل الكوفة معادية للنظام الأمويّ. وإذا ما كانت قبيلة معادية له، فلم تكن كذلك بجميع أفرادها، بل كثيرًا ما نجد انقسامًا للولاء في أفراد القبيلة الواحدة، ففي كلّ قبيلة إذا كان هناك من يعارض الحكم الأمويّ أو يوالي أهل البيت عليهم السلام، فقد كان هناك أيضًا من يوالي الحكم الأمويّ ويخدم في أجهزته، بل قد يكون في بعض هذه القبائل من الموالين للحكم الأمويّ أكثر من المعارضين له عامّة، والموالين لأهل البيت عليهم السلام خاصّة.
ولذلك ،كان من الصعب جدًّا أن يستطيع رؤساء القبائل التأثير النفسيّ والمعنويّ على قبائلهم، ودفعهم للثورة ضدّ الحكم الأمويّ علانيّة, ذلك لأنّ عناصر أخرى، قد تكون أساسية أيضًا، في القبيلة نفسها، ممّن يخدمون في أجهزة الأمويّين الأمنيّة أو يوالونهم، سوف يحبطون ذلك، بالتخريب من داخل القبيلة نفسها على مساعي الزعيم، أو من خارجها بالاستعانة بالسلطة الأمويّة نفسها، وذلك إمّا بإخبار السلطة الأمويّة بما عزم عليه زعيم قبيلتهم، وإمّا بالمبادرة إلى إجهاض تحرُّك زعيم قبيلتهم، ومحاصرته ومنعه من استنهاض القبيلة ضدّ النظام الأمويّ، وذلك بإحداث حالة من التنازع الداخليّ بين أفراد القبيلة، ودفعها نحو عدم أخذ قرار إجماعيّ ضدّ أحد طرفَي النزاع، فتميل القبيلة إلى الحياد بين الأطراف المتنازعة، وبهذا ينجو النظام الأمويّ، وتخرج هذه القبيلة من عداد أعدائه، فيُقضى بذلك على العمل قبل البدء به، هذا إذا لم يقضِ على الزعيم وعلى أنصاره أيضًا.
ففي قبيلة مذحج الكبيرة في الكوفة مثلًا، كان زعيم القبيلة معاديًا للنظام الأمويّ، وهو هانئ بن عروة، ولكن كان بإزاءه زعيمٌ آخر موالٍ للنظام الأمويّ، وإنْ كان أقلَّ منه مرتبةً في القبيلة، هو عمرو بن الحجّاج الزبيديّ، الذي قدّم خدمةً كبيرةً للأمويّين، حينما ركب موجة قبيلة مذحج التي استنفرَت لإطلاق سراح هانئ، فصرَفَهم عن اقتحام القصر، وفرّق جموعَهم بمكيدةٍ شارك في حبكها عبيد الله بن زياد وشُرَيح القاضي.
المهمّة الصعبة لمسلم بن عقيل
من هنا، كانت مَهمَّة مسلم، التي أرسله من أجلها الإمام عليه السلام إلى الكوفة، هي تعبئة الموالين للإمام الحسين عليه السلام والمعارضين للحكم الأمويّ في الكوفة، وإعدادهم، وتنظيمهم في تشكيلات أمنيّة وعسكريّة مؤاتية لمواجهة المهامّ المقبلة، التي أوّلُها السيطرة على الوضع داخل الكوفة، وقد لا يكون آخرها الدخول في مواجهة عسكريّة شاملة مع الجيش الأمويّ الشامي.
لقد كان ذلك يحتاج إلى وقتٍ، بحيث تُسَدُّ كلّ الثغرات والنواقص المعنويّة والتنظيميّة، على الأقلّ من أجل إنجاز المرحلة الأولى، وهي إعادة الكوفة إلى حظيرة الطاعة والانقياد لقيادة الإمام الحسين المقبلة من الحجاز، حتّى إذا وصل الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة، فإنّه سوف يكون هو القائد المباشر، ويواصل من موقعه المقدَّس في القلوب، وعلى طريقته، قيادة الثورة واستكمال المشروع الإصلاحيّ والتغييريّ العامّ.
من هنا، تحاشى مسلم الدخول في أيّ مواجهة ميدانيّة فاصلة، قبل أوانها، مع السلطة الأمويّة المحليّة في الكوفة، حتّى يستكمل الإعداد والتحضير، كذلك كانت هذه السلطة لا تريد تلك المواجهة الميدانيّة الفاصلة مع حركة مسلم بن عقيل, إمّا لاعتبارات شخصيّة تربك حركة الوالي، كوجود قيادة هذه الحركة في دار صهره المختار، أو لطمع في نفس هذا الوالي بإمكانيّة السيطرة على هذه الحركة واستيعابها بالسياسة، على طريقة معاوية، أو لعدم وجود مقدرة شخصيّة سلطويّة عند الوالي على تفعيل الإمكانيّات الأمنيّة المحلّيّة في الكوفة، ومراهنته على وصول نجدة من الشام تتولّى هي الموقف.
بينما نجد أنّ الأمر انقلب تمامًا مع قدوم عبيد الله بن زياد، الشخصيّة السلطويّة الأمنيّة الأقوى، إلى الكوفة، فقد كان إلى جانب خبثه ودهائه، عارِفًا بالوضع السياسيّ والاجتماعيّ والنفسيّ في الكوفة، وبرجالها وقبائلها، وقادرًا على الإمساك بالجهاز الأمنيّ، وتفعيله وتشغيله بأقصى طاقاته، وأبوه زياد بن أبيه هو الذي أسَّسه وبناه، وكان قوامه أربعة آلاف رجل، فإذا ما كان هذا الوالي الجديد قادرًا على الإمساك بالوضع الأمنيّ، وكان طامحًا إلى إنجاز المهمّة التي أوكلها إليه يزيد، طمعًا في تقوية موقعه الإداريّ ومركزه القياديّ عنده، فسوف يبادر إلى استعمال أقصى ما يملك من الدهاء والبطش والقسوة، بدون الاستعانة بالجيش الأمويّ. فبادر إلى اختراق حركة مسلم من داخلها، بواسطة أحد جواسيسه الأمنيّين المحترفين، ثمّ تواطأ مع بعض زعماء الكوفة للإيقاع بهانىء بن عروة واعتقاله، ثمّ شغّل شُرَيح القاضي في تضليل قبيلة هانىء، ثمّ استعمل عمرو بن الحجّاج في امتطاء موجة غضب مذحج الزاحفة نحو القصر، ثمّ لصرفها عنه وتفريق جموعها. وبعد أن فصل بين مسلم وأقوى قيادة قبليّة كانت معه في الكوفة، أراد الانتقال إلى الخطوة الأخيرة: اعتقال رأس الحركة، مسلم بن عقيل.
الاضطرار والقرار الاستثنائيّ
مثّل اعتقالُ هانئ منعطفًا حرجًا وخطيرًا في تقديرات مسلم بن عقيل، اضطرّه إلى الخروج عن الخطّة الأصليّة التي كان قد اعتمدها، واتّخاذ قرار استثنائيّ لمواجهة الوضع الطارئ الذي فرضه ابن زياد على الحركة باعتقاله هانئًا، فلم يعد طبيعيًّا الاستمرار في مواصلة التعبئة والإعداد والتحضير وكأنّ شيئًا لم يكن، فإنّ هذه المواصلة، من جهة، لم تعد ممكنة بعد اعتقال هانىء، الذي يُعَدُّ من أقوى زعماء القبائل وأمنعها في الكوفة، ومن جهة ثانية، إذا تمكّن ابن زياد من اعتقاله، ولم يُواجَه بتحرُّك صارم من قبيلته ومن بقيّة عناصر حركة مسلم بن عقيل لإنقاذه، فسوف يبادر عبيد الله بن زياد إلى اعتقال المزيد والمزيد من أشراف الكوفة وزعماءها، بلا أدنى محذور، بدون أن يتحرّك أحدٌ لإنقاذ أيّ رجل من قبضة ابن زياد، أو إنّه من جهة ثالثة، سوف يعتقل مسلمًا نفسه، الذي لم يعد آمنًا في الكوفة، ولا شكّ أنّه الرجل الثاني الذي سيُعتَقَل مباشرةً بعد هانىء، الذي كان أقوى حصن يمكن أن يحميه، وأَمْنَعَهُ.
فأيّ فائدة تبقى بعد اعتقال هانىء في مواصلة التعبئة والتحضير؟
إذًا، لا بدّ من الانعطاف في طريقة العمل، والتخلّي عن مواصلة الإعداد والتحضير، والمبادرة إلى التحرُّك فورًا، تحت وطأة الضرورة والاضطرار، والدخول في مواجهة حاسمة سريعة مع السلطة الأمويّة المحلّيّة في الكوفة.
الانتفاضة
يقول عبد الله بن حازم: أنا، والله، رسول ابن عقيل إلى القصر في أثر هانئ، لأنظر ما صار إليه أمره، فلمّا ضُرِبَ وحُبِسَ، ركبتُ فرسي، وكنتُ أوّل أهل الدار دَخَلَ على مسلم بن عقيل بالخبر، وإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين: يا عثرتاه! يا ثكلاه! فأخبرتُه الخبر، فأمرني أن أنادي في أصحابي، وقد ملأ الدور منهم حواليه، فقال: نادِ: يَا مَنْصُورُ، أَمِتْ!
فخرجتُ فناديتُ، وتنادى أهل الكوفة، فاجتمعوا إليه، فعقد مسلم لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكنديّ على ربع كندة وربيعة، وقال: سِر أمامي في الخيل، وقدّمَه في الخيل، وعقد لمسلم بن عوسجة على مذحج وأسد، وقال له: انزل، فأنت على الرجّالة. وعقد لأبي تمامة الصائديّ على تميم وهمدان، وعقد للعبّاس بن جعدة الجدليّ على أهل المدينة، ثمّ أقبل نحو القصر[166].
وكان عبيد الله بن زياد، خشية أن يثب الناس به[167]، قد بادر إلى المسجد، بعد أن حبس هانىء بن عروة، وبعد أن صرف قبيلته مذحج، مستعينًا بشُرَيح وعمرو بن الحجّاج، فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشرطه وحشمه، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس، اعتصِموا بطاعة الله وطاعة أئمّتكم، ولا تفرّقوا فتختلفوا وتهلكوا وتذلّوا وتخافوا وتخرجوا، فإنّ أخاك من صدقَك، وقد أُعْذِرَ مَن أُنْذِر.
وما إن أتمّ خطبتَه وذهب لينزل، حتّى سمع الصيحة، فقال ما هذا؟ فقيل له: أيّها الأمير، الحذر الحذر! هذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع مَن بايعه! فما نزل حتّى دخلَت النظارة المسجد من قبل التمارين، يشتدّون ويقولون: قد جاء ابن عقيل، فدخل عبيد الله القصر، وتحرّز فيه، وأغلق بابه[168].
وأقبل مسلم يسير في الناس من مراد، وبين يدَيه الأعلام، وشاكّوا السلاح وهم في ذلك يشتمون عبيد الله بن زياد، ويلعنون أباه[169]، حتّى أحاط بالقصر، وكانوا حينما خرجوا مع مسلم أربعة آلاف، فما بلغوا القصر إلّا وهم ثلاثمئة[170]! ثمّ إنّ الناس تداعوا إليهم واجتمعوا، وما لبثوا إلّا قليلًا، حتّى امتلأ المسجد من الناس والسوقة، ما زالوا يتوثّبون حتّى المساء، وأمرهم شديد[171]، فضاق بعبيد الله أمره[172]، وكان كبر أمره أن يتمسّك بباب القصر وليس معه إلّا ثلاثون رجلًا من الشرط، وعشرون رجلًا من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه[173].
انضمام الأشراف إلى ابن زياد
ولمّا سمع أشراف الكوفة بما يجري لابن زياد، أقبلوا يأتونه من قبل الباب الذي يلي دار الروميّين، وجعلوا يشرفون على أنصار مسلم، فينظرون إليهم، فيتّقون أن يرموهم بالحجارة وأن يشتموهم، وهم لا يفترون على عبيد الله وعلى أبيه[174]، وكان أنصار عبيد الله بن زياد من الأشراف، حتّى تلك الساعة، قد أصبحوا مئتين، فقاموا على سور القصر يرمون القوم بالمدر والنشاب، ويمنعونهم من الدنوّ من القصر، فلم يزالوا بذلك حتّى أمسوا[175].
الحرب النفسيّة
ودعا عبيد الله بن زياد أعوانه: كثير بن شهاب، فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج، فيسير بالكوفة، ويخذل الناس عن ابن عقيل، ويخوّفهم الحرب، ويحذّرهم عقوبة السلطان، وأمر محمّد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، وقال: مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهليّ، وشبث بن ربعي التميميّ، وحجار بن أبجر العجليّ، وشمر بن ذي الجوشن العامريّ، وحَبَسَ سائر وجوه الناس عنده، استيحاشًا إليهم، لقلّة عدد من معه من الناس[176].
محاولة محاصرة مسلم
وخرج كثير بن شهاب يخذل الناس عن ابن عقيل، وينصب الحواجز, لكي يمنع الناس من الالتحاق بمسلم، فألفى عبد الأعلى بن يزيد قد لبس سلاحه يريد ابن عقيل في (حيّ) بني فتيان، فأخذه حتّى أدخله على ابن زياد، فأخبره خبره، فقال لابن زياد: إنّما أردتُك، قال: وكنتَ وعدتَني ذلك من نفسك، فأمَرَ به، فحُبِس. وخرج محمّد بن الأشعث حتّى وقف عند دور بني عمارة وجاءه عمارة بن صلخب الأزدي وهو يريد ابن عقيل عليه سلاحه، فأخذه فبعث به إلى ابن زياد فحبسه[177].
مسلم يحاول فكَّ الحصار
بعث ابن عقيل إلى محمّد بن الأشعث، من المسجد، عبد الرحمن بن شريح الشباميّ، فلمّا رأى محمّد بن الأشعث كثرة مَن أتاه، أخذ يتنحّى ويتأخّر، وأرسل القعقاع بن شور الذهليّ إلى محمّد بن الأشعث: قد حلَّت على ابن عقيل من العرار, فتأخّر (أي محمّد بن الأشعث) عن موقفه، فأقبل حتّى دخل على ابن زياد من قبل دار الروميّين[178].
تجمُّع قوّة ابن زياد في القصر، وانتقالها إلى الهجوم
فلمّا اجتمع عند عبيد الله كثير بن شهاب ومحمّد والقعقاع، فيمن أطاعهم من قومهم، وقد ظهر أنّه تجمَّع لدى ابن زياد القوّة الكافية للقيام بالهجوم المعاكس على قوّة مسلم، ومنعها، ومن ثمّ من الهجوم على القصر، وعلى الأقلّ تأخير الهجوم حتّى المساء، فقال كثير لابن زياد، وكانوا مناصحين له: أصلحَ اللهُ الأمير، معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس، ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك، فاخرُجْ بنا إليهم! فأبى عبيد الله، وعقد لشبث بن ربعيّ لواء، فأخرجه[179].
قتال شوارع حول القصر
وركب أصحاب ابن زياد، بقيادة شبث بن ربعيّ، واختلط القوم، فقاتلوا قتالًا شديدًا، وعبيد الله بن زياد وجماعة من أهل الكوفة قد أشرفوا على جدار القصر، ينظرون إلى محاربة الناس[180].
الانهيار المعنويّ لأنصار مسلم
ثمّ قال عبيد الله للأشراف: ليشرف كلّ رجل منكم في ناحية من السور، فخوِّفوا القوم[181]، فمُنّوا أهلَ الطاعةِ الزيادةَ والكرامةَ، وخوِّفوا أهلَ المعصيةِ الحرمانَ والعقوبةَ، وأعلِموهم فصولَ الجنود من الشام إليهم. فأشرفَ كثيرُ بن شهاب، ومحمّد بن الأشعث، والقمقاع بن شور، وشبث ابن ربعي، وحجّار بن أبجر، وشمر بن ذي الجوشن[182]، على قوّات مسلم، فتكلّم كثير بن شهاب أوّل الناس، حتّى كادت الشمس أن تجبّ، فقال: أيّها الناس، يا أهل الكوفة، اتّقوا الله، ولا تستعجلوا الفتنة، ولا تشقّوا عصا هذه الأمّة، الحقوا بأهاليكم، ولا تعجلوا الشرّ، ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل، ولا توردوا على أنفسكم خيول الشام، فقد ذقتموهم وجرّبتم شوكتهم، فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلَت! وقد أعطى اللهَ الأميرُ عهدًا، لَئِنْ أتممتُم على حربه، ولم تنصرفوا من عشيّتكم، أن يحرم ذرّيّتكم العطاء، ويفرّق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتّى لا يبقى له فيكم بقيّة من أهل المعصية إلّا أذاقها وبال ما جرّت أيديها! وتكلّم الأشرافُ بنحوٍ من كلام هذا.
الانهيار العامّ
فلمّا سمع الناس مقالتهم، فتروا بعض الفتور، وأخذوا يتفرّقون وينصرفون. وكان الرجل من أهل الكوفة يأتي ابنه وأخاه وابنَ عمّه، فيقول: انصرف، فإنّ الناس يكفونك، غدًا يأتيك أهلُ الشام، فما تصنع بالحرب والشرّ؟ انصرِف! فيذهب به. وتجيء المرأة إلى ابنها وزوجها وأخيها، فتقول: انصرف! الناس يكفونك، فتتعلّق به حتّى يرجع.
فما زالوا يتفرّقون ويتصدّعون، حتّى أمسى ابن عقيل وما معه إلاّ ثلاثون نفسًا في المسجد حتّى صلاة المغرب، فلمّا رأى أنّه قد أمسى وليس معه إلّا أولئك النفر، خرج منصرفًا ماشيًا، ومشوا معه، متوجِّهًا نحو أبواب كندة، فما بلغ الأبواب إلّا معه منهم عشرة[183].
والظاهر، الذي لا بدّ من القول به هنا، هو أنّ قادة الألوية الأربعة: مسلم بن عوسجة، وأبا ثمامة الصائديّ، وعبد الله بن عزيز الكنديّ، وعبّاس بن جعدة الجدليّ، وغيرهم من أمثال عبد الله بن حازم البكريّ، كانوا من القلةّ التي بقيَت مع مسلم بن عقيل إلى آخر الأمر، ولم يتخلّوا عنه في تلك الساعة، ولم يتركوه، بل الأرجح أنّه اتّفق معهم على التفرُّق والاختفاء، بعد أن أصبحوا لا ناصر لهم ولا معين، على أن يلتحقوا بالإمام الحسين عليه السلام.
وقد التحق فعلًا مسلم بن عوسجة وأبو ثمامة الصائديّ بالركب الحسينيّ، واستشهدوا مع الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء. وأمّا عبد الله بن عزيز الكنديّ، وعبّاس بن جعدة الجدليّ، فقد اعتقلهم عبيد الله بن زياد، ثمّ قتلهم. وأمّا عبد الله بن حازم البكريّ، فقد استشهد في ثورة التوّابين.
مسلم بن عقيل وحيدًا
ثمّ خرج مسلم من الباب، وليس معه أحدٌ يدلّه على الطريق، ولا يدلّه على منزلٍ، ولا يواسيه بنفسه إنْ عرض له عدوّ[184]، فمضى على وجهه يتلدّد في أزقّة الكوفة، وقد أثخن بالجراحات[185]، لا يدري أين يذهب، حتّى خرج إلى دور بني جبلّة من كندة، فمشى حتّى انتهى إلى باب امرأةٍ يُقال لها: طوعة، أُمّ ولدٍ كانت للأشعث بن قيس، فأعتقها، فتزوّجها أسيد الحضرميّ، فولدَت له بلالًا، وكان بلالٌ قد خرج مع الناس، وأمُّه قائمة تنتظره، وكانت ممّن خفَّ مع مسلم[186]، فسلّم عليها ابن عقيل، فردَّت عليه، فقال لها: يا أَمَةَ اللهِ، اسقيني ماء.
فدخلَت، فسقَتْهُ، فجلس، وأدخلَت الإناء، ثمّ خرجَت.
فقالت: يا عبد الله، ألم تشرب؟
قال: بلى.
قالت: فاذهب إلى أهلك.
فسكت، ثمّ عادت فقالت: مثل ذلك، فسكت!
ثمّ قالت له: فئ لله! سبحان الله! يا عبد الله! فمرَّ إلى أهلك، عافاك الله! فإنّه لا يصلح لك الجلوس على بابي، ولا أحلّه لك!
فقام، فقال: يا أَمَةَ الله، مالي في هذا المصر منزلٌ ولا عشيرةٌ. فهل لك إلى أجرٍ ومعروفٍ، ولَعَلِّي مكافئك به بعد اليوم؟
فقالت: يا عبد الله، وما ذاك؟
قال: أنا مسلم بن عقيل، كذَّبَني هؤلاء القوم وغرّوني.
قالت: أنتَ مسلم؟!
قال: نعم.
قالت: ادخل.
فأدخلَته بيتًا في دارها، غير البيت الذى تكون فيه، وفرشَت له، وعرضَت عليه العشاء، فلم يتعشَّ. ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها، فرآها تُكثر الدخول في البيت والخروج منه، فقال: والله، إنّه ليريبني كثرة دخولك هذا البيت منذ الليلة، وخروجك منه، إنّ لك لشأنًا.
قالت: يا بنيّ، اُلْهُ عن هذا!
قال لها: والله، لَتُخْبِرِنّي.
قالت: أقبِل على شأنك، ولا تسألني عن شيء.
فألحَّ عليها، فقالت: يا بنيّ، لا تحدِّثَنَّ أحدًا من الناس بما أخبرك به، وأخذت عليه الأيمان، فحلف لها، فأخبرته، فاضطجع وسكت. وزعموا أنّه قد كان شريدًا من الناس، وقال بعضهم: كان يشرب مع أصحاب له[187].
ابن زياد يستنفر كامل جهازه الأمنيّ لاعتقال مسلم
وأمر ابن زياد عمرو بن نافع، فنادى: ألّا بُرِئَت الذمّة من رجلٍ من الشرطة والعرفاء أو المناكب أو المقاتلة والحرس، صلّى العتمة إلّا في المسجد! فلم يكن له إلّا ساعة، حتّى امتلأ المسجد من الناس، ثمّ أمر مناديَه، فأقام الصلاة، فقال الحصين بن نمير: إنْ شئتَ صلَّيتَ بالناس، أو يصلّي بهم غيرك ودخلتَ أنت فصلَّيتَ في القصر، فإنّي لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك! فقال: مُرْ حرسي، فليقوموا ورائي، كما كانوا يقفون، ودُر فيهم، فإنّي لستُ بداخلٍ إذًا.
فصلّى بالناس العشاء، ثمّ قام، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد، فإنّ ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق، فبَرِئَت ذمّة الله من رجل وجدناه في داره، ومَن جاء به، فله ديّته. اتّقوا الله، عباد الله، والزموا طاعتكم وبيعتكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلًا.
ثمّ قال للحصين بن نمير السكونيّ: يا حصين بن نمير، ثكلتك أمّك، إن ضاع باب سكّة من سكك الكوفة لم تطبق على أهلها، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به. فوالله، لئن خرج من الكوفة سالمًا، لنريقَنَّ أنفسَنا في طلبه، وقد سلّطتُك على دور أهل الكوفة، فابعث مراصدة على أفواه السكك، وأصبح غدًا واستبر الدُور، دارًا دارًا، وجسّ خلالها، حتّى تأتيني بهذا الرجل. وكان الحصين على شرطه، وهو من بني تميم، ثمّ نزل ابن زياد، فدخل القصر، وقد عقد لعمرو بن حريث راية، وأمَّرَهُ على الناس[188].
انكشاف مكان مسلم
لمّا أصبح ابن تلك العجوز، وهو بلال بن أسيد الذى آوت أمُّه ابنَ عقيل، فغدا إلى عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث، فأخبره بمكان ابن عقيل عند أمّه، فقال له عبد الرحمن: اُسكُت الآن، ولا تُعلِم بهذا أحدًا من الناس. ثمّ أقبل عبد الرحمن، حتّى أتى أباه، وهو عند ابن زياد، فسارّه في أذنه، وقال: إنّ مسلمًا في دار طوعة،
فقال له ابن زياد: ما قال لك عبد الرحمن؟
فقال: أصلح الله الأمير، البشارة العظمى!
فقال عبيد الله بن زياد: وما ذاك؟ ومثلك من بشّر بخير!
فقال محمّد بن الأشعث: إنّ ابني هذا أخبرني أنّ ابن عقيل في دارٍ من دورنا، في دار طوعة، مولاة لنا.
فسُرّ بذلك عبيد الله بن زياد، ونخس بالقضيب في جنبه، ثمّ قال: قُم، فَأْتِني به الساعة، ولك ما بذلتُ من الجائزة والحظّ الأوفى.
وحين قام ابن الأشعث ليأتيه بابن عقيل، بعث ابن زياد إلى عمرو بن حريث، وهو في المسجد خليفته على الناس، أن ابعَثْ مع ابن الأشعث ستّين أو سبعين رجلًا، كلّهم من قيس أو قريش[189], لأنّ قيس وقريش من عرب الشمال الذين يبغضون عليّ بن أبي طالب عليه السلام, لأنّه قتل رجالهم في بدر وأُحُد والأحزاب والجمل وصفّين، فهم مستعدّون لقتل ابن أخيه مسلم بن عقيل، بخلاف أهل الجنوب، اليمنيّين الذين يحبّون عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
وإنّما كره أن يبعث معه قومه, لأنّه قد علم أنّ كلّ قوم يكرهون أن يصادف فيهم مثل ابن عقيل، فبعث معه عمرو بن عبيدالله بن عبّاس السلمى في ستّين أو سبعين من قيس، حتّى أتوا الدار التي فيها ابن عقيل[190].
المعركة الأخيرة وشهادة مسلم بن عقيل
لمّا سمع مسلم بن عقيل وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال، عرف أنّه قد أُتِيَ في طلبه، فبادر إلى فرسه، فأسرجه وألجمه، وصبّ عليه درعه، واعتجر بعمامة، وتقلّد سيفه، والقوم يرمون الدار بالحجارة، فتبسّم مسلم، وقال للمرأة: رحمَكِ الله، وجزاكِ عنّي خيرًا! اعلمي أنّي أُوتِيتُ مِن قِبَلِ ابنِك، ولكن افتحي الباب.
ففتحَت الباب، فاقتحموا عليه الدار، فشدّ عليهم يضربهم بسيفه، حتّى أخرجهم من الدار، ثمّ عادوا إليه، فشدّ عليهم كذلك، فاختلف هو وبكير بن حمران الأحمريّ ضربتَين، فضرب بكير فم مسلم، فقطع شفته العليا، وأشرع السيف في السفلى، ونصلَت لها ثنيتاه، فضربه مسلم ضربة في رأسه منكرة، وثنّى بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه، فلمّا رأوا ذلك، أشرفوا عليه من فوق ظهر البيت، وظهروا فوقه، فأخذوا يرمونه بالحجارة، ويلهبون النار في أطناب القصب، ثمّ يقلبونها عليه من فوق البيت.
فلمّا رأى ذلك، قال: أكلّما أرى من الإجلاب لقتل ابن عقيل؟ يا نفسُ اخرجي إلى الموت الذي ليس منه محيص، ولا عنه محيد. فخرج مصلّتًا سيفه إلى السكّة، وجعل يضاربهم بسيفه، حتّى قتل منهم جماعة، فبلغ ذلك عبيد الله بن زياد، فأرسل إلى محمّد بن الأشعث أنْ أعطِه الأمان، فإنّك لن تقدر عليه إلّا بالأمان[191].
وأخذوا يرمون مسلمًا بالحجارة، فقال: ويلكم! ما لكم ترمونني بالحجارة، كما تُرمى الكفّار، وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار؟! ويلكم! أمَا ترعون حقّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذرّيّته؟
ثمّ حمل عليهم، على ضعفه، فكسرهم وفرّقهم في الدروب، ثمّ رجع وأسند ظهره إلى باب دارٍ هناك، فرجع القوم إليه، فصاح بهم محمّد بن الأشعث: ذروه، حتّى أكلّمه بما يُريد. ثمّ دنا منه ابن الأشعث، حتّى وقف قبالته، وقال: ويلك يابن عقيل! لا تقتل نفسَك، أنتَ آمنٌ، ودمُك في عنقي.
فقال له مسلم: أتظنّ، يابن الأشعث، أنّي أعطي بيدي أبدًا، وأنا أقدر على القتال؟ لا، والله، لا كان ذلك أبدًا!
ثمّ حمل عليه، حتّى ألحقه بأصحابه، ثمّ رجع إلى موضعه، فوقف وقال: اللهمّ، إنّ العطش قد بلغ منّي! فلم يجسر أحدٌ أن يسقيَه الماء، ولا قَرُبَ منه.
فأقبل ابن الأشعث على أصحابه، وقال: ويلكم! إنّ هذا لهو العار والفشل، أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع! احمِلوا عليه بأجمعكم حملةً واحدة![192].
فطُعِن من ورائه طعنةً، فسقط إلى الأرض، فأقبل عليه محمّد بن الأشعث، فقال: يا فتى، لك الأمان، لا تقتل نفسك. فقال مسلم: لا حاجة لي إلى أمانِ الغدرة، ثمّ أقبل يقاتلهم...
فقال له محمّد بن الأشعث: ويحك يابن عقيل! إنّك لا تُكَذَّب ولا تُخدَع ولا تُغَرّ، إنّ القوم بنو عمّك، وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك، فلا تقتل نفسك!
ولكنّ مسلم بن عقيل لم يلتفت إلى كلامه، وجعل يقاتل حتّى أُثخِنَ بالجراح، وتكاثروا عليه، وجعلوا يرمونه بالحجارة، فعجز عن القتال، وانبهر فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار. فدنا محمّد بن الأشعث، فقال: لك الأمان!
فقال له مسلم: آمَنُ أنا؟
قال: نعم، وقال القوم جميعًا: أنت آمن! غير عمرو بن عبيد الله بن العبّاس السلميّ، فإنّه قال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، وتنحّى.
وقال ابن عقيل: أَمَا لو لم تؤمنوني، ما وضعتُ يدي في أيديكم. فأُخِذ أسيرًا، وأُتِيَ ببغلةٍ، فحُمِلَ عليها، واجتمعوا حولَه، وسلَبَه ابنُ الأشعث حين أعطاه الأمانَ سيفَه، وانتزعه من عنقه[193]، وتقدّم رجلٌ من بني سليمان يُقال له: عبيد الله بن العبّاس، فأخذ عمامته[194].
فكأنّه عند ذلك آيَس من نفسه، فدمعَت عيناه، وعلم أنّ القوم قاتلوه، فقال: هذا أوّل الغدر! فقال محمّد بن الأشعث: أرجو ألّا يكون عليك بأس!
قال مسلم: ما هو إلا الرجاء، أين أمانُكم؟! إنّا لله وإنّا إليه راجعون. وبكى.
فقال له عمرو بن عبيد الله بن عبّاس السلمي: إنّ من يطلب مثل الذى تطلب، إذا نزل به مثل الذي نزل بك، لم يبكِ!
قال مسلم: إنّي والله، ما لنفسي أبكي، ولا لها من القتل أرثي، وإنْ كنتُ لم أحبّ لها طرفةَ عينٍ تلفًا، ولكنْ أبكي لأهلي المقبِلِين إليّ، أبكي لحسينٍ وآلِ حسين. ثمّ أقبل على محمّد بن الأشعث، فقال له: يا عبد الله! إنّي أراك، والله، ستعجز عن أمانيّ، فهل عندك خيرٌ تستطيع أن تبعث من عندك رجلًا على لساني، يُبلِغُ حسينًا، فإنّي لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم مقبلًا، أو هو خرج غدًا هو وأهل بيته، وإنّ ما ترى من جزعي لذلك، فيقول: إنّ ابن عقيل بعثني إليك، وهو في أيدي القوم أسير، لا يرى أن تمشي حتّى تُقتَل، وهو يقول: ارجع بأهل بيتك، ولا يغرّك أهل الكوفة، فإنّهم أصحاب أَبِيكَ الذى كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل. إنّ أهلَ الكوفة قد كذّبوكَ وكذّبوني، وليس لمكذوبٍ رأيٌ. فقال ابن الأشعث: والله، لأفعلنّ، ولأُعلِمَنَّ ابنَ زيادٍ أنّي قد أمَّنْتُك.
وأقبل محمّد بن الأشعث بمسلم بن عقيل إلى باب القصر، فاستأذن، فأُذِنَ له، فأخبر عبيد الله خبرَ ابن عقيل، وضرب بكير إيّاه، فقال: بُعدًا له! فأخبرَه محمّدُ بن الأشعث بما كان منه، وما كان من أمانه إيّاه، فقال عبيد الله: ما أنت والأمان؟ كأنّا أرسلناك تؤمنه! إنّما أرسلناك تأتينا به. فسكَتَ...
ثمّ أُدخِل مسلم بن عقيل على عبيد الله بن زياد، فقال له الحرسيّ: سلِّم على الأمير.
فقال له مسلم: اُسكُت، لا أُمّ لك! ما لك وللكلام! والله، ليس هو لي بأميرٍ فأسلّم عليه! فقال له عبيد الله بن زياد: لا عليك! سَلَّمْتَ أم لم تُسَلِّم، فإنّك مقتول!
فقال مسلم بن عقيل: إنْ قتلتني، فقد قتل شرٌّ منك مَن كان خيرًا منّي.
فقال ابن زياد: يا شاقّ! يا عاقّ! خرجت على إمامك، وشققتَ عصا المسلمين، وألحقت الفتنة.
فقال مسلم: كذبتَ يابن زياد! والله، ما كان معاوية خليفةً بإجماع الأمّة، بل تغلّب على وصيّ النبيّ بالحيلة، وأخذ عنه الخلافة الغصب، وكذلك ابنه يزيد. وأمّا الفتنة، فإنّك ألحقتَها أنت وأبوك زياد بن علاج من بني ثقيف. وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريّته، فوالله، ما خالفتُ، ولا كفرتُ، ولا بدّلتُ. وإنّما أنا في طاعة أمير المؤمنين الحسين بن عليّ، ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد.
فقال له ابن زياد: يا فاسق، إنّ نفسك تمنّيك ما حال اللهُ دونه، ولم يرَكَ أهله.
قال: فمن أهلُه يابن مرجانة؟
قال: معاوية وأمير المؤمنين يزيد.
فقال مسلم: الحمد لله على كلّ حالٍ، رضينا بالله حَكَمًا بيننا وبينكم.
قال: كأنّك تظنّ أنّ لكم في الأمر شيئًا؟
قال: لا، والله، ما هو بالظنّ، ولكنّه اليقين!
قال: قتلني الله، إنْ لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام!
قال: أمَا إنّك أحقّ من أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه. أمَا إنّك لا تدَع سوءَ القتلة وقبحَ المثلة وخبثَ السيرة ولؤمَ الغلبة، ولا أحد من الناس أحقّ بها منك. والله، لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم، وقدرتُ على شربةٍ من ماء، لطال عليك أن تراني في هذا القصر!
... ثمّ جعل ابن زياد يشتم عليًّا والحسن والحسين عليهم السلام.
فقال له مسلم: أنتَ وأبوك أحقّ بالشتيمة منهم. فاقضِ ما أنت قاض! فنحن أهل بيتٍ موكول بنا البلاء.
فقال عبيد الله بن زياد: الحقوا به إلى أعلى القصر، فاضربوا عنقه، وألحقوا رأسه جسده.
ثمّ قال ابن زياد: أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف وعاتقه؟ فدُعِي، فقال: اصعد، فكن أنت الذي تضرب عنقه. فصعد به، وهو يكبّر ويستغفر ويصلّي على النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
وملائكة الله ورسله، وهو يقول: اللهمَّ، احكم بيننا وبين قومٍ غرّونا وكذّبونا وأذلّونا، وأشرف به على الناس، وهم على باب القصر ممّا يلي الرحبة، على موضع الجزّارين اليوم، حتّى إذا رأوه ضُرِبَت عنقَه هناك، فسقط رأسه إلى الرحبة، ثمّ أُتبِعَ الرأسُ بالجسد.
مقتل هانئ وأنصار مسلم المعتقلين
وكان محمّد بن الأشعث قد كلّم عبيد الله بن زياد في هانئ بن عروة، وقال له: إنّك قد عرفتَ منزلة هانئ بن عروة في المصر، وبيته في العشيرة، وقد علم قومُه أنّي وصاحبي سقناه إليك، فأُنشِدُك الله لَمَّا وهبتَه لي، فإنّي أكره عداوة قومه، وهم أعزّ أهل المصر وعدد أهل اليمن، فوعده أن يفعل.
فلمّا كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان بدا لعبيد الله بن زياد فيه، وأبى أن يفي لمحمّد بن الأشعث بما قال، فأمر بهانئ بن عروة، حين قتل مسلم بن عقيل، فقال: أَخرِجُوه إلى السوق، فاضربوا عنقه. فأُخرِجَ بهانئ، حتّى انتهى إلى مكانٍ من السوق، كان يُباعُ فيه الغنم وهو مكتوف، فجعل يقول: وامذحجاه! ولا مذحج لي اليوم. وامذحجاه! وأين منّي مذحج! فلمّا رأى أنّ أحدًا لا ينصره، جذب يدَه، فنزعها من الكتاف، ثمّ قال: أمَا من عصا أو سكّين أو حجر أو عظم يجاحِش به رجلٌ عن نفسه؟، ووثبوا إليه، فشدّوه وثاقًا، ثمّ قيل له: امدد عنقك، فقال: ما أنا بها مجد سخيّ، وما أنا بمعينكم على نفسي، فضربه مولى لعبيد الله بن زياد - تركيٌّ يُقال له: رشيد - بالسيف، فلم يصنع سيفه شيئًا، فقال هانئ: إلى الله المعاد. اللهمّ، إلى رحمتك ورضوانك! ثمّ ضربةً أخرى فقتله[195].
ثمّ قام أعوان عبيد الله بن زياد بسحل جثّتَي مسلم بن عقيل وهاني بن عروة في سوق الكوفة[196]، وبعد ذلك، أمر بهما، فصُلِبَا منكّسَّين[197].
اعتقال المعارضين المشتبه بهم
وكان المختار بن أبي عبيد وعبد الله بن الحارث بن نوفل قد خرجا مع مسلم، خرج المختار براية خضراء، وخرج عبد الله براية حمراء، وعليه ثياب حمر. وجاء المختار برايته، فركزها على باب عمرو بن حريث، وقال: إنّما خرجتُ لأمنع عمرًا، وإنّ الأشعث والقعقاع بن شور وشبث بن ربعيّ قاتلوا مُسْلِمًا وأصحابَه، عشيّة سارَ مُسلِم إلى قصر ابن زياد، قتالًا شديدًا، وإنّ شبثًا جعل يقول: انتظروا بهم الليل يتفرّقوا. فقال له القعقاع: إنّك قد سددتَ على الناس وجهَ مصيرهم، فافرج لهم ينسربوا، وإنّ عبيد الله أمر أن يطلب المختار وعبد الله بن الحارث، وجعل فيهما جعلًا، فأتى بهما، فحُبِسا.
إرسال البشارة والرؤوس إلى يزيد بن معاوية
ثمّ إنّ عبيد الله ابن زياد، لمّا قتل مسلمًا وهانئًا، بعث برأسيهما، مع هانئ بن أبي حيّة الوادعيّ والزبير بن الأروح التميميّ، إلى يزيد بن معاوية، وأمر كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد بن معاوية: أمّا بعد، فالحمد لله الذى أخذ لأمير المؤمنين بحقّه، وكفاه مؤنة عدوّه. أخبر أمير المؤمنينعليه السلام أنَّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المراديّ، وإنّي جعلتُ عليهما العيون، ودسستُ إليهما الرجال، وكدتهما حتّى استخرجتهما، وأمكن الله منهما، فقدّمتُهما، فضرب أعناقهما. وقد بعثتُ إليك برأسيهما مع هانئ بن أبي حيّة الهمدانيّ والزبير بن الأروح التميميّ، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحبَّ من أمر، فإنّ عندهما علمًا وصدقًا وفهمًا وورعًا، والسلام[198].
فكتب إليه يزيد: أمّا بعد، فإنّك لم تعد أنْ كنتَ كما أحبّ، عملتَ عملَ الحازم، وصلتَ صولةَ الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنَيْتَ وكفَيْتَ وصدَقْتَ ظنّي بك ورأيي فيك، وقد دعوتُ رسولَيك، فسألتهما وناجيتهما، فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوصِ بهما خيرًا. وإنّه قد بلغني أنّ الحسين بن عليّ قد فصل من مكّة، متوجِّهًا نحو العراق، فضعْ المناظر والمسالح، وأَدرِك العيون عليه، وضع الأرصاد على الطرق، واحترس على الظنّ، وخذ على التهمة، وقم أفضل القيام، غير ألّا تقتل إلّا من قاتلك، واكتب إليّ في كلّ ما يحدث من الخبر في كلّ يوم[199]، والسلام عليك ورحمة الله.
ثمّ أمر يزيد بن معاوية بنصب الرأسَين في دربٍ من دمشق[200].
ولمّا بلغ عبيد الله بن زياد أنّ الإمام الحسين عليه السلام توجَّهَ من مكّة إلى العراق، بعث الحصين بن النمير السكونيّ، صاحب شرطه، حتّى نزل القادسيّة في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة، وأمره أن يقيم بالقادسيّة إلى خفّان، إلى القطقطانة، وما بين واقصة إلى طريق الشام، إلى طريق البصرة، إلى لعلع، فيمنع من أراد الدخول ومن أراد النفوذ من ناحية الكوفة إلى الحجاز، إلّا من كان حاجًّا أو معتمِرًا، ومن لا يُتَّهَم بممالاة الحسين[201].
ثمّ جمّد عبيد الله بن زياد البعوث العسكريّة التي كانت متوجّهةً إلى الثغور، وحوّلها إلى قتال الإمام الحسين عليه السلام[202].
وكانت انتفاضة مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مَضَين من ذي الحجّة سنة 60 للهجرة النبويّة، وكان خروج الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكّة يوم الأحد لليلتَين بقيتا من رجب سنة 60 للهجرة، ودخل مكّة ليلة الجمعة لثلاثٍ مَضَين من شعبان، فأقام بمكّة شعبان وشهر رمضان وشوّال وذا القعدة، ثمّ خرج منها لثمانٍ مَضَين من ذى الحجّة يوم الثلاثاء يوم التروية، في اليوم الذي انتفض فيه مسلم بن عقيل في الكوفة[203].
[1] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص151.
[2] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص38.
[3] الهيثميّ، مجمع الزوائد، ج9، ص186-187.
[4] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص288.
[5] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص23.
[6] ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص151.
[7] أبو مخنف، مقتل الحسين عليه السلام، ص16.
[8] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص367-368.
[9] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص192 و 246.
[10] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج4، ص16.
[11] المسعوديّ، مروج الذهب، ج2، ص351-352.
[12] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج2، ص22-23.
[13] قطب الدين الراونديّ، الخرائج والجرائح، ج2، ص811.
[14] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص182-190.
[15] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص220.
[16] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص134.
[17] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص303-302.
[18] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص284.
[19] سليم بن قيس، كتاب سليم بن قيس، ص320.
[20] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص156.
[21] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين، ص200.
[22] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص152.
[23] الحصريّ القيروانيّ، زهر الآداب وثمرة الآداب، ج1، ص101.
[24] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص220.
[25] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص220.
[26] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص150.
[27] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج8، ص330.
[28] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص220.
[29] ابن أعثم، الفتوح، ج4، ص289.
[30] ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج2 ص314.
[31] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص151.
[32] المصدر نفسه، ص150.
[33] الشيخ الطوسيّ، اختيار معرفة الرجال، ج1، ص325.
[34] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص241.
[35] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص206.
[36] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص250-251.
[37] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص13.
[38] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص14.
[39] المصدر نفسه، ص13-14.
[40] المصدر نفسه، ص18.
[41] سبط ابن الجوزيّ، تذكرة الخواصّ، ص214.
[42] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص18.
[43] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص221.
[44] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص18.
[45] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص248-249.
[46] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص228.
[47] المامقانيّ، تنقيح المقال، ج1، ص125-248، وج2، ص81.
[48] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص347.
[49] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج101، ص336-341.
[50] سورة القصص، الآية 21.
[51] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص34.
[52] قطب الدين الراونديّ، الخرائج والجرائح، ج1، ص253-254.
[53] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص11-12.
[54] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص20-21.
[55] الشيخ الطبرسيّ، إعلام الورى، ج2، ص223.
[56] سورة القص، الآية 22.
[57] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص34.
[58] الثقفيّ، الغارات، ص393.
[59] ابن عساكر، تاريخ دمشق، ج14، ص182.
[60] الدينوريّ، الأخبار الطوال، 229.
[61] الواقديّ، المغازي، ج2، ص829.
[62] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص110.
[63] الشيخ المفيد، الجمل، ص158.
[64] الثقفيّ، الغارات، ص358.
[65] الشيخ المفيد، الجمل، ص158.
[66] الثقفيّ، الغارات، ص266.
[67] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص535-522-519-505.
[68] المصدر نفسه، ص369-219-209-172.
[69] الشريف الرضي، نهج البلاغة، ص262 و461.
[70] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص280.
[71] السماويّ، إبصار العين، ص189-192.
[72] ابن نما، مثير الأحزان، ص27-29.
[73] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص272.
[74] المصدر نفسه.
[75] سبط ابن الجوزيّ، تذكرة الخواص، ص215.
[76] كحالة، معجم المؤلفين، ج7، ص69.
[77] سورة يونس، الآية 41.
[78] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص77.
[79] ابن عبد ربّه الأندلسيّ، العقد الفريد، ج4، ص132-134.
[80] سبط ابن الجوزيّ، تذكرة الخواصّ، ص214.
[81] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص248-249.
[82] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص277.
[83] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص151-152.
[84] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص277.
[85] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص203.
[86] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص241.
[87] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص105.
[88] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص229.
[89] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص294.
[90] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص294.
[91] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص26-27.
[92] المصدر نفسه.
[93] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص72.
[94] المصدر نفسه، ص21-20.
[95] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، ص298.
[96] الصفّار، بصائر الدرجات، ص481.
[97] المصدر نفسه.
[98] ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص167.
[99] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص377.
[100] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص127.
[101] المصدر نفسه، (كتاب حكابة المختار في أخذ الثأر برواية أبي مخنف)، ص33.
[102] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص21.
[103] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص456.
[104] الشيخ الصدوق، الخصال، ج2، ص477.
[105] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج6، ص295-297.
[106] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص74.
[107] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص297.
[108] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص247-219.
[109] أبو الفرج الأصفهانيّ، أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص61.
[110] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق ترجمة الإمام الحسين، ص200-193-192.
[111] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص27-26.
[112] ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص83.
[113] الترمذيّ، سنن الترمذيّ، ج4، ص144.
[114] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص215.
[115] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج4، ص9-10.
[116] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص364.
[117] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج7، ص24.
[118] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص378.
[119] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج34، ص289.
[120] ابن عبد ربّه الأندلسيّ، العقد الفريد، ج4، ص413.
[121] المصدر نفسه.
[122] النمازيّ، مستدركات علم الرجال، ج5، ص18.
[123] الكتبيّ، فوات الوفيّات، ج1، ص448.
[124] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص26.
[125] ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص153.
[126] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص288.
[127] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص241.
[128] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص35.
[129] المصدر نفسه، ص36.
[130] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج2، ص836.
[131] المسعوديّ، مروج الذهب، ج3، ص55.
[132] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص36.
[133] المسعوديّ، مروج الذهب، ج3، ص55.
[134] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص299.
[135] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص279.
[136] القاضي النعمان المغربي، شرح الأخبار، ج3، ص143.
[137] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص279.
[138] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص235.
[139] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص290.
[140] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص279.
[141] المصدر نفسه.
[142] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج2، ص4.
[143] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص231.
[144] المصدر نفسه.
[145] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص289.
[146] المصدر نفسه، ص280.
[147] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص280.
[148] المصدر نفسه، ص281.
[149] المصدر نفسه.
[150] المسعوديّ، مروج الذهب، ج3، ص66-67.
[151] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص281.
[152] المصدر نفسه.
[153] المصدر نفسه.
[154] المسعوديّ، مروج الذهب، ج3، ص69.
[155] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص188.
[156] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص165-166.
[157] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج5، ص215.
[158] المامقانيّ، تنقيح المقال، ج2، ص63.
[159] ابن نما، مثير الأحزان، ص32.
[160] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص282.
[161] المصدر نفسه.
[162] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص235-236.
[163] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص189.
[164] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص65.
[165] مسكويه، تجارب الأمم، ج2، ص45-47.
[166] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص66.
[167] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص275-276.
[168] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص70.
[169] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص86.
[170] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص275-276.
[171] المصدر نفسه، ج4، ص275-276 و287.
[172] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص71.
[173] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص275.
[174] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص275.
[175] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص238.
[176] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص275.
[177] المصدر نفسه.
[178] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص277.
[179] المصدر نفسه.
[180] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص86-87.
[181] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص239.
[182] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص239.
[183] المصدر نفسه.
[184] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص277-278.
[185] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص87-88.
[186] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص239.
[187] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص71.
[188] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص71.
[189] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص239.
[190] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص69.
[191] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص354.
[192] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص241.
[193] المسعوديّ، مروج الذهب، ج3، ص68.
[194] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص92-96.
[195] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص67-68.
[196] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص296.
[197] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص105.
[198] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص296.
[199] الدينوريّ، الأخبار الطوال ص 242.
[200] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص93.
[201] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص243.
[202] ابن عساكر، تاريخ دمشق، ج14، ص215.
[203] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص284-286.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|