أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-07-2015
957
التاريخ: 6-3-2019
661
التاريخ: 25-10-2014
766
التاريخ: 9-12-2018
501
|
اتّفق كافّة أهل الأديان وجمهور العقلاء على أنّه ـ تعالى ـ حيّ ، وثبت من الشريعة المقدّسة اطلاق الحياة عليه ـ سبحانه ـ.
ثمّ الحياة في الحيوان عبارة عن صفة تقتضي
الحسّ والحركة الارادية ، فالحياة بهذا المعنى يتمّ بادراك ـ هو الإحساس ـ وفعل ـ هو
التحريك ـ منبعثين عن قوّتين مختلفتين.
ولا ريب في تنزيهه ـ سبحانه ـ عن الحياة
بهذا المعنى ، فاختلف العقلاء في معنى الحياة الذي يطلق عليه ـ سبحانه ـ.
فقال جمهور المتكلّمين : انّها صفة توجب
صحّة العلم والقدرة ؛
وقال الحكماء وبعض المعتزلة : انّها كونه
ـ تعالى ـ بحيث يصحّ أن يعلم ويقدر.
ولا ريب في أنّ قول المتكلّمين لايجابه
اثبات صفة زائدة على ذاته باطل ، فالحقّ ما ذهب إليه الحكماء. وتحقيق مذهبهم هو ما
اشار إليه بهمنيار بقوله : « الحيّ هو الدراك الفعّال. وهذان الوصفان له ـ تعالى ـ
بذاته ؛ ومعنى قولي : « بذاته » : إنّ وجوده ـ تعالى ـ هو كونه بحيث يصدر عنه افعال
الحياة. وشرح ذلك : هو إنّ الحى هو أن يكون الشيء بحيث يصدر عنه الفعل والادراك ، وذلك
على وجهين :
فأحد الوجهين : أن يكون وجوده حياته ؛
والثاني : أن يكون حياة الشيء معنى زائدا
على وجوده ، كحياة الانسان فانّه ما لم ينضمّ إلى الجسم النفس لم يوصف ذلك الجسم بأنّه
حيّ ، لأنّه إن كان وجود الجسمية هو حياته لكان كلّ جسم حيّا ، وقد عرفت إنّ إنّيته
ـ تعالى ـ حياته ، فانّ إنّيته هي كونه بحيث يصدر عنه افعال الحياة » (1) ؛ انتهى.
أقول : لا ريب في أنّ الحياة ما هو مبدأ
ومنشأ للأفعال والآثار الصادرة عن الحيّ من العلم والقدرة والحسّ والحركة وغير ذلك.
وهذا المعنى في الحيوان صفة زائدة على ذاته ، وأمّا في الواجب ـ تعالى ـ فالمبدأ ليس
إلاّ ذاته ، لأنّ ذاته بذاته يعلم ويفعل ، فذاته حياته. قال بعض المشاهير : قد مرّ
إنّ الوجود الحقيقي ما يكون الشيء باعتباره موجودا ، فواجب الوجود لمّا كان باعتبار
ذاته موجودا كان وجوده الحقيقي عين ذاته ، وكذلك الحياة الحقيقية فانّها ما يكون الشيء
باعتباره حيّا. ولمّا كان ذات الواجب باعتبار ذاته حيّا كان الحياة عين ذاته ؛ وكذا
حال باقي الصفات الحقيقية من العلم والإرادة وغيرهما ، فانّهما عين ذاته ـ تعالى ـ
ولا تغاير بينهما إلاّ بالاعتبار ـ كما لا يخفى ـ ؛ انتهى.
وما أشار إليه من معنى عينية الصفات هو
المذهب الحقّ ـ على ما تقدّم في بعض كلماتنا ـ. وهذه المسألة ـ أعني : مسئلة عينية
الصفات ـ وإن لم يكن هنا موضع بيانها إلاّ أنّ هذا القائل وبعض أخرى لمّا تعرّض لبيانها
هنا فلا بأس بأن نتعرّض لها نحن أيضا.
فنقول : المذاهب المعروفة في تصحيح عينية
الصفات ثلاثة :
الأوّل : ما أشار إليه هذا القائل هنا ،
وهو المذهب الحقّ المنصور. وبيانه : إنّ ذاته ـ تعالى ـ مصدر جميع الصفات ومحض ذاته
بذاته منشأ الجميع ومناطه ومصحّحه ، بل هو فرد لكلّ واحد من الصفات قائم بذاته ، وليس
له صفة زائدة على ذاته ـ كما فينا ـ ؛ فانّه ـ سبحانه ـ وان وصف بالحياة والعلم والجود
والقدرة والإرادة وامثالها لكن ليس ذلك لأجل اتصافه بها من حيث انّها معان متميّزة
فيه ، بل من حيث انّه ـ تعالى ـ بمحض ذاته البسيطة الواحدة الحقّة الّتي هي صرف الوجود
الخالص البحت منشأ
لجميعها بحيث لا يلزم منه تركّب وتكثّر
، فهو أحدي فرد ذاتا وصفة ـ كما قال الشيخ في التعليقات : « إنّ الأوّل لا يتكثّر لأجل
تكثّر صفاته ، لأنّ كلّ واحد من صفاته إذا حقّقت تكون عين الصفة الأخرى بالقياس إليه
، فتكون قدرته حياته وحياته قدرته وتكونان واحدة ، فهو حيّ من حيث هو قادر وقادر من
حيث هو حيّ ، ـ وكذلك الحال في سائر صفاته » ـ (2). قال بعض العرفاء : ومشيته ـ تعالى
ـ قدرته وما يدركه بصفة يدركه بجميع الصفات ، إذ لا اختلاف هناك.
ثمّ صفاته ـ تعالى ـ منها حقيقية كمالية
ـ كالجود والقدرة والعلم ـ ، وهي لا تزيد على ذاته ، بل عين ذاته بمعنى انّ ذاته من
حيث حقيقته مبدأ لانتزاعها عنه ومصداق لحملها عليه ، ويطابق الحكم بها عليه بلا ملاحظة
أمر آخر زائد عليه قائم به أو منتزع عنه ، بل حيثية ذاته ـ تعالى ـ هي بعينها حيثية
جميع صفاته الكمالية ، فليس الواجب ـ سبحانه ـ بسبب اطلاق تلك الصفات على ذاته ذا معان
متميزة يسمّى بهذه الأسماء المختلفة ، بل هو ـ سبحانه ـ يستحقّ لاطلاق هذه الأسماء
لا بحيثية أخرى وراء احدية ذاته.
ومنها اضافية محضة ـ كالمبدئية والمبدعية
والخالقية والرازقية وأمثالها ـ. وهذه الصفات زائدة على ذاته متأخّرة عنه وعن ما اضيف
بها إليه ، لأنّ الاضافات لا يمكن أن يكون عين الحقائق المتأصّلة ، فكيف يكون عين ما
هو أصل الحقائق ومنبع الذوات؟!. ولا يخلّ بوحدانيته كونها زائدة عليه ، فانّ الواجب
ـ تعالى ـ ليس كماله ومجده بنفس هذه الصفات الاضافية ، بل بكونه في ذاته بحيث ينشأ
منه هذه الصفات. وهو إنّما هو كذلك بنفس ذاته ، فانّ كماله ليس إلاّ بذاته لا غير.
ومنها سلبية محضة ـ كالقدوسية والفردية
والازلية وغيرها ـ والاتصاف بها يرجع إلى سلب الاتصاف بصفات النقص. وصفاته الحقيقية
لا يتكثّر ولا يتعدّد ولا اختلاف فيها إلاّ بحسب التسمية ، بل يكون كلّها معنى واحدا
وحيثية واحدة هي بعينها حيثية الذات ، فانّ ذاته بذاته ـ تعالى ـ مع كمال فردانيته
يستحقّ هذه الاسماء لا بحيثية أخرى وراء حيثية ذاته ، كما قال
المعلم الثاني : وجود كلّه وجوب كلّه علم كلّه قدرة كلّه حياة كلّه ، لا أنّ شيئا منه
أو جهة منه علم وشيئا آخر أو جهة منه قدرة ليلزم التركيب في ذاته المقتضي للاحتياج
إلى الاجزاء المنافي لوجوب الوجود ، ولا أنّ شيئا فيه علم وشيئا آخر فيه قدرة ليلزم
التكثّر في صفاته الحقيقية ويكون محلاّ للأعراض ممكن الاتصاف بها ، بل حيثية ذاته وهويته
البسيطة الّتي لا تكثّر ولا امكان فيه أصلا هي بعينها حيثية صفاته الحقيقية. نعم! ،
في التعبير عنها تغاير وترتّب بمحض اعتبار الذهن وملاحظة العقل لا بحسب الخارج. فكما
انّه من حيث هو منشئا للآثار وجود كلّه كذلك من حيث هو منشئا لانكشاف الأشياء علم كلّه
ومن حيث هو منشئا لصحّة الفعل والترك قدرة كلّه ومن حيث هو مبدأ لرجحان فعل القائم
ـ أعني : النظام الأكمل والأصلح بحال العالم بل وجوب صدوره عنه ـ إرادة كلّه ـ وقس
عليها غيرها ـ ؛ وجميعها راجعة إلى حيثية وجوده الّتي هي عين حيثية ذاته.
وأمّا صفاته الاضافية فهي أيضا لا يتكثّر
معناها وان كانت زائدة على ذاته ؛ وكذا صفاته السلبية ، فانّ اضافاته إلى الأشياء وان
تعدّدت اساميها واختلفت لكن كلّها يرجع إلى معنى واحد واضافة واحدة هي قيوميته الايجابية
للأشياء يصحّح جميع الاضافات ـ كالرازقية والخالقية والمصورية وغير ذلك ـ ، وتغايرها
بتغاير الأشياء المضاف إليها. وترتّبها حسب ترتّبها ؛ كترتب مبدئيته لها ، فمبدئيته
بعينها رازقيته وبالعكس ، وهما بعينهما رحمته ولطفه وبالعكس.
وصفاته الاضافية وإن كانت ذات أسام مختلفة
لكنّها ليست معانى مختلفة وإلاّ لوجب اختلاف حيثيات في ذاته ـ تعالى ـ ، فيتكثّر ذاته
الأحدية بها ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ. والتعدّدات والتجدّدات الواقعة فيها إنّما
هي بالقياس إلى الأشياء المتعلّقة بها المتعدّدة أو المتجدّدة في أنفسها وبقياس بعضها
إلى بعض لا بقياسها إلى بارئها القيوم ـ جلّ ذكره ـ ؛ كما قيل : « ليس عند ربّك صباح
ولا مساء » ، أي : نسبة الواجب ـ تعالى ـ المتعالى عن وصمة التغيّر إلى جميع الامور
المتجددة المتعاقبة نسبة واحدة ومعية قيومية غير زمانية.
والحاصل : إنّ اضافته إلى الأشياء اضافة
واحدة بحسب المفهوم ، وهي إمّا مترتّبة ترتيبا سببيا أو مسببيا على حسب ترتّب المعلولات
الواقعة في سلسلة الايجاد المنتهية إلى الواجب ـ سبحانه ـ الّتي يقال لها « السلسلة
الطولية » ، فلا يوجب تعدّدها تكثّرا في ذاته كما لا يوجب صدور معلولاته الكثيرة المترتّبة
اختلافا في وحدته الحقّة. وهذا معنى قولهم : « إنّ نسبة الأوّل إلى الثاني أمّ جميع
النسب » ؛ وإمّا متجدّدة حسب تجدّد الأشياء الواقعة في سلسلة الاعداد الّتي يقال لها
« السلسلة العرضية » ، فلا يوجب تغيّرا في ذاته كما لا يوجب صدور الزمانيات عنه ـ تعالى
ـ تحوّلا له عمّا هو عليه في ثباته وبقائه.
وأمّا صفاته السلبية فهي أيضا مع تكثّرها
وتعدّدها يرجع إلى سلب واحد هو سلب الامكان عنه. ومناطه وجوب الوجود ، فوجوب الوجود
له ـ تعالى ـ يوجب سلب جميع النقائص عنه ـ تعالى ـ ، لا أن يكون سلب بعضها لأجل تحقّق
معنى آخر فيه ليلزم التركيب إمّا في ذاته أو في صفاته الحقيقية الكمالية كسلب العرضية
والجمادية والشجرية والفرسية من الانسان ، فانّ صدق كلّ منهما لأجل تحقّق معنى واحد
من المعاني المتحقّقة فيه ؛ كالجوهرية والنموّ والحياة والنطق ، بخلاف سلب الجمادية
عنه المندرجة تحته سلب الحجرية والمدرية وغير ذلك ، إذ جميعها تابعة له. فلا يكون صدقها
بإزاء معانى مختلفة في الانسان ، بل بإزاء معنى واحد وهو النموّ. والحاصل : إنّ ذاته
بذاته منشئا لجميع صفاته الحقيقية متحقّقة له في مرتبة ذاته وصفاته الاضافية متأخرة
، إلاّ أنّ تأخّرها لا يوجب نقصا ، لأنّ الصفات الإضافية ليست كمالات حقيقية له ـ تعالى
ـ.
ثمّ إنّ اتصافه ـ تعالى ـ بتلك الصفات ـ
سواء كانت حقيقية أو اضافية ـ لا يوجب تكثّرا وتركّبا واختلاف جهات وحيثيات فيه ـ سبحانه
ـ ، لأنّ الصفات الإضافية ـ كلّها ـ راجعة إلى اضافة واحدة مصحّحة لجميع الإضافات المختلفة
وهي اضافة المبدئية والقيومية ؛ فإنّ معنى القيومية يلزمها الخالقية والرازقية والمصوّرية
وغير ذلك ، وكذا السلوب ـ كلّها ـ راجعة إلى سلب واحد مصحّح لجميع السلوب وهو سلب الامكان
، فانّه يلزمه سلب الجسمية والعرضية وغير ذلك من السلوب ، فكون ذاته ـ سبحانه ـ مبدأ
وموجدا للأشياء يلزمه جميع الصفات الاضافية
والسلبية متأخرة عن ذاته ، فلا يلزم من
هذه الجهة اختلاف حيثيات وتكثّر جهات فيه ـ سبحانه ـ.
وأمّا صفاته الحقيقية وإن كانت موجودة في
مرتبة ذاته ومتغايرة بحسب المفهوم إلاّ أنّها ليست معانى متميزة موجودة فيه ـ تعالى
ـ حتّى يلزم التركب ، فانّ الانكشاف والحياة والقدرة وغير ذلك من الصفات الحقيقية وإن
كانت أمورا نفس أمرية إلاّ أنّها ليست موجودة فيه ـ سبحانه ـ بوجودات متميزة متغايرة
حتّى يلزم التركّب في ذاته.
فان قلت : لا ريب في أنّ ذات الواجب ـ تعالى
ـ شيء بسيط واحد من جميع الجهات وهذه الصفات أمور متغايرة مقتضية للآثار المختلفة ،
فانّ حقيقة العلم الّذي هو الانكشاف غير حقيقة القدرة بأيّ معنى أخذ ـ لأنّ القدرة
ببعض معانيها هي ايجاد الأشياء في الخارج وببعض معانيها الآخر هي التمكّن من الفعل
والترك ، والانكشاف هو ظهور الأشياء عنده ، ولا ريب في أنّ ايجاد حقيقة الشيء في الأعيان
غير ظهوره عنده ، ولذا قد يكون شيء ظاهرا عندنا ولا نتمكّن من ايجاده ـ. وإذا كان الأمر
كذلك فنقول : كيف يمكن أن يكون بسيط من جميع الجهات علّة ومنشئا لأمور متعدّدة مع أنّ
المناسبة بين العلّة والمعلول لازمة؟! ، والواحد من حيث هو واحد لا يناسب الكثير من
حيث هو كثير؟!.
قلت : الواجب الحقّ ليس إلاّ صرف الوجود
المجرّد ، ومعلوم انّ التجرّد ليس صفة يوجب التركيب والتكثّر ، بل يوجب البساطة والوحدة
؛ فالوجود الصرف ليس إلاّ واحدا حقّا. ولا ريب في أنّ هذا الواحد لكونه وجودا صرفا
يلزمه القيومية الّتي هي بمعنى القيام بذاته ؛ والمقوّمية للغير ، لأنّ القيوم هو القائم
بذاته المقيم لغيره. ووجه الاستلزام ظاهر ، لأنّ بحت الوجود وصرفه يجب أن يكون موجودا
بذاته وموجدا لغيره ، ولولاه لما شمّ ماهية من المهيات رائحة الوجود. ولا ريب في أنّ
القيومية المطلقة مع التجرّد صفة واحدة يلزمها سائر الصفات الكمالية والاضافية ، لأنّ
المجرّد القائم بذاته يلزمه انكشاف الأشياء عنده والقائم بذاته يلزمه كونه قديما أزليا
، والمقوّم للأشياء يلزمه كونه قادرا ـ ببعض المعاني ـ وموجودا وجوادا ورازقا ومصوّرا
ـ إلى غير ذلك من الصفات الاضافية ـ ، والمقيم للأشياء العالم بها يلزمه كونه حيا ـ
لأنّ الحيّ هو الفعّال الدرّاك ، كما علمت ـ ، فاللازم لذاته ـ سبحانه ـ ليس إلاّ صفة
واحدة هي القيومية المطلقة. ولزومها له ـ سبحانه ـ من حيث انّها صفة واحدة بسيطة ولها
جهة وحدة لا من حيث انّها كلّية ولها جهة كثرة يندرج لأجلها جميع الصفات تحتها ، فمن
حيث إنّ لزومها له ـ تعالى ـ من جهة وحدتها وبساطتها لا من جهة كثرتها ومن حيث انّ
كلّ الصفات مندرجة تحتها يتحقّق ما يشترط تحقّقه بين العلّة والمعلول ـ من التكافؤ
والمناسبة ـ. واشتمالها على جهة الكثرة من حيث اندراج كلّ الصفات تحتها لا يوجب رفع
المناسبة بين العلّة والمعلول وصدور الكثير من الواحد لأنّ ما يرفع المناسبة بين العلّة
والمعلول إنّما هو إذا كان المعلول كثيرا غير مشتمل على جهة وحدة وصدر من حيث انّه
كثير من الواحد من حيث هو واحد ، وأمّا إذا كان للكثير جهة وحدة ومن هذه الجهة صدر
عن الواحد أو كان صدور الكثرة في مراتب فلا منع فيه ، فانّه لو كان للكثير اشتراك في
جهة واحدة يكون التعلّل بينه وبين علّته الواحدة البسيطة بهذا الاعتبار ، أو كان صدور
الكثير عن الواحد في مراتب لكان الصادر عن الواحد بالحقيقة واحدا ؛ فلا يلزم ارتفاع
المناسبة بين العلّة والمعلول. فقد ثبت انّ الوجود الصرف يلزمه جميع الصفات الكمالية
من دون لزوم اختلاف جهات وتغاير حيثيات فيه.
وقد تلخّص ممّا ذكرناه إنّ صفاته ـ تعالى
ـ سواء كانت حقيقية غير ذات اضافة ـ كالحياة والأزلية ـ أو حقيقية ذات اضافة ـ كالعلم
والقدرة ـ أو اضافة محضة ـ كالخالقية والمصوّرية وغيرهما ـ ليس لها مبدأ زائد في ذاته
كما هو فينا ، فانّ لكلّ واحد من هذه الصفات إذا أخذ بالقياس إلينا يكون له مبدأ عرضي قائم بنفوسنا ،
فانّ الانكشاف الحاصل لنا يتوقّف على صورة علمية قائمة بأنفسنا والقدرة بمعنى التمكّن
من الفعل والترك يتوقّف على قوّة قائمة بانفسنا ـ إلى غير ذلك ـ ؛ والمبدأ لجميع هذه
الصفات ـ الّتي هي معان ومفهومات ـ بعضها متحقّق في مرتبة ذاته ـ تعالى ـ وبعضها متحقّق
بعد ذاته ليس إلاّ ذاته ـ سبحانه ـ من دون افتقار إلى صورة وملكة وقوّة زائدة قائمة
بذاته ـ سبحانه ـ ، واستناد علمه بمعنى الانكشاف الشهودي إلى تجرّده المقتضي لزيادة
البساطة والوحدة. واستناد سائر صفاته ـ تعالى ـ إلى قيوميته المطلقة المستندة إلى ذاته
وعدم كون القيومية معنى زائدا على ذاته قائما به لا يلزم تكثّر ولا اختلاف جهات وحيثيات
في ذاته ، وهو معنى عينية صفاته.
ثمّ انّه على هذا المذهب ـ كما أشير إليه
ـ يصدق هذه الصفات على ذاته بأن يقال : إنّ ذاته علم وإرادة وقدرة. وبيان ذلك : انّ
كلّ واحد من تلك الصفات يطلق على ثلاثة معان :
أحدها : المعنى الانتزاعى الاضافي المصدري
الّذي يشتقّ منه الفعل ؛
وثانيها : ما يحصل به هذا المعنى الاضافي
كائنا ما كان ؛
وثالثها : الملكة الّتي يقتدر بها على استحصال
تلك المعاني الاضافية بالفعل.
مثلا العلم بالمعنى الأوّل هو الاضافة الاشراقية
الشهودية ؛ وبالمعنى الثاني ما ينكشف به الشيء ـ وهو العلم الحقيقي ـ ؛ وبالثالث هو
القوّة والملكة الّتي يقتدر بها على استحصال المنكشفات بالذات.
ولا ريب في صدق كلّ صفة بالمعنى الثاني
على ذاته ـ تعالى ـ ، لأنّ ذاته بذاته هو الّذي يتحصّل به كلّ صفة بالمعنى الأوّل ،
فانّ ما ينكشف به الأشياء ليس إلاّ بحت ذاته وصرف وجوده ، فذاته هو العلم الحقيقي.
وكذا الحال في غير العلم من الصفات.
وأمّا الصفات بالمعنى الأوّل والثالث فلا
يجوز صدقها عليه ـ تعالى ـ ، لعدم كون ذاته معنى اضافيا أو ملكة يقتدر بها على استحصال
شيء ، وإذا كان ذاته ممّا يصدق عليه الصفة بالمعنى الثاني حتّى يكون محلاّ لانتزاع
الصفات الاضافية الاعتبارية فلا منع في أن يكون ذاته المقدّسة فردا من كلّ صفة كمالية
قائما بنفسه ؛ وقد تقرّر في محلّه انّه لا يلزم في صدق المشتقّ حقيقة على شيء قيام
مبدأ الاشتقاق به حقيقة ، بل لو كان مبدأ الاشتقاق ـ كالعلم مثلا ـ قائما بنفسه بحيث
يترتّب عليه آثار المشتقّ كان أحقّ باسم المشتقّ ممّا قام به المبدأ ، فالله ـ سبحانه
ـ عالم حقيقة لا بعلم قائم به ، قادر لا بقدرة يقوم
به ، مريد لا بإرادة يعرضه ، بل هو نفس
العلم والقدرة والإرادة ؛ وكذلك سائر الصفات الحقيقية.
ولو نازعنا في ذلك بعض أهل اللغة لا نبالي
به ، إذ الغرض تحقيق المعاني لا تبيين الالفاظ.
وحينئذ يندفع ما أورد بأنّه يلزم على هذا
كون حقيقته المقدّسة مشاركة للأعراض في ماهياتها الداخلة تحت المقولات ، أو القول بالاشتراك
اللفظى ؛ لأنّ بناء هذا الايراد على كون كلّ صفة هي مبدأ ومنشئا للمعاني الاضافية قوّة
عرضية زائدة قائمة بالموصوف ـ لكون صفة العلم بمعنى ما ينكشف به الشيء صورة علمية قائمة
بالعالم ـ ؛ وهذا ليس بلازم ، فانّه كما انّ مفهوم الوجود المطلق معنى واحد أحد أفراده
قائم بذاته هو حقيقة الواجب ـ تعالى ـ والباقي عارضة بالماهيات الممكنات ، وهو أمر
اعتباري عارض للجميع كذلك يمكن أن يكون لكلّ من هذه المفهومات فرد واحد بسيط هو عين
حقيقة الواجب ـ تعالى ـ غير داخلة تحت مقولة ، وسائر أفرادها اعراض داخلة تحت المقولات
ولها أجناس وفصول ، وتكون المطلق من كلّ منهما اعتباريا عارضا للجميع. فكما انّ مطلق
العلم بمعنى الانكشاف والظهور أمر اعتباري عارضي بالنسبة إلى الصورة الحاصلة بالعالم
فكذلك بالنسبة إلى ذاته القائمة بذاته ؛ وكما أنّ الصورة والقوّة العرضية فينا منشئا
ومصحّح لانتزاع هذا المطلق ـ لأجل مناسبة بينهما ـ فكذا ذاته ـ سبحانه ـ منشئا له للمناسبة
؛ وكما انّ مطلق العلم بمعنى الانكشاف أمر عرضي وانتزاعه من القوّة القائمة بالمدرك
لا يصير موجبا لتركيب القوّة وتكثّرها فكذلك انتزاعها عن ذات الواجب أيضا لا يوجب تركّبه
وتكثّره ؛ وكما انّ تلك القوّة فرد من العلم بمعنى انّه يصدق عليها مطلق العلم ويحمل عليهما فكذلك ذاته ـ سبحانه ـ فرد من
العلم بهذا المعنى ـ كالوجود المطلق ووجوده الخاصّ من دون تفاوت ـ. وبالجملة على هذا
المذهب لا فرق بين ذاته ـ سبحانه ـ والصورة العلمية القائمة بالمدارك في منشئيتهما
ومناطيتهما للانكشاف والظهور ، وفي كون كلّ منها فردا للعلم ومصداقا له ، فذاته بذاته
منشأ لجميع الصفات الانتزاعية الّتي تكثّرها لا يوجب تركّبا وتكثّرا فيه وفرد ومصداق
لجميعها ، وهو معنى العينية. وفي غيره ـ سبحانه ـ منشأ تلك الصفات الاضافية لا بدّ
ان يكون قوّة زائدة قائمة به.
وبما ذكرنا ظهر فساد ما قيل : إنّ العينية
بهذا المعنى يرجع إلى نفي الصفات عنه ـ تعالى ـ واثبات لوازمها وآثارها له ، فانّ القول
بنفي الصفات عنه ـ سبحانه ، كما ذهب إليه بعض العرفاء ـ ليس حقّا عندنا ـ كما يأتى
مفصّلة ـ. نعم! ، يرجع العينية بهذا المعنى إلى نفي الصفات الحقيقية الزائدة على ذاته
ـ تعالى عنه سبحانه ـ.
المذهب الثاني في تصحيح عينية الصفات :
إنّ ذاته ـ سبحانه ـ نائب مناب جميع الصفات بمعنى انّ ما يترتّب على الصور العلمية
الزائدة القائمة بنفوسنا مثلا من الانكشاف يترتّب ذلك في الواجب على ذاته ، وحقيقة
العلم هو تلك الصورة الزائدة القائمة بغيره ، لأنّ العلم صفة والصفة الحقيقية من حقّها
أن تكون قائمة بغيره ، فما هو القائم بذاته ـ أعني : ذاته ، سبحانه ـ لا يطلق عليه
شيء من الصفات ولا يكون فردا منها بل هو ذات مجهولة الكنه نائب مناب صفة العلم والقدرة
والإرادة وغيرها ـ أي : يترتّب عليه ما يترتّب على غيرها من المعاني الاضافية ؛ أعني
: الانكشاف وصحّة الصدور واللاصدور وغيرهما ـ.
وعلى هذا فالفرق بين المذهب الأوّل ـ أعني
: القول بكون ذاته فردا من كلّ صفة ـ وهذا المذهب : انّ الذات على هذا المذهب لا يكون
فردا من الصفات ولا يحمل عليه تلك الصفات حقيقة ، بخلاف المذهب الأوّل وان كانا مشتركين
في ان الذات على كلّ منهما منشئا للمعاني الاضافية ويترتّب عليه من دون افتقار إلى
أمر عرضي زائد قائم به.
وغير خفي بأنّ لزوم كلّ صفة بمعنى المناط
والمنشأ للصفات الاضافية قائمة بغيرها ممنوع ؛ بل كلّ من الصفات الكمالية بمعانيها
الحقيقية يمكن أن يكون قائما بذاته ، فانّه كما يطلق العلم على الصورة العلمية القائمة
بالنفس ـ لاقتضائها الانكشاف ـ فلم لا يطلق على ذات المجرد مع اقتضائه ذلك؟! ؛ فالفرق
بينهما في الصدق وعدمه وفي الفردية وعدمها تحكّم!.
ولو سلّم انّ اللغة لا يساعد ذلك فلا يضرّنا
، لأنّ الحقائق الخارجية لا مدخل فيه للعرف
واللغة.
ثمّ انك قد عرفت فيما تقدّم بأنّه يمكن
أن يرجع القول بالنيابة إلى القول بالفردية ، بأن يقال : المراد من قولهم : « انّ ذاته
ـ تعالى ـ نائب مناب جميع الصفات » انّ ذاته بالنسبة إليه ـ سبحانه ـ بمنزلة ما يقوم
بنفوسنا من القوى والصور الزائدة العرضية بالنسبة إلينا ، فكما انّ الصورة الحاصلة
في الذهن فرد من العلم بالمعنى الحقيقي ـ أي : بمعنى ما يحصل به الانكشاف ـ والقوّة
القائمة بالنفس المصحّحة للفعل والترك فرد من القدرة بالمعنى الحقيقي ـ أي : بمعنى
ما تحصّل به القدرة بالمعنى الاضافي الاعتباري ـ فكذلك ذاته ـ سبحانه ـ فرد للعلم والقدرة
بالمعنى المذكور ؛ فاطلاق النيابة إنّما هو إذا اعتبر بالنسبة إلينا. ولو لم يحمل القول
بالنيابة على ذلك وبني على ما هو الظاهر منه ـ من أنّ ذاته ليس فردا من الصفات بالمعنى
الحقيقي ـ كان قولا ظاهر البطلان! ، لأنّ المعنى الحقيقي للعلم هو ما ينكشف به الأشياء
، فإذا كان ذاته بحيث ينكشف به الأشياء من دون مدخلية شيء آخر فما الباعث حينئذ في
عدم كونه فردا من مطلق ما ينكشف به الأشياء؟! ، وما السبب في عدم اطلاق هذا العلم بهذا
المعنى عليه؟! ؛ وقد عرفت انّ اللغة لا مدخلية له في المباحث العقلية ، مع انّ منع
اللغة للفردية وعدم الإطلاق ممنوع ـ كما لا يخفى على العارف ـ.
ولا يقال : إنّ المراد من القول بالنيابة
انّ ذاته ـ سبحانه ـ نائب مناب الصفات بالمعنى الاضافي الاعتباري ، إذ لا ريب في أنّ
العلم بمعنى الانكشاف مثلا لا يطلق على ذاته ـ سبحانه ـ وليس ذاته فردا من الانكشاف
، لأنّ ذاته حقيقة خارجية بل هو محقّق الحقائق والانكشاف أمر اعتباري وكذا الحال في
سائر فرد من الانكشاف مثلا ، لأنّ هذا لا معنى له ، فانّ انكشاف الأشياء لا يمكن أن
يكون له فرد قائم بذاته ، بل هو يكون ثابتا لشيء البتّة. وأيضا حقيقة الانكشاف ثابتة
له ـ تعالى ـ كما هو ثابت لغيره ـ سبحانه ـ ، فلا معنى لكون ذاته نائبا عنه ، وكون
حقيقته ثابتا لغيره. وأيضا النيابة إنّما تكون في ترتّب الأثر ، والأثر إنّما هو الصفات
الاضافية ـ كالانكشاف وغيره ـ ، فإذا كان الانكشاف في غير الواجب أصل العلم وحقيقته
وكان
ذاته ـ سبحانه ـ نائبا عنه فما يبقى أمر
آخر حتّى يترتّب على النائب والمنوب عنه ؛ وقس على الانكشاف غيره من الصفات الاضافية
الاعتبارية.
المذهب الثالث في تصحيح عينية الصفات :
ما ذهب إليه بعض المتأخّرين ؛ وهو : انّ الصفة هاهنا بمعنى الخارج المحمول ـ كالعالم
والقادر والمريد ـ ، وهو عين ذاته ـ تعالى ـ بحسب الحمل المواطاة.
وتوضيح هذا المذهب ـ كما قيل ـ ، انّ الموجود
ما يعبّر عنه بالفارسية بـ « هست » ، وهذا لا يستدعى قيام الوجود به ، وكذا العالم
ما يعبّر عنه بـ « دانا » ، والقادر ما يعبّر عنه بـ « توانا » ، وتفسير الموجود بما
قام به الوجود والعالم بما قام به العلم والقادر بما قام به القدرة إنّما هو بمقتضى
اللغة. ولما دل البرهان على عدم قيام الوجود والعلم والقدرة وكذا سائر الصفات به ـ
تعالى ـ وانّه موجود عالم قادر علم انّ قيام المبدأ به غير لازم.
فيقال بعد تمهيد ذلك : انّ صفة الشيء على
قسمين :
أحدهما : ما يقوم به في نفس الأمر ـ كالعلم
بالنسبة إلى زيد مثلا ـ ،
وثانيهما : عرضي لا يقوم به كالعالم والقادر
بالنسبة إليه ، فانّهما عين زيد في الخارج ـ لصحّة حملهما عليه مواطاة ـ وزائدان على
مهيته. والصفة بالمعنى الأوّل مغاير للموصوف في الواقع وبالثاني عينه فيه. والمراد
بقولهم : « انّ صفاته ـ تعالى ـ عين ذاته » : انّ صفاته ـ سبحانه ـ من القسم الثاني
لا الأوّل الزائد على الذات ، وقد عرفت أنّ قيام المبدأ غير لازم ، فصحّ كون الصفات
عين الذات من غير تكلّف. وبالجملة الصفة الّتي تكون عين الذات إنّما هي الصفة بمعنى
الخارج المحمول على الموصوف مواطاة ـ مثل العالم والقادر وأمثالهما ـ.
وهذا المذهب في غاية الفساد.
أمّا أوّلا : فلأنّ امثال العالم والقادر
والمريد إنّما يعدّ من الاسماء لا الصفات ؛
وأمّا ثانيا : فلأنّ كون الصفة بهذا المعنى
عين ذاته ـ سبحانه ـ لصحّة حملها عليه مواطاة مشتركة بين الواجب بالذات والممكن ، وحينئذ
فلا معنى للقول بأنّ صفات
الواجب عين ذاته دون غيره ـ كما هو مذهب
الحكماء والمعتزلة ـ ، لأنّ الصفة بمعنى الخارج المحمول مواطاة عين في الواجب والممكن
بهذا المعنى المذكور بلا تفاوت ؛
وأمّا ثالثا : فلأنّكم لمّا اعترفتم بأنّ
مبدأ اشتقاق كلّ صفة محمولة عليه غير قائم به ـ تعالى ـ فيلزمكم الاعتراف بأنّ ذاته
ـ سبحانه ـ بذاته منشئا ومناط للآثار والمعاني الاضافية المترتبة على الصفات الزائدة
، فيرجع ما ذكرتم إلى أحد المذهبين الأوّلين ، إذ لو قلتم بعدم منشئية ذاته ـ سبحانه
ـ لها لزمكم القول بعدم انكشاف الأشياء له ـ تعالى ـ أصلا وبعدم تمكّنه على ايجاد الأشياء
وهكذا ، فيلزم نفي جميع الصفات الكمالية وآثارها المترتّبة عليها عنه ـ تعالى ـ ؛ وهو
كفر وزندقة عقلا وشرعا ؛
وأمّا رابعا : فلانّه يعتبر في الخارج المحمول
أن لا يكون محمولا ذاتيا للموضوع وإلاّ لم يكن خارجا ، والمعبّر عنه بمفهوم الموجود
والعالم والقادر والمريد ـ وغيرهما من الصفات الكمالية ـ يكون ذات الواجب ـ جل شأنه
ـ بمحض ذاته مع قطع النظر عن جميع ما عدا ذاته ، ولا احتياج في ثبوت هذه المفهومات
له ـ تعالى ـ إلى حيثية تقييدية ولا إلى حيثية تعليلية ، فيكون ثبوتها له ـ تعالى ـ
ضرورية ذاتية ، فيكون نسبتها إلى ذات الواجب نسبة الذاتي وإذا كانت نسبتها نسبة الذاتي
فلا يصحّ القول بكون شيء منها خارجا محمولا ، بل الجميع محمولات ذاتية غير خارجة.
تتميم
ذهب جماعة إلى أنّ كلّ ما يوصف به ـ تعالى
ـ من الصفات الحقيقية والاضافية والسلبية اعتبارات يحدثها عقولنا عند مقايسة ذاته ـ
سبحانه ـ إلى الغير من غير أن يكون موجودة له ـ سبحانه ـ في نفس الأمر فالصفات بأسرها
منفية عنه ـ سبحانه ـ ولا يتصف بشيء منها في الواقع ونفس الأمر ، إذ الاتصاف بشيء منها
في نفس الأمر يوجب النقص والتركيب والتكثّر ، فكمال معرفته نفي الصفات عنه وذلك هو
التوحيد المطلق والاخلاص المحقّق الّذي هو نهاية العرفان وغاية سعى العارف من كلّ حركة
حسّية وعقلية. وما يكون في نفس الأمر من غير تعقّل نقص فهو الوحدة
المطلقة المبراة عن كلّ لاحق ؛ وقد أشار إلى ذلك سيدنا أمير المؤمنين ـ 7 ـ في بعض
خطبه بقوله : « وكمال الاخلاص نفي الصفات عنه » ؛ فليس للواجب ـ سبحانه ـ في نفس الأمر
صفة ثبوتية ولا سلبية. وجميع ما يوصف به ـ سبحانه ـ من الصفات إنّما هو اعتبارات محضة
يحدثها عقولنا عند مقايسة ذاته ـ سبحانه ـ إلى غيرها.
والباعث في هذا الوصف ـ كما وردت به الكتب
الالهية والسنن النبوية ـ أمران :
أحدهما : ليعمّ التوحيد والتنزيه كلّ طبقة
من الناس ؛
والثاني : انّه لمّا كان دأب العقلاء أن
يصفوا خالقهم ـ سبحانه ـ بما هو أشرف طرفي النقيض ـ لما تقرّر في عقولهم من أعظميته
ومناسبة أشرف الطرفين للأعظمية ـ كان وصف الله ـ تعالى ـ به من الصفات الحقيقية والاضافية
والسلبية كلّها كذلك من غير أن تكون تلك الصفات ثابتة له ـ تعالى ـ في الواقع. وربما
احتجّوا على ذلك بما روي عن الامام الهمام محمّد بن عليّ الباقر ـ عليه وعلى آبائه
السلام ـ : « هل يسمّى عالما وقادرا إلاّ لأنّه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرين؟!
؛ وكلّما ميزتموه بأوهامكم في ادقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم ، والباري
ـ تعالى ـ واهب الحياة ومقدّر الموت. ولعلّ النمل الصغار يتوهّم انّ لله ـ تعالى ـ
زبانيتين فانّهما كمالها ويتصوّر انّ عدمهما نقصان لمن لا يكونان له » ؛ هكذا حال الفضلاء
فيما يصفون الله ـ تعالى ـ به فيما احسب وإلى الله المفزع.
أقول : لمّا كان حاصل هذا المذهب على الظاهر
انّه ليس للواجب ـ سبحانه ـ شيء من الصفات في الواقع ونفس الأمر ، لذا لم نجعلها معدودا
من المذاهب المعروفة لتصحيح عينية الصفات ؛ لأنّ العينية فرع اثبات الصفة وعلى هذا
المذهب لا يثبت صفة بوجه ، فهو يوجب التعطيل في حقّه ـ سبحانه ـ. وقد أتى ببطلانه شرائع
الأنبياء وصرّح بفساده أساطين الحكماء. كيف ولو جوّز العقل أن ينفى عنه العلم والقدرة
والحياة وغير ذلك من الصفات الكمالية لوجب عزل العقل في باب معرفة الله ـ تعالى ـ رأسا!
، فلا يمكن أن يثبت له البساطة ، أو يقال انّه محض الوجود ، أو ليس بجاهل ، أو ليس
بمركّب ، أو يجب ان يكون على أعلى طرفي النقيض ، أو واجب الوجود ، أو موجد للكلّ
أو غير ذلك ؛ بل ليس له أن يدرك افتراقه
عن الممكن وتميّزه عنه ، فان ذلك فرع التفاوت في الصفة. ولا ريب في أنّ ذلك مخالف للقواعد
العقلية ومناف لما اعطته الشرائع النبوية. ومن وصفه ـ سبحانه ـ بالصفات الكمالية الكثيرة
وكونها مجرّد اعتبار يحدثها العقول من غير ثبوتها له ـ تعالى ـ في الواقع لا ينفى التعطيل
عنه ـ سبحانه ـ في الواقع. والمراد من نفي الصفات في قول امير المؤمنين ـ عليه
السلام ـ : « كمال الإخلاص نفي الصفات عنه » (3) : هو نفي الصفات الزائدة عنه ، أو
نفي صفات المخلوقين ـ كما صرّح به 7 في آخر الخطبة ـ ؛ أو نفي الصفات بالنظر إلى الموحّد
العارف لا بالنظر إلى الواقع بمعنى انّ كمال اخلاص العقول البشرية أن يعتبر ذاته ـ
سبحانه ـ فقط من غير ملاحظة شيء آخر ؛ وهذا إنّما يتصوّر لها عند غرقها في أنوار كبرياء
الله ونقص كلّ ما عداه عنه وتنزيهه عن كلّ لاحق له وطرحه عن درجه الاعتبار وان كان
ثابتا في الواقع ونفس الأمر ، وهو التوحيد المحقّق والاخلاص المطلق المسمّى في عرف
المجرّدين بـ « مقام التجلية والنقص والتفريق ».
وأمّا الكلام المنقول عن الامام أبي جعفر
الباقر ـ عليه
السلام ـ ، فيمكن ان يكون المراد منه : انّ اطلاق العالم والقادر عليه ـ تعالى ـ ليس
كاطلاقهما على واحد منّا ، فانّ اطلاقهما على واحد منّا إنّما يكون باعتبار قيام مبدأ
اشتقاقهما ـ أعني : العلم والقدرة ـ به ، واطلاقهما عليه ـ تعالى ـ ليس بذلك الاعتبار
لامتناع قيام الشيء به ـ تعالى ـ. وانّما اطلقوا لفظ العالم عليه من حيث وجدوا انّه
ـ تعالى ـ هو الّذي وهب العلم للعلماء وافاضه عليهم ، والمفيد لغيره كمالا لا يمكن
أن يكون عاريا عنه ، فحكمنا عليه ـ تعالى ـ بأنّه عالم لأجل ذلك. وعدم كون الشيء عاريا
عن الكمال لا يوجب ان يكون بقيام الكمال به ، بل يمكن أن يكون لكونه عين ذاته ؛ وفي
الواجب ـ تعالى ـ إنّما هو كذلك. وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية. قال بعض المشاهير
بعد نقل الحديث المذكور : « هذا كلام حقّ دافع لقول من قال بزيادة الصفات الحقيقية
على الذات ومؤيّد لقول من قال : صفاته الحقيقية عين ذاته ، لأنّه نفى كون صفاته مثل
صفاتنا الزائدة ، بل
ليس له ـ تعالى ـ إلاّ كونه منشئا وواهبا
لهذه الصفات فلا صفة حقيقية قائمة به ، وإنّما هو الذات البحت المنشأ والواهب لهذه
الصفات ، وهذا هو المراد من العينية.
وقيل : معنى الحديث انّه لا يفهموا ان الله
ـ تعالى ـ موصوف بما وصفتموه ـ من العلم والقدرة والحياة وغير ذلك ـ بالمعانى الّتي
فهمتموها من تلك الصفات ، لأنّ كلّما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق ـ أي
: حادث ممكن ـ مصنوع مثلكم ـ أي : في الامكان والحدوث والاحتياج إلى المادّة ـ مردود
إليكم (4) ـ أي : بالحقيقة انتم مرجع هذا المميز ـ ؛ فلا ينبغي الاعتقاد بأنّه ـ تعالى
ـ موصوف بمثل هذه الأشياء بهذه المعانى الّتي ميزتموها ، بل حالكم في هذا كحال النمل
الصغار. فالعقلاء لمّا وجدوا انّ الله ـ تعالى ـ واهب العلم والقدرة وقصدوا بوصف خالقهم
ما هو الأشرف عندهم وصفوه بهذه الصفات الّتي كانت أشرف عندهم من الطرف المقابل ، إلاّ
أنّ في نفس الامر لا يوصف ـ تعالى ـ بهذه الأشياء ، بل له الطرف الأشرف من جميع الامور
وإن لم يفهم انّه بأيّ نحو وما هذا الطرف الأشرف. وعلى هذا يكون الثابت له من الصفات
ما هو الأشرف وعلى النحو الّذي هو الأشرف في الواقع ونفس الامر ، لا على النحو الّذي
نفهمه ونتصوّره أشرف.
وغير خفي بأنّ هذا القائل إن كان مراده
انّ معنى الحديث انّ الواجب كون الواجب ـ تعالى ـ على ما هو الأشرف في الواقع ونفس
الأمر من الصفات وكيفية اتصافه بها وعدمها له أصلا وانّا لا نعلم ما هو الأشرف في الواقع
مطلقا ؛
ففيه : انّه إذا لم يكن لنا سبيل إلى تعقّل
ما هو الأشرف في الواقع مطلقا وكان للواجب ـ تعالى ـ الطرف الأشرف في الواقع دون غيره
لم يكن لنا القطع إلى اثبات شيء من الصفات له وعدم اثباته له وإلى اثبات نحو اتصافه
ـ تعالى ـ بها ، فيلزم التعطيل المنفي بالعقل والنقل من الحديث المذكور ، مع أنّ هذا
القائل صرّح بأنّ مضمون الحديث بالحقيقة نفي هذه الصفات ومؤيّد القول بالعينية. على
انّه يلزم حينئذ عدم جواز حكمنا بوجوب اتصافه ـ سبحانه ـ بالطرف الأشرف في الواقع ـ
لجواز كون ذلك أيضا نقصا في حقّه ـ ، فانّ العقل إذا
كان معزولا في معرفته بالكلّية لم يكن له الحكم بذلك أيضا. وإن كان مراده انّ معنى
الحديث إنّ بعض ما هو الأشرف يمكن لنا تعقّله فيجب أن نحكم بثبوته له ـ تعالى ـ في
الواقع ولكن بعض آخر من الصفات وعدمها أو نحو اتصافه بها ممّا لا يمكن لنا تعقّل اشرفيته
في الواقع وان حكم عقولنا ظاهرا بالأشرفية ، مثل انّا نعلم انّ هذه الصفات الكمالية
المشهورة من الطرف الأشرف له وعدم كونها زائدة بل كونها عينا له أيضا من الطرف الأشرف
في الواقع ، إلاّ انّا لا نعلم انّ العينية الّتي هو الأشرف في الواقع حقيقته ما ذا؟
، وانّ كون تلك الصفات على الكمال الأتمّ الّذي لا يتصوّر أتمّ وأقوى وأكمل منه كما
يليق بجناب قدسه كيف هو؟ ؛
ففيه : انّ ذلك مسلّم ونحن نقول به ، إذ
المعقول لنا انّ تلك الصورة الكمالية ثابتة له ـ تعالى ـ مع عينيتها له ـ سبحانه ـ
، إلاّ انّ حقيقة تماميتها وكونها فوق التمام ـ كما يليق بجناب كبريائه ـ فغير معقولة
لنا بكنهها كذاته ـ سبحانه ـ ، إلاّ انّ ذلك لا ينافي علمنا بعينيتها له في الواقع
ونفس الأمر.
ويمكن أن يحمل قول القائلين بنفي الصفات
عنه ـ تعالى ـ على هذا ؛ وحينئذ فيكون صحيحا ؛ فتأمّل.
اعلم! ، أنّ المحقّق الطوسي قال في شرح
رسالة العلم : « المستند في اثبات حياته ـ تعالى ـ انّ العقلاء قصدوا وصفه ـ تعالى
ـ بالطرف الأشرف من طرفي النقيض ، ولمّا وصفوه بالعلم والقدرة ووجدوا انّ كلّ ما لا
حياة له يمتنع الاتصاف بها وصفوه ـ تعالى ـ بالحياة ، لا سيّما وهو أشرف من الموت ـ
الّذي هو ضدّها ـ. ونعم ما قال عالم من أهل بيت النبوّة ـ : ـ : هل يسمّى عالما وقادرا
ـ ... إلى آخر الحديث الّذي نقلناه عن ابى جعفر الباقر عليه السلام ـ » (5).
ومراد المحقّق ـ كما قيل ـ : انّ طريق اثبات
الحياة وغيرها من الصفات الكمالية للواجب ـ تعالى ـ عند العقلاء هو ان ينظروا إلى اشرف
طرفي النقيض ـ أي : الّذي هو كمال للموجود بما هو موجود ـ ، ثمّ اثبتوه له ـ تعالى
ـ ، فانّهم يقولون : انّ الواجب
ـ تعالى ـ ينبغي أن يكون صرف الوجود التامّ
المبرّى عن كلّ قصور ونقصان ، فانّه إذا كان أحد طرفي النقيضين أشرف من الآخر ويكون
كمالا للموجود المطلق من غير لزوم فقر ونقصان لجاز أن يكون للواجب ـ تعالى ـ ، وكلّما
يجوز له ـ تعالى ـ بالامكان العامّ يجب ـ وإلاّ يلزم عدم الواجب بهذا الوجه ، وهو مناف
للوجوب الذاتى الرافع لجميع انحاء العدم والبطلان عن ذاته ـ. مثلا ينظرون إلى الوجوب
المنقسم إلى الوجوب بالذات وإلى الوجوب بالغير ، وكذا إلى العلم المنقسم إلى العلم
التامّ المحيط بكلّ شيء من غير مدخلية تأثير الغير فيه وإلى العلم الناقص المستفاد
من الغير المفقود بالنظر إلى ذات العالم ، ويحكمون بانّ الوجوب الذاتي وكذا العلم الذاتى
بالقياس إلى الموجود بما هو موجود لا يوجبان النقص والعدم وهما ثابتان له ـ تعالى ـ
، بخلاف الغيري منهما ـ فانّهما معدومان مع قطع النظر عن تاثير الغير فيهما ، فلا يصلحان
ان يثبتا للواجب سبحانه ـ.
وبهذا يندفع الايراد عليه بأنّه لو كان
الأمر كذلك من اثبات اشرف طرفي النقيضين له ـ تعالى ـ يلزم اثبات الحسّ والحركة والذوق
وغيرها له ـ تعالى ـ ، لأنّها أشرف من طرفها المقابل لها ؛
ووجه الاندفاع : انّ هذه ليست من الكمالات
للموجود المطلق ، بل للموجود المقيد المخصّص بالاستعداد لنوع خاصّ من الموجود الناقص
، وغرض المحقّق عن ايراد كلام الامام ـ عليه السلام ، وهو قوله : « هل يسمّى عالما
وقادرا إلاّ لأنّه وهب العلم » إلى العلماء إلى آخر ما نقل ـ : ان العقلاء مكلّفون
إلى معرفته ـ تعالى ـ بالصفات الكمالية على وجه التنزيه عن النقائص والامكان وأن يثبتوا
له ـ تعالى ـ مثلا العلم التامّ وكذا القدرة الكاملة الذاتية وكذا الإرادة الذاتية
وغيرها من الصفات خارجة عن جنس ما نعقله نحن ، لأنّ كلّما حصل في المدرك ـ بل في عالم
الامكان والتقييد ـ فهو راجع إلينا في كونه ممكنا محتاجا ، فلا يصلح أن يكون له ـ تعالى
ـ ، بل ينبغى ان يجعلوها من حيث انّها مدركة وعنوان للأمر اللائق بجنابه ـ تعالى ـ
فما ندركه نحن له جهتان : جهة انّه مدرك لنا ، وهو بهذه الحيثية لا يليق به ـ تعالى
ـ ، بل هو مثل الزبانيتين المثبتين له ـ تعالى ـ بالنسبة إلى النملة المستكملة بهما
الحاكمة بنقص من فقد عنهما
وجهة انّه حاكية من الأمر الكمالي المجهول
بالكنه ، وهو بهذا الاعتبار يجوز أن يثبت له ـ تعالى كما اثبتها في محكم كتابه في مواضع
عديدة لذاته المقدّسة عن كلّ قصور ـ.
وأنت تعلم ان حاصل ما ذكره هذا القائل مقصودا
للمحقق من كلام الامام ـ عليه
السلام ـ هو : انّا نعلم انّ تلك الصفات الكمالية ثابتة له ـ تعالى ـ ، إلاّ ان ثبوتها
ليس من جهتها الّتي فيها نقص وامكان ، بل من جهتها الّتي ليس فيه ذلك وهو الجهة الّتي
ليست معقولة لنا وإن علمنا اجمالا انّ تلك الصفات من جهة غير معقولة لنا ثابتة له ـ
تعالى ـ في الواقع.
وأنت تعلم انّ ذلك راجع إلى ما ذكرناه ،
لا إلى التعطيل المنفي.
وقريب منه ما ذكره المحقّق الدواني حيث
قال بعد نقل كلام الامام ـ عليه السلام ـ : هذا الكلام دقيق رشيق أنيق صدر عن مصدر
التحقيق ومورد التدقيق ، والسرّ في ذلك انّ التكليف لمعرفة الله إنّما هو بحسب الوسع
والطاقة ، فانّهم كلّفوا بأن يعرفوه بالصفات الّتي الفوها فيهم مع سلب النقائص الناشئة
عن انتسابها إليهم. ولمّا كان الانسان واجبا لغيره عالما قادرا مريدا حيّا متكلّما
سميعا بصيرا كلّف بأن يعتقد أنّ تلك الصفات في حقّه ـ تعالى ـ مع سلب النقائص الناشئة
من انتسابها إلى الانسان بأن يعتقد انّه واجب لذاته لا لغيره عالم بجميع المعلومات
قادر على جميع الممكنات مريد لجميع الكائنات ـ وهكذا في سائر الصفات ـ ، ولم يكلف باعتقاد
صفة فيه ـ تعالى ـ لا يوجد مثاله ومناسبة بوجه ، ولو كلّف به ما امكن تعقّله بالحقيقة
، وهكذا اخذ معنى قوله ـ عليه السلام ـ : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » (6) مع انّه
ـ تعالى ـ قال : ( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (7).
وإذا عرفت معنى عينية الصفات وعلمت جلية
الحال فاعلم! : أنّ الحياة في الواجب لمّا كان عبارة عن صحّة العلم والقدرة فهي كسائر
صفاته تكون عين ذاته ، بمعنى أنّ ذاته بذاته منشئا لها. وليست هي أمرا زائدا ممتازا
موجودا في ذاته حتّى يلزم التركّب والتكثّر ، بل هي مفهوم اعتباري تغايرها من سائر
الصفات ليس إلاّ
بالاعتبار. ونسبتها إلى العلم والقدرة ـ
أعني : صحّة الفعل والترك ـ كنسبة القدرة إلى الفعل والترك ، بمعنى انّه كما انّ صفة
القدرة مثلا ـ أعني : صحّة الفعل والترك ـ منشئا لهما فكذا صفة الحياة ـ أعني : صحّة
العلم والقدرة ـ منشئا لهما ، والمنشأ الّذي هو حقيقة الكلّ ليس إلاّ ذاته ـ سبحانه
ـ.
وأمّا الحياة في الحيوان فقد عرفت انّها
صفة تقتضي الحسّ والحركة ، وينبغى أن تكون هذه الصفة مغايرة للحسّ والحركة ولقوّة التغذية
أيضا. واستدلّ الشيخ في القانون على مغايرتها لهما بأنّ العضو المفلوج حيّ وإلاّ لتعفّن
وليس فيه الحسّ والحركة الارادية ؛ وعلى مغايرتها لقوّة التغذية بأنّ العضو الزائل
حيّ وليس بمتغذّ.
وأورد على الأوّل : بأنّ العضو المفلوج
ليس مسلوب الحسّ بالكلّية ؛
وعلى الثاني : بأنّه يجوز أن تكون قوّة
التغذية في العضو الزائل ضعيفة بحيث تكون تغذيتها أقلّ من التحلّل ، فلذلك يظهر الذبول.
وقيل : لو استدلّ على الأوّل بالعضو المنحدر
لكان أتمّ.
وفيه : إنّ ما أورد على العضو المفلوج قائم
هنا أيضا ، فانّه يمكن أن يقال : انّ العضو المنحدر ليس مسلوب الحسّ والحركة بالكلّية
، فكلّ واحد منهما فيه غير تمام لا أنّه غير حاصل بالتمام.
وغير خفي بأنّ الإيرادين المذكورين موجّهان
على طريقة البحث والنظر. والبيان الّذي أورده غياث الحكماء ـ في شرح اثبات الواجب لأبيه
ـ لدفعهما ليس بتمام. إلاّ أنّه قال بعضهم : انّه يعلم وجود الحياة في العضو المفلوج
بدون قوّة الحسّ والحركة بالبداهة أو الحدس. قال صاحب المقاصد : الحقّ ان مغايرة المعنى
المسمّى بالحياة للقوّة الباصرة والسامعة وغيرهما من القوى الحيوانية ممّا لا يحتاج
إلى بيان ، والغرض انّ الروح الحيواني هو جسم لطيف بخاري يتكوّن من لطافة الأخلاط وينبعث
من التجويف الأيسر في القلب ويسري في البدن بسريان عروق نابتة من القلب يسمّى بالشرائين
هي محلّ الروح ، وهذا الروح حامل لقوى الحسّ والحركة والحياة. وقد علم بالحدس انّ الحياة
غير الحسّ والحركة ، لأنّ زوال الحياة مستلزم للنقص وزوال الحسّ والحركة غير
مستلزم له ـ كما في العضو المفلوج ـ ، فتحدس من ذلك انّ هذا الروح من شأنه أن يفيض
الحياة على عضو وان لم يفض عليه الحسّ والحركة. وذلك إمّا بأن يكون من شأنه افاضة الحياة
على عضو وان لم ينفذ فيه وتوقّف افاضته للحسّ والحركة بنفوذه فيه ، فالعضو المفلوج
لمّا لم ينفذ فيه هذا الروح لم يوجد فيه الحسّ والحركة. إلاّ انّه لاتصاله بما نفذ
فيه هذا الروح افيض عليه الحياة ، ولذا لم ينقص أو بطريق آخر كان ينفذ في عضو روح ضعيف
كان من شأنه افاضة الحياة دون الحسّ والحركة ؛ فتأمّل! (8).
__________________
(1) راجع : التحصيل ، ص 579.
(2) قريب منه يوجد في التعليقات ، ص
181.
(3) راجع : نهج البلاغة ، الخطبة الأولى
ص 39.
(4) راجع : بحار الأنوار ، ج 69 ص 293.
(5) راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، المسألة
الخامسة عشرة ، ص 43.
(6)
راجع : بحار الانوار ، ج 2 ص 32.
(7) كريمة 91 ، الانعام ؛ وغيرها من الآيات.
(8) ما وجدته. وانظر : شرح المقاصد ، ج
4 ص 138.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|