المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية

Fractal Sequence
27-10-2020
Ceramics, Cement, and Glass
14-5-2020
مقاومة العاثيات البكترية Bacteriophage Resistance
2-7-2017
 فنداوس  a . o . widaus
1-2-2016
تـصنيفـات وتقـسيمـات الصنـاديـق الاستثـماريـة
8/12/2022
هل يحدث سكون الحشرات في طور البيضة فقط؟
26-1-2021


التشبيه المتعدِّد والفرق بينه وبين المركّب  
  
3275   11:13 صباحاً   التاريخ: 25-1-2022
المؤلف : عبد القاهر الجرجاني
الكتاب أو المصدر : أسرار البلاغة
الجزء والصفحة : ص:160-199
القسم : الأدب الــعربــي / البلاغة / البيان /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-9-2020 50212
التاريخ: 23-12-2021 3070
التاريخ: 26-03-2015 13129
التاريخ: 26-03-2015 9162

 

فصل في التشبيه المتعدِّد والفرق بينه وبين المركّب

اعلم أنِّي قد قدّمتُ بيانَ المركَّب من التشبيه، وها هنا ما يُذكَر مع الذي عرَّفتك أنه مركَّب ويُقرَن إليه في الكُتب، وهو على الحقيقة لا يستحق صفة التركيب، ولا يشارك الذي مَضَى ذكرُه في الوصف الذي له كان تشبيهاً مركّباً، وذلك أن يكون الكلام معقوداً على تشبيه شيئين بشيئين ضربةً واحدةً، إلاّ أن أحدهما لا يداخل الآخر في الشَّبه، ومثاله في قول امرئ القيس:

كأنَّ قُلُوبَ الطَّير رَطْبـاً ويابـسـاً

 

لَدَى وَكْرِهَا العُنّابُ والحشَفُ البَالي

 

وذلك أنه لم يقصِد إلى أن يجعل بين الشيئين اتصالاً، وإنما أراد اجتماعاً في مكانٍ فقط، كيف ولا يكون لمضامَّة الرَّطْب من القلوب اليابسَ هيئةٌ يُقصَد ذِكْرُها، أو يُعنَى بأمرها، كما يكون ذلك لتباشيرِ الصُّبح في أثناء الظلماء، وكون الشَّقِيقة على قَامتها الخضراء، فيودِّيَ ذلك الشبهَ الحاصلَ من مُداخلة أحد المذكورين الآخرَ واتّصاله به، اجتماعُ الحشَف البالي والعُنّاب، كيف ولا فائدة لأن ترى العُنّاب مع الحشَف، أكثر من كونهما في مكان واحد، ولو أن اليابسة من القُلوب كانت مجموعةً ناحيةً، والرطبة كذلك في ناحية أخرى، لكان التشبيه بحاله، وكذلك لو فرَّقت التشبيه فقلت: كأنّ الرَّطب من القلوب عُنّابٌ، وكأنّ اليابس حَشَفٌ بالٍ، لم تر أحدَ التشبيهين موقوفاً في الفائدة على الآخر، وليس كذلك الحكم في المرَكَّبات التي تقدَّمتْ، وقد يكون في التشبيه المركَّب ما إذا فضضتَ تركيبَهُ وجدت أحد طرفيه يخرُج عن أن يصلح تشبيهاً لِما كان جاء في مقابتله مع التركيب بيانُ ذلك أن الجِلال في قوله "كَطِرْفٍ أشهبٍ مُلْقَى الجِلال". في مقابلة الليل، وأنت لو قلت كأن الليل جِلال وسَكَتَّ لم يكن شيئاً، وقد يكون الشيء منه إذا فُضَّ تركيبه استوى التشبيه في طَرَفيه، إلا أن الحال تتغير، ومثال ذلك قوله:

وكأن أجرامَ النُّجومِ لوامعـاً

 

دُرَرٌ نُثِرْنَ على بِسَاطٍ أزرقِ

 

فأنت وإن كنت إذا قلت: كأنّ النجوم دُرَرٌ، وكأن السماء بساطٌ أزرق، وجدت التشبيه مقبولاً معتاداً مع التفريق، فإنك تعلم بُعد ما بين الحالتين، ومقدارَ الإحسانَ الذي يذهب من البين، وذلك أن المقصودَ من التشبيه أن يُرِيَك الهيئةَ التي تملأ النواظر عَجباً وتستوقف العيون وتستنطق القلوب بذكر اللّه تعالى من طُلوع النجوم مؤتلفةً مُفْتَرِقةً في أديم السماء وهي زرقاءُ زُرْقَتها الصافية التي تخدع العين، والنجوم تتلألأ وتبرُق في أثناء تلك الزرقة، ومَنْ لك بهذه الصورة إذا فرَّقت التشبيه، وأزلت عنه الجمع والتركيب? وهذا أظهر من أن يَخْفَى، وإذْ قد عرفتَ هذه التفاصيل، فاعلم أن ما كان من التركيب في صورة بيت امرئ القيس، فإنما يستحق الفضيلة من حيثُ اختصار اللفظ وحُسن الترتيب فيه، لا لأن للجمع فائدةً في عين التشبيه، ونظيرُه أنَّ للجمع بين عِدّة تشبيهاتٍ في بيتٍ كقوله:

بَدَت قمراً ومَاسَت خُوطَ بانٍ

 

وفَاحت عنبراً ورَنَتْ غزالاَ

 

مكاناً من الفضيلة مرموقاً، وشأواً ترى فيه سابقاً ومسبوقاً لا أنّ حقائق التشبيهات تتغير بهذا الجمع، أو أن الصُوَر تتداخل وتتركّب وتأتلف ائتلافَ الشكلين يصيران إلى شكل ثالث، فكونُ قدِّها كخُوط البان، لا يزيد ولا ينقص في شبه الغزال حين ترنُو منه العينان، وهكذا الحكم في أنها تفوح فَوْحَ العنبر، ويلوح وَجهها كالقمر، وليس كذلك بيت بشار: كأنّ مثار النقع، لأن التشبيه هناك كما مضى مركَّب وموضوع على أن يُريَك الهيئةَ التي ترى عليها النَّقْع المظلم، والسيوفُ في أثنائه تبرُق وتُومِض وتعلو وتنخفض، وترى لها حَرَكات من جهات مختلفة كما يوجبه الحال حين يحمَى الجِلاد، وترتكض بفرسانها الجياد. كما أن قول رؤبة مثلاً:

فيها خطوطٌ من سَوَادٍ وبَلَقْ

 

كأنّها في الجِلْد تَوْلِيعُ البَهقْ

 

ليس القَصْدُ فيه أن يُرِيَك كل لونٍ على الانفراد، وإنما القصدُ أن يُرَى الشَّبه من اجتماع اللونين، وقول البحتري:

تري أحْجَالَهُ يَصْـعَـدْنَ فِـيه

 

صُعودَ البَرْق في الغَيْمِ الجَهَامِ

 

لا يريد به تشبيه بياض الحُجول على الانفراد بالبَرْق، بل المقصودُ الهيئةُ الخاصّة الحاصلةُ من مخالطة أحد اللونين الآخر، كذلك المقصود في بيت بشّار بتشبيه النَّقع والسيوف فيه، بالليل المتهاوي كواكبه، لا تشبيهَ الليلِ بالنَّقْع من جانب، والسيوف بالكواكب من جانب، ولذلك وجب الحكم، كما كنت ذكرت في موضع، بأنّ الكلام إلى قوله: وأسيافنا في حكم الصلة للمصدر، وجارٍ مجرى الاسم الواحد، لئلا يقع في التشبيه تفريق ويُتوهَّم أنه كقولنا كأن مثار النقع ليل وكأن السيوف كواكب، ونصبُ الأسياف لا يمنع من تقدير الاتصال، ولا يوجب أن يكون في تقدير الاستئناف، لأن الواو فيها معنى مع، كقوله: "فإنِّي وقَىّاراً بهَا لَغَرِيب" وقوله كُلُّ رجلٍ وَضَيْعَتُهُ، وهي إذا كانت بمعنى مع، لم يكن في معطوفها الانقطاع، وأن يكون الكلام في حكم جملتين، ألا ترى أن قولهم: لو تُرِكت النَّاقَةُ وفصيلَها لَرَضِعَها، لا يكون بمنزلة أن تقول لو تُركت الناقة ولو تُرك فصيلها، فتجعل الكلام جملتين وكذا لا يمكنك أن تقول كل رجل كذا وضيعَتُهُ كذا، فتفرَّق الخبر عنهما كما يجوز في قولك زيد وعمرو كريمان، أن تقول: زيد كريم وعمرو كريم، وهذا موضع غامض، وللكلام فيه موضع آخر، وإن أردت أن تزداد تبييناً، لأن التشبيه إذا كان معقوداً على الجمع دون التفريق، كان حالُ أحد الشيئين مع الآخر حالَ الشَّيء في صلة الشيء وتابعاً له ومبنيّاً عليه، حتى لا يُتصوَّر إفراده بالذكر، فالذي يُفضي بك إلى معرفة ذلك أنك تجد في هذا الباب ما إذا فُرّق لم يَصْلُح للتشبيه بوجْهٍ، كقوله:

كأنَّما المِرِّيخُ والمُشتَـرِي

 

قُدّامَهُ في شامِخ الرِّفعَهْ

مُنصرفٌ بالليل عن دعوةٍ

 

قد أُسْرِجَت قُدَّامَهُ شَمْعَه

 

لو قلت كأنّ المريخ منصرفٌ بالليل عن دعوة، وتركت حديث المشتري والشَّمعة، كأن خَلْفاً من القول، وذاك أن التشبيه لم يكن للمِرِّيخ من حيث هو نفسه، ولكن من حيث الحالة الحاصلة له من كون المشترِي أمامه، وأنت وإن كنت تقول: المشترِي شمعة، على التشبيه العامِي الساذج في قولهم كأنّ النُّجوم مصابيح وشموع، فإنه لم يضع التشبيه على هذا وإنما قصد إلى الهيئة التي يكتسبها المِرِّيخ من كون المُشْتَرِي أمَامه، وهكذا قولُ ابن المعتزّ:

كأنَّهُ وكأنَّ الكأسَ فـي فَـمِـهِ

 

هلالُ أوَّل شهرٍ غابَ في شَفَقِ

 

لم يقصد أن يشبه الكأسَ على الانفراد بالهلال، والشَّفة بالشفق على الاستئناف، بل أراد أن يشبّه مجموع الصُّورتين، ألا ترى أنك لو فرّقت لم تَحْلَ من التشبيه بطائل، إذ لا معنى لأن تقول: كأن الشفة شفق، وتسكت، أترى أن قولَه:

بَيَاضٌ في جَوانِبـه احـمـرارٌ

 

كَما احْمَرَّتْ من الخجَلِ الخُدودُ

 

استوجبت الفضل والخروج من التشبيه العاميّ، وأن يقال قد زاد زيادةً لم يُسبق إليها، إلا بالتركيب والجمع، وبأن ترك أن يُرَاعَى الحمرة وَحْدَها. وقال القاضي أبو الحسن رحمه اللّه: لو اتفق له أنْ يقول احمرار في جوانبه بياض، لكان قد استوفى الحسن وذلك لأن خَدَّ الخَجَلِ هكذا، يُحْدِقُ البياضُ فيه بالحمرة لا الحمرة بالبياض، إلاّ أنه لعله وجد الأمر كذلك في الوَرْدة، فشبّه على طريق العكس فقال هذا البياضُ حوله الحمرة ها هنا، كالحمرة حولها البياض هناك، فانظر الآن، إنْ فرَّقت، كيف يتفرَّق عنك الحسن والإحسان، ويحضرُ العِيُّ ويذهب البَيان لأن تشبيه البياض على الانفراد لا معنى له، وأما تشبيهُ الحمرة، وإن كانت تصحّ على الطريقة الساذجة أعني تشبيه الورد الأحمر بالخد فإنه يَفْسُد من حيث أن القصد إلى جنس من الورد مخصوصٌ، هو ما فيه بياضٌ تُحدِق به حمرةٌ، فيجب أن يكون وصف المشبَّه به على هذا الشرط أيضاً، وبهذا الاختصاص ولما ذكرت لك، تجد أحد المشبَّهين في الأمر الأْعمّ الأكثر وقد ذُكِر في صلة الآخر، ولم يُعطَف عليه كقوله: "والشَّيْبُ ينهضُ في الشَبابِ" و"بَيَاض فِي جَوانِبه احمرارُ".
وأشباه ذلك، فإن جاءت الواو كانت واو حال كقوله:

كأنَّما المِرِّيخُ والمُشْتَرِي

 

قُدّامه في شامخ الرفعه

 

وهي إذا كانت حاليّة، فهي كالصفة في كونها تابعة، وبحيث لا ينفرد بالذكر، بل يُذكر في ضمن الأول، وعلى أنه من تَبَعه وحاشيته، وهكذا الحكم في الطرف الآخر، ألا ترى قوله:

ليل تهاوَى كواكبه

 

فَتَهاوى كواكبه، جملة من الصِّفة لليل، وإذا كان كذلك، فالكواكب مذكورة على سبيل التَّبَع لليل، ولو كانت مستبِدّةً بشأنها لقُلتَ: ليل وكواكب، وكذلك قوله:

لَيْلٌ يَصِيحُ بِجَانبيه نَهارُ

 

وأشدُّ من ذلك أن يجيء كما في الطَّرف الثاني كقوله: "كما احمرَّت من الخَجَلِ الخُدودُ" وبيتُ امرئ القيس على خلاف هذه الطريقة، لأن أحد الشيئين فيه في الطرفين معطوف على الآخر، أما في طَرف الخبرِ، وهو طرف المشبَّه به، فبيّنٌ وهو قوله: "العُنّاب والحَشَفُ البالِي" وأما في طرف المُخْبَرِ عنه، وهو المشبَّه، فإنك وإن كنت ترى اسماً واحداً، هو القلوب، فإن الجمع الذي تفيده الصيغةُ في المتفق يجري مجرى العطف في المختلف، فاجتماعُ شيئين أو أشياء في لفظ أو جمعٍ، لا يوجب أن أحدهما في حكم التابع للآخر، كما يكون ذلك إذا جرى الثاني في صفة الأول أو حاله أو ما شابه ذلك، هذا وقد صرّح بالعطف في البدل، وهو المقصود فقال: رطباً ويابساً. واعلم أنه قد يجيء في هذا الباب شيء له حدٌّ آخر، وهو نحو قوله:

إني وتزييني بمَدحِيَ معشراً

 

كمُعلَّقٍ دُرّاً على خِنْـزِيرِ

 

 هو على الجملة جمعٌ بين شيئين في عَقْد تشبيه، إلاّ أن التشبيه في الحقيقة لأحدهما، ألا ترى أن المعنى على أنَّ فِعْلَهُ في التزيين بالمدح، كفِعل الآخر في محاولته أن يزّين الخنزير بتعليق الدُرّ عليه? ووجه الجمع أنّ كل واحد منهما يضع الزينة حيث لا يظهر لها أثرٌ، لأن الشيء غير قابل للتحسين، ومتى كان المشبَّه به كمعلّق في البيت، فلا شكّ أن التشبيه لا يرجع إلى ذات الشيء، بل المعنى المشتقّ منه الصفة، وإذا رجع إليه مقروناً بصلته على ما مضى في نحو مَا زَالَ يَفْتِل في الذِّروة والغارب، فقد شبّه تزيينَه بالمدح مَن ليس من أهله، بتعليق الدُّر على الخنزير هكذا بجملته، لا بالتعليق غير معدًّى إلى الدُّرّ والخنزير، فالشبهُ مأخوذ من مجموع المَصْدَر وما في صلته، ولا بُدّ للواو في هذا النحو أن تكون بمعنى مع، وأمرها فيه أبين، إذ لا يمكن أن يقال إنّي كذا وإنّ تزييني كذا، لأنه ليس معنا شيئان يكون أحدُهما خبراً عن ضمير المتكلم في إني الذي هو المعطوف عليه، والآخرُ عن تزييني المعطوف، كما يكون نحو بيت بشّارٍ شَيئان يمكن في ظاهر اللفظ أن يُجعل أحدهما خبراً عن النَّقع، والآخر عن الأسياف، إلى أن تجيء إلى فساده من جهة المعنى، فأنت في نحو إني وتزييني مُلْجَأٌ إلى جعل الواو بمعنى مع من كل وجه، حتى لا تقدر على إخراج الكلام إلى صورةٍ تكون فيها الواو عارية من معنى مع، ويكون تشبيهاً بعد تشبيه. فإن قلتَ إنّ في مُعلِّقٍ معنى الذات والصفةِ معاً، فيمكن أن يكون أراد أن يشبّه نفسه بذات الفاعل و تزيينه بالفعل نفسه، أقول لو أُريد إنّي كمعلّق دُرّاً على خنزير، وإن تزييني بمدحي معشراً كتعليق دُرّ على خنزير، كان قولاً ظاهر السقوط، لما ذكرتُ من أنه لا يُتصوَّر أن يشبّه المتكلم نفسَه، من حيث هو زيدٌ مثلاً، بمعلّق الدُرّ على الخنزير من حيث هو عَمْرٌو، وإنما يشبّه الفعل بالفِعْلِ فاعرفه. فإن قلت فما تقول في قوله:

وحتى حسبتُ الليلَ والصبحَ إذ بَدَا

 

حِصانَين مُخْتالَين جَوْناً وأشْقَـرَا

 

فإن ظاهره أنه من جنس المفرَّق، أقول نعم، إلا أن ثَمَّةَ شيئاً كالجمع، وهو أنّ لاقتران الحصانين الجون والأشقر في الاختيال ضرباً من الخُصوصية في الهيئة، لكنه لا يبلغ مبلغَ ليلٌ تَهاوَى كواكبُه، ولا مبلَغَ قوله: "وَالصُّبْحُ مثل غُرّةٍ في أدْهَمِ". كما أنّ قولَه:

دُون التَّعانُقِ ناحلَين كَشَكْلَتَي

 

نَصْبٍ أَدَقَّهُما وضَمَّ الشاكلُ

 

لا يكون كقوله:

إني رَأيتُك في نَومي تُعانِقُني

 

كما تُعانِقُ لامُ الكَاتِبِ الألِفَا

 

فإن هذا قد أدَّى إليك شكلاً مخصوصاً لا يُتصوَّر في كل واحد من المذكورين على الانفراد بوجه، وصُورةً لا تكون مع التفريق وأما المتنبي فأراك الشيئين في مكان واحد وشدّد في القُرب بينهما، وذاك أنه لم يعرض لهيئة العِناقِ ومخالفتها صورة الافتراق، وإنما عَمد إلى المبالغة في فرط النُّحول، واقتصر من بيان حال المُعانقة على ذكر الضَّمِّ مطلقاً والأوّل لم يُعْنَ بحديث الدقّة والنحول، وإنما عُني بأمر الهيئة التي تحصل في العناق خاصّةً، من انعطاف أحد الشكلين على صاحبه، والتفاف الحبيب بمُحِبّه، كما قال:

لَفَّ الصَّبا بقَضِيبٍ قضِيبَا

 

وأجاد وأصاب الشبه أحسن إصابةٍ، لأن خَطَّى اللام والألف في لا ترى رأسيهما في جهتين، وتراهما قد تماسًّا من الوسط، وهذه هيئة المعتنقين على الأمر بالمعروف، فأما قصد المتنبي فليس بصفة عِناق على الحقيقة، وإنما هو تضامٌّ وتلاصقٌ، وهو بنحو قوله:

ضَمَمْتُهُ ضَمَّةً عدنا بِها جَسَداً

 

فَلَوْ رَأَتْنَا عَيُونٌ ما خَشِينَاها

 

أشبهُ، لأن القصد في مثله شدّة الالتصاق، من غير تعريج على هيئة الاعتناق، وذهب القاضي في بيت المتنبي إلى أنه كأنه معنى مُفْرد غير مأخوذ من قوله:  

كما تُعانِقُ لامُ الكَاتِبِ الألفَا وقال: ولئن كان أخذه، كما يقولون، فليس عليه مَعْتَب، لأنّ التعب في نقله ليس بأقلّ من التعبِ في ابتدائه. وهذا التفضيل والتفصيل من قول القاضي ليس قادحاً في غرضي، لأنّي أردتُ أن أُرِيَك مثالاِ في وضع التشبيه على الجمع والتفريق، وأجعل البيتين مِعياراً فيما أردت، ولئن كان المتنبي قد زاد على الأوّل، فليس تلك الزيادة من حيث وضع الشبه على تركيب شكلين، ولكن من جهة أخرى، وهي الإغراق في الوصف بالنحول وجَمْعِ ذلك للخِلَّين معاً، ثم إصابة مثالٍ له ونظيرٍ من الخطِّ، فاعرف ذلك، ولا تظنّ أن قصدي المفاضلة بين البيتين من حيث القول في السابق والمسبوق، والأخذ والسرقة، فتحسبَ أني خالفت القاضي فيما حكم به.

فصل

"هذا فنٌّ غير ما تقدَّم في الموازنة بين التشبيه والتمثيل". اعلم أنّي قد عرّفتك أن كل تمثيل تشبيهٌ، وليس كل تشبيه تمثيلاً، وثبَّتُّ وجهَ الفرق بينهما، وهذا أصلٌ إذا اعتبرتَه وعرَضت كلَّ واحدٍ منهما عليه فوجدته يجيء في التشبيه مجيئاً حسناً، وينقاد القياس فيه انقياداً لا تَعسُّف فيه، ثم صادفته لا يطاوعك في التمثيل تلك المطاوعة، ولا يجري في عِنَان مرادك ذلك الجري ظهر لك نوعٌ من الفرق والفصل بينهما غير ما عرفتَ، وانفتح منه بابٌ إلى دقائق وحقائق، وذلك جَعْلُ الفرعِ أصلاً والأصل فرعاً، وهو إذا استقريت التشبيهات الصريحة وجدته يكثُر فيها، وذلك نحوُ أنهم يشبّهون الشيء فيها بالشيء في حال، ثم يعطفون على الثاني فيشبّهونه بالأول، فترى الشيء مُشبَّهَاً مرّةً، ومشبَّهاً به أخرى، فمن أظهر ذلك أنك تقول في النجوم كأنها مصابيح، ثم تقول في حالة الأخرى في المصابيح كأنها نجوم ومثلُه في الظهور والكثرة تشبيهُ الخدّ بالورد، والورد بالخدّ وتشبيه الرَّوض المنوَّر بالوَشْي المُنَمْنَم ونحو ذلك، ثم يُشبَّه النقش والوَشْيُ في الحُلَل بأنوار الرياض وتُشبَّه العيون بالنرجس، ثم يُشبَّه النرجس بالعيون، كقول أبي نواس:

لَدَى نَرْجِسٍ عَضِّ القِطَافِ كأنّه

 

إذَا مَا مَنَحْنَاهُ العُـيونَ عُـيونُ

 

وكذلك تشبيه الثَّغر بالأقاحي، ثم تشبيهُها بالثعر، كقول ابن المعتز:

والأُقحوانُ كالثَّنايا الغُـرّ

 

قد صُقِلتْ أنوارُه بالقَطْرِ

 

وقول التَّنوخي:

أقْحوانٌ مُعانقٌ لشـقـيقٍ

 

كثُغُورٍ تَعَضُّ وردَ الخدودِ

 

وبعدهُ، وهو تشبيه النرجس بالعيون:

وعُيونٌ من نَرْجِس تَتَراءَى

 

كعُيونٍ مَوْصُولةِ التَّسهيدِ

 

وكما يشبّهون السيوف عند الانتضاء بعقائق البُرُوق، كما قال:

وسَيْفِي كَالعَقِيقة وهو كِمْعِي

 

سِلاَحِي لا أفلَّ ولاَ فُطَارَا

 

ثم يعودون فيشبّهون البَرْق بالسيوف المُنْتضَاة، كما قال ابن المعتزّ يصف سحابة:

وساريةٍ لا تَـمَـلُّ الـبـكـا

 

جَرَى دَمْعها في خُدُود الثَّرَى

سَرَت تقدَحُ الصُّبْحَ في ليلهـا

 

ببرْقٍ كَهِنْـدِيةٍ تُـنـضَـى

 

وكقول الآخر يصف نار السَّذَق:

ومازال يعلوعَجاجُ الـدُّخـان

 

إلى أن تَلوَّنَ مـنـه زُحَـلْ

وكنّا نرى الموجَ مـن فِـضّةٍ

 

فذَّهبهُ النُّورُ حتى اشـتـعـلْ

شَراراً يُحاكى انقضاضَ النجومِ

 

وبَرْقاً كإيماض بِيضِ تُـسَـلّ

 

ومن لطيفه قول علي بن محمد بن جعفر:

دِمَـنٌ كـأنَّ رِياضَـهــا

 

يُكْسَيْنَ أعلاَمَ المَـطَـارِفْ

وكـأنَّـمـا غُـدْرَانُـهـا

 

فيها عُشورٌ من مَصَاحِـفْ

وكـأنّـمـا أنـوارُهــا

 

تهتزُّ في نَكْبَاء عـاصـفْ

طُرَرُ الوَصَـائف يَلْـتَـق

 

ين بها إلى طُرَر الوَصَائفْ

وكأنّ لَـمْـعَ بُـروقِـهـا

 

في الجوّ أسيافُ المُثَاقِـفْ

 

المقصود البيت الأخير، ولكن البيت إذا قُطع عن القطعة كان كالكعاب تُفرَد عن الأتراب، فيظهر فيها ذُلُّ الاغتراب، والجوهرة الثمينة مع أخواتها في العقد أبهى في العين، وأملأُ بالزين، منها إذا أفردتْ عن النظائر، وبَدَت فَذَّةً للناظر، يشبّهون الجواشن والدروع بالغدير يضرب الريح متنَه فيتكسَّر، ويقع فيه ذلك الشَنَج المعلوم كقوله:  

بيضاءَ زَغْفٍ نَـثْـلةٍ سُـلَـمِـيَّةٍ

 

لها رَفْرَفٌ فوق الأَنَامِل من عَلُ

أَشْبَرَنيها الهـالـكـيّ كـأنـهـا

 

غَدِيرٌ جَرَت في متنه الرِّيحُ سَلسَلُ

 

وقال:

سابغةً من جياد الـدُّروع

 

تَسْمَعُ للسيف فيها صَلِيلاَ

َمتْنِ الغَدِير زَفَتْهُ الدَّبـورُ

 

يجرُّ المُدَجَّجُ منها فُضُولاَ

 

وقال البحتري:

َمْشُون في زَغْفٍ كأنّ مُتونَها

 

في كل مَعْرَكةٍ مُتونُ نِهَاءِ

 

وهو من الشهرة بحيث لا يخفى، ثم إنهم يعكسون هذا التشبيه فيشبّهون الغُدران والبِرَك بالدروع والجواشن، كقول البحتري يصف البِرْكة:

ذا عَلَتْها الصَّبا أبدت لها حُبُكـاً

 

مِثْل الجَواشِنِ مصقولاً حواشيها

 

ومن فاتن ذلك وفاخره، لاستواء أوّله في الحسن وآخره، قول أبي فراس الحمداني:

نظُر إلى زَهْـرِ الـربـيعِ

 

والماءِ في بِرَك الـبـديع

إذا الرياحُ جـرَتْ عـلـي

 

هِ في الذَّهابِ وفي الرجوعِ

نثَرَتْ على بِيض الصَّـفَـا

 

ئح بيننا حَـلَـق الـدروعِ

 

وتُشبَّه أنوارُ الرياض بالنجوم، كقوله:

َكَتِ السماءُ بها رَذَاذَ دُموعِها

 

فغَدت تَبسَّمُ عن نجومِ سماءِ

 

ثم تُشبَّه النجوم بالنَّوْر كقوله:

قد أقذِفُ العيسَ في لـيلٍ كـأنّ بـه

 

وَشياً من النَّوْرِ أو رَوْضَاً من العُشُبِ

 

وكقول ابن المعتز:

كأنّ الثُّريَّا في أواخرِ ليلها

 

تَفَتُّحُ نَوْرٍ أو لجامٌ مُفَضَّضُ

 

وقال:

وتَوقَّد المِرِّيخُ بين نُجـومـهـا

 

كبَهارَةٍ في رَوْضَةٍ من نرجسِ

 

وكذلك تُشبَّه غُرّة الفرس الأدهم بالنَّجم أو الصبح، ويجعل جسمه كالليل، كما قال ابن المعتزّ:

جاء سَلـيلاً مـن أبٍ وأمّ

 

أدهمَ مصقولَ ظَلامِ الجِسْمِ

قد سُمِّرت جَبْهَتُه بنجْـمِ

 

 

 

وكما قال كاتب المأمون يصف فرساً:

قَدْ بَعثْنَـا بـجَـوَادٍ

 

مِثْلَـه لَـيْس يُرامُ

فَرسٌ يُزهَى به للحُ

 

سْنِ سَرْجٌ ولِجـامٌ

وَجْهُه صبحٌ ولكـن

 

سائر الجِسْم ظـلامُ

وَالذي يصلح للمَـوْ

 

لَى على العبدِ حَرَامُ

 

وقال ابن نُباتة:

وأَدْهَمَ يستمد الليلُ منه

 

وتطلُع بين عَيْنَيه الثُّرَيَّا

 

ثم يُعكَس فيشبَّه النجمُ أو الصبح بالغرّة في الفرس، كقول ابن المعتزّ:

والصُّبح في طُرّة ليلٍ مُسْفِرِ

 

كأنه غُرّةُ مُهـرٍ أشـقـرِ

 

وتُشبَّهُ الجواري في قدودهن بالسَّرْوِ تشبيهاً عامّيّاً مُبْتذَلاً، ثم إنهم قد جعلوا فيه الفَرْعَ أصلاً، فشبّهوا السَّرْوَ بهنّ، كقوله:

حُفَّتْ بسَرْوٍ كالقِيانِ تَلَـحـفّـتْ

 

خُضْرَ الحريرِ على قَوَامٍ مُعْتَدِلْ

فكأنّها والرِّيحَ حين تُمِـيلُـهـا

 

تَبْغِي التعانُق ثم يَمْنَعُها الخَجَـلْ

 

والمقصود من البيت الأول ظاهرٌ، وفي البيت الثاني تشبيه من جِنس الهيئة المجرَّدة من هيئات الحركة، وفيه تفصيل طريفٌ فاتنٌ، فقد رَاعَى الحركتين حركة التهيُّؤ للدنوّ والعناق، وحركة الرُّجوع إلى أصل الافتراق، وأدَّى ما يكون في الحركة الثانية من سرعةِ زائدةٍ تأديةً تحْسبَ معها السّمعَ بصراً، تبييناً للتشبيه كما هو وتصوُّراً، لأن حركة الشجرة المعتدلة في حال رجوعها إلى اعتدالها أسرعُ لا محالة من حركتها في حال خروجها عن مكانها من الاعتدال، وكذلك حركةُ من يُدركه الخجَلُ فيرتدع، أسرعُ أبداً من حركته إذا همَّ بالدنوّ، فإزعاج الخوف والوَجَل أبداً أقوى من إزعاج الرجاء والأمل، فمع الأوّل تمهُّل الاختبار، وسعة الحِوار، ومع الثاني حَفْزُ الاضطرار وسلطان الوُجوب، وأعود إلى الغَرض، ومن تشبيه السَّرو بالنساء قولُ ابن المعتزّ:

ظلِلتُ بمَلْـهَـى خَـيْرِ يومٍ ولـيلةٍ

 

تَدُور علينا الكأسُ في فِتـيةٍ زُهْـرِ

بكَـفِّ غـزالٍ ذي عِـذارٍ وطُـرّةٍ

 

وصُدْغَين كالقَافَيْن في طَرَفَيْ سَطْرِ

لَدَى نرجسٍ غَضٍّ وسَرْوٍ كأنـه

 

قُدودُ جَوارٍ مِلْنَ في أُزُرٍ خُضْرِ

         
 

وتُشَبَّهُ ثُدِيُّ الكواعب بالرُمّان كقوله:

وَبِمَا تَبِيتُ أَنَامـلـي

 

يَجْنِينَ رُمّانَ النُّحورِ

 

وقولِ المتنبي:

وقابَلني رُمَّانتا غُصنِ بـانةٍ

 

يَمِيل به بدرٌ ويُمسكه حِقْفُ

 

وقوله:

يخطّن بِالعيدان في كُلِّ منزلٍ

 

وَيَخْبَأْنَ رُمَّان الثُّدِيِّ النواهِد

 

ثم يُقلَب فيُشبَّه الرّمان بالثُدِيّ، كقول:

ورُمّـانةٍ شَـبَّـهـــتُـــهـــا إذ رأيتُـــهـــا

 

بثَـدْيِ كَـعــابٍ أو بـــحُـــقّةِ مَـــرْمـــرِ

مُنمنَمةٍ صفراءَ نُضِّد حولها يواقيتُ حُمْرٌ في مُلاءٍ مُعصْفَرِ

 

 

 

وتُشبَّه الجداول والأنهار بالسيوف، يراد بياض الماء الصَّافي وبصيصُه، مع شكل الاستطالة الذي هو شكل السيف، كقول ابن المعتز:

أعددتُ للجارِ ولـلـعُـفـاة

 

كُومَ الأعالي مُتَـسـامـياتِ

رَوازِقاً في المَحْلِ مُطعِمَاتِ

 

 

 

يعني نخلاً، ثم قال بعد أبيات:

تُسقَى بأنْهـارٍ مُـفَـجَّـراتِ

 

على حَصَى الكافورِ فَائضاتِ

بَرِيئَةِ الصَّفْوِ مـن الـقَـذَاةِ

 

مثلِ السُّيوفِ المتـعـرِّياتِ

 

ابن بابك:

فما سَيلٌ تُخلّصهُ المَحَـانـي

 

كما سُلَّت من الخِلَلِ المناصِلْ

 

أبو فراس:

والـمـاءُ يفـصِـل بـين زَهْ

 

رِ الرَّوْض في الشَطَّين فَصْلاَ

كَبِـسـاطِ وَشْـي جَــرَّدت

 

أيدي القُيُونِ علـيه نَـصْـلاَ

 

كشاجم:

وتَرَى الجداوِل كالسُّيو

 

فِ لَها سَوَاقٍ كالمباردْ

 

آخر:

وفي الجداول أسيافٌ مُحَـادَثَةٌ

 

والطير تَسْجع أهْزاجاً وأرمالاَ

 

وقال ذو الرمّة:

فما انشقَّ ضَوْءُ الصبح حتى تَبيَّنت

 

جَداولُ أمثالُ السُّيُوف القواطِـعِ

 

ابن الرومي:

عَلى حِفافَيْ جَدْولٍ مَسـجـورِ

 

أبيضَ مثلِ المُهْرَقِ المنشـورِ

أو مثلِ متن الصارم المشهور

 

 

 

ثم يَقْلبونَ أحدَ طرفي التشبيه على الآخر، فيشبّهون السيوفَ بالجداول، كقوله:

وتخالُ ما ضربوا بهنّ جداولاً

 

وتَخَال ما طَعَنُوا به أَشْطَانَا

 

ابن بابك:

وأُهدِي إلى الغارات عَزْماً مشـيَّعـاً

 

وبأساً وباعاً في اللِّقاءِ ومِقْـصَـلا

سَفِيهَ مَقَطِّ الـطُـرَّتـين أَشـيمـهُ

 

فيُوحي إلى الأعضاء أن تَـتَـزيَّلاَ

أغَرَّ كأني حـين أَخْـضِـبُ حَـدَّه

 

خرقتُ به في مُلْتَقَى الرَّوض جَدْوَلاَ

 

السرّى:

وكم خَرَقَ الحجابَ إلى مَقَامٍ

 

تَوارَى الشمسُ فيه بالحجابِ

كأنّ سُيوفَه بين العَـوالـي

 

جَداولُ يطَّرِدْنَ خِلالَ غابِ

 

وله أيضاً:

كأنّ سيوف الهِندِ بين رِماحه

 

جداولُ في غابٍ سَمَا فتأشَّبا

 

وتُشبَّه الأسنّة، كما لا يخفى، بالنجوم، كما قال:

وأَسِنَّةً زُرقاً تُخالُ نجومَا

 

وقال البحتري:

وتراه في ظُلَم الوَغَى فتخالُـه

 

قَمراً يكُرُّ على الرِّجال بكَوْكَبِ

 

يعني السنان، وقال ابن المُعتزّ:

وَتَراه يُصغِي في القناة بكَفِّه

 

نَجْماً ونجماً في القناة يَجُرُّه

 

ومثله سواءً قوله:

كأنما الحرْبةُ في كفِّه

 

نجمُ دُجَى شيَّعه البَدْرُ

 

ثم قد شبّهوا الكواكب بالسِّنان، كقول الصنوبري:

بشَّر بالصُّبح كوكبُ الصُّبـحِ

 

فاضَ وجِنْحُ الدُّجَى كَلا جِنْحِ

فَهْوَ على الفَجْرِ كالسِّنان هَوَى

 

للعين لمَّا هَوَى على رُمْـحِ

 

ابن المعتزّ:

شرِبتُها والديكُ لم يَنْتَـبِـهْ

 

سَكْرَانُ مِن نَوْمَتِهِ طافـحُ

ولاَحت الشِّعرى وجَوْزَاؤها

 

كمثل زُجٍّ جَـرَّهُ رامـحُ

 

وهذه إن أردت الحقَّ، قضيّةٌ قد سبقت وقَدُمت، فقد قالوا: المسك الرامح، على معنى أن كوكباً يتقدّمه وهو رمحه، ولا شكّْ أن جُلّ الغرض في جعل ذلك الكوكب رمحاً أن يقدّروه سناناً، فالرمح رُمْحٌ بالسنان، وإذا لم يكن السنان فهو قناة، ولذلك قال:

ورمحاً طويلَ القَناةِ عَسُولاً

 

ومن ذلك أن الدموع تُشبَّه إذا قَطَرت على خدود النساء بالطَّلّ والقَطْر على ما يُشْبِهُ الخدودَ من الرياحين، كقول الناشئ:

بَكَتْ للفراق وقَد رَاعَها

 

بُكَاءُ الحبيب لبُعْدِ الدِّيارِ

كأنَّ الدُّموعَ على خدّها

 

بقيّةُ طَلٍّ على جُلّنـارِ

 

وشبيه به قول ابن الرومي:

لو كنتَ يوم الوَداع حاضرَنا

 

وهُنَّ يُطِفئْن غُلّةَ الـوجـدِ

لم ترَ إلا الدموعَ سـاكـبةً

 

تَقْطُر من مُقْلةٍ على خـدِّ

كأنَّ تلك الدموعَ قَطْرُ نَـدًى

 

يقطُر من نَرْجِس على وَرْدِ

 

ثم يُعكَس، كقول البحتري:

شقائقُ يَحْمِلن النَـدَى فـكـأنَّـه

 

دُمُوع التصابي في خُدود الخَرائِد

 

وشبيهٌ به قولُ ابن المعتزّ، وبعد قوله في النرجس:

كأن عيون النرجس الغضِّ حولها

 

مداهنُ دُرٍّ حشْوُهـنّ عـقـيقُ

إذا بلَّهُنّ القَطْرُ خِلْتُ دُمُوعَـهـا

 

بُكاءَ عُيونٍ كُحْلُهـنَّ خَـلُـوقُ

 

وفي فنّ آخر منه خارجٍ عن جنس ما مضى، يُشِّبه الشيخ إذا أفناه الهَرَم، وحناه القِدَم، حتى يدخل رأسه في منكبيه بالفرخ كما قال:

ثلاثُ مِئِينَ قَدْ مَضَـيْنَ كـوامـلاً

 

وَهَا أنَا هذا أَرتجـي مـرَّ أربـعِ

فأصبحتُ مِثْلَ الفَرْخِ في العُشِّ ثاوياً

 

إذا رَام تَطْـيَاراً يقـالُ لـه قَـعِ

 

وهو كثير، ثم يُعكس فيُشبَّه بالشيخ، كما قال أبو نواس يرثى خَلَفاً الأحمر:

لو كان حَيٌّ وَائلاً من التَّلَـفْ

 

لَوألَتْ شَغْوَاءُ في أَعلَى شَعَفْ

أمُّ فُرَيخٍ أَحرزَتْه في لَـجَـفْ

 

مُزَغَّبِ الأَلغادِ لم يأكُل بكَـفّ

كأنه مُسْتَقْعَدٌ من الـخَـرَفْ

 

 

 

وأعاده في قصيدة أخرى في مرثيته أيضاً:

لاَ تَئِلُ العُصْمُ في الهِضابِ ولا

 

شَغْواءُ تَغْذُو فَرْخَينِ في لَجَفِ

تَحْنُو بجُؤْشُوشها على ضَـرِمٍ

 

كقِعدة المُنْحَنى من الخَـرفِ

 

ويُشبَّه الظَّليم في حركة جناحيه، مع إرسالٍ لهما، بالخِباء المُقوَّض، أنشد أبو العباس لعلقمة:

صَعْلٌ كأنّ جناحَيه وجُؤجُـؤَه

 

بيتٌ أطافت به خَرْقاءُ مهجومُ

 

اشترط أن تتعاطى تقويضَه خَرْقاءُ، ليكون أشدَّ لتفاوت حركاته، وخروجِ اضطرابه عن الوزن، وقال ذو الرمة:

وبَيْضٍ رفعنا بالضُّحَى عَنْ مُتُونها

 

سَماوةَ جَوْنٍ كالخِبَاء المُقـوَّضِ

هَجُومٍ عَلَيها نفسَـهُ غَـيْرَ أَنّـه

 

متى يُرْمَ فِي عينيه بالشَّبْحِ يَنْهَضِ

 

قالوا في تفسيره: يعني بالبيض بَيضَ النعام، ورَفَعنا، أي: أثرنا عن ظهورها، وسَمَاوة جون أي: شخص نَعام جون، وسماوة الشيء، شخصه، والجون الأسود هاهنا، لأنه قابل بين البياض والسواد، ثم شبّه النَّعام في حال إثارته عن البَيض بالخباء المقوَّض، وهو الذي نُزعت أطنابه للتحويل، والبيت الثاني من أبيات الكِتاب، أنشده شاهداً على إعمال فَعول عملَ الفعل، وذلك قوله هَجومٍ عليها نَفْسَهُ، فنفسُه منصوب بهَجوم، على أنه من هَجم متعدّياً نحو هجم عليها نفسه، أي طرحها عليها، كأنه أراد أن يصف الظَّليمَ في خوفه بأمرين متضادّين، بأن يبالغ في الانكباب على البَيض فِعْلَ مَن شأنُهُ اللزوم والثبات وأن يُثيره عنها الشيءَ اليسير، نحوُ أن يقع بصرُه على الشخص من بُعدٍ، فِعْلَ مَنْ كان مستوفِزاً في مكانه غير مطمئنّ ولا موطِّن نفْسَهُ على السُّكون، وقوله: يُرْمَ في عينيه بالشَّبْحِ، كلام ليس لحسنه نهاية. وقد قال ابن المعتزّ فعكس هذا التشبيه، فشبّه حَرَكة الخباء بالطائر، إلا أنه رَاعَى أن يكون هناك صفةٌ مخصوصةٌ، فشَرَطَ في الطائر أن يكون مقصوصاً، وذلك قوله:

ورفعنا خباءَنا تَضْربُ الـري

 

حُ حَشَاهُ كالجادِفِ المَقْصُوصِ

 

وأخرجه إلى هذا الشرط أنه أراد حَركة خِباءٍ ثابتٍ غير مُقوَّض، إلا أن الريحَ تقع في جوفه فيتحرك جانباه على تَوَالٍ، كما يفعل المقصوص إذا جدف، وذلك أن يردّ جناحيه إلى خلفه، فحصل له أمران أحدهما أن الموفور الجناح يَبْسُط جناحيه في الأكثر، وذلك إذا صفَّ في طيرانه، فلا يدومُ ضربه بجناحيه، والمقصوص لقصوره عن البسط يُديم ضَرْبهما والثاني تحريكُ الجناحين إلى خلفٍ. وهذا كثير جدّاً، وَتَتَبُّعُه في كل باب ونوعٍ من التشبيه يَشْغَل عن الغرض من هذه الموازنة، وإنما يمتنع هذا القلبُ في طرفي التشبيه، لسبب يعرض في البين فَيَمْنَعُ منه، ولا يكون من صميم الوصف المشترك بين الشيئين المشبَّهِ أحدُهما بالآخر، فمن ذلك، وهو أقواه فيما أظنُّ، أن يكون بين الشيئين تفاوتٌ شديد في الوصف الذي لأجله تُشبِّه، ثم قصدتَ أن تُلحق الناقصَ منهما بالزائد، مبالغةً ودلالةً على أنه يفضُل أمثاله فيه، بيانُ هذا: أن هاهنا أشياءَ هي أصولٌ في شدة السَّواد كخافية الغراب، والقارِ، ونحو ذلك، فإذا شبّهتَ شيئاً بها كان طلبُ العكس في ذاك عكساً لما يُوجبه العقل ونقضاً للعادة، لأن الواجب أن يُثَبت المشكوك فيه بالقياس على المعروف، لا أن يُتَكلَّف في المعروف تعريفٌ بقياسه على المجهولِ وما ليس بموجود على الحقيقة، فأنت إذا قلت في شيء: هو كخَافِية الغراب، فقد أردت أن تُثبت له سواداً زائداً على ما يُعهَد في جنسه، وأن تصحِّح زيادةً هي مجهولة له، وإذا لم يكن هاهنا ما يزيد على خافية الغراب في السواد، فليت شعري ما الذي تريد من قياسه على غيره فيه، ولهذا المعنى ضَعُف بيت البحتري:

على باب قِنَّسرينَ والليلُ لاطخٌ

 

جَوَانبَه من ظُلـمةٍ بـمـدادِ

 

وذاك أن المداد ليس من الأشياء التي لا مزيد عليها في السواد، كيف ورُبَّ مِدَادٍ فاقد اللون، والليلُ بالسواد وشدّته أحقّ وأحرى أن يكون مثلاً، ألا ترى إلى ابن الرومي حيث قال السريع:

حِبْرُ أبي حفصٍ لُعَابُ الليلِ

 

يَسيلُ للإخوان أيَّ سَـيْلِ

 

فبالغ في وصف الحبر بالسواد حين شبّهه بالليل، وكأن البحتري نظر إلى قول العامّة في الشيء الأسود هو كالنِّقسِ، ثم تركه للقافية إلى المداد، فإن قلت فينبغي على هذا أن لا يجوز تشبيه الصُّبح بغرّة الفرس لأجل أنّ الصبح بالوصف الذي لأجله شُبّه الغرة به أخصُّ، وهو فيه أظهر وأبلغ، والتفاوت بينهما كالتفاوت بين خافية الغراب والقار وبين ما يشبَّه بهما، فالجواب أن الأَمر، وإن كان كذلك، فإنّ تشبيه غُرّةِ الفرس بالصبح حيث ذُكرتْ، لم يقع من جهة المبالغة في وَصفها بالضياء والانبساط وفرط التلألؤ، وإنما قُصد أمرٌ آخر وهو وقوعُ مُنيرٍ في مُظلمٍ، وحصولُ بياضٍ في سوادٍ، ثم البياضُ صغيرٌ قليل بالإضافة إلى السواد، وأنت تجد هذا الشَّبه على هذا الحدّ في الأصل، فإذا عكستَ فقلت كأنّ الصُّبح عند ظهور أوَّله في الليل غُرَّةٌ في فرس أدهم، لم تقع في مناقضة كما أنك لو شبّهت الصُّبْح في الظلام بقَلَم بياضٍ على ديباج أسود لم تخرج عن الصواب وعلى نحو من ذلك قول ابن المعتز:

فخلتُ الدُّجَى والفَجْرُ قد مدَّ خَيْطَهُ

 

رِداءً مُوشّىً بالكواكب مُعْلَـمَـا

 

فالعلم في هذا الرداء هو الفجر بلا شبهة، وله، وهو صريح ما أردتُ:

والليلُ كالحُلّة السَّوداءِ لاح بـه

 

من الصَّباح طِرازٌ غيرُ مرقُومِ

 

وإن كان التفاوت في المقدار بين الصُّبح والطِّراز في الامتداد والانبساط شديداً، وكذلك تشبيه الشَّمس بالمرآة المجلوَّة، وبالدينار الخارج من السِّكّة، كما قال ابن المعتزّ:

وكأنّ الشَّمسَ المُنيرةَ دِينا

 

رٌ جَلَته حَدَائدٌ الضُّرَّابِ

 

حَسَنٌ مقبول، وإن عظُم التفاوتُ بين نُورِ الشمس ونور المرآة والدِّينارِ أو الجِرْم والجرم، لأنك لم تضع التشبيه على مجرَّد النُّور والائتلاق، وإنما قصدت إلى مستديرٍ يتلألأ ويلمع، ثم خصوصٍ في جنس اللون يوجد في المرآة المجلوَّة والدينار المُتَخلِّص من حَمْيِ السِّكّة، كما يوجد في الشمس، فأما مقدار النور، وأنه زائد أو ناقص ومتناهٍ، أو متقاصر، والجِرمُ أعظِيمٌ هو أم صغير؛ فلم تتعَرَّض له، ويستقيم لك العكس في هذا كله، نحوُ أن تشبّه المرآة بالشمس، وكذلك لو قلت في الدينار كأنه شمس، أو قلت كأن الدنانير المنثورة شموسٌ صغار لم تتعدَّ، وجملةُ القول أنه متى لم يُقصَد ضَرْبٌ من المبالغة في إثبات الصفة للشيء، والقصدِ إلى إيهامٍ في الناقص أنه كالزائد، واقتُصِر على الجمع بين الشيئين في مطلق الصورة والشكل واللون، أو جمعِ وصفين على وجهٍ يوجد في الفَرْع على حدّه أو قريبٍ منه في الأصل، فإنّ العكسَ يستقيم في التشبيه، ومتى أُرِيد شيء من ذلك لم يستقم،. وقد يَقصِدُ الشاعر، على عادة التخييل، أنْ يُوهِم في الشيء هو قاصرٌ عن نظيره في الصفة أنه زائد عليه في استحقاقها، واستيجابِ أن يُجعَل أصلاً فيها، فيصحُّ على موجَب دعواه وسَرَفه أن يجعل الفرعَ أصلاً، وإن كُنّا إذا رجعنا إلى التحقيق، لم نجد الأمرَ يستقيم على ظاهر ما يضع اللفظ عليه، ومثاله قول محمد بن وُهيب:

وبَدَا الصَّباحُ كأنّ غُرَّتَهُ

 

وَجْهُ الخليفةِ حِين يُمتدَحُ

 

فهذا على أنه جعل وَجْه الخليفة كأنه أعرفُ وأشهرُ وأتمُّ وأكملُ في النور والضياء من الصَّباح، فاستقام له بحكم هذه النِّيَّة أن يجعل الصباحَ فرعاً، ووجهَ الخليفة أصلاَ. واعلم أن هذه الدعوى وإن كنت تراها تُشبه قولَهم لا يُدرَى أوَجْهُه أَنورُ أم الصُّبح، وغُرَّته أضوأُ أم البدر، وقولَهم إذا أفرطوا نور الصباح يَخْفَى في ضوء وجهه، أو نور الشمس مسروقٌ من جبينه، وما جرى في هذا الأسلوب من وُجوه الإغراق والمبالغة فإن في الطريقةِ الأولى خِلاَبةً وشيئاً من السحر، وهو أنه كأنه يستكثِر للصَّباح أن يُشَبَّه بوجه الخليفة، ويوهم أنه قد احتشَد له، واجتهد في طلب تشبيه يُفخِّمُ به أمره، وجِهَتُه الساحرة أنه يُوقع المبالغةَ في نفسك من حيث لا تشعر، ويُفيدُكَهَا من غير أن يظهر ادِّعاؤه لها، لأنه وضع كلامَه وَضْعَ مَنْ يقيس على أصل متَّفَقٍ عليه، ويُزَجِّي الخبر عن أمرٍ مسلَّم لا حاجة فيه إلى دعوى ولا إشفاقَ من خلاف مخالفٍ وإنكار منكرٍ، وتجهُّمِ معترضٍ، وتهكُّم قائِلٍ: لِمَ?، ومن أين لك ذلك?، والمعاني إذا وردت على النَّفس هذا الموردَ، كان لها ضربٌ من السُّرور خاصٌّ وحَدَث بها من الفَرح عجيبٌ، فكانت كالنعمةِ لم تُكدرها المِنَّة، والصَّنيعةِ لم يُنَغِّصها اعتداد المُصْطَنِع لها، وفي هذا الموضع شبيهٌ بالنكتة التي ذكرتها في التجنيس، لأنك في الموضعين تنال الربحَ في صورة رأس المال، وترى الفائدة قد ملأت يدك من حيث حَسِبْتَها قد جازتْك وأخلَتْك، وتَجِد على الجملة الوجودَ من حيث توهمَّت العدمَ، ولطيفةٌ أخرى، وهو أن من شأن المدح إذا ورد على العاقل أن يَقِفَه بين أمرين يصعب الجمع بينهما وتوفية حقَّهما: معرفةِ حقّ المادحِ على ما احتشد له من تزيينه، وقصِده من تفخيم شأنه في عيون الناس بالإصغاء إليه والارتياح له، والدِّلالة بالبشر والطلاقة على حُسن موقعه عنده ومَلْكِ النفس حتى لا يغلبها السرور عليه، ويخرج بها إلى العُجْب المذموم وإلى أن يقول: أنا، فيقعَ في ضَعَة الكِبْر من حيث لا يشعُر، ويَظهر عليه من أَمارته ما يُذَمُّ لأجله ويُحَقَّر، فما كُبر أحد في نفسه إلاّ غان الكِبْرُ عَلى عقله، وفَسخَ عُقْدةً من حلمه، وهذا موقفٌ تزلُّ فيه الأقدام، بل تخِفَّ عندهُ الحلوم، حتى لا يسلم من خُدَع النفس هناك إلا أَفرادُ الرجال، وإلا مَنْ أدام التوفيقُ صُحْبتَه، ومن أين ذلك وأنَّى فإذا كان المدح على صورة قوله وجه الخليفة حين يمتدح، خَفَّ عنه الشطرُ من تكاليف هذه الخصلة، وإذ قد تبيّن كيف يكون جعلُ الَفرْع أصلاً، والأصْلِ فرعاً فالتشبيه الصريح، فارجعْ إلى التمثيل، وانظر هل تجيء فيه هذه الطريقة على هذه السَّعة والقوة? ثم تأمَّل ما حُمل من التمثيل عليها كيف حكمه وهل هو مُسَاوٍ لما رأيتَ في التشبيه الصريح، وحاذٍ حَذوَه على التحقيق، أم الحال على خلاف ذلك، والمثال فيما جاد من التمثيل مردوداً فيه الفرعُ إلى موضع الأصل، والأصل إلى محلِّ الفرع، قوله:

وكأنّ النُّجومَ بين دُجَاه

 

سُنَنٌ لاحَ بَيْنَهنَّ ابتداعُ

 

وذلك أن تشبيه السُّنن بالنجوم، تمثيلٌ، والشبه عقليٌّ، وكذلك تشبيه خِلافِها من البِدْعة والضلالةِ بالظُّلمة، ثم إنه عكس فشبّه النجم بالسُّنن، كما يُفعَل فيما مضى من المشاهدات، إلا أنَّا نعلم أنه لا يجري مَجْرَى قولنا كأن النجوم مصابيح تارةً وكأن المصابيح نجوم أخرى، ولا مجرى قولك: كأنّ السيوف بُروق تَنْعَقّ، وكأنّ البروق سيوف تُسلُّ من أغمادها فَتَبْرُق، ونظائر ذلك مما مضى، وذلك أن الوصف هناك لا يختلف من حيث الجنس والحقيقة، وتجدُه العينُ في الموضعين، وليس هو في هذا مشاهداً محسوساً، وفي الآخر معقولاً متصوَّراً بالقلب ممتنعاً فيه الإحساس، فأنت تجد في السيوف لَمَعَاناً على هيئة مخصوصة من الاستطالة وسرعة الحركة، تجده بعينه أو قريباً منه في البُروق، وكذلك تجد في المَدَاهن من الدُرّ حَشْوُهن عَقيقُ، من الشكل واللون والصورة ما تجده في النرجس، حتى يُتصوَّر أن يشتبه الحال في الشيء من ذلك، فيُظَنّ أن أحدَهما الآخرُ فلو أن رجلاً رأى من بعيد بريقَ سيوف تُنْتضَى من الغُمود، لم يَبْعُد أن يغلَطَ فيحسب أن بروقاً انعقَّت، وما لم يقع فيه الغلط كان حاله قريباً مما يجوز وقوع الغلط فيه، ومحالٌ أن يكون الأمر كذلك في التمثيل، لأن السُنَن ليست بشيء يتراءَى في العين فيشتبهَ بالنجوم، ولا ههنا وصفٌ من الأوْصاف المشاهَدة يجمع السنن والنجوم، وإنّما يُقصد بالتشبيه في هذا الضرب ما تقدّم من الأحكام المتأوَّلة من طريق المقتضَى، فلمَّا كانت الضلالة والبدعة وكل ما هو جهلٌ، تجعل صاحبَها في حكم من يمشي في الظُّلمة فلا يهتدي إلى الطريق، ولا يفصل الشيءَ من غيره حتى يتردَّى في مَهْواةٍ، ويعثُرَ على عدوّ قاتلٍ وآفةٍ مهلكة، لَزِم من ذلك أن تُشبَّه بالظلمة، ولزم على عكس ذلك أن تشبَّه السُّنَّةُ والهُدَى والشريعةُ وكلُّ ما هو عِلْمٌ بالنُّور. وإذا كان الأمر كذلك، علمتَ أن طريقة العكس لا تجيء في التمثيل على حدّها في التشبيه الصريح، وأنها إذا سُلِكَت فيه كان مبنيّاً على ضرب من التأوّل والتخيُّل يخرج عن الظاهر خروجاً ظاهراً، ويبعُدُ عنه بُعداً شديداً. فالتأويل في البيت أنه لما شاع وتُعُورف وشُهِر وصفُ السُنّة ونحوها بالبياض والإشراق، والبِدعة بخلاف ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتيتكم بالحنيفيّة البَيْضَاء ليلُها كنهارِها"، وقيل هذه حُجَّة بيضاء، وقيل للشبهة وكل ما ليس بحق إنه مُظْلم، وقيل سواد الكفر، و وظلمة الجهل، يُخيَّل أن السنن كلها جنسٌ من الأجناس التي لها إشراقٌ ونورٌ وابْيِضاض في العين، وأن البدعة نوع من الأنواع التي لها فَضْلُ اختصاصٍ بسواد اللون، فصار تشبيهه النُّجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع، على قياس تشبيههم النجوم في الظلام ببياض الشيب في سواد الشباب، أو بالأنوار وائتلاقها بين النَّبات الشديد الخضرة، فهذا كلَّه هاهنا، كأنه ينظر إلى طريقة قوله: "وبَدا الصباح كأنّ غُرّته" في بناء التشبيه على تأويل هو غير الظاهر، إلا أنّ التأويل هناك أنه جعل في وجه الخليفة زيادةً من النور والضياء يبلغُ بها حالَ الصباح أو يزيد والتأويل هاهنا أنه خَيَّل ما ليس بمتلوِّن كأنه متلوِّن، ثم بنى على ذلك. ومن هذا الباب قول الآخر:

ولقد ذكرتُكِ والظَّلامُ كـأنـه

 

يَومُ النَّوَى وفُؤَادُ من لم يعشَقِ

 

لما كانت الأوقات التي تحدث فيها المكارهُ توصف بالسواد فيقال اسوَدَّ النهار في عيني، وأظْلمت الدنيَا عليَّ، جعل يوم النوى كأنه أعرفُ وأشهر بالسواد من الظلام، فشبَّه به، ثم عطف عليه فؤاد من لم يعشق، تظرُّفاً وإتماماً للصنعة، وذلك أن الغَزِل يدَّعي القَسْوة على من لم يعرف العشقَ، والقلبُ القاسي يُوصف بشدّةِ السواد، فصار هذا القلب عنده أصلاً في الكُدرة والسواد فقاس عليه، وعلى ذلك قول العامّة ليلٌ كقلب المنافق أو الكافر، إلا أنّ في هذا شَوْباً من الحقيقة، من حيث يُتصوَّر في القلب أصل السواد، ثم يُدَّعَى الإفراط، ولا يُدَّعى في البدعة نفسُ السواد، لأنها ليس مما يتلوّن، لأن اللون من صفات الجسم، فالذي يساويه في الشبه المساواةَ التامّة قولهم أظلمُ من الكفر، كما قال ابن العميد في كتاب يُدَاعبُ فيه، ويُظهر التظلّم من هلال الصوم ويدعو على القمر فقال "وأرغب إلى اللهَ تعالى في أن يقرِّب على القمر دَوْرَه، وينقص مسافة فَلَكه"، ثم قال بعد فصل "ويُسمعني النُّعرة في قَفَا شهر رمضان، ويعرض عليَّ هلاله أخفى من السحر وأظلم من الكفر".
وإن تأوّلت في قوله: "سُنَنٌ لاح بينهنَّ ابتداعُ" أنه أراد معنى قولهم إن سوادَ الظلام يزيد النجوم حُسناً وبهاءً، كان له مذهبٌ، وذلك أنه لما كان وقوفُ العاقل على بطلان الباطل، واطّلاعُه على عَوَار البدعة، وخَرْقُه الستر عن فضيحة الشُّبهة، يزيد الحق نُبلاً في نفسه، وحُسناً في مرآة عقله، جعل هذا الأصل من المعقول مثالاً للمُشاهدَ المُبصَرِ هناك، إلا أنه على ذلك لا يخرج من أن يكون خارجاً عن الظاهر، لأن الظاهر أَن يُمثَّل المعقولُ في ذلك بالمحسوس، كما فعل البحتري في قوله:

وقد زَادَها إِفراطُ حُسنٍ جِوارُها

 

خلائقَ أصْفارٍ من المجد خُيَّبِ

وحُسْنُ دراريّ النجوم بأن تُرَى

 

طوالعَ في داجٍ من اللَّيل غَيْهَبِ

 

فبكَ مع هذا الوجه حاجةٌ إلى مثل مَا مَضى من تنزيل السُّنّة والبدعة منزلَة ما يَقْبَل اللون، ويكون له في رَأْيِ العين مَنظرُ المُشرِق المتبسّم، والأسْودِ الأَقتم، حتى يُرَاد أنّ لَوْنَ هذا يزيد في بريق ذاك وبهائه وحسنه وجماله، وفي القطعة التي هذا البيت منها غيرُها مما مَذْهبُه المذهب الأول، وهو:

رُبَّ لَيْلٍ قَطعتُه كـصُـدُودٍ

 

أو فراقٍ مَا كَان فـيه وَداعُ

مُوحشٍ كالثَّقيل تقذَى به العي

 

نُ وتَأبَى حَدِيثَهُ الأسـمـاعُ

 

وكأنّ النجومَ البيت، وبعده:

مُشرِقاتٌ كأنَّـهـنَّ حِـجـاجٌ

 

يَقْطَع الخَصْمَ والظَّلامَ انقطاعُ

 

ومما حقُّه أن يُعَدَّ في هذا الباب قولُ القائل:

كأنَّ انتضاءَ البَدْرِ من تحت غَيْمةٍ

 

نَجَاءٌ من البأساءِ بعـد وُقـوعِ

 

وذلك أن العادة أن يُشبَّه المتخلص من البأساء بالبدرِ الذي ينحسر عنه الغمام، والشَّبه بين البأساء والغمام والظلماء من طريق العقل، لا من طريق الحسّ. وأوضح منه في هذا قول ابن طباطبا:

صَحوٌ وغَيْمٌ وضِياءٌ وظُـلَـمْ

 

مثل سُرورٍ شابَه عارضُ غَمّ

 

ومن جيّد ما يقَع في هذا الباب قولُ التنوخيّ في قطعة، وهي قوله:

أما ترى البردَ قد وَافَت عساكـرُه

 

وعسكرُ الحرِّ كيف انصاعَ مُنْطلقَا

فالأرضُ تحت ضَرِيب الثلج تَحْسِبُها

 

قد أُلبست حُبُكاً أو غُشِّـيت وَرِقَـا

فانهضْ بنارٍ إلى فحْمٍ كأنـهـمـا

 

في العين ظُلْمٌ وإنصافٌ قد اتَّفقَـا

جاءت ونحن كقلب الصَّبِّ حين سلا

 

برداً فصِرْنَا كقلب الصبّ إذْ عَشِقَا

 

المقصود فانهض بنار إلى فحم، فإنه لما كان في الحق: إنّه منير واضح لائح، فتستعار له أوصاف الأجسام المنيرة، وفي الظلم خلافُ ذلك، تخيّلَهُما شيئين لهما ابيضاضٌ واسودادٌ،و وإنارةٌ وإظلامٌ، فشبّه النَّارَ والفحم بهما. ومن الباب قول ابن بابك:

وأرضٍ كأَخلاق الكريم قَطَعْتُها

 

وقد كَحَلَ الليلُ السِّماكَ فأَبصَرا

 

لما كانت الأخلاق توصف بالسعة والضيق، وكثر ذلك واستمرّ، تَوهَّمه حقيقةً، فقابَلَ بين سعة الأرض التي هي سعة حقيقية وأخلاق الكريم. ومثله قول أبي طالب المأموني:

وفَلا كآمالٍ يَضِيقُ بها الفَتَى

 

لاَ تصْدُقُ الأوهامُ فيها قِيلا

أَقريتُها بشِمِلَّةٍ تَقْرِى الفـلا

 

عَنَقاً وتَقْرِيها الفلاةُ نُحولاَ

 

قاسَ الفلا في السعة وهي حقيقة فيها، على الآمال، وهي إذا وُصفت بالسعة كان مجازاً بلا شبهة، ولكن لما كان يقال آمالٌ طِوالٍ ووآمالٌ لا نهاية لها وواتسعت آماله، وأشباه ذلك، صارت هذه الأوصاف كأنها موجودةٌ فيها من طريق الحسّ والعيان. وعلى ذكر الأمل، فمن لطيف ما جاء في التشبيه به على هذا الحدّ، إن لم يكن في معنى السعة والامتداد، ولكن في الظُّلمة والاسوداد، قول ابن طباطبا:

رُبّ ليلٍ كَأنَّه أَمَـلـي فِـي

 

كَ وقد رُحْتُ عنك بالحِرمانِ

جُبْتُه والنُّجوم تَنْعسُ في الأُفْ

 

قِ ويَطرِفْنَ كالعيون الرَّواني

هارباً من ظلام فِعلك بي نح

 

وَ ضياءِ الفَتَى الأغرّ الهِجانِ

 

لما كان يقال في الأمر لا يُرجَى له نجاح قد أظلم علينا هذا الأمر، وهذا أمر فيه ظلمة، ثم أراد أن يبالغ في التباس وجه النُّجح عليه في أمله، تخيَّل كأنّ أمله شخصٌ شديد السواد فقاس ليله به، كأنه يقول تفكّرتُ فيما أعلمه من الأشياء السود، فرأيتُ صورةَ أَمَلي فيك زائدةً على جميعها في شدّة السَّواد، فجعلته قياساً في ظلمة ليلي الذي جُبْته. ومن الباب وهو حَسَنٌ، قولُ ابن المعتز:

لاَ تَخْلِطوا الدُّوشابَ في قَدَحٍ

 

بصَفَاءِ ماءٍ طيّبِ الـبَـرْدِ

لا تجمعُوا بِاللَّـه ويَحْـكُـم

 

غِلَظَ الوَعيدِ ورِقّةَ الوَعْـدِ

 

لما كان يقال أغلظ له القول، ويوصف الجافي وكل من أَساء وقال ما يُكْرَهُ بالغِلَظ، ويوصَف كلامُ المحسن ومن يَعْمِد إلى الجميل باللطافة، جَعَل الوَعيد والوعد أصلاً في الصفتين، وقاس عليهما. فأما قول الآخر:

شَرِبْتُ على سَلامةِ أفْتكينِ

 

شَراباً صَفْوُه صَفْوُ اليقينِ

 

فهو على الحقيقة لا يدخل في تشبيه الحقيقة بالمجاز، لأن الصفاء خُلوص الشيء وخلوّه من شيء يغيّره عن صفته، إلا أنه من حيث يقع في الأكثر لِمَا له بَرِيقٌ وبَصِيصٌ، كان كأنه حقيقةٌ في المحسوسات، ومجازٌ في المعقولات. وأما قولهم هواءٌ أرقُّ من تشاكي الأحباب، فمن الباب، لأن الرقّة في الهواء حقيقة وفي التشاكي مجاز، وهكذا قول أبي نواس في خلاعته: "حَتَّى هِيَ في رِقّة دِينِي" لأن الرقَّة من صفات الأجسام، فهي في الدِّين مجاز: ومما كأنه يدخل في هذا الجنس قولُ المتنبي:

يترشَّفْنَ من فَمِي رَشَفاتٍ

 

هُنَّ فيهِ أَحْلَى من التَّوحيدِ

 

والنفس تنبو عن زيادة القولِ عليه، وقد اقتدى به بعض المتأخرين في هذه الإساءة فقال:

سواد صُدْغَين من كفرٍ يُقابله

 

بياض خدَّين من عَدْلٍ وتوحيدِ

 

وأبعدُ ما يكون الشاعر من التوفيق، إذا دعته شهوة الإغراب إلى أن يستعير للهزل والعَبث من الجِدِّ، ويتغزل بهذا الجنس. ومما هو حسنٌ جميل من هذا الباب، قول الصاحب كَتَبَ به إلى القاضي أبي الحسن رُوي عن القاضي أنه قال انصرفت عن دار الصاحب قُبيل العيد، فجاءني رسوله بعطر الفطر، ومعه رُقْعة فيها هذان البيتان:

يَا أيُّها القاضي الذي نفسى لَهُ

 

مَعَ قُرْب عهد لِقائه مُشتاقَهْ

أهديتُ عِطراً مثلَ طِيب ثَنائه

 

فكأنما أُهدِي له أَخـلاقَـهْ

 

وكَوْنُ هذا التشبيه مما نحن فيه من أوضح ما يكون، فليس بخافٍ أنَّ العادة أن يشبَّه الثَّناء بالعطر ونحوه ويُشتقّ منه، وقد عَكَس كما ترى، وذلك على ادِّعاء أن ثناءه أحقُّ بصفة العطر وطيبه من العطر وأخصُّ به، وأنه قد صار أصلاً حتى إذا قيس نوعٌ من العطر عليه، فقد بُولغ في صفته بالطيب، وجُعِل له في الشرف والفضل على جنسه أوفرُ نصيب، إذ قد عرفتَ الطريقة في جعل الرفع أصلاً في التمثيل فارجع وقابلْ بينه وبين التشبيه الظاهر، تَعْلَمْ أن حاله في الحقيقة مخالفةٌ للحال ثَمَّ، وذلك أنك لا تحتاج في تشبيه البرق بالسيوف والسيوف بالبرق إلى تأويل أكثر من أنَّ العين تؤدّي إليك من حيث الشكل واللون وكيفية اللمعان، صورةً خاصّةً تجدها في كل واحد من الشيئين على الحقيقة، ولا يُمكننا أن نقول إن الثريا شُبّهت باللجام المفضَّض، وبعنقود الكرم المنوّر، وبالوشاح المفصَّل، لتأويل كذا، بل ليس بأكثر من أنّ أَنْجُم الثريا لونها لون الفِضَّة، ثم إن أجْرَامها في الصِغَر قريبة من تلك الأطراف المركَّبة على سُيُور اللِّجام، ثم إنها في الاجتماع والافتراق، على مقدارٍ قريبٍ من مواقع تلك الأطراف وكذا القول في: العنقود، فإن تلك الأنوار مشاكلةٌ لها في البياض، وفي أنها ليست متضامّة تضامَّ التلاصق، ولا هي شديدة التباين، حتى يبعد الفصل بين بعضها وبعض بل مقاديرها في القرب والبعد على صفةٍ قريبةٍ مما يتراءى في العين من مواقع تلك الأنجم. وإذا كان مَدارُ الأمر على أن العين تصف من هذا ما تصف من ذاك، لم يكن تشبيه اللجام المفضّض بالثريا إلا كتشبيه الثريا به، والحكم على أحدهما بأنه فرغٌ أو أصلٌ، يتعلق بقصد المتكلم، فما بدأ به في الذكر فقد جعله فرعاً وجعل الآخر أصلاً، وليس كذلك قولنا له خُلق كالمسك، وهو في دُنوّه بعطائه، وبُعده بعزّه وعلائه، كالبدر في ارتفاعه، مع نزول شُعاعه، لأن كون الخُلق فرعاً والمِسك أصلاً، أمرٌ واجب من حيث كان المعلوم من طريق الإحساس والعيان متقدماً على المعلوم من طريق الروِيَّة وهاجس الفكر. وحُكْم هذا في أنّ الفرع لا يخرج عن كونه فَرْعاً على الحقيقة، حكمُ ما طريق التشبيه فيه المبالغةُ من المشاهدات والمحسوسات، كقولك هو كحنك الغراب في السواد، لما هو دونه فيه، وقولك في الشيء من الفواكه مثلاً هو كالعسل، فكما لا يصحّ أن يُعْكَس فيُشبَّه حَنَك الغراب بما هودونه في السواد، والعسلُ بما لا يساويه في صِدق الحلاوة، كذلك لا يصحّ أن تقول هذا مسك كخُلق فلان، إلاّ على ما قدّمت من التخييل، ألا ترى أنه كلامٌ لا يقوله إلاّ مَن يُريد مَدْحَ المذكور؛ فأمَّا أن يكون القصدُ بيان حال المِسْك، على حدِّ قَصْدِك أن تبيّن حالَ الشيء المشبَّه بحنك الغراب في السواد والمشبَّهِ بالعسل في الحلاوة، فما لا يكون، كيف ولولا سَبْقُ المعرفة من طريق الحسّ بحال المسك، ثم جريان العُرف بما جرى من تشبيه الأخلاق به، واستعارةِ الطِّيب لها منه، لم يُتصوَّر هذا الذي تريد تخييله من أنّا نبالغ في وصف المسك بالطيب بتشبيهنا له بخُلق الممدوح، وعلى ذلك قولهم كأنما سرق المسكُ عَرْفَهُ من خلُقك، والعسلُ حلاوتَه من لفظك، هو مبنيٌّ على العُرف السابق، من تشبيه الخُلق بالمسك واللفظ بالعسل، ولو لم يتقدم ذلك ولم يُتعارف ولم يستقرّ في العادات، لم يُعقَل لهذا النحو من الكلام معنًى، لأنّ كل مبالغة ومجاز فلا بدّ من أن يكون له استنادٌ إلى حقيقة. وإذا ثبتت هذه الفروق والمقابلات بين التشبيه الصريح الواقع في العيان وما يُدركه الحسّ، وبين التمثيل الذي هو تشبيهٌ من طريق العقل والمقاييسِ التي تجمع بين الشيئين في حكمٍ تقتضيه الصِّفةُ المحسوسة لا في نفس الصفة كما بيّنتُ لك في أول قولٍ ابتدأتُه في الفرق بين التشبيه الصريح وبين التمثيل، من أنك تشبّه اللَّفظ بالعَسل على أنك تجمع بينهما في حكمٍ توجبه الحلاوةُ دون الحلاوة نفسها. فهاهنا لطيفةٌ أخرى تعطيك للتمثيل مَثَلاً من طريق المشاهدة، وذلك أنك بالتمثيل في حكم مَن يرى صورةً واحدةً، إلاّ أنه يراها تارة في المرآة، وتارة على ظاهر الأمر، وأما في التشبيه الصريح، فإنك ترى صورتين على الحقيقة، يبيّن ذلك أنّا لو فرضنا أن تزول عن أوهامنا ونفوسنا صُوَرُ الأجسام من القرب والبعد وغيرهما من الأوصاف الخاصةبالأشياءِ المحسوسة، لم يمكنّا تخيّلُ شيءٍ من تلك الأوصاف في الأشياء المعقولة، فلا يُتصوَّر مَعنَى كونِ الرجل بعيداً من حيث العزّة والسلطان، قريباً من حيث الجُود والإحسان، حتى يخطر ببالك وتطمح بفكرك إلى صورة البدر وبُعد جِرْمه عنك، وقُرب نوره منك، وليس كذلك الحال في الشيئين يُشبه أحدهما الآخر من جهة اللون والصورة والقدر، فإنك لا تفتقر في معرفة كونِ النَّرجس وخَرْطه واستدارته وتوسُّط أحمره لأبيضه إلى تشبيهه بمَدَاهن عقيق، كيف وهو شيء تعرضه عليك العينُ، وتضعه في قلبك المشاهدة، وإنما يزيدك التشبيهُ صورةً ثانيةً مثل هذه التي معك، ويجتلبها لك من مكان بعيد حتى تراهما معاً وتجدهما جميعاً، وأما في الأول، فإنك لا تجد في الفَرْع نفس ما في الأصل من الصفة وجنسه وحقيقته، ولا يُحضِرك التمثيلُ أوصافَ الأصل على التعيين والتحقيق، وإنما يُخيّل إليك أنه يحضرك ذلك، فإنه يُعطيك من الممدوح بدراً ثانياً، فصار وِزانُ ذلك وزانَ أن المرآة تُخيّل إليك أنّ فيها شخصاً ثانياً صورتُه صورة ما هي مقابِلةٌ له، ومتى ارتفعت المقابلة، ذهب عنك ما كنت تتخيّله، فلا تجد إلى وجوده سبيلاً، ولا تستطيع له تحصيلاً، لا جملةً ولا تفصيلاً.اءِ المحسوسة، لم يمكنّا تخيّلُ شيءٍ من تلك الأوصاف في الأشياء المعقولة، فلا يُتصوَّر مَعنَى كونِ الرجل بعيداً من حيث العزّة والسلطان، قريباً من حيث الجُود والإحسان، حتى يخطر ببالك وتطمح بفكرك إلى صورة البدر وبُعد جِرْمه عنك، وقُرب نوره منك، وليس كذلك الحال في الشيئين يُشبه أحدهما الآخر من جهة اللون والصورة والقدر، فإنك لا تفتقر في معرفة كونِ النَّرجس وخَرْطه واستدارته وتوسُّط أحمره لأبيضه إلى تشبيهه بمَدَاهن عقيق، كيف وهو شيء تعرضه عليك العينُ، وتضعه في قلبك المشاهدة، وإنما يزيدك التشبيهُ صورةً ثانيةً مثل هذه التي معك، ويجتلبها لك من مكان بعيد حتى تراهما معاً وتجدهما جميعاً، وأما في الأول، فإنك لا تجد في الفَرْع نفس ما في الأصل من الصفة وجنسه وحقيقته، ولا يُحضِرك التمثيلُ أوصافَ الأصل على التعيين والتحقيق، وإنما يُخيّل إليك أنه يحضرك ذلك، فإنه يُعطيك من الممدوح بدراً ثانياً، فصار وِزانُ ذلك وزانَ أن المرآة تُخيّل إليك أنّ فيها شخصاً ثانياً صورتُه صورة ما هي مقابِلةٌ له، ومتى ارتفعت المقابلة، ذهب عنك ما كنت تتخيّله، فلا تجد إلى وجوده سبيلاً، ولا تستطيع له تحصيلاً، لا جملةً ولا تفصيلاً.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.