المهمات التنمويـة للدولة والتحكم بالسوق بالسياسة الصناعيـة (صعـود دور الدولـة) |
2351
10:46 صباحاً
التاريخ: 3-9-2021
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 21/12/2022
1213
التاريخ: 5-7-2021
1647
التاريخ: 22-1-2023
964
التاريخ: 2-8-2021
2792
|
الفص الثامـن
المهمات التنمويـة للدولة والتحكم بالسوق بالسياسة الصناعيـة (1)
انتهت الدراسة التقويمية لتجربة الخصخصة في الأردن إلى توصيات لصانع السياسة الاقتصادية أبرزها أن إجراءات الخصخصة ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لتحقيق غاية أو غايات تنشدها السياسة الاقتصادية. ولم تتطرق اللجنة إلى توضيح طبيعة الغايات التي تصلح الخصخصة وسيلة لبلوغها. لذلك، من المفيد استعادة ما أفادت به تجارب الخصخصة التي سبق عرضها في الفصول السابقة .
أولاً: صعود دور الدولة
سبقت الإشارة في الفصل الثالث من هذا الكتاب إلى أن العقود الأولى من القرن العشرين شهدت صعوداً كبيراً لدور الدولة في إدارة الاقتصاد، بما في ذلك السيطرة الواسعة على المنشآت الإنتاجية من خلال مبادرة الدولة إلى الاستثمار في تأسيس هذه المنشآت او تأمیم ما كان القطاع الخاص قد بادر إلى الاستثمار فيه. تعاقبت عبر العقود المتوسطة من القرن العشرين ثلاث موجات من انحياز السياسة الاقتصادية إلى أولوية دور الدولة في النشاط الاقتصادي: تمثل أول هذه الموجات في ردات الفعل على سقوط الاقتصاد العالمي في هوة "الكساد العظيم" في عام 1929. حينها، شهد الكثير من البلدان الأوروبية عمليات تأميم واسعة، طاولت المنشآت الإنتاجية، خصوصاً في القطاع الصناعي. أما الموجة الثانية فانطلقت بعد الحرب العالمية الثانية، حين شهدت أوروبا من جديد حركة تأميم واسعة في إطار إعمار ما خربته الحرب. وحدثت الموجة الثالثة من توسع الدور الاقتصادي للدولة في اوروبا في أعقاب الصدمة النفطية بين منتصف سبعينيات القرن الماضي ومنتصف ثمانينياته، حين عمدت الحكومات الأوروبية إلى سياسة التأميم وسيلة للاستقرار الاقتصادي ورفع معدلات العمالة وإنقاذ المنشآت المهددة بالانهيار.
استمرت السياسة الاقتصادية في الدول المتقدمة تعطي دوراً واسعاً للقطاع العام في إدارة الاقتصاد حتى بداية ثمانينيات القرن الماضي حين اصطدمت بمتطلبات "العولمة" وقوامها التنافس في الأسواق الدولية، وما يقتضيه هذا التنافس من إتاحة حرية الحركة للقطاع الخاص .
على الرغم من أن النشاط الإنتاجي الواسع للقطاع العام ساهم بفاعلية في الاستقرار الاقتصادي وفي التخفيف من المضاعفات الاجتماعية السلبية التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، وفي إنجاز التكيف مع عملية إعادة الإعمار بسهولة ويسر، فإن عبء المعونات الاجتماعية التي أدمجت في أسعار متوجات المنشآت العامة انعكس سلباً على إنتاجية تلك المنشآت وكفاءتها وقدرتها على المنافسة، وأصبحت معالجة مشكلة الدعم الحكومي المتصاعد، وما تمخض عنه من مظاهر نقص الكفاءة في المنشآت العامة، على رأس أولويات السياسة الاقتصادية لمعظم البلدان الأوروبية. وشكّل هذا الدافع الأكبر لانبثاق سياسات الخصخصة، واشتداد زخمها في بداية تسعينيات القرن الماضي، وبالذات بعد معاهدة ماستريخت في الاتحاد الأوروبي في عام 1991. حينئذ، ارتؤي أن إعادة الهيكلة للمنشآت الإنتاجية الحكومية وخصخصتها إحدى ضرورات التحديث الاقتصادي، فضلاً عن فائدتها في تحقيق عوائد للخزينة العامة تُغنيها عن زيادة العبء الضريبي وتحمل التكاليف السياسية لهذا الإجراء.
أما في البلدان خارج أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، فشهدت العقود منذ الحرب العالمية الأولى الثورات الاشتراكية وتبني مناهج التخطيط الاقتصادي المركزي في دول أوروبا الشرقية وفي الصين. كما شهدت الحقبة منذ الحرب العالمية الثانية نشأة المجموعة الكبيرة من الدول الأقل نمواً في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية التي عرفت بدول العالم الثالث، ومعظمها من الدول التي استقلت على التوالي بعد انهيار الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية وتفكك النظام الكولونيالي في العالم.
وقعت السياسة الاقتصادية في دول العالم الثالث حديثة الاستقلال خلال العقود المتوسطة من القرن الماضي تحت سطوة أفكار ضعيفة الثقة باقتصاد السوق، منها ما أتى متأثراً بالأفكار الاشتراكية والنجاح الابتدائي الظاهر لاقتصادات التخطيط المركزي، ومنها ما أتى مع الفكر الاقتصادي الذي بات يعرف ب "اقتصادات التنمية"، والذي استهدف تحقيق معدلات متفرقة من النمو الاقتصادي تضمن اللحاق بمستويات المعيشة السائدة في الدول الصناعية المتقدمة، وبادر عدد من روّاد اقتصادات التنمية إلى دعوة البلدان الأقل نمواً إلى سياسات اقتصادية تقوم على محاكاة الثورات الصناعية التي ارتكز عليها تقدم البلدان الصناعية، وإلى تبني سياسات تتضمن دعم الصناعات الوطنية الناشئة بالحماية الجمركية لتمكينها من استبدال المستوردات، كما تتضمن مبادرة الدولة إلى تأسيس صناعات قائدة وحافزة لمضاعفة النشاط الإنتاجي .
ما حدث هو أن عدداً محدوداً من البلدان الأقل نموا نجح في الوصول إلى عتبة "الإقلاع" نحو المسار الصاعد للتنمية المستدامة ، وبالذات الدول الشرق - آسيوية التي عرفت بـ "الاقتصادات ذات الأداء العالي" High Performing Economies (HPEs)، في حين بقي عدد من بلدان العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية في أسر الحلقة الجهنمية للتخلف ، بل وجنح عدد منهم إلى التورط في سياسات مالية غير منضبطة، قائمة على محاولة التعايش مع مستويات من الإنفاق الحكومي تزيد كثيراً على الإيرادات العامة، وإلى تغطية العجز الناشئ في المالية العامة بالاستدانة، ولا سيما من أسواق المال الخارجية.
مع استفحال مشكلة المديونية في البلدان المتورطة، تكرر لجوء هذه البلدان إلى المؤسسات المالية الدولية في واشنطن (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) لطلب المساعدة. وسرعان ما تبلورت لدى هاتين المؤسستين الدوليتين سياسية معيارية لمعالجة مشكلة العجز المالي والمديونية في أي دولة تطلب المساعدة، وتضامنت وزارة الخزانة الأميركية مع هذه السياسة التي اصطلح على تسميتها "توافق واشنطن". وكان أول من صاغ هذا المصطلح الباحث الاقتصادي جون وليامسون في عام 1989 في ورقة بحثية بعنوان «ماذا تعني واشنطن بالإصلاح الاقتصادي؟»، ضمّنها عشر أدوات لإصلاح السياسة الاقتصادية في بلدان العالم الثالث التي تعثر فيها النمو الاقتصادي وغرقت في المديونية، ولا سيما بلدان أميركا اللاتينية(2). وكانت «الخصخصة»، بمعنى تحويل ملكية و/ أو إدارة المنشآت العامة إلى القطاع الخاص، واحدة من هذه الأدوات التي ركزت على الترويج لها مؤسسات واشنطن المذكورة، على الرغم من أن وليامسون نفسه حذر من إساءة استخدام سياسة الخصخصة، ومن انزلاقها إلى "عملية شديدة الفساد تنتهي بتحويل أصول الثروة العامة إلى نخبة من الخواص أصحاب الامتيازات، في مقابل جزء بسيط من القيمة الحقيقية لهذه الأصول"، مشيرا إلى ضرورة الحرص على أن تنشط المنشآت المخصخصة في أسواق تنافسية أو أن تخضع إلى أنظمة من الرقابة الدقيقة (3).
بحسب ولیامسون، كان «توافق واشنطن» ردة فعل على الدور القيادي الذي أعطي للدولة في الحقبة السابقة، فأناط بها المبادرة بعملية التصنيع واستبدال المستوردات، ففي هذا الشأن صرّح "توافق واشنطن" أن هذه الحقبة انتهت، واستبدلت بثلاث أفكار رئيسة: اقتصاد السوق، الانفتاح على العالم، الانضباط في سياسة الاقتصاد الكلي (الماكرو)(4).
في السنوات اللاحقة منذ عام 1990، جنحت توجهات مؤسسات "توافق واشنطن" ، إلى التطرف نحو "أصولية اقتصاد السوق"، التي ترى أن قوى السوق كفيلة بحل معظم المشكلات الاقتصادية التي تعانيها البلدان المأزومة، إن لم تكن كلها، وهي توجهات حرص الاقتصادي جون وليامسون على النأي بنفسه عنها. وما حدث هو أن البلدان التي اتّبعت سياسات "توافق واشنطن"، لم تحقق إلا نتائج متواضعة على صعيد النمو الاقتصادي. ففي بلدان أميركا اللاتينية، على سبيل المثال، كان المتوسط العام لمعدلات النمو الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي نصف متوسط معدلات النمو الاقتصادي في هذه البلدان خلال عقود خمسينيات القرن الماضي وستينياته وسبعينياته التي طُبقت فيها سياسات التصنيع بالإحلال محل المستوردات. وحتى في البلدان القليلة التي بدا أن سياسات "توافق واشنطن" ساهمت في دفع نموها الاقتصادي، نجد هذا النمو مصحوباً بفشل غير قليل في معالجة مشكلات الفقر فيها معالجة ناجعة(5) .
مقارنة مع الأداء التنموي المحدود لبلدان أميركا اللاتينية، حققت بلدان شرق آسیا نجاحات مذهلة باتباعها سياسات مختلفة تماماً عن سياسات "توافق واشنطن"، من حيث أداء الحكومات أدواراً ناشطة للنهوض بصناعات معينة ذات آثار تحفيزية على النشاط الاقتصادي. ففي كوريا الجنوبية مثلاً ، كانت الشركات الحكومية، مثل شركة الحديد والصلب الوطنية، منشآت رائدة لمعايير الكفاءة. وفي حين حرصت حكومات بلدان شرق آسيا على سياسة المحافظة على استقرار الاقتصاد الكلي، وهو ما يتسق مع وصايا «توافق واشنطن»، فإنها لم تستدرج إلى تطبيق الوصايا الأخرى من قبيل التسرع في سياسات تحرير التجارة أو تحرير أسواق رأس المال.
بالتجاوب مع واقع تلك التجارب المقارنة، سجّل الفكر الاقتصادي منذ أواخر التسعينيات ارتداداً متزايداً عن السياسة الاقتصادية التي روج لها "توافق واشنطن"، والتي تتلخص في الإيمان بقوّة حرية السوق والقطاع الخاص في تحريك الاقتصاد وتنميته وإلزام الدولة أو القطاع العام بالتراجع إلى الحدّ الأدنى من التدخل في النشاط الاقتصادي، والنأي بهذا القطاع عن شبهة اللّجوء إلى منهج التخطيط للتنمية، إذ من شأن شبهة كهذه أن تودي بالاقتصاد إلى مصير تعس كالذي حاق بدول الاتحاد السوفياتي السابق وغيرها من دول التخطيط المركزي.
كان أحد روافد ذلك الارتداد للنظرة الفاحصة التي أولاها عدد من الباحثين الاقتصاديين لما عرف " بالأعجوبة التنموية لبلدان شرق آسيا ". وتتلخص استنتاجات هذه النظرة في ملاحظة أن نجاح بلدان شرق آسيا في النمو المتسارع للإنتاج والدخل، والانخفاض الملموس في معدلات البطالة والفقر والأمية، صاحبا في تلك البلدان أداء الحكومة دوراً فاعلاً أكبر كثيرا من الحدود التي كان يتعين الالتزام بها بموجب سياسات "توافق واشنطن"، إذ تجاوزت الحكومة في البلدان المذكورة هذه السياسات التي تنحصر أهدافها في تحقيق الاستقرار في الاقتصاد الكلي ومعالجة ما يعتريه من اختلالات قصيرة الأمد من قبيل ضبط العجز في المالية العامة وضبط معدل تضخم الأسعار وخفض المديونية، إلى سياسات تهدف إلى التنمية المستدامة عن طريق التدخل الحكومي في نشاط السوق والسعي إلى التحكم بالوسائل التي تحقق هذه التنمية، بما في ذلك إنشاء البنى المؤسسية في الاقتصاد وتقويتها أو إعادة تنظيمها بما يؤدي إلى رفع معدلات الادخار وإلى تعديل نمط تخصيص الموارد للأغراض الاستثمارية المختلفة أو تحويره ، بما في ذلك التدخل في نمط تخصيص الموارد حيث يعكس اهتماماً خاصاً بالاستثمار في البنى التحتية ورأس المال الإنساني والتقدّم التكنولوجي.
كانت الدراسة التي أطلقها البنك الدولي في عام 1993 بعنوان " الأعجوبة الشرق آسيوية " علامة الطريق الرئيسة في ذلك الارتداد. قرر البنك الدولي إجراء هذه الدراسة نتيجة إصرار اليابان على أن يولي البنك التجربة التنموية في اليابان ودول أخرى في شرق آسيا عناية أكبر، هذه التجربة التي بدت في ملامحها تناقض مقاربة البنك الدولي للسياسات التنموية وتدحضها، ولا سيما في ثمانينيات القرن الماضي، إبان صعود الأصولية النيوليبرالية.
على سبيل المثال، كانت اليابان تعتمد إخضاع السياسة التمويلية لاستراتيجيا أوسع ضمن ما يُعرف "بالسياسة الصناعية"، مستهدفة في مجال التمويل والاهتمام بصناعات معينة اعتبرت صناعات رائدة للمستقبل، ودعمها بالقروض الميسرة حتى تتغلب على العثرات التي يسببها فشل قوى السوق في توفير الشروط والفرص الضرورية لنجاح هذه الصناعات .
ناقض هذا النمط من السياسة التمويلية بشكل صارخ عقيدة البنك الدولي المعارضة لأي نوع من التمييز الانتقائي في شروط التمويل، بما يخالف قوی العرض والطلب في السوق. واستجاب رئيس البنك الدولي في حينه لرغبة اليابان في دراسة التجربة التنموية لدول شرق آسيا، مطلقاً الدراسة المشار إليها بكلفة 1.2 مليون دولار. سعت هذه الدراسة إلى تحليل نقدي للعوامل التي دفعت الأداء الاقتصادي في عدد من بلدان شرق آسيا نحو تحقيق وتائر نمو عالية طوال عقود ثلاثة منذ ستينيات القرن الماضي وحتى أوائل تسعينياته ، حين جرت الدراسة. بدأت ظاهرة هذا الأداء الاقتصادي المتميز في اليابان، وامتدت إلى "النمور الأربعة" (هونغ كونغ وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان) ثم عبرت إلى إندونيسيا وماليزيا وتايلاند، وأخيراً إلى الصين التي غدت الدولة التاسعة في مجموعة البلدان التي أطلق على اقتصاداتها مصطلح "اقتصادات الأداء العالي الآسيوية" ؛ إذ نجحت هذه الاقتصادات في المحافظة على الأداء العالي في مسيرة التنمية طوال أكثر من ثلاثة عقود. ومن الصعب اعتبار هذا النجاح ظاهرة عرضية، كما أن تشابه المقاربات في السياسة التنموية في ما بينها يرجّح أن تشابهها في تحقيق مستويات عالية من الأداء ليس محض مصادفة.
خلصت الدراسة إلى أن ليس ثمة ما هو معجز حقيقة في الأداء التنموي المتميز لتلك البلدان، سوى أنها بذلت جهوداً ناجحة لتحقيق احجام كبيرة من المقومّات المعروفة للنمو الاقتصادي المتمثلة في حشد المدخرات واستثمارها في تكوين رأس المال المادي (المشروعات المنتجة) ورأس المال البشري (التربية والتعليم والقدرات التقنية)، وشملت سياساتها الاقتصادية على وجه التحديد العناصر الآتية (6) :
- المحافظة الدؤوبة على الاستقرار في الاقتصاد الكلي، ولا سيما لجهة ضبط تضخم الأسعار، وتنافسية سعر الصرف للعملات الأجنبية، إذ من شأن استقرار الاقتصاد الكلي أن يعلي ثقة المستثمرين الخواص بالنظام المصرفي ويشجعهم على استيراد التكنولوجيا المتقدمة من الخارج وتوطينها.
- الاستثمار الواسع والعميق من القطاع العام في البنية التحتية الاجتماعية ، ولا سيما في التربية والتعليم، في هذا المجال ، زکّی البنك الدولي حزمة من السياسات تحت عنوان "النمو التشاركي" (Shared Growth) غرضها الوصول بخدمات التربية والتعليم إلى جميع المواطنين من فئات المجتمع المختلفة وتجاوز حصرها بنخب قليلة من شرائح المجتمع.
- التركيز المبكر على الصناعة التصديرية باعتبارها القاطرة الرئيسة للنمو. اشتملت مضامين هذا التركيز على تطوير مهارات قوة العمل والارتقاء بإنتاجيتها وتمكينها بالقدرات المعرفية وبأوثق الأساليب التقنية.
- أخيراً، تدخل الدولة الحصيف في النشاط الاقتصادي من خلال التطوير الهادف لصناعات معينة اعتبرت واعدة بمستقبل من النمو المتميز والمجزي، ومنشئة حجماً كبيراً من فرص العمل. وعرف هذا التدخل باسم "السياسة الصناعية".
أما أدوات التدخّل الحكومي فشملت إجراءات تتعلق بالتجارة والتبادل الخارجي، منها تقييد المستوردات وضبط الاستثمار الأجنبي المباشر، والتخصيص التفضيلي للعملات الأجنبية والحوافز الضريبية والقروض الميّسرة، والاستثناءات من قوانين مكافحة الاحتكار.
اعتبرت الدراسة أن سياسات التدخل الحكومي تلك كانت ناجحة في تحقيق معدلات عالية من النمو، خلافاً لما كان متوقعّاً في ظل تلك السياسات. كما أبدت قبولاً محدوداً بوجاهة منطق المنادين بأهمية "السياسة الصناعية" الهادفة إلى تحقيق معدلات عالية من النمو، خلافاً للسياسات التقليدية التي اعتاد البنك الدولي التوصية بها ، والتي تعارض اللجوء إلى سياسات التدخل الهادف بدعوی أنها تشوه وتعرقل فاعلية قوى السوق الضرورية للارتقاء بالنمو الاقتصادي. لكن الدراسة أسهبت في الوقت ذاته في تأكيد صعوبة المحافظة على تدخل الدولة المتضمن في السياسة الصناعية، ضمن حدود ما هو سليم وصائب.
بيّنت الدراسة بشكل لافت دور القيادة التكنوقراطية الكفؤة التي قادت الأداء الاقتصادي الرفيع في بلدان شمال شرق آسيا موضع الدراسة، وساهمت في إضفاء الشرعية على الأنظمة السياسية في هذه البلدان؛ وبينت أيضاً الأوضاع الخاصة التاريخية والسياسية والثقافية التي أتاحت نشوء مثل تلك القيادة.
لكن الدراسة استدركت بالقول إن الأثر التنموي في التنمية الصناعية تحديداً كان محدوداً، كما تميزت تلك السياسات بالتلاؤم بدقة مع أوضاع البلدان الثمانية التي نجحت فيها. ومع صعوبة تكرار تلك الأوضاع في بلدان أخرى، يصعب افتراض أن يؤدي اعتماد سياسات مماثلة في البلدان التي تفتقد مثل تلك الأوضاع إلى نجاح مماثل لما تحقق في البلدان الثمانية. وهذا ما يفسر فشل تلك السياسات عند التطبيق في بلدان أخرى تسود فيها أوضاع مختلفة.
اهتم عالم الاقتصاد جوزف ستیغلتز بالإجابة عن التساؤل الآتي : هل كان باستطاعة البلدان النامية الأخرى إعادة إنتاج تجربة البلدان الثمانية في تطبيق مثل تلك السياسات والحصول على نتائج مماثلة في إنجاز النمو الاقتصادي السريع (7)؟. وفي تحريه السياسات والعوامل المشار إليها، توصل ستیغلتز إلى قائمة من العناصر المكونة لذلك الإنجاز، بما فيها المداخلات الحكومية التي ساهمت في ذلك. لكن التأكد من فاعلية جانب أو آخر من المداخلات الحكومية مسألة صعبة. فحقيقة أن قطاعاً ما حظي بالدعم الحكومي فحقق نمواً سريعاً هي حقيقة غير كافية لإثبات أن هذا النمو ما كان ليتحقق لولا ذلك الدعم، إذ من المحتمل أن هذا النمو السريع يعود إلى أسباب أخرى لا علاقة لها بالدعم الحكومي المذكور ومن المرجح ألا تكون العناصر المكونة للإنجاز التنموي مؤثرة كلاً على حدة، بل تصبح مؤثرة حين تجتمع في حزم من السياسات يعزز بعضُها بعضه الآخر، ومنها خصوصاً حزمة السياسات التي تجمع بين تحقيق معدلات ادخار عالية ، والوصول الى مستويات رفيعة من تكوين رأس المال الانساني ، مع الحفاظ على بيئة مستقرة وصديق لعوامل السوق ، جنباً الى جنب مع تدخل حكومي لدعم نقل التقنية المتقدمة وتوطينها.
لكل دولة من دول "الأعجوبة الأسيوية"، خصائصها الفريدة تاريخياً وثقافياً. فبعضها يغلب فيه التجانس العرقي والثقافي بين السكان، وبعضها الآخر، مثل ماليزيا، تتنوع فيه الثقافات. لذلك، الأرجح ألا يعود نجاحها التنموي إلى خصائص فردية في كل منها، بل إلى عوامل مشتركة بينها. وشاع في وقت من الأوقات أن نجاح التنمية أو إحباطها في هذا البلد أو ذاك يعود إلى خصائص فريدة تميز هذا البلد أو ذاك ! فعلى سبيل المثال، كان هناك انطباع أن البلدان التي ساد فيها تراث كونفوشيوس من قيم تقليدية حملت آثاراً سلبية لهذا التراث فعرقلت نجاح التنمية فيها. لكن دراسة الحالات المختلفة بعمق أكدت أن هناك عاملا ثقافياً واحداً مشتركاً مؤثرا في فرص التنمية في تلك البلدان، هو درجة تقدم التربية والتعليم فيها.
إضافة إلى التحفظات المتعلقة بالتفسيرات "الثقافية" للأعجوبة الآسيوية، ثمة تحفظات أيضاً في ما يخص التفسيرات التي تعزو الظاهرة إلى حجم المدخلات الضرورية للنمو الاقتصادي، وعلى رأسها مراكمة رأس المال المادي والبشري، والإنفاق على توطين التكنولوجيا (وتظهر الأعجوبة حين يتجاوز معدل النمو المعدل الذي يمكن تفسيره بحجم هذه المدخلات). فعلى سبيل المثال، يحاجج کروغمان(8) ويونغ (9) أنه يمكن رد النمو الذي حققته سنغافورة إلى مستويات عالية من الإنفاق الاستثماري، ولا سيما في التربية والتعليم. وفي حين تؤكد مثل هذه الدراسات أهمية تزايد مراكمة رأس المال المادي والبشري في تفسير ظاهرة النمو الاقتصادي السريع، لكنها تعتبر أن هذا غير كاف لتفسير التحولات التنموية الكبيرة التي تتجاوز في مداها المدى الذي يتلاءم مع حجم تلك المدخلات من رأس المال المادي والبشري.
من الأسئلة التي تبقى في حاجة إلى جواب : كيف أمكن لمعدلات الادخار أن ترتفع إلى هذه المستويات ؟ المفهوم من التجارب التاريخية أن مستويات عالية من الادخار تحققت في الدول الشيوعية من طريق فرضها بقوة الإملاء الحكومي، لكن كيف نفسر تحققها في بلدان لا تتيح أنظمتها مثل هذا الإملاء القسري؟ هنا يمكن التعميم أن تحقق تلك النسب العالية من الادخار والاستثمار غیر ممکن إلا بوجود حكومة قوية تفرض ذلك فرضاً بالعمل على جعل معدلات نمو الاستهلاك أقل من معدلات نمو الدخل. بعبارة أخرى، إن رفع معدلات الادخار ما كان ممكناً، ولن يكون، من دون تدخل الحكومة وسياساتها المؤدية إلى حشد المدخرات.
من الأسئلة الواردة أيضا وبقوة : أولاً ، كيف أمكن للمدخرات المتزايدة أن تجد طريقها إلى استثمارات كفؤة وناجحة في تكوين رأس المال المنتج ؟ وهل مراكمة رأس المال بإضافة كم جديد من رأس المال إلى مثيله القديم تكفي في حد ذاتها لتفسير النمو الاستثنائي؟ ثانیاً ، كيف أمكن للبلدان الثمانية أن تجتاز فجوة تخّلفها التقاني بتلك السرعة؟ فمن المعروف أن التقدم التقاني لا يتحقق بمجرد الإنفاق على استيراد التقانة، بل لا بد من أن يتلازم ذلك مع استثمار مباشر في تكوين رأس المال البشري بالتربية والتعليم، حيث تخرج إلى النشاط الاقتصادي أعداد كبيرة من المهندسين الناجحين المؤهلين لفهم التقانة المتقدمة واستيعابها وتكييفها للحاجات الوطنية .
من اللافت بصورة خاصة في التجربة الشرق آسيوية أنها تبطل الوهم الشائع أن النمو السريع المصاحب لتكوين رأس المال بالزخم المشار إليه لا بد من أن يؤدي إلى تفاوت كبير في مشاركة المواطنين في عوائد التنمية، ما يزيد حدة اللامساواة في الدخل والثروة في المجتمع. على النقيض من ذلك، ثمة أدلة قوية على نجاح السياسات التي اتبعتها الحكومات في البلدان الثمانية في تفادي تعمق اللامساواة في الدخل والثروة ، بل ربما تجاوز نجاحها في ذلك إلى جعل المساواة عاملاً إضافياً في تحقيق معدلات النمو الاقتصادي العالية.
أخيرا، من الجدير الإشارة إلى دور الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الأداء التنموي المتميز لبلدان شرق آسيا، إذ أحسنت هذه البلدان صنعاً باتاحة المجال الاستقبال الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وبالحرص على توفير البيئة المحفزة على ذلك، مع التأكيد على أن تتضمن تلك الاستثمارات نقلاً ملموساً للتقانة المتقدمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طاهر حمدي كنعان ، " المهمات التنموية للدولة والتحكم في السوق بالسياسة الصناعية " عمران للعلوم الاجتماعية والانسانية ، السنة 4 ، العدد 16 (ربيع 2016) .
(2) الأدوات العشر للإصلاح: (۱) الانضباط في المالية العامة لمعالجة العجز المالي المتفاقم الذي يدخل البلد المأزوم في مشكلات تضخم الأسعار واختلال ميزان المدفوعات الخارجية وتعميق الفقر لدى الطبقات الفقيرة؛ (2) إعادة ترتيب اولويات الإنفاق العام بالتركيز على أبواب الإنفاق الحافزة على النمو الاقتصادي ومعالجة مشكلات الفقراء وخفض المعونات غير المبررة وتوجيه اموالها إلى الخدمات الأساس من العناية الطبية والتعليم والبنيات التحتية، مع مراعاة ألا يقع عبء الانضباط المالي على خفض الإنفاق بل على التوازن بين زيادة الإيرادات وخفض النفقات (3) الإصلاح الضريبي، بتوسيع قاعدة الضريبية مع زيادات معتدلة في معدلات الضرائب؛ (4) تحرير معدلات الفوائد على الإقراض، وهنا يُبدي وليامسون ندمه من عدم توضيحه ضرورة عدم الاستعجال في وتيرة هذا التحرير لنسق التمويل وضرورة إخضاع العملية للرقابة الحصيفة (5) إقرار معدل الصرف للعملة الوطنية عند المستوى الذي يضمن القدرة التنافسية (6) تحرير التجارة الخارجية ؛ (7) تحریر دخول الاستثمار الأجنبي المباشر. وهنا يصر وليامسون أن التحرير الكامل لحركة رؤوس الأموال (حاب رأس المال) لم يكن ضمن التوافق ؛(8) الخصخصة ؛ (9) التخلص من الأنظمة المفيدة لحرية النشاط الاقتصادي(Deregulation) (10) ضمان حقوق الملكية .
(3) John Williamson, A Short History of the Washington Consensus, in: Narcis Serra and Joseph E. Stiglitz eds.Washington Consensus ,Reconsidered: Towards a New Global Governance Initiative, for Policy Dialogue Series (Oxford: New York: Oxford University Press, 2008), chap. 4
(4). John Williamson, Did the Washington Consensus Fail,» (Outline of Speech at the Center for Strategie and International Studies, Washington, DC, 6 November 2002).
Serra and Stiglitz, eds., chap. 4. p. 4. (5) .
(6) Albert Fishlow [et al.]. Miracle or Design? : Lessons from the East Asian Experience, Policy Essay, no. 1 (Washington, DC.Overseas Development Council, 1994).
(7) Joseph E. Stiglitz, Some Lessons from the East Asian Miracle , World Bank Research Observer, vol. 11, no. 2 (August 1996).
(8) Paul Krugman, The Myth of Asia's Miracle Foreign Affairs, vol. 73, no. 6 (November - December 1994), pp. 62-78.
(9) Alwyn Young , Lessons from the East Asian NICs: A Contrarian View» no. 4482 (NBER Working, Paper ,National Bureau of Economic Research, Cambridge, MA, October 1993) .
|
|
للتخلص من الإمساك.. فاكهة واحدة لها مفعول سحري
|
|
|
|
|
العلماء ينجحون لأول مرة في إنشاء حبل شوكي بشري وظيفي في المختبر
|
|
|
|
|
قسم الشؤون الفكرية يحتفي بإصدار العدد الألف من نشرة الكفيل
|
|
|