لقد احتاج الاُمويون منذ البداية إلى تبرير سياستهم الجائرة وركوبهم المعاصي ، فذهبوا إلى تأويل بعض آي القرآن الكريم بما يفيد الجبر والتسيير ، ليقولوا للناس إنّ ما صنعناه إنّما هو من قضاء الله تعالى وقدره ، وليس من أيدينا ، بل حتّي مناصبهم هذه فهي من الله تعالى فهو الذي جاء بهم إلى الملك وملّكهم ، لأنّه تعالى مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممّن يشاء !! هكذا ليكونوا أبرياء من كلّ ما ارتكبوه في طريقهم إلى انتزاع الملك ! وليكونوا مخولين في كلّ ما يصنعون بعد ذلك . . وبمثل هذا التأويل الفاسد أصبح يتكلّم بعدهم علماء كبار !! يقول ابن العربي في معرض « تأسّفه ! » على مصرع الحسين عليه السلام : « ولو لا معرفة أشياخ الصحابة وأعيان الاُمّة بأنّه أمر صرفه الله عن أهل البيت . . . وما أسلموه أبداً » ! (1)
والحقّ أنّنا لو تقدّمنا في عمق التاريخ لو جدنا هذه المقولة قد تقدّمت عصر معاوية في ظهور سابق بها على لسان عمر بن الخطاب ، وهو يردّ على ابن عباس تذكيره بإرادة رسول الله صلى الله عليه واله في تنصيب عليّ لخلافته ، فيقول : وماذا كان ، إذا أراد رسول الله شيئاً غيره ؟!
وفي الحالين كان ( نظام الغَلَبة ) هو الباعث إلى هذه المقولة !
ولقد حاول معاوية أن يجعل منبره منبراً لهذه العقيدة ، لكنه اصطدم في أول محاولة له بعقل حرّ أفسد عليه حيلته : خطب معاوية خطبةً قال فيها : إنّ الله تعالى يقول : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } [الحجر : 21] فعلامَ تلومونني إذا قصّرتُ في إعطائكم ؟!
فقال له الأحنف بن قيس : إنّا والله ما نلومك على ما في خزائن الله ، ولكن على ما أنزله لنا من خزائنه فجعلتَهُ أنتَ في خزائنك وحُلتَ بيننا وبينه ! (2)
عندئذ أخذتْ هذه العقيدة تتمدّد وتنتشر بالسبل الاُخرى وبدعم صريح من السلطة حتّى صار لها نفوذ واسع في وقت مبكّر جداً .
ـ قيل لابن عبّاس : إنّ هاهنا قوماً يزعمون أنّهم أتوا ما أتوا من قِبل الله تعالى ، وأنّ الله أجبرهم على المعاصي !
فقال : لو أعلم أنّ هاهنا منهم أحداً لقبضتُ على حلقه فعصرته حتّى تذهب روحه ، لا تقولوا أجبر اللهُ علي المعاصي ولا تقولوا لم يعلم الله ما العباد عاملون ! (3)
ـ ولقد أدرك ابن عبّاس أنّ مصدر هذا الانحراف الفكري هو السلطة وأنصارها ، فخاطبهم خطاباً عنيفاً ، قال فيه : أتأمرون الناسَ بالتقوى وبكم ضلّ المتّقون ؟! وتنهونَ الناس عن المعاصي وبكم ظهر العاصون ؟! يا أبناء سَلَف المنافقين ، وأعوان الظالمين ، وخزّان مساجد الفاسقين ! هل منكم إلا مفتر على الله ، يجعل إجرامه عليه سبحانه وينسبه علانيةً إليه ؟! (4)
ـ واقتحمت هذه العقيدة البصرة ، ورقت إلى مجلس الحسن البصري ، فزجر أصحابها وقال : «إنّ الله خلقَ الخلق للابتلاء ، لم يطيعوه بإكراه ولم يعصوه بغَلَبة ، وهو القادر على ما أقدر هم عليه ، والمالك لما ملكهم إيّاه ، فإن يأتمروا بطاعة الله لم يكن لهم مثبّطاً ، بل يزيدهم هدىً إلى هداهم وتقوىً إلى تقواهم ، وإن يأتمروا بمعصية الله كان الله قادراً على صرفهم ، إن شاء حال بينهم وبين المعصية ، فمن بعد إعذار وإنذار » (5) .
ورغم تلك المواجات فقد ترقّى الأمر بهذا المذهب حتّى دان به كبار من أهل العلم ودافعوا عنه حتّى أصبح هو المذهب الغالب في ملّة الإسلام ، حتّى انتقل إلى الأشعري فعزّزه ونفخ فيه روحاً جديدة ، بعد تعديل لفظي أدخله بعنوان ( الكسب ) (6) وهو مفهوم اعتباري ليس له أيّ قيمة حقيقية ، وإنّما اُريد به التميز عن الجبرية الخالصة التي طالما سخر منها الأشعري أيّام كان معتزليّاً .
ومنذ زمن عبد الملك بن مروان كان أقطاب هذا المذهب في الشام يروجون لفكرة جديدة تساهم في تطويره ، لكنّها افتضحت حين لم يتقنوا صياغتها ، إذ كانوا يقولون : إنّ الله إذا استرعى عبداً رعيّته كتبَ له الحسنات ، ولم يكتب عليه السيئات ! . لكنّها كانت مقولة هزيلة تردّد حتّى الوليد بن عبد الملك في قبولها (7) .
وبقيت هذه المقولة تَتّهم الله تعالى بإكراه العبد على المعاصي ، وأنّه تعالى هو الخالق لهذه المعاصي التي تجري على أيدي العباد ، ثمّ هو يعذّبهم عليها! بحجّة ساذجة يردّدونها دوماً ، مفادها أنّ الله تعالى لا يُعصى مكرَهاً ، فهو إذن لا يعصى إلا وهو يريد هذه المعصية أن تقع من العاصي ، ثمّ هو الذي يخلقها فيه لأنّه {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات : 96] ! هكذا دون تمييز بين إرادة تكوينية وإرادة تشريعية ، ولا معرفة صادقة بمعاني هيمنة الله تعالى وقدرته .
__________________
(1) العواصم
من القواصم ـ بتعليق محب الدين الخطيب : 245 .
(2) ربيع الأبرار
/ الزمخشري : 683 ـ منشورات الشريف الرضي ـ قم ـ 1410 ه .
(3) المذاهب
الإسلامية : 173 عن ( المنية والأمل ) للمرتضى .
(4) المذاهب الإسلامية : 172 .
(5) العقد الفريد / ابن عبد ربه 2 : 83 ـ دار ومكتبة الهلال ـ بيروت ـ 1986 م ، ونحوه في المذاهب الإسلامية : 172 ـ 173 عن المنية والأمل .
(6) اضطربوا في تعريف الكسب كثيراً ، والمحصل أنّ بين قدرة الله المؤثرة على العبد و بين إيجاد الله لأفعال العبد ، هناك قدرة حادثة مقارنة لقدرة الله ، وهي الكسب . . وقد اعترف متأخروهم بأنّ هذا الكلام لا معنى له ، إذ ما فائدة وجود قدرة ليس لها أي دور إلا الاقتران ؟ [ إليواقيت والجواهر / الشعراني 1 : 140 ـ مصطفى البابي الحلبي ـ مصر ـ 1959 م ] وقد طعن أكثر الناس بنظرية « الكسب » وقالوا : عجائب الكلام ثلاثة : طفرة النظّام ، وأحوال أبي هاشم ، وكسب الأشعري ! وأنشد بعضهم في ذلك :
مما يقالُ ولا حقيقة تحته *** معقولة ، تدنو إلى الأفهام
الكسبُ عند الأشعري والحالُ عن *** د الهاشمي
، وطفرةُ النظّام
[ منهاج السنّة / ابن تيمية 1 : 127 ] .
(7) اُنظر استفساره من الزهري في إبطالها : العقد الفريد 1 : 46 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|