أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-12-2016
1613
التاريخ: 13-6-2019
1678
التاريخ: 3-7-2019
1899
التاريخ: 15-11-2019
1396
|
الامام وقوى الشر
فلسفة الإمام في ضوء ملابساتها التاريخية
الامام وقوى الشر
نقصد بقوى الشر في هذه الدراسة رؤوس الفتنة ودعاة الانتقاض على حكم الإمام، وفي مقدمتهم بالطبع بنو أمية وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان. أما أغلب المسلمين الذين حاربوا علياً فكانوا إما ضحايا تضليل الأمويين وخداعهم، أو ضحايا الجاه والمال والنفوذ الذي خلعه عليهم الأمويون على حساب الدين.
لقد حاربت قوى الشر الإمام - حربا متواصلة اصطلي بها من بعده بنوه وأتباعه إلى اليوم - في جبهتين: جبهة السيف وجبهة القلم. ولكنهم مع هذا لم ينالوا منه في الحالتين وبقى كالطود ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير. وإلى القارئ تفصيل ذلك:
١ - جبهة السيف: لقد شنها خصوم الإمام عليه حرباً شعواء لا هوادة فيها منذ أن بويع له بالخلافة بعد مصرع عثمان إلى أن لقى حتفه بسيف ابن ملجم. ثم تابعوا السير - في ذلك الانجاه - ضد ذويه وأتباعه على السواء وما زالت تلك الحرب قائمة على قدم وساق مع اختلاف في نوع السلاح وميادين القتال.
وقد ذكرناه طائفة من الأمثلة على ذلك في كتابنا: (على ومناوئوه) (والصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام) وفي كتابنا الماثل للطبع عن الدولة العباسية.
٢ - جبهة القلم: لقد أعلن خصوم الإمام حرب القلم عليه وعلى تعاليمه في أكثر من ميدان واحد، وفي الوقت الذي كانت فيه جبهة السيف مستعرة الأوار. وقد استمرت تلك الحرب منذ عهده ولم تفتر إلى اليوم، وتعرض - نتيجة لها - ذكره وتعاليمه إلى شتى صنوف التشويه والامتهان. فكأن اسم الإمام كان يخيف خصومه ومناوئيه كما كان خيفهم جسمه أثناء الحياة. ولعلهم كانوا يرهبون الإسم أكثر من رهبتهم للجسم. فللجسم حدوده الزمانية والمكانية الضيقة، وميدان الفرار منه رحيب. وللجسم أيضاً حفرة من الأرض تحتضنه بعد الممات. أما الإسم فيتحدى الزمان والمكان.
ولكن محاولاتهم على سعتها واستمرارها قد باءت بفشل ذريع. فتعلق ذكره من الثريا بأقراطها، (وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله. فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره والتحريف ووضع المعايب والمثالب له ولعنوه على جميع المنابر وتوعدوا مادحيه بل حبسوهم وقتلوهم ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضل ويرفع له ذكر حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه. فما زاده ذلك إلا رفعة وسمواً. وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه، وكلما كتم تضوع نشره. وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عيناً واحدة أدركته عيون كثيرة(١) .
ومن مفارقات التاريخ أن تعمل محاولات الأمويين لطمس ذكر الإمام على تخليد اسمه. (فمناقبه كثيرة حتى قال الإمام أحمد بن حنبل: لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلى... وقال غيره كان سبب ذلك بغض بني أمية له. فكان كل من كان عنده علم من شيء من مناقبه من الصحابة يثبته. وكلما أرادوا إخماده وهددوا من حدث بما فيه لا يزداد انتشاراً(٢) ).
لقد بدأت حرب القلم ضد الإمام - على يبدو - بعد وفاة النبي مباشرة وزادت سعة ووضوحاً أثناء خلافة عثمان وبلغت الذروة أثناء تمرد معاوية ابن أبي سفيان على الخليفة.
وكانت حرباً ذات جانبين: جانب سلبي وجانب إيجابي. يتصل الأول منهما بتلفيق أحاديث وقصص ينصب أكثرها على مدح الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا علياً في الزمن، ويمجه بعضها نحو مدح معاوية نفسه. وينطوى هذا الجانب من جوانب الموضوع - بنظر موجديه ومحبذيه - على ذم ضمن للإمام. هذا إلى أن (إطراء)، الرسول على أبي بكر إضعاف - بنظر معاوية ومن هم على شاكلته - لحجة على في الخلافة.
أما ما يتصل بعمر فهناك - من وجهة نظر معاوية - عاملان:
أحدهما أن عمر عين معاوية أميراً على الشام. وفي الكذب على النبي من أجله نوع من الاعتراف بالجميل من جهة، وإضعاف لموقف على من معاوية وعزله عن الشام من جهة أخرى.
أما العامل الثاني فهو أن عمر قد رفع سهم المؤلفة قلوبهم - وكان معاوية وأبوه وأخوه - في مقدمتهم، وفي هذا من الخدمة لمعاوية ما يعجز عن رده اختلاق بضعة أحاديث. كيف لا!! وقد أنسى ذلك المسلمين موقف معاوية من الاسلام وكيفية دخوله فيه!! وأما (إطراء) النبي على عثمان فهو إطراء للبيت الأموي وعلى رأسه معاوية آنذاك.
ذلك ما يتصل بالجانب السلبي من الحرب القلية.
أما الجانب الايجابي فيتلخص في وضع أحاديث ملفقة وروايات مزورة في ذم الامام وانتقاص منزلته الرفيعة. وهي - بنظر واضعيها - مدح ضمن لخصومه وخدمة عامة لقضيتهم.
(فقد روى عن عبد الله بن ظالم أنه قال لما بويع لمعاوية أقام المغيرة بن شعبة خطباء يلعنون علياً. فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - ألا ترون إلى الرجل الظالم يأمر بلعن رجل من أهل الجنة!!...
وعن علي بن الحسين قال: قال لي مروان ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم - أي ما كان أحد أكثر من على دفاعا عن عثمان أثناء حصاره قبل مصرعه - قلت فما بالكم تسبونه على المنابر!! قال إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك.
وقال عمر بن عبد العزيز: كان أبي يخطب فلا يزال مستمراً في خطبته، حتى إذا سار إلى ذكر على وسبه تقطع لسانه واصفر وجهه وتغيرت حاله. فقلت له في ذلك. فقال أو فطنت لذلك!! إن هؤلاء لو يعلمون من على ما يعلمه أبوك ما تبعنا منهم رجل.
وقام رجل من ولد عثمان إلى هشام بن عبد الملك يوم عرفة فقال: إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب.
وعن أشعث بن سوار قال: سب عدى بن أرطأة علياً على المنبر فبكى الحسن البصري وقال: لقد سب اليوم رجل إنه لأخو رسول الله في الدنيا والآخرة.
وقال إسماعيل بن إبراهيم: كنت أنا وإبراهيم بن يزيد في المسجد يوم الجمعة مما يلي أبواب كندة فخرج المغيرة فخطب... ثم وقع في علي. فضرب إبراهيم على فخذى وركبتي ثم قال: أقبل على فإنا لسنا في جمعة ألا تسمع هذا.
وعن عبد الله الجدلي قال دخلت على أم سلمة فقالت: أيسب رسول الله فيكم وأنتم أحياء؟ قلت وأنى يكون هذا؟ قالت أليس يسب على ومن يحبه.
وعن الزهري قال ابن عباس لمعاوية: ألا تكف عن شتم هذا الرجل؟ قال ما كنت أفعل حتى يربو عليه الصغير ويهزم فيه الكبير. فلما ولى عمر بن عبد العزيز كف عن شتمه. فقال الناس ترك السنة.(3) ) وما يجري هذا المجري يكاد لا يقع تحت حصر.
ترى لماذا كان على عرضة للسب بهذا الشكل الرخيص؟ أتجيز سنة الرسول أن يسب أحرص الناس بعده على اتباعها؟
أكان في تصرفات على - الخاصة والعامة مع خصومه ومع أنصاره - ما يجيز مثل ذلك الشتم؟
لقد كفانا عبد العزيز - أبو عمر - مؤنة البحث في الإجابة عن الأسئلة الآنفة الذكر.
وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول مرة أخرى إن هذه الحرب التي أعلنها معاوية على الإمام ذات جانبين سلبي وأيجابي. يتصل الأول منهما بتلفيق أحاديث وروايات عن (مناقب) الخلفاء الراشدين الدين سبقوا علياً من الناحية الزمانية، ويتحدث بعضه عن (مناقب) ابن أبي سفيان. ويتعلق الثاني بوضع (مثالب) في الإمام.
وإلى القارئ بعض الأمثلة على ذلك:
١ - الجانب السلبي - لفق معاوية بالاشتراك مع المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص وأبي هريرة وبعض اليهود المندسين في الإسلام آنذاك طائفة من الأحاديث والأخبار المتضمنة مدحاً مفرطاً (هو في حقيقته ذم وهو أمر لا يرتضيه الرسول ولا من قيل في حقهم ولا الخلق الإسلامي الرفيع) لأبي بكر وعمر وعثمان منفردين أحياناً ومجتمعين أحياناً أخرى. ولم ينس معاوية نفسه فأخذ نصيبه من ذلك ووضعت فيه أحاديث غير قليلة. وقد عاونه فيما يتصل بالتلفيق نفر من المحدثين (بالإضافة إلى المغيرة وعمرو بن العاص) في مقدمتهم أبو هريرة وسمرة ابن جندب وعروة بن الزبير.
وفي الأحاديث الملفقة - التي سنذكر شطراً منها على سبيل الحصر - إساءة لرسول الله بقدر ما فيها من الإساءة للشيخين وللذوق الإسلامي الرفيع. فقد خدم معاوية على ما يبدو قضيته على حساب النبي وعلى حساب الشيخين وعلى حساب الذوق الإسلامي على السواء.
ومن المحزن حقاً أن ينطلي ذلك على كثير من المؤرخين والمحدثين ممن عرفوا باستقامة العقيدة ومتانة الأخلاق. وقد أعرضنا عن ذكر كثير من تلك الأحاديث الملفقة لافتقارها إلى الذوق السليم ولهبوطها عن مستويات الأخلاق الإسلامية الرفيعة، وكان بودنا أن نفعل ذكرها جميعاً لو لا اضطرارنا - وفقاً لمستلزمات البحث - إلى الاستشهاد بطائفة منها للتدليل على وجاهة ما ذهبنا إليه.
روى الإمام أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجة عن أنس بن مالك قال صعد رسول الله وأبو بكر وعمر وعثمان جبل أحد فزحف بهم. فقال النبي: أنت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان(4) .
لقد وضع معاوية الرسول والخلفاء الراشدين الثلاثة فوق جبل أحد وحدهم دون سائر المسلمين. ثم أمر الجبل الجامد المسكين أن يتحرك. ثم جعل النبي مرات. كذب في وضعهم على الجبل وكذب بحركة الجبل وكذب بتنبيه النبي الجبل وكانت غايته من ذلك كله أن يجعل المسلمين آنذاك يعتقدون بأن عثمان قد قتل شهيداً باعتراف النبي ليؤلب الناس على على.
وعن عبد الله بن عمر (أنه قال أن رسول الله قال: أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبوبكر ثم عمر(5) ) دون سائر الأنبياء والصالحين. والغاية من هذا الكذب على النبي هي إضعاف حجة على في موضوع الخلافة أثناء نزاعه مع الشيخين. وفي ذلك إسناد ضمنى لموقف معاوية من على.
وعن عائشة أن رسول الله قال لها (أخبرك أن أباك الخليفة من بعدي فاكتمي ذلك على(6) ) ولا ندري لماذا طلب الرسول منها أن تكتم ذلك عليه؟ أيخاف الناس؟ وإذا كان لابد من كتمان الأمر فلماذا أخبرها بذلك؟
(وعن ابن عباس والله إن خلافة أبي بكر لفي كتاب الله). لقد كذب معاوية على الله وعلى رسوله وعلى القرآن وعلى ابن عباس في آن واحد. أما إسناده الحديث إلى ابن عباس ففيه إضعاف لحجة من يطعن بصحته لموقف ابن عباس الودى المعروف من على في هذا الموضوع بالذات.
وروى البخاري بأسانيده المختلفة عن عمرو بن العاص(7) أنه قال: إن النبي (بعثني على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت له أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة. فقلت من الرجال؟ قال أبوها. فقلت ثم من؟ قال عمر بن الخطاب). ولسنا واجدين أية علاقة بين المسير إلى الحرب وبين هذا النوع من الأسئلة، اللهم إلا رغبة معاوية في خدمة قضيته في موضوع الخلافة.
وروى البخاري أيضاً(8) بأسانيده المختلفة عن محمد بن الحنفية أنه قال:
قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله؟ قال أبو بكر. قلت ثم من؟ قال عمر).
وروى البخاري كذلك(9) بأسانيده المختلفة عن سعيد ابن المسيب قال: أخبرني أبو موسى الأشعري أنه توضأ في بيته ثم خرج فقال (لألزمن رسول الله ولأكونن معه يومى هذا. فجئت المسجد فسألب عن رسول الله فقالوا لي إنه خرج ووجهه همنا. فخرجت على أثره أسأل حتى دخل بئر إدريس. فجلست عند الباب حتى قضى رسول الله حاجته. فتوضأ فقمت إليه فإذا هو جالس على بئر إدريس وقد توسء قفها وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر. فسلمت عليه ثم انصرفت فجلست عند الباب فقلت لأكونن بواب رسول الله اليوم.
فجاء أبو بكر فدفع الباب فقلت من هذا؟ فقال أبو بكر فقلت على رسلك ثم ذهبت فقلت يا رسول الله هذا أبوبكر يستأذن؟ فقال ائذن له وبشره بالجنة... فدخل أبوبكر وجلس عن يمين رسول الله معه في القف ودلى رجليه في البئر كما صنع رسول الله وكشف عن ساقيه.
ثم أقبل عمر فقلت له على رسلك. ثم جئت إلى رسول الله فسلمت عليه فقلت عمر بن الخطاب يستأذن!! فقال ائذن له وبشره بالجنة... فدخل فجلس مع رسول الله في القف ودلى رجليه في البئر...
ثم أقبل عثمان... فقال ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه.) يلوح لي أن (الحديث) الآنف الذكر قد وضع بذلك الشكل الطويل المعقد إيهاماً السامع - أو القارئ - بأنه قد حصل بالفعل.
(والحديث) كما يبدو يصور لنا الرسول وكأنه رغب في أن يصرف يومه ذاك دون أن يقوم يعمل ذي أهمية من الناحية الدينية أو الاجتماعية: فلم يكن للرسول من عمل آنذاك سوى الجلوس على حافة البئر والكشف عن ساقيه ليستقبل الذوات الثلاثة ويجعلهم يجلسون كجلوسه ويبشرهم بالجنة. وقد فعل الرسول ذلك كله - على ما يبدو - ليخبر عثمان ببلوى تصيبه لينتفع بذلك معاوية كما هو معروف. وقد فات معاوية أن يتذكر أن عثمان يدخل الجنة - حسب صيغة هذا (الحديث) بسبب البلوى التي تصيبه. ولا ندري أية بلوى أحسن من تلك التي يدخل المرء بسببها الجنة!!
وذكر صاحب السيرة(10) أن النبي قال لأبي بكر: (مثلك - يا أبا بكر - في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة... ومثلك في الأنبياء مثل إبراهيم حيث يقول (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم). مثلك - يا أبابكر - مثل عيسى بن مريم إذ قال إن تعذبهم فانهم عبادك وإن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم... ومثلك - يا عمر - في الملائكة مثل عزرائيل ينزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله... ومثلك - في الأنبياء - مثل نوح إذ قال ربي لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً. ومثلك في الأنبياء مثل موسى إذ قال ربتا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب(11) ).
قال علي بن برهان الدين الشافعي الحلبي :
إن رسول الله قال (ليس من أحد أمن على - في أهل ومال - من أبي بكر. وفي رواية أخرى ما من أحد أمن على - في صحبته وذات يده - من أبي بكر. وما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر... وفي رواية ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه خلا أبا بكر فإن له عندنا يد الله يكافئه بها يوم القيامة...
وقال رسول الله لأبي بكر ما أطيب مالك: منه بلال مؤذني وناقتي التي هاجرت عليها وزوجتني ابنتك، وواسيتني بمالك: كأني أنظر إليك على باب الجنة تشفع لأمتي).
وروى صاحب السيرة الحلبية أيضاً (ج ٢ ص ٣٨ و ٤١) أن النبي وأبابكر (لما انتهيا إلى فم الغار قال أبو بكر للنبي والذي بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك.
فدخل أبو بكر فجعل يلتمس بيده كلما رأى جحراً أقال بشوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بجميع ثوبه. فبقى جحر - وكان فيه حية - ثم إن الحية جعلت تلسع أبابكر وصارت دموعه تنحدر... وقد كان الرسول وضع رأسه في حجر أبي بكر ونام. فسقطت دموع أبي بكر على رسول الله، فقال مالك يا أبابكر؟ قال لدغت فداك أمي وأبي. فتفل رسول الله على محل اللدغة فذهب ما يجده.
قال بعضهم والسر في اتخاذ رافضة العجم اللباد المقصص على رؤوسهم تعظيما الحية التي ادغت أبابكر...
ولما أصبح رسول الله قال لأبي بكر: أين ثوبك؟ فأخبره الخبر. وزاد في رواية أنه رأى على أبي بكر أثر الورم فسأل عنه فقال من لدغة الحية. فقال رسول الله هلا أخبرتني؟ قال كرهت أن أوقظك. فمسحه النبي فذهب ما به من ورم...
وحين أخبره أبوبكر بذلك رفع رسول الله يديه وقال: اللهم اجعل أبابكر معي في درجتي في الجنة. فأوحى الله إليه قد استجاب الله لك.
ثم إن أبابكر عطش في الغار فقال رسول الله له اذهب إلى صدر الغار فاشرب فانطلق أبو بكر إلى صدر الغار فوجد ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأزكى رائحة من المسك فشرب منه. فقال له رسول الله إن الله أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن يخرق نهراً من جنة الفردوس إلى صدر الغار لتشرب.
قال أبوبكر يا رسول الله ولي عند الله هذه المنزلة!! فقال النبي نعم، وأفضل والذي بعثني بالحق لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان عمله عمل سبعين نبياً).
وذكر الغزالي(12) في معرض تفسير رفض أبي بكر التداوي في علته التي مات بها: (إن للتداوي أسباباً. السبب الأول أن يكون المريض من المكاشفين - وقد كوشف - أبو بكر - بأنه انتهى أجله وأن الدواء لا ينفعه. ويكون ذلك معلوما عنده تارة برؤيا صادقة وتارة بحدس وظن وتارة بكشف محقق.
ويشبه أن يكون ترك الصديق التداوي من هذا السبب فإنه كان من المكاشفين: فانه قال لعائشة - في أمر الميراث - إنما هن أختاك، وإنما كانت لها أخت واحدة، ولكن كانت امرأته حاملا فولدت أنثى فعلم أنه كان قد كوشف بأنها حامل بأنثى. فلا يبعد أن يكون قد كوشف أيضاً بانتهاء أجله...
وروى الغزالي(13) أن النبي قال: (لو وزن إيمان أبي بكر بايمان العالم لرجح).
وذكر صاحب السيرة (14) أن الرسول قال (اتخذني الله خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا. وإنه لم يكن نبي إلا وله خليل ألا وإن خليلي أبوبكر) - قال النبي ذلك، على رواية الغزالي، قبل موته بخمسة أيام!!
وقد جاء أن الإنسان - بحسب رواية صاحب السيرة (15) يدفن في التربة التي خلق منها. وهو يدل على أن النبي وأبابكر وعمر خلقوا من تربة واحدة.
وقد روى عن أبي بكر - لما حضرته الوفاة - أنه قال لمن حضره إذا مت وفرغتم من جهازى فاحملوني حتى تقفوا بباب البيت الذي فيه قبر النبي. فقفوا بالباب وقولوا: السلام عليك يا رسول الله. هذا أبو بكر يستأذن. فإن أذن لكم بأن فتح الباب - وكان الباب مغلقا بقفل - فأدخلوني وادفنوني. وإن لم يفتح الباب فأخرجوني وادفنوني بالبقيع.
فلما وقفوا على الباب وقالوا ما ذكر سقط القفل وانفتح الباب وسمع هاتف من داخل البيت يقول: أدخلوا الحبيب فإن الحبيب مشتاق). - وكانت السيدة عائشة - بنت أبي بكر - وحدها بالدار كما هو معروف من الناحية التاريخية.
ذلك ما يتصل بأبي بكر -. أما ما يتعلق بعمر فإليك الأمثلة التالية:
ذكر صاحب السيرة(16) أن بلالا كان إذا أذن قال: (أشهد أن لا إله إلا الله حي على الصلاة. فقال عمر على أثرها: أشهد أن محمداً رسول الله. فقال رسول الله لبلال: قل كما قال عمر). أي أن ابن الخطاب، في هذا الحديث، يشرع الأذان ويضع صيغته. ولا نظن أن عمر نفسه يقبل بذلك لما فيه من تعريض بالنبي.
وروى البخاري(17) بأسانيده المختلفة عن أبي هريرة أنه قال: (بينا نحن عند رسول الله إذ قال بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت لمن هذا القصر؟ فقالوا لعمر).
وروى الطبراني عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: (من أحب عمر فقد أحبني ومن أبغض عمر فقد أبغضني(18) ).
وروى الطبراني وابن حيان والحاكم والبيهقي بأن (سعد بن سعنة - أحد أحبار اليهود الذين أسلموا - قال... ما بقى شيء من نعت محمد في التوراة إلا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أجدهما فيه: يسبق حلمه جهله ولا تزيده شدة الجهل إليه إلا حلماً. فكنت أتلطف له توصلا أن أخالطه فأعرف حلمه وجهله. فابتعت منه تمراً إلى أجل... فلما كان قبل مجيء الأجل بيومين أو ثلاثة أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه على عنقه، ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت: ألا تقضيني حقى!! إنكم يا بني عبد المطلب مطل...
فنظر عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير فقال: أي عدو الله!! تقول لرسول الله ما أسمع! وتفعل به ما أرى!! فو الله لو لا أحاذر فوته - أي من بقاء الصلح بين المسلمين وبين قومه - لضربت بسيفي رأسك. ورسول الله ينظر إلى عمر بسكون وتؤدة، وتبسم وقال: (أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر: أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة. وفي رواية: تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضى(19) ).
رسول الله يرجو من عمر أن يأمره بحسن الأداء أو بحسن القضاء، ويأمر صاحبه بحسن التباعة. وفي هذا، على ما نظن، إساءة لرسول الله ولعمر في آن واحد. ولكن معاوية لا يضيره أن يساء غلى أحد ما دام ذلك يخدم قضيته ويشبع نزواته.
وذكر أن النبي أراد (أن يصلى على جثمان عبد الله بن أبي - فمنعه عمر من ذلك وصار يجذبه ويقول يا رسول الله أتصلى على رأس المنافقين!! فنثر النبي ثوبه من عمر - أي جذبه بقوة - وقال إليك عني يا عمر... فنزل قوله تعالى: ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره - الآية. فما صلى على منافق بعد ولا قام على قبره.
وهذه من الآيات التي جاءت موافقة لرأي عمر(20) .
وفي حديث أبي هريرة: (أن النبي خرج في بعض مغازيه. فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف. فقال لها إن كنت نذرت فاضربي. فجعلت تضرب. ثم دخل عمر فألقت الدف عنها وقعدت عليه. فقال النبي إن الشيطان يخاف منك يا عمر... وإذا كان الشيطان يخاف منك فما بالك بامرأة ضعيفة العقل(21) !!).
وعندما أراد عمر أن يشتري خشبتين للناقوس الذي كان مزمعاً نصبه لتنبيه الناس للصلاة (إذ رأى في المنام: لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا للصلاة فذهب عمر إلى النبي ليخبره بالذي رأى - وقد جاء النبي الوحي بذلك. فما راع عمر إلا بلال يؤذن. فقال رسول الله - حيث أخبره عمر بذلك - قد سبقك بذلك الوحي(22) ).
وروى أن عمر بن الخطاب (كان يسقط من الخوف إذا سمع آية من القرآن مغشياً عليه، فكان يعاد أياماً... وكان في وجه عمر خطان أسودان من الدموع ولما قرأ عمر: إذا الشمس كورت، وانتهى إلى قوله تعالى: وإذا الصحف نشرت خر مغشياً عليه.
ومر يوماً بدا إنسان - وهو يصلى ويقرأ سورة الطور - فوقف يستمع، فلما بلغ قوله تعالى: إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع نزل عن حماره واستند إلى الحائط ومكث زماناً ورجع إلى منزله فمرض شهراً يعوده الناس ولا يدرون ما مرضه(23) ).
وذكر ابن سعد (الطبقات الكبرى ج ٤ ص ١٥٢) بأسانيده المختلفة عن عائشة (إن رسول الله قال: ما من نبي إلا في أمته معلم أو معلمان، وإن يكن في أمتي أحد فابن الخطاب: إن الحق يدور على لسان عمر(24) ).
وذكر الغزالي(25) أن النبي قال في عمر: (لو لم أبعث لبعثت أنت يا عمر).
وذكر ابن الأثير (أسد الغابة ج ٤ ص ٦٤) أن أبا بكر قال (لقد سمعت رسول الله يقول ما طلعت شمس على رجل خيراً من عمر). - لاحظ كلمة (رجل) وضعت بهذا الإطلاق فهي تشمل الجنس أو النوع الإنساني في الماضي والحاضر والمستقبل ما دامت هناك شمس ونوع إنساني بما فيه من أنبياء وغيرهم.
وجاء في الفخري لابن الطقطقي (ص ٢٧٧) أن رسول الله قال: (لي وزير ان من أهل السماء - جبرائيل وميكائيل -، ووزيران من أهل الأرض - أبو بكر وعمر -).
وعن ابن عمر (على ما يذكر ابن الأثير)(26) أنه (ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر... إلا نزل قرآن فيه على نحو ما قاله عمر). وقد قال رسول الله (في رواية ابن الأثير)(27) - عندما خطب عمر بن الخطاب إلى قوم فردوه - (لقد ردوا رجلا ما في الأرض رجل خيراً منه).
وقال جبرائيل (على ما يروى الزمخشري(28) ) (أن عمر فرق بين الحق والباطل فقال رسول الله أنت الفاروق).
وذكر الزمخشري أيضاً(29) (أنه كان لعمر أرض بأعلى المدينة، وكان ممره على مدارس اليهود فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم... ثم سألهم عن جبريل فقالوا ذاك عدونا: يطلع محمداً على أسرارنا وهو صاحب كل خسف وعذاب، وأن ميكائيل يجيء بالخصب والسلام. فقال لهم وما منزلتهما من الله؟ قالوا أقرب منزلة: جبريل عن يمينه وميكائيل عن ياسره. وميكائيل عدو لجبريل. فقال عمر لئن كانا كما تقولون فما هما بعدوين، ولأنتم أكفر من الحمير. ومن كان عدواً لأحدهما كان عدواً للآخر. ومن كان عدواً لهما كان عدواً لله.
ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقال النبي لقد وافقك ربك يا عمر). إشارة إلى قوله تعالى(30) (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين).
وأما عثمان فقد وضعت فيه أحاديث ولفقت حوله روايات كثيرة لا تقل في الكمية وفي النوع عما قيل في صاحبيه.
قال صاحب السيرة الحلبية (ج ٢ ص ٢١٧ - ٢١٨): (لما خطب على فاطمة قال له رسول الله: ما تصدقها؟ قال ليس عندي شيء. قال فأين درعك التي أعطيتك يوم كذا وكذا؟ قال عندي. فباعها من عثمان بن عفان بأربعمائة وثمانين درهماً.
ثم إن عثمان رد الدرع إلى على. فجاء على بالدرع والدراهم إلى رسول الله. فدعا رسول الله لعثمان بدعوات... فلما أصبح عثمان وجد في داره أربعمائة كيس في كل كيس أربعمائة درهم مكتوب على كل درهم: هذا ضرب الرحمن لعثمان بن عفان. فأخبر جبريل النبي بذلك. فقال النبي هنيئاً يا عثمان).
وإذا كان في السماء معمل لسك النقود - بهذا الشكل - فلماذا لم تنزل تلك النقود على النبي مباشرة ليأخذ منها حاجته دون اللجوء إلى هذه العملية الطويلة!!
وعن أبي سعيد الخدري (في رواية صاحب السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٤٨) (قال رأيت رسول الله من أول الليل إلى أن طلع الفجر رافعاً يديه الكريمتين يدعو لعثمان بن عفان. يقول: اللهم عثمان رضيت عنه فارض عنه).
وروى الترمذي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب (أن الرسول ذكر فتنة فقال يقتل فيها هذا مظلوما - يعني عثمان - وإن الله عصى أن يلبسه قميصاً وأنهم يريدون خلعه!! وأن النبي قال لعثمان فلا تخلعه(31) ).
وعن ابن عباس أن رسول الله قال: (قال لي جبريل إن أردت أن تنظر - من الأرض - شببه يوسف الصديق فانظر إلى عثمان بن عفان، ولتزوجه بنتي رسول الله(32) ).
وذكر ابن الجوزي أن المصريين عندما دخلوا على عثمان بعد حصاره الذي انتهى بمصرعه كان المصحف في حجره يقرأ فيه: (فمدوا إليه أيديهم فمد يده فضربت فسأل الدم - وقيل وقعت قطرة على عبارة: فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم...
وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس: أن رسول الله قال لعثمان: تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة فتقع قطرة من ذلك على: فسيكفيكهم الله(33) ).
وعن أبي سعيد الخدري: (قال رأيت رسول الله من أول الليل إلى أن طلع الفجر رافعاً يديه الكريمتين يدعو لعثمان بن عفان يقول: عثمان رضيت عنه فارض عنه(34) .
وعن عبد الله بن سلام أنه قال: (أتيت أخي عثمان لأسلم عليه وهو محصور فدخلت عليه فقال مرحباً يا أخي: رأيت رسول الله الليلة في هذه الخوخة - وهي البيت - فقال يا عثمان حصروك؟ قلت نعم. قال عطشوك؟ قلت نعم. فأدلى إلى دلواً فيه ماء فشربت حتى رويت حتى إني لأجد برده بين ثدى وبين كتفى. فقتل ذلك اليوم(35) ).
وسأل عبد الله بن سلام من حضر مقتل عثمان فقال: (تشحط عثمان في الموت حين جرح؟ ماذا قال عثمان وهو يتشحط؟ قالوا سمعناه يقول اللهم اجمع أمة محمد - قالها ثلاثا. قال والذي نفسي بيده لو دعا الله أن لا يجتمعوا أبداً ما اجتمعوا إلى يوم القيامة(36) ).
هذا ما يتصل بعثمان بن عفان من الأحاديث التي لفقها معاوية وأعانه عليها من هم على شاكلته ممن ذكرنا أسماءهم، وربما اشترك في ذلك بعض عقلاء اليهود لإشاعة الفتن في الإسلام.
أما معاوية فلم ينس نصيبه من تلك (الأحاديث) والروايات. وإلى القارئ نماذج منها: فهند أم معاوية لا تمسها النار على الرغم مما فعلته بالنبي كما هو معروف، وسبب ذلك أنها شقت بطن حمزة وأخرجت كبده فلاكتها فلم تستطع أن تستسيغها فلفظتها. (ولما بلغ النبي ذلك قال إن الله قد حرم النار تذوق من لحم حمزة شيئاً. ولو أكلت منه - أي استقر في جوفها - لم تمسها النار أيضاً... ورأيت في بعض السير أنها شوت منه ثم أكلت. وقد يقال لا منافاة لجواز حمل الأكل على مجرد المضغ من غير إساغة(37) ).
وروى عبد الله بن عمر عن النبي أنه قال: (لمعاوية أنت مني وأنا منك: لتزاحمني على باب الجنة كهاتين - وأشار بأصبعه الوسطى والتي تليها(38) .
وعن معاوية أنه قال: (فلما كان عام الفتح أظهرت إسلامي ولقيت رسول الله فرحب بي، وكتبت له - بعد أن استشار فيه جبرائيل فقال استكتبه فإنه أمين(39) ).
وذكر صاحب السيرة الحلبية أن الرسول أردف معاوية يوماً خلفه (فقال ما يليني منك؟ معاوية بطني، فقال النبي اللهم املأه حلماً وعلماً.
وعن العرباص بن سارية قال سمعت النبي يقول لمعاوية: اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب ومكن له في البلاد.
وعن بعض الصحابة أنه سمع النبي يدعو لمعاوية يقول اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به ولا تعذبه(40) ). وما يجري هذا المجري لا يكاد يقع حصر. وجميعه كما ذكرنا يقع ضمن ما سميناه (الجانب السلبي).
الجانب الإيجابي. لفق معاوية بالاستعانة بمن ذكرنا أسماءهم (وربما ساهم في ذلك عقلاء اليهود لإشاعة الفتن في الإسلام كما ذكرنا) طائفة أخرى من الأحاديث الملفقة والروايات المفتعلة للحط من قدر الإمام بنذر السندج من المسلمين وهذا طرف منها:
(روى الزهري أن عروة بن الزبير حدثه قال حدثتني عائشة قالت كنت عند رسول الله إذ أقبل العباس وعلى. فقال النبي يا عائشة هذان يموتان على غير قبلتي...
وزعم عروة أن عائشة حدثته فقالت: كنت عند النبي إذ أقبل العباس وعلى فقال الرسول: يا عائشة إن سرك أن تنظرى إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا!! فإذا العباس وعلي بن أبي طالب(41) ).
وذكر الطبري (أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مئة ألف درهم حتى يروى أن هذه الآية أنزلت في على: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام. وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها يهلك الحرث والنسل) وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي قوله: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله. فلم يقبل. فبذل له مئتي الف درهم فلم يقبل. فبذل له أربعمائة ألف درهم فقبل وروى ذلك(42) ).
ومن طريف ما عثرنا عليه في هذا الباب - وهو أمر يتعلق باتباع على أي أنه يتعلق به بصورة غير مباشرة - ما رواه (البزاز والطبراني - بسند صحيح - من أن رسول الله قال: يوشك أن يكثر فيكم العجم يأكلون أفياءكم ويضربون رقابكم... وإن رسول الله أيضاً أخبر بظهور الرافضة في أحاديث رواها البيهقي من طرق متعددة منها: يكون في أمتي قوم يسمو الرافضة فارفضوهم. وفي رواية اقتلوهم فإنهم مشركون) (43).
وأطرف من ذلك (ما جاء عن على كرم الله وجهه قال: صنع لنا عبد الرحمن ابن عوف طعاماً - أي شراباً من الخمر - فأكلنا وشربنا فأخذت الخمر، وحضرت الصلاة - أي الجهرية - وقدموني فقلت: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، إلى أن قلت وليس لي دين وليس لكم دين (44)). وما إلى ذلك من هذا الدس الرخيص.
وما دمنا في معرض التحدث عما وضع في على وماوئيه من أحاديث ملفقة وروايات مزورة فإننا نود أن نختتم هذه الدراسة بذكر (الرسائل) المتبادلة - على زعم واضعها - بين أبي بكر وعمر من جهة وبين على من جهة أخرى.
ويجمل بنا قبل أن نفعل ذلك أن ننبه القارئ إلى أن ابن أبي الحديد - كما سنرى - قد اتهم أبا حيان التوحيدي بوضع تلك الرسائل وإننا نتفق معه فيما ذهب إليه. وإلى القارئ نص تلك الرسائل، وتعليق ابن أبي الحديد عليها، وتعليقنا على ذلك التعليق.
ذكر أبو العباس أحمد القلقشندي أن أبا حيان - علي بن محمد التوحيدي البغدادي - قال: (سمرنا ليلة عند القاضي أبي حامد - أحمد بن بشر المرروزي - بغداد. فتصرف في المديث كل متصرف، وكان غزير الرواية، لطيف الدراية. فجرى حديث السقيفة، فركب كل مركباً وقال قولا وعرض بشيء ونزع إلى فن فقال: هل فيكم من يحفظ رسالة لأبي بكر إلى علي بن أبي طالب وجواب على عليها؟ ومبايعته إياه عقيب تلك المناظرة؟ فقال الجماعة لا والله. فقال هي والله من بنات الحقائق ومخبآت الصناديق، ومنذ حفظتها ما رويتها إلا لأبي محمد المهلبي في وزارته. فكتبها عني بيده، وقال لا أعرف رسالة أعقل ولا أبين، وإنها لتدل على علم وحلم وفصاحة ونباهة وبعد غور وشدة غوص (45).
فقال العباداتي: أيها القاضي فلو أتممت المنة علينا بروايتها!! أسمعناها: فنحن أوعى لك من للهلبي وأوجب زماما عليك.
فاندفع وقال: حدثنا الخزاعي بمكة عن أبي ميسرة قال حدثنا محمد بن أبي فليح عن عيسى بن دوأب بن المتاح، قال سمعت مولاي أبا عبيدة يقول: لما استقامت الخلافة لأبي بكر - بين المهاجرين والأنصار - بعد فتنة كاد الشيطان بها فدفع الله شرها ويسر خيرها، بلغ أبابكر عن على تلكؤ وشماس وتهمم ونفاس(46) . فكره أن يتمادى الحال فتبدو العورة وتشتعل الجمرة وتتفرق ذات البين. فدعاني بحضرته في خلوة، وكان عنده عمر بن الخطاب وحده. فقال. يا أبا عبيدة ما أيمن ناصيتك وابين الخير بين عينيك!! وطالما أعز الله بك الإسلام وأصلح شأنه على يديك!! ولقد كنت من رسول الله بالمكان المحوط والمحل المغبوط، ولقد قال فيك - في يوم مشهود -. لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة. ولم تزل للدين ملتجأ وللمؤمنين مرتجى، ولأهلك ركناً ولإخوانك رداء. قد أردتك لأمر خطره محوف وإصلاحه من أعظم المعروف، ولئن لن يندمل جرحه بيسارك ورفقك ولم تجب حيته برقيتك وقع اليأس وأعضل البأس واحتيج - بعد ذلك - إلى ما هو أمر منه وأعلق وأعسر منه وأغلق. والله أسأل تمامه بك ونظامه على يديك. فتأت له - أبا عبيدة - وتلطف فيه وانصح لله ولرسوله وهذه العصابة غير آل جهداً ولا قال حمداً، والله كالئك وناصرك وهاديك ومنصرك. إمض إلى على واخفض له جناحك، واغضض عنده صوتك. وأعلم أنه سلالة أبي طالب، ومكانه ممن فقدناه بالأمس مكانه. وقل له - البحر مغرفة والبر مفرقة والجو أكلف والليل اغدف والسماء جلواء والأرض صلعاء(47) والصعود متعذر والهبوط متعسر والحق عطوف رؤف والباطل عنوف عسوف والعجب قداحة الشر والضعن رائد البوار والتعريض شجار الفتنة والقحة ثقوب العداوة. وهذا الشيطان متكئ على شماله متحيل بيمينه، نافخ خصيتيه لأهله ينتظر الشتات والفرقة ويدب بين الأمة الشحناء والعداوة، عناداً لله أولا ولآدم ثانياً ولنبيه ودينه ثالثاً. يوسوس بالفجور ويدلي بالغرور ويمنى أهل الشرور. يوحى إلى أوليائه زخرف القول غروراً بالباطل دأبا له منذ كان على عهد أبينا آدم، وعادة له منذ أهانه الله في سالف الدهر - لا منجى منه إلا بعض الناجذ على الحق وغض الطرف عن الباطل ووطء هامة عدو الله بالأشد فالأشد والآكد فالآكد وإسلام النفس لله في ابتغاء رضاه. ولابد الآن من قول ينفع إذا ضر السكوت وخيف غبه ولقد أرشدك من أفاء ضالتك وصافاك من أحيا مودته بعتابك وأراد بك الخير من آثر البقاء معك.
ما هذا الذي تسول لك نفسك ويدوى به قلبك ويلتوى عليه رأيك ويتخاوص دونه طرفك ويسرى فيه ظعنك ويتراد معه نفسك وتكثر عنده صعداؤك ولا يفيض به لسانك؟ أعجمة بعد إفصاح! أتلبيس بعد إيضاح! أدين غير دين الله! أخلق غير خلق القرآن! أهدى غير هدى النبي! أمثلى تمشى له الضراء وتدب له الخمر!(48) أم مثلك ينقبض عليه الفضاء ويكسف في عينه القمر!! ما هذه القعقعة بالسنان؟ وما هذه الوعوعة باللسان؟ إنك - والله - جد عارف باستجابتنا لله ولرسوله وبخروجنا عن أوطاننا وأموالنا وأولادنا وأحبتنا: هجرة إلى الله ونصرة لدينه في زمان أنت فيه في كن الصبا وخدر الغرارة وعنفوان الشبيبة - غافل عما يشيب ويريب - لا تعى ما يراد ويشاد ولا تحصل ما يساق ويقاد سوى ما أنت جار عليه إلى غايتك التي إليها عدل بك وعندها حط رحلك، غير مجهول القدر ولا مجحود الفضل. ونحن في أثناء ذلك نعاني أحوالا تزيل الرواسي ونقاسي أهوالا تشيب النواصي: خائضين غمارها راكبين تيارها نتجرع صابها ونترع عيابها ونحكم آساسها ونبرم أمراسها(49) . والعيون تحدج بالحسد والأنوف تعطس بالكبر والصدور تستعر بالغيظ والأعناق تتطاول بالفخر والشفار تشحذ بالمكر والأرض تميد بالخوف: لا ننتظر عند المساء صباحا ولا عند الصباح مساء ولا ندفع في نحر أمر إلا بعد أن نحسو الموت دونه ولا نبلغ مراداً إلا بعد الإياس من الحياة عنده: فادين في جميع ذلك رسول الله بالأب والأم والخال والعم والمال والنشب والسبد واللبد والهلة والبلة - بطيب أنفس وقرة أعين وحب أعطان وثبات عزائم وصحة عقول وطلاقة أوجه وذلاقة السن، مع خفيات أسرار ومكنونات أخبار كنت عنها غافلا - ولو لا سنك لم تكن عن شيء منها ناكلا: كيف وفؤادك مشهوم وعودك معجوم.
والآن قد بلغ الله بك وأنهض الخير لك وجعل مرادك بين يديك، وعن علم أقول ما تسمع: فارتقب زمانك وقلص أردانك ودع التقعس والتجسس لمن لا يظلع لك إذا خطا ولا يتزحزح عنك إذا عطا. فالأمر غض والنفوس فيها مض وإنك أديم هذه الأمة فلا تحلم مجاجا، وسيفها العضب فلا تنبت اعوجاجا، وماؤها العذب فلا تحل أجاجا. ولقد سألت رسول الله عن هذا الأمر فقال لي: يا أبابكر هو لمن ترغب عنه لا لمن يجاحش عليه، ولمن يتضاءل عنه لا لمن يتنفج إليه. هو لمن يقال هو لك لا لمن يقول هو لي.
ولقد شاورني رسول الله في الصهر فذكر فتياناً من قريش فقلت أين أنت من على! فقال إني أكره لفاطمة ميعة شبابه وحداثة سنه. فقلت له متى كنفته يدك ورعته عينك حفت بهما البركة وأسبغت عليهما النعمة - مع كلام كثير خاطبته به رغبة فيك، وما كنت عرفت منك في ذلك لا جوجاء ولا لوجاء(50) . فقلت ما قلت وأنا أرى مكان غيرك وأجد رائحة سواك، وكنت إذ ذاك خيراً لك منك الآن لي. ولئن كان عرض بك رسول الله في هذا الأمر فلم يكن معرضاً عن غيرك وإن كان قال فيك فما سكت عن سواك. وإن تلجلج في نفسك شيء فهلم فالحكم مرضى والصواب مسموع والحق مطاع.
ولقد نقل رسول الله وهو عن هذه العصابه راض وعليها حذر: يسره ما يسرها ويسوءه ما ساءها ويكيده ما كادها ويرضيه ما أرضاها ويسخطه ما أسخطها. أما تعلم أنه لم يدع أحدا من أصحابه وأقاربه وسجرائه إلا أبانه بفضيلة وخصه بمزية وأفرده بحالة!! أتظن أنه ترك الأمة سدى بدداً عباهل مباهل طلاحى مفتونة بالباطل مغبونة عن الحق لا رائد ولا ذائد ولا ضابط ولا حائط ولا ساقى ولا واقى ولا هادى ولا حادى! كلا. والله ما اشتاق إلى ربه إلا بعد أن ضرب المدى وأوضح الهدى وأبان الصوى وأمن المسالك والمطارح وسهل المبارك والمهايع، وإلا بعد أن شدخ الشرك بإذن الله وشرم وجه النفاق لوجه الله وجدع أنف الفتنة في ذات الله وتفل في عين الشيطان بعون الله وصدع بملء فيه ويده بأمر الله(51) .
وبعد فهؤلاء المهاجرون والأنصار - عندك ومعك - في بقعة واحدة ودار جامعة: إن استقالوني لك وأشاروا عندي بك فأنا واضع يدي في يدك وصائر إلى رأيهم فيك - وإن تكن الأخرى فادخل فيما دخل فيه المسلمون وكن العون على مصالحهم والفاتح لغالقهم والمرشد الضالتهم والرادع لغوايتهم، فقد أمر الله بالتعاون على البر والتقوى والتناصر على الحق. ودعنا نقضى هذه الحياة الدنيا بصورة بريئة من الغل، ونلقى الله بقلوب سليمة من الضغن.
وبعد فالناس تمامة فاوفق بهم واحن عليهم ولن لهم ولا تشق نفسك بنا خاصة فيهم، واترك ناجم الحقد حصيداً، وطائر الشر واقعاً وباب الفتنة مغلقاً، فلا قال ولا قيل ولا لوم ولا تبيع. والله على ما نقول شهيد وبما نحن عليه بصير.
قال أبو عبيدة فلما تأهبت للنهوض قال عمر: كن لدى الباب هنيهة فلى معك دور في القول. فوقفت وما أدرى ما كان بعدى. إلا أنه لحقني بوجه يندى تهللا وقال لي: قل لعلى الرقاد محلمة والهوى مقحمة وما منا إلا له مقام معلوم وحق مشاع أو مقسوم ونبأ ظاهر أو مكتوم. وإن أكيس الكيس من منح الشارد تألفاً وقارب البعيد تلطفاً ووزن كل شيء بميزانه ولم يخلط خبره بعيانه ولم يجعل فترة مكان شبرة ديناً كان أو دنياً، ضلالا كان أو هدى. ولا خير في علم مستعمل في جهل، ولا خير في معرفة مشوبة بنكر. ولسنا كجلدة رفع البعير بين العجان والذنب. وكل صال فبناره وكل سيل فإلى قراره. وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعى وشي ولا كلامها اليوم لفرق أو رفق. وقد جدع الله أنف كل ذي كبر وقصم ظهر كل جبار وقطع لسان كل كذوب. فماذا بعد الحق إلا الضلال!!
ما هذه الخنزوانة التي في فراش رأسك؟ ما هذا الشجا المعترض في مدارج أنفاسك؟ ما هذه القذاة التي تغشت ناظرك؟ وما هذه الوحرة التي أكلت شراسيفك(52) ؟ وما هذا الذي لبست بسببه جلد النمر واشتملت عليه بالشحناء والنكر؟ ولسنا في كسرواية كسرى ولا في قيصرية قيصر. تأمل لإخوان فارس وأبناء الأصفر قد جعلهم الله جزراً لسيوفنا ودريئة لرماحنا ومرمى لطعاننا وتبعاً لسلطاننا، بل نحن في نور نبوة وضياء رسالة وثمرة حكمة وأثر رحمة وعنوان نعمة وظل عصمة بين أمة مهدية بالحق والصدق مأمونة على الرتق والفتق، لها من الله قلب أبي وساعد قوى ويد ناصرة وعين باصرة.
أتظن ظناً - يا علي - أن أبابكر وثب على هذا الأمر مفتئتاً على الأمة خادعاً لها أو متسلطاً عليها!! أتراه حل عقودها وأحال عقولها! أتراه جعل نهارها ليلا ووزنها كيلا ويقظتها رقاداً وصلاحها فساداً!!
لا والله: سلا عنها فولهت له وتطامن لها فلصقت به ومال عنها فمالت إليه واشمأز دونها فاشتملت عليه - حبوة حباه الله بها وعاقبة بلغه الله إليها ونعمة سربله جمالها ويد أوجب الله عليها شكرها وأمة نظر الله اليها. والله أعلم بخلقه وأرأف بعباده يختار ما كان لهم الخيرة.
وإنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة ومعدن الرسالة ولا يجحد حقك فيما أتاك الله، ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك وقرب أمس من قرابتك وسن أعلى من سنك وشيبة أروع من شبيبتك وسيادة لها أصل في الجاهلية وفرع في الإسلام ومواقف ليس لك فيها جمل ولا ناقة ولا تذكر فيها في مقدمة ولا تضرب فيها بذراع ولا أصبع ولا تخرج منها ببازل ولا هبع(53) .
ولم يزل أبوبكر حبة قلب رسول الله وعلاقة نفسه وعيبة سره ومفزع رأيه ومشورته وراحة كفه ومرمق طرفه - وذلك كله بمحضر الصادر والوارد من المهاجرين والأنصار، شهرته مغنية عن الدليل عليه.
ولعمري أنك أقرب إلى رسول الله قرابة، ولكنه أقرب منك قربة، والقرابة لحم ودم القرية نفس وروح. وهذا فرق عرفه المؤمنون ولذلك صاروا إليه أجمعون.
ومهما شككت في ذلك فلا تشك أن يد الله مع الجماعة ورضوانه لأهل الطاعة فادخل فيما هو خير لك اليوم وأنفع لك غدا، والفظ من فيك ما يعلق بلهاتك وانفث سخيمة صدرك عن تقاتك فإن يك في الأمد طول وفي الأجل فسحة فستأكله مريئاً أو غير مرئ وستشربه هنيئاً أو غير هنئ حين لا راد لقولك إلا من كان آيساً منك ولا تابع لك إلا من كان طامعاً فيك، يمض أهابك ويعرك أديمك ويزرى على هديك. هنالك تقرع السن من ندم وتجرع الماء ممزوجا بدم وحينئذ تأسى على ما مضى من عمرك ودارج قوتك فتود أن لو سقيت بالكأس التي أبيتها ورددت إلى حالتك التي استغويتها. ولله فينا وفيك أمر هو بالغه وغيب هو شاهد وعاقبة هو المرجو لسرائها وضرائها وهو الولي الحميد الغفور الودود.
قال أبو عبيدة: فتمشيت متزملا أنوء كأنما أخطو على رأسى، فرقاً من الفرقة وشقاً على الأمة حتى وصلت إلى على في خلاء فأبثثته بثى كله وبرئت إليه منه ورفقت به. فلما سمعها ووعاها وسرت في مفاصله حمياها قال خلت معلوطة وولت مخروطة وأنشأ يقول:
احدى لياليك فهيسى هيسي
لا تنعمى الليلة بالتعريس
نعم يا أبا عبيدة أكل هذا في أنفس القوم!! ويحسون به ويضطغنون على!
قال أبو عبيدة فقلت: لا جواب لك عندي إنما أنا قاض حق الدين وراتق فتق المسلمين وساد ثلمة الأمة، يعلم الله ذلك من جلجلان قلبي وقرارة نفسي.
فقال على والله ما كان قعودي في كن هذا البيت قصداً للخلاف ولا إنكاراً للمعروف ولا زراية على المسلمين، بل لما قد وقذني رسول الله من فراقه وأودعنى من الحزن لفقده، وذلك إنني لم أشهد بعده مشهداً إلا جدد على حزناً وذكرني شجنا. وإن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره، وقد عكفت على عهد الله أنظر فيه وأجمع ما تفرق رجاء ثواب معهد لمن أخلص لله عمله وأسلم لعلمه ومشيئته وأمره ونهيه.
على أنى ما علمت أن التظاهر على واقع ولا عن الحق الذي سيق إلى دافع، وإذ قد أفعم الوادي وحشد النادى من أجلى فلا مرحباً بما ساء أحداً من المسلمين وسرني وفي النفس كلام لو لا سابق عقد وسالف عهد لشفيت غيظي بخنصري وبصري وخضت لجته بأخمصي ومفرقي. ولكنني ملجم إلى أن ألقى ربي وعنده أحتسب ما نزل بي، وإني غاد إلى جماعتكم مبايع صاحبكم، صابر على ما ساءني وسركم ليقضى الله أمراً كان مفعولاً.
قال أبو عبيدة فعدت إلى أبي بكر فقصصت عليه القول على غرة ولم أختزل شيئاً من حلوه ومره، وبكرت غدوة إلى المسجد. فلما كان صباح يومئذ وإذا على مخترق الجماعة إلى أبي بكر فيايعه وقال خيراً ووصف جميلاً وجلس زميتاً. واستأذن للقيام فمضى وتبعه عمر مكرماً له مستأثراً لما عنده.
فقال على ما قعدت عن صاحبكم كارهاً ولا أتيته فرقاً ولا أقو لما أقول تعلة وإني لأعرف منتهى طرفى ومحط قدمى ومنزع قومى وموقع سهمي. ولكن قد أزمت على فاسى ثقة بربي في الدنيا والآخرة.
فقال عمر كفكف غربك واستوقف سربك ودع العصى بلحائها والدلاء على رشائها فأنا من خلفها وورائها: إن قدحنا أورينا وإن متحنا أروينا وإن قرحنا أدمينا. ولقد سمعت أماثيلك التي لغزت بها عن صدر أكل بالجوى، ولو شئت لقلت على مقالتك ما أن سمعته ندمت على ما قلت. وزعمت أنك قعدت في كن بيتك لما وقذك به رسول الله من فقده، فهو وقذك ولم يقذ غيرك؟ بل مصابه أعظم وأعم من ذلك وإن من حق مصابه أن لا تصدع شمل الجماعة بفرقة لا عصام لها ولا يؤمن كيد الشيطان في بقائها. هذه العرب حولنا والله لو تداعت علينا في صبح نهار لم نلتق في مسائه.
وزعمت أن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره، فمن علامة الشوق إليه نصرة ومؤازرة أوليائه ومعونتهم.
وزعمت أنك عكفت على عهد الله تجمع ما تفرق منه فمن العكوف على عهد الله النصيحة لعباد الله والرأفة على خلق الله وبذل ما(54) يصلحون به ويرشدون عليه.
وزعمت أنك لم تعلم أن التظاهر واقع عليك: وأي حق لط دونك؟ قد سمعت وعلمت ما قال الأنصار بالأمس سراً وجهراً وتقلبت عليه بطناً وظهراً فهل ذكرت أو أشارت بك أو وجدت رضاهم عنك؟ هل قال أحد منهم بلسانه أنك تصلح لهذا الأمر؟ أو أومأ بعينه أو هم في نفسه؟ أتظن أن الناس ضلوا من أجلك؟ وعادوا كفارا فيك؟ وباعوا الله تحاملا عليك؟ لا والله لقد جاءني عقيل بن زياد الخزرجي في نفر من أصحابه ومعهم شرحبيل بن يعقوب الخزرجي وقالوا: إن علياً ينتظر الإمامة ويزعم أنه أولى بها من غيره وينكر على من يعقد الخلافة. فأنكرت عليهم ورددت القول في نحرهم حيث قالوا: إنه ينتظر الوحي ويتوكف مناجاة الملك فقلت ذاك أمر طواه الله بعد نبيه محمد. أكان الأمر معقوداً بأنشوطة أو مشدوداً بأطراف ليطة(55) ؟ كلا. والله لا عجماء بحمد الله إلا أفصحت ولا شوكاء إلا قد تفتحت.
ومن أعجب شأنك قولك: ولو لا سالف عهد وسابق عقد لشفيت غيظي. وهل ترك الإسلام لأهله أن يشفوا غيظهم بيد أو بلسان؟ تلك جاهلية قد استأصل الله شأفتها واقتلع جرثومتها وهور ليلها وغور سيلها وأبدل منها الروح والريحان والهدى والبرهان. وزعمت أنك ملجم. ولعمري أن من اتقى الله وآثر رضاه وطلب ما عنده أمسك لسانه وأطبق فاه وجعل سعيه لما وراه.
فقال على مهلا يا أبا حفص!! والله ما بذلت ما بذلت وأنا أريد نكثه ولا أقررت ما أقررت وأنا أبتغى حولا عنه. وأن أخسر الناس صفقة عند الله من آثر النفاق واحتضن الشقاق، وفي الله سلوة عن كل حادث وعليه التوكل في جميع الحوادث. ارجع يا أبا حفص إلى مجلسك ناقع القلب مبرود الغليل فسيح اللبان فصيح اللسان فليس وراء ما سمعت وقلت إلا ما يشد الأزر ويحط الوزر ويضع الأصر ويجمع الألفة بمشيئة الله وحسن توفيقه.
قال أبو عبيدة فانصرف على وعمر. وهذا أصعب ما مر على بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تلك هي الرسائل الشفوية التي تبودلت - على ما يزعم أبو حيان التوحيدي - بين أبي بكر وعمر من جهة وبين علي بن أبي طالب من جهة أخرى. وقد تبودلت تلك الرسائل - على حد زعمه - في أوائل خلافة أبي بكر - عن طريق أبي عبيدة - عندما امتنع على من مبايعة أبي بكر بالخلافة. وقد أسند أبو حيان - كما رأينا - قصة الرسائل المذكورة إلى أبي حامد (أحمد بن بشر المرروذي) الذي أسندها بدوره غلى الخزاعي بمكة عن أبي ميسرة عن محمد بن أبي فليح عن عيسى بن دوأب بن المتاح (مولى أبي عبيدة) عن أبي عبيدة. والرسائل المزعومة إما أن تكون صحيحة الوقوع من الناحية التاريخية، أو أن تكون موضوعة وملفقة (كلها أو بعضها) سواء أكان ذلك من حيث الأفكار إلى تضمنتها - دون الأسلوب - أم من حيث تلك الأفكار والأسلوب معا.
وإذا كانت الرسائل المذكورة ملفقة فإما أن يكون أبو حيان هو الذي لفقها أو أن يكون قد لفقها شخص آخر (عاش قبل أبي حيان أو عاصره).
وقد وقف الذين تصدوا البحث في تلك الرسائل موقفين متناقضين: ادعى أحدهما أنها موضوعة وزعم الثاني أنها ليست كذلك.
أما نحن فنميل إلى الاعتقاد بأنها موضوعة على ألسنة من نسبت اليهم، ويغلب على ظننا أن أبا حيان التوحيدي هو الذي وضعها. وقد سبقنا إلى ذلك - بالطبع - ابن أبي الحديد.
وإلى القارئ نص رأيه فيها(56) (قلت الذي يغلب على ظني أن هذه المراسلات والمحاورات والكلام كله مصنوع موضوع، وأنه من كلام أبي حيان التوحيدي لأنه بكلامه ومذهبه في الخطابة والبلاغة أشبه. وقد حفظنا كلام عمر ورسائله وكلام أبي بكر وخطبه فلم نجدهما يذهبان هذا المذهب... وهذا كلام عليه أثر التوليد ليس يخفى. وأين أبوبكر وعمر من البديع وصناعة المحدثين!! ومن تأمل كلام أبي حيان عرف هذا الكلام من ذلك المعدن خرج.
ويدل عليه أنه أسنده إلى القاضى أبي حامد المروذي وهذه ءادته في كتاب البصائر: يسند إلى القاضي أبي حامد كل ما يريد أن يقوله هو من تلقاء نفسه إذا كان كارهاً لأن ينسب إليه...
ومما يوضح لك أنه مصنوع أن المتكلمين على اختلاف مقالاتهم من المعتزلة والشيعة والأشعرية وأصحاب الحديث وكل من صنف في علم الكلام والإمامة لم يذكر أحد منهم كلمة واحدة من هذه الحكاية.
ولقد كان الرضى يلتقط من كلام أمير المؤمنين اللفظ الشاذ والكلمة المفردة عنه...
وكان الرضى إذا ظفر بكلمة من هذه فكأنما ظفر بملك الدنيا، ويودعها كتبه وتصانيفه. فأين كان الرضى عن هذا الحديث؟... وكذلك من قبله من الإمامية كابن النعمان وبني نوبخت وبني بابويه وغيرهم، وكذلك من جاء بعده من متأخرى متكلمي الشيعة وأصحاب الأخبار والحديث منه إلى وقتنا هذا.
وأين كان أصحابنا عن كلام أبي بكر وعمر لعلى؟ وهلا ذكره قاضى القضاة في المعنى مع احتوائه على كل ما جرى بينهم حتى أنه يمكن أن يجمع منه تاريخ كبير مفرد في أخبار السقيفة؟!
وهلا ذكره من كان قبل قاضى القضاة من مشايخنا وأصحابنا؟ ومن جاء بعده من متكلمينا ورجالنا؟ وكذلك القول في متكلمي الأشعرية وأصحاب الحديث كابن الباقلاني وغيره.
وكان ابن الباقلاني شديداً على الشيعة عظيم العصبية على على، فلو ظفر بكلمة من كلام أبي بكر وعمر في هذا الحديث لملأ الكتب والتصانيف بها وجعلها هجيراه ودأبه؟ والأمر فيما ذكرناه من صنع هذه القصة ظاهر لمن عنده أدنى ذوق من علم البيان ومعرفة كلام الرجال ولمن عنده أدنى معرفة بعلم السير وأقل أنس بالتواريخ.
يتضح مما ذكرناه أن ابن أبي الحديد يعتبر (الرسائل) المذكورة موضوعة من قبل أبي حيان التوحيدي لأنها بكلامه أشبه وذلك لما عليها من أثر التوليد وألوان البديع الشائعة في عصره، وأنه - كعادته في أمثال تلك الأمور - أسندها إلى غيره ليتملص من مسئوليتها وأن الرسائل المذكورة لا تشبه رسائل عمر المعروفة، ولا تقرب من خطب أبي بكر في أسلوبها.
ومما يدل على أنها من وضعه أنه لم يعثر عليها إلا عنده.
وإن الباحث لا يستطيع العثور على تلك الرسائل - أو على جزء منها - عند المتكلمين على اختلاف مذاهبهم ومقالاتهم وأن رسالة على خاصة كان من الممكن - لو صحت - أن يلتقطها الشريف الرضي، كما أن رسالتي أبي بكر وعمر - لو وجدتا حقا - لا لتقطهما قاضى القضاة أو الباقلاني. فوضع هذه الرسائل إذن واضح وميسور لمن له أدنى ذوق في علم البيان وأقل اطلاع في التاريخ...
وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول أن لما ذكره ابن أبي الحديد صلة قوية بأخلاق أبي حيان وطريقته في التأليف.
فإذا تصدى الباحث لدراسة أخلاق أبي حيان - عن طريق مؤلفاته - أمكنه أن يزعم أنه (أكثر الرواية عن غيره وأن أغلب ما أورده من آراء في اللغة والأدب والتاريخ والفلسفة والفقه عزاه إلى أساتذته أو معاصريه.
شهد الناقدون ومؤرخو الأدب هذا الإكثار من الرواية مع وحدة الأسلوب وطريقة العرض على الأغلب. فاتهموا الرجال باصطناع الآراء ونسبتها إلى غيره إما تخفيا من وزرها وإما رفعاً لشأنها بنسبتها إلى محدث أو فيلسوف ذي شأن. ونتيجة نتبعي لمروياته... وجدتها تنقسم ثلاثة أقسام:
قسم يأخذ فيه الفكرة غفلا فيدخل فيها وسائل التهذيب... ثم يعرضها بأسلوبه... وهو عندها يحتفظ بحق صاحب الفكرة من نسبتها له، ثم يشير إلى ما أدخل في سبيل استقامتها واستوائها من تغيير وزيادة.
وقسم يحافظ فيه على الفكرة بحدودها التامة فلا يزيد ولا ينقص، ولا يهذب ولا يشذب، ولكن يلبسها أسلوبه وعبارته.
وقسم ثالث يحتفظ فيه بالفكرة والعبارة جميعاً ولا يدخل عليه من عمله شيئاً... وعلى هدى التقسيم السابق يصح أن نسأل: في أي قسم من مروياته يتجه الاتهام بالوضع؟ أفي ذلك الذي اعترف بما أدخل عليه من زيادة ونقص وتحوير وتبديل وخرق ورقع؟ إن كان في هذا فما سبيلنا إلى اتهامه؟... لا سبيل لنا إلى اتهامه إلا بثبات أن الأفكار في نفسها ليست لهؤلاء الذين نسبت إليهم...
إنني على بليغ تتبعي لم أعثر على اتهام له - استثنى شيئاً قليلاً -... ويلحق القسم الثاني بالأول في هذه الناحية... ولم يبق مجال الاتهام مقبولا إلا في هذا الذي ادعى أبو حيان روايته فكرة وعبارة...
وأستطيع أن أزعم أن هذا القسم الأخير لم يتهم فيه إلا في موارد محدودة ألبست ثوب التعميم والشمول...
بعض هذه التهم يتصل بتحريف - يقال - أنه أدخله على الأحاديث النبوية، وبعضها بنصوص أدبية رواها عن مشايخه ومعاصريه... ومنها الرسائل المتبادلة بين أبي بكر وعمر وعلى بحادثة السقيفة(57) ).
يتضح مما ذكرنا أن أبا حيان متهم، وإن كان ذلك الاتهام مبالغاً فيه من حيث الكثرة العددية (بنظر بعض الباحثين). ولم يستطع المدافعون عن أبي حيان نفي التهمة عنه، بل بالعكس: فقد أقروها من حيث الأساس وإن حددوا مجالها.
أما نحن فلا يعنينا - في هذه الدراسة - سعة مجال الوضع عند أبي حيان بمقدار ما يهمنا اتصافه به، وخاصة عندما أخفق المعتذرون عنه في محاولاتهم تبرئة ساحته عن تلفيق أحاديث على النبي وتزوير رسائل على الخلفاء الراشدين.
ومما يؤيد وجاهة ما ذهبنا إليه أن أبا نصر الشجرى ذكر أنه سمع المالنين يقول:
قرأت الرسالة المنسوبة إلى أبي بكر وعمر - مع أبي عبيدة - إلى على، على أبي حيان فقال: هذه الرسالة عملتها رداً على الرافضة.
وسببه أنهم كانوا يحضرون مجلس بعض الوزراء فيغلبون على حال على(58) ).
وهناك بالإضافة إلى ما ذكرناه - أمور أخرى تثبت أن الرسائل الآنفة الذكر - بالشكل الذي جاءت فيه - ملفقة من الناحية التاريخية (بغض النظر عمن لفقها). وأدلتنا على ذلك هي:
١ - أسلوبها الذي أشرنا إليه. فهي بالإضافة إلى كثرة السجع المنبث بين جملها تحتوى على ألوان من البديع لم يألفه النثر في صدر الإسلام في الرسائل وفي الخطب على السواء. فقد كان النثر آنذاك - كما هو معروف - تؤدى معانيه بأيسر أساليب التأدية، وبألفاظ أغلبها يجري مجرى ألفاظ القرآن والحديث. وهذا يعني بعبارة أخرى مساوقة الذوق والابتعاد عن التكلف والتقعر في الأسلوب، وتجنب الإطالة والتكرار.
أما الرسائل المذكورة فمحشوة بصنوف ألوان البديع: وفي مقدمتها - كما لاحظنا - الجناس، التام منه وغير التام، والطباق (الإيجابي منه بصورة خاصة)، والمقابلة وهي أمور شاعت في الرسائل بعد عهد الخلفاء الراشدين، وألف الكتاب استعمالها - على نطاق كبير - في القرن الرابع الهجري - وهو الزمن الذي عاش فيه أبو حيان.
ومما يلفت النظر أن الرسائل الآنفة الذكر تكاد كل جملة منها أن تشتمل على لون واحد أو أكثر من المحسنات البديعية التي أشرنا إليها.
أما الجمل التي خلت من ذلك فيلوح الباحث أن أبا حيان تقصد أن يجعلها كذلك إيهاما للباحثين.
٢ - تماثل تلك الرسائل في الأسلوب تماثلا تاما بحيث لا ينتبه السامع أو القارئ إلى أنها رسائل مختلفة لأشخاص مختلفين في أساليبهم التعبيرية على الأقل. ولو لا إشارة أبي حيان إلى أسماء (أصحابها) لخيل المرء أنها تعود لشخص واجد.
٣ - قدرة أبي عبيدة العجيبة على حفظها - بمجرد سماعها - على ما فيها من ألفاظ غريبة: وهو أمر لا يصدقه العقل ولا تقره الخبرة إلا في معرض الأساطير والروايات الخيالية.
٤ - إطناب أبي بكر في الثناء على أبي عبيدة في صدر رسالته بشكل لا يجيزه أبو بكر لنفسه أو أنه كان صاحبها. كما أنه ليس لأبي عبيدة من المآثر في عهد النبي ما يستحق معه مثل ذلك الإطراء.
٥ - التناقض الكبير بين قول أبي بكر لأبي عبيدة (امض إلى على واخفض له جناحك واغضض عنده صوتك واعلم أنه سلالة أبي طالب، ومكانه ممن فقدناه بالأمس مكانه).
وبين تأنيبه علياً وغمزه إياه ولمزه في ثنايا الرسالة: فقد قال أبو بكر لعلي: (أعجمة بعد إفصاح!... أدين غير دين الله!!).
هذا مع العلم أنه لم تكن هناك ضرورة لاستمال هذه العبارات القاسية خاصة أن أبابكر - لو صحت الرسالة - كان راغباً في استمالة على ليبايع له بالخلافة دون استثارة أو تحد.
وهناك أيضاً عدم انسجام بين قول أبي بكر لأبي عبيدة: (قد أردتك لأمر خطره مخوف وإصلاحه من أعظم المعروف ولئن لم يندمل جرحه... وقع اليأس وأعضل البأس) وبين قوله لعلى:
(ما هذه الوعوعة باللسان!! والقعقعة بالشنان!) فموقف من الخطورة على ما رأيناه هو أكثر دور شك من وعوعة باللسان وقعقعة بالشنان.
٦ - لو صحت رسالة أبي بكر فليس هناك مبرر لرسالة عمر التي احتوت من حيث الأساس على عبارات ذكرها أبوبكر من حيث المعنى مضافا إليها عبارات مثيرة لا لزوم لها!!
٧ - الرد المتهافت في (رسالة) على فقد جاءت تلك الرسالة خلواً من مناقشة الحجج التي اشتملت عليها رسالة أبي بكر المزعومة. كما أن علياً بدا - في معرض النقاش مع عمر - على غير حقيقته من الرجولة والشجاعة وقوة العارضة.
٨ - إشارة عمر في رسالته على استيلاء العرب على سلطان كسرى - وذلك في أوائل خلافة أبي بكر في حين أن ذلك الاستيلاء لم يتم كما هو معلوم إلا في خلافة عمر. فكان واضع الرسائل نسى ذلك أو تناساه - وهو من أبسط حقائق التاريخ الإسلامي.
والخلاصة: إننا نقول - في واضع تلك الرسائل - ما قاله أبو جعفر الإسكافي في الجاحظ الذي وضع رسالة مماثلة سماها العثمانية.
(أما القول... فممكن والدعوى سهلة سيما على مثل الجاحظ: فإنه ليس على لسانه - من دينه وعقله - رقيب، وهو من دعوى الباطل غير بعيد. فمعناه نزر وقوله لغو ومطلبه سجع وكلامه لعب ولهو. يقول الشيء وخلافه، ويحسن القول وضده: ليس له من نفسه واعظ ولا لدعواه حد قائم(59) ).
ذلك ما يتصل بالشق الأولى من الموضوع: وهو التحدث عز تلك الرسائل الملفقة من حيث أسلوبها وملابساتها العامة. أما الشق الثاني من الموضوع فهو التحدث عن تلك الرسائل من حيث مادتها والأفكار التي انطوت عليها.
وقبل أن نفعل ذلك يجمل بنا أن ننبه القارئ إلى أنه ربما لاحظ معنا - أثناء قراءته تلك الرسائل - أنها تحتوى على طائفة كبيرة من الأفكار، وأن مناقشتها بتفاصيلها تحتاج إلى دراسة خاصة قائمة بذاتها. ولهذا فسوف نحصر البحث في المناطق البارزة منها:
١ - وضع أبو حيان التوحيدي - على لسان أبي بكر - طائفة من الأمور التي تسترعى انتباه الباحثين:
(ا) قال مخاطباً علياً (أدين غير دين الله؟ أخلق غير خلق القرآن؟ أهدى غير هدى النبي؟) أهو على - يا أبا حيان - من يريد ديناً غير دين الله!! وخلقاً غير خلق القرآن!! وهدياً غير هدى النبي! أم هو غيره؟ هل في سيرة الإمام - منذ نشأته حتى مصرعه - حادثة واحدة لا تنسجم هي ونصوص القرآن وسيرة النبي؟.
(ب) (إنك والله عارف باستجابتنا لله ولرسوله وبخروجنا عن أوطاتنا وأموالنا وأولادنا وأحبتنا: هجرة لله ونصرة لدينه في زمان أنت فيه في كن الصبا وخدر الغرارة وعنفوان الشبيبة - غافل عما يشيب ويريب لا تعى ما يراد ويشاد.
ونحن في أثناء ذلك نعاني أحوالا تزيل الرواسي، ونقاسى أهوالا تشيب النواصي... لا ننتظر عند الصباح مساء...
ولا ندفع في نحر أمر إلا بعد أن نحسو الموت دونه ولا نبلغ مراداً إلا بعد الإياس من الحياة عنده).
نعم يا أبا حيان: على عارف بخروجهم. ولكنك أغفلت عليهم بخروجه في سبيل الله. ثم هل تعتبر الحصول على الخلافة - يا أبا حيان - ثمناً لذلك الخروج؟
وإذا كان الأمر كذلك فقد خرج آخرون في سبيل الله فلماذا حرمتهم من الخلافة؟
وإذا كان الخروج والتعذيب في سبيل الله هو مقياس الكفاءة للحصول على الخلافة ألا يكون عمار بن ياسر أولى بها من غيره؟
ثم هل كان على آنذاك في كن الصبا وخدر الغرارة؟ وما الأهوال التي قاساها أبوبكر مع النبي وقصر على عنها؟!
أكان ذلك أثناء حصار بني عبد المطلب في الشعب؟ أم أثناء المبيت على فراش النبي عندما تآمر على قتله كفار قريش؟ أم عند الثبوت معه في أحد؟ أم عند مبارزة فارس العرب عمرو بن عبد ود أثناء حصار المدينة في حرب الخندق؟ أم عند خيبر وملاقاة بطلها مرحب؟
(ج) (أتظن يا علي أن الرسول ترك الأمة سدى: عباهل مباهل، طلاحى مفتونة بالباطل مغبونة عن الحق لا رائد ولا ذائد). إن هذا القول عليك لا لك يا أبا حيان. إن علياً هو القائل أن الرسول (لم يترك أمته سدى عباهل مباهل...).
(د) (لقد شاورني الرسول في الصهر فذكر فتياناً من قريش فقلت: أين أنت من على؟ فقال إني أكره لفاطمة ميعة شبابه وحداثة سنه).
كذبت يا أبا حيان على رسول الله في هذا الأمر العائلي المحض.
كذبت في ذلك كذبة مزدوجة: في الاستشارة ذاتها وفي اتهام الرسول لعلى بميعة الشباب.
(هـ) (ولقد سألت رسول الله عن هذا الأمر فقال لي: يا أبابكر، هو لمن يرغب عنه لا لمن يجاحش عليه ولمن يقال هو لك لا لمن يقول هو لي؟).
هل ذهب المسلمون إلى أبي بكر وهو بداره في النسخ وقدموا له الخلافة؟
وهل ذهب أبوبكر إلى للسقيفة ليعبر عن رغبته عن الخلافة؟
وهل ترك جثمان النبي مسجى على فراش الموت ليفهم المسلمين آنذاك أنه غير راغب فيها؟
٢ - ووضع أبو حيان على لسان عمر طائفة من الأمر تستلزم البحث والاستقصاء:
(ا) (أتظن يا علي أن أبابكر وثب على هذا الأمر مفتانا على الأمة خادعاً لها أو متسلطاً عليها؟... سلا عنها فولهت له وتطامن لها فلصقت به ومال عنها فمالت إليه واشمأز دونها فاشتملت عليه). أية أمة هذه التي يتكلم عنها ابن الخطاب هل الذين اجتمعوا في السقيفة هم الأمة؟ وهل سئل أبوبكر تلك (الأمة) المجتمعة في السقيفة فولهت له عندما نازع الأنصار خلافة النبي؟
(ب) (وإنك بحيث لا يجهل موضعك من الرسالة... ولكن لك من يزاحمك بمنسكب أضخم من منكبك وقرب أمس من قرابتك وسن أعلى من سنك وشيبة أروع من شبيبتك وسيادة لها أصل في الجاهلية وفرع في الإسلام ومواقف ليس لك فيها جمل ولا ناقة...) ما هي تلك المواقف التي انفرد بها أبوبكر دفاعا عن الإسلام وقصر دونها الإمام؟ وأي أصل في الجاهلية لأبي بكر يفوق به الإمام؟ وإذا كانت شروط الخلافة لا تتجاوز ما ذكره ابن الخطاب فلماذا زاحم أبوبكر سعد بن عبادة في أمر الخلافة مع توافر تلك الشروط فيه؟
(ج) (ولم يزل أبو بكر حبة قلب النبي وعلاقة نفسه وعيبة سره ومفزع رأيه ومشورته وراحة كفه ومرمق طرفه). إذ هذا القول يا أبا حيان ذم ضمنى لرسول الله. إن رسول الله أسمى من أن يلجأ إلى بشر في رأيه وسره: إنه يفزع إلى الله عند الشدائد، إلى الله دون سواه حسب تعاليم الإسلام وبنص كتاب الله العزيز.
(د) (ولعمري إنك أقرب إلى رسول الله قرابة ولكنه أقرب منك قربة: والقرابة لحم ودم، والقربة نفس وروح). إن علياً - يا أبا حيان - أقرب إلى رسول الله قرابة وقربة: فهو قريبه في النسب وقريب منه في العقيدة والأخلاق. وقد سار على منواله - كما رأينا - في تصرفاته العامة والخاصة على السواء.
(هـ) ذكر أبو حيان - على لسان عمر - قول عمر لعلي (بعد البيعة) (إن الإسلام لم يترك لأهله أن يشفوا غيظهم بيد أو بلسان، وإن تلك (أي محاولة شفاء الغيظ باليد أو باللسان) جاهلية استأصل الله شأفتها...) في حين أن (رسالته) الأولى والثانية (قبل البيعة المزعومة وبعدها) من أشد أنواع شفاء المرء غيظه باللسان ومن أكثرها إيغالا في الجاهلية التي استأصل الله شأفتها من الناحية التشريعية النظرية ولم تستطع الوراثات الاجتماعية أن تستأصلها من نفوس القوم (كأبي حيان ومن هم على شاكلته من القدامي والمحدثين) أو تخفف من حدتها وتقلل من صرامتها على الأقل.
________________
(١) ابن أبي الحديد: (شرح نهج البلاغة) ١ / ٥ - ٦ الطبعة الأولى.
(٢) ابن حجر (الاصابة في تمييز الصحابة) ٢ / ٥٠١ - ٥٠٢.
(3) رسائل الجاحظ ص ١٤ - ١٥.
(4) سيرة دحلان: ٣ / ١٤٦.
(5) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤١.
(6) المصدر نفسه: ٣ / ٣٥٣.
(7) صحيح البخاري ٤ / ١٩٢.
(8) المصدر نفسه ٤ / ١٩٥.
(9) المصدر نفسه ٤ / ١٩٦.
(10) السيره الحلبية ٢ / ٢٠١ - ٢٠٢.
(11) المصدر نفسه: ٢ / ٣٤.
(12) الغزالي: احياء علوم الدين ٢ / ٢٧٩.
(13) احياء علوم الدين ٣ / ١٥٧.
(14) السيرة الحلبية ٢ / ٣٨٣.
(15) المصدر نفسه ٢ / ٤٠٣.
(16) السيرة الحلبية ٣ / ١٠٤.
(17) صحيح البخاري ٤ / ١٩٨.
(18) سيرة دحلان ٣ / ٣٧٣.
(19) سيرة دحلان ٣ / ٢٦٧ - ٢٦٨.
(20) المصدر نفسه ٣ / ٢٧١ - ٢٧٢.
(21) السيرة الحلبية: ٢ / ٦٦.
(22) ابن هشام، سيرة النبي ٢ / ١٢٩.
(23) الغزالي احياء علوم الدين ج ص ١٨٠.
(24) ابن سعد الطبقات الكبرى ٤ / ١٥٢.
(25) احياء علوم الدين ٣ / ١٥٧ وكذا ابن الاثير (أسد الغابة ج ٤ ص ٦٤).
(26) أسد الغابة ٤ / ٦٣.
(28) المصدر نفسه ٤ / ٩٤.
(29) تفسير الكشاف ١ / ٤٠٦.
(30) البقرة.
(31) سيرة دحلان ٣ / ٢٠٥.
(32) السيرة الحلبية ٢ / ١٩٤.
(33) السيرة الحلبية ٢ / ٨٣.
(34) المصدر نفسه ٢ / ١٤٨.
(35) الغزالي احياء علوم الدين ٣ / ٤٦٣.
(36) المصدر نفسه ٣ / ٤٦٣.
(37) السيرة الحلبية ٢ / ٢٥٧.
(38) سيرة دحلان ٢ / ٣٢٥.
(39) السيرة الحلبية ٢ / ١٠٩.
(40) المصدر نفسه ٢ / ١٠٩.
(41) ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ١ / ٣٥٨.
(42) المصدر نفسه.
(43) سيرة دحلان ٣ / ٢١٣.
(44) السيرة الحلبية ٣ / ٣٥.
(45) صبح الأعشى ١ / ٢٣٧، ٢٤٧.
(46) الشماس المعاندة، والتهمم الطلب والتجسس، والنفاس المنافسة.
(47) تجب تقطع، اكلف اسود تعلوه حمرة، اغدف مظلم، جلواء مصحية، صلعاء خالية لا شجر فيها.
(48) افاء ارجع، يتخاوص يغض من بصره، الضراء الاستخفاء، ما واراك من شجر وهو مثل يضرب لمن يخدع صاحبه، الشنان جمع شن وهي القربة البالية الصغيرة. وتدب له الخمر مثل بضرب لمن يختل صاحبه.
(49) نشرح عيابها ننضدها ونضم بعضها إلى بعض، والعياب جمع عيبة وهي زنبيل من آدم تجعل فيه الثياب، امراص جمع مرس وهو الحبل.
(50) السبد الشعر واللبد الصوف، الهلة من الفرح والاستهلاك والبلة من البلل والخير. عطا مد إليك عنقه وأقبل نحولا. مشهوم زكى متوقد، حلم الجلد فسد وتثقيب، يجاحش عليه يطلبه ويدافع عنه. يتنفج غليه يتطلع غليه ويفتخر به. ما كنت عرفت منك لا جوجاء ولا لوجاء أي ما كنت عرفت منك شيئاً.
(51) سجرائه أصدقائه مباهل أي مهملة، الصوى الأعلام، المهايع: الطرق.
(52) الرفع أسل النخذ من باطن، العجان الأست: يريد أن منزلتهم ليست حقيرة. الشيء انباع للعي. الخنزوانة الكبر. الوحرة الحقد، الشراسيف جمع شرسوف وهو مقطع الضلع.
(53) البازل الجمل القوى الذي دخل في سنة التاسعة، والهبع الذي ينتج في الصيف فيكون ضعيفاً.
(54) معلوطة مفتحمة من غير روية، مخروطة مسرعة، هسى سيرى أي سير كان، يضطغنون يحقدون، جلجلان قلبي أي حبته، على غرة أي كما هو، زميتا حليما، أزم الفرس على فاس اللجام أي عضها وقبض عليها. وفاس اللجام الحديدة المعترضة منه في الحنك: يريد أنه ألجم نفسه.
(55) لط جحد، يتوكف ينتظر، الانشوطة عقدة يسهل انحلالها إذا أخذ بأحد طرفيها انفتحت، الليطة قشرة القصبة التي تليط بها أي تلزق.
(56) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة ٢ / ٥٩٧ الطبعة الأولى بمصر.
(57) عبد الرازق محي الدين، أبو حيان التوحيدي ص ٧٨ - ٨٤.
(58) المصدر نفسه ص ١٠٨.
(59) رسالة الجاحظ ص ٣٨.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|