المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية
آخر المواضيع المضافة
تساؤلات محورية عن التفكيـر الابتـكاري الإبداعـي و العلاقة بين التفكير الابتكـاري وجـودة الخدمـة العامـة أهميـة وأهـداف التفكيـر الابتـكاري الإبداعـي فـي تـطويـر جـودة الخدمـة العامـة مجالات تأثير التفكير الابتكاري الإبداعي ودوره في تطوير جودة الخدمة العامة مشكلات التقييم بالأسعار الجارية (تحديد المشكلة وطرق معالجة المشكلة) مبيد ميلياتوكسين Meliatoxin (مبيدات حشرية كيموحيوية غير تجارية) مبيد فولكينسين Volkensin (مبيدات حشرية كيموحيوية غير تجارية) مـشـكلات التـقيـيم بسعـر تكـلفـة عـوامـل الإنـتاج مبيد الاسيتوجينين Acetogenin (مبيدات حشرية كيموحيوية غير تجارية) تمييز المشتركات وتعيين المبهمات في جملة من الأسماء والكنى والألقاب/ جعفر بن محمد بن مسرور. تمييز المشتركات وتعيين المبهمات في جملة من الأسماء والكنى والألقاب/ بعض أصحابنا عن محمد بن الحسين. مفهوم الشركة في القانون الخاص مفهوم الشركات في القانون العام مدة العضوية في مجلس إدارة الشركة العامة لمحة تأريخية عن نشأة الشركات العامة ضمن القطاع العام في العراق عزل أعضاء مجلس إدارة الشركة العامة

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16642 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


قصَّـة الملأ من بني إسرائيل  
  
2767   03:21 مساءً   التاريخ: 20-11-2020
المؤلف : الدكتور محمود البستاني .
الكتاب أو المصدر : قصص القرآن الكريم دلالياً وجمالياً
الجزء والصفحة : ج1 ، ص 39 - 83 .
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / قصص الأنبياء / قصة النبي موسى وهارون وقومهم /

تعدّ هذه القصة الواردة في سورة «البقرة» من أشدّ القصص إثارة من حيث التنوّع لأحداثها ومواقعها ، ومن ثم الهدف الفكري منها حيث تفصح بجلاء تامّ عن أشدّ الحالات الانحرافية لدى الطائفة اليهودية . وأنّ المتلقّي ليقف مندهشاً حيال العرض القصصي لهذا الجانب ، سواء أكان ذلك مرتبطاً بأبطال القصة من أمثال :

الملأ من بني إسرائيل ونبيّهم وطالوت وداود وجالوت . . .

أو بالمواقف المتقلّبة لهذه الطائفة من جبن وتشكيك ومناورة و. . . إلى آخره ، أو بالوقائع المواكبة لها ، كانسحابهم من المعركة التي اقترحوا خوضها . . . إلى آخره .

هذه المواقف والأحداث التي تتناولها القصة المذكورة بصياغة مدهشة ومثيرة ، نتقدم الآن لملاحظتها بعد أن نقدّم تلخيصاً لها في البداية ، فنقول :

تعرض القصة شريحة من سلوك الإسرائيليين في واحد من مواقفهم التاريخية متمثّلة في حفنة من رؤسائهم ، طلبوا من نبيّ لهم من بعد موسى أن يبعث لهم قائداً ينتشلهم من حياة مهينة تعرّضوا لها ، وهي تسليط الجبابرة عليهم وتشريدهم وسبي نسائهم وذراريهم . . .

وقد أجابت السماءُ دعوة النبيّ المذكور ، تفضّلا منها ومنّةً . . . وكان القائد هو طالوت .

غير أنّ السماء وهي أعرف بواقع هذه النفوس الذليلة بعثت إليهم على نحو الاختيار القائد المذكور ، وفق خصائص معيّنة تتطلّبها طبيعةُ المعركة التي سيخوضها ، لكنها لا تتفق مع التطلّعات والأحلام المريضة لليهود .

لقد اعترض الإسرائيليون على النبيّ المذكور في انتقاء هذا القائد ، مُحتجّين بأنـّه لم ينحدر من اُسرة عسكرية دينية ، علماً بأنّ القيادة العسكرية والدينية كانت عهدئذ منحصرةً في بيتين من بيوتاتهم ، بينما جاء القائد العسكري الجديدُ من بيت ثالث ، ومن هنا جاء اعتراضُهم على الشخصية المذكورة .

مضافاً لذلك تقدّم اليهود باعتراض آخر على القائد العسكري ، محتجّين على ذلك بأنـّه شخصية فقيرة لا تملك أموالا ضخمة .

وطبيعيّاً أنّ مثل هذه الاعتراضات تحملنا على الاقتناع بأنّ هؤلاء الأذلاّء لا يستحقّون أيّة عناية تُذكر ، ما داموا حائمين على نفس التطلّعات والأحلام المريضة التي غلّفت شخصيّاتهم منذ أن دبّوا على هذه الأرض .

ومع ذلك فإنّ نبيَّهم أبدى مرونةً ملحوظةً حيال هذا الاعتراض . وقال لهم : إنّ اللّه عوّض عن فقر القائد وعدم انتسابه للأُسَرِ التي توارثت قيادة الجيش ، . . .

عوّضه عن ذلك بسعة في العلم ، وبطولة في الجسم . . . وهما من أبرز مميّزات القائد العسكري .

* * *

وأخيراً خضع اليهود للأمر الواقع .

لكنّهم مع ذلك بدأوا يشككون في الأمر ، فطلبوا من نبيّهم آيةً أو دليلا حسّياً على صدق ادعائه باختيار طالوت .

وحينئذ أجابهم النبي بأنّ دليل ذلك ، هو التابوت الذي كان اللّه قد أنزله على اُمّ موسى (عليه السلام) فوضعت ابنها فيه . ولما تُوفّي موسى ، وُضِعَ فيه الألواح ، والدرع ، وجملة من آثار النبوّة .

وكان التابوت المذكور ـ نقلا عن النصوص المفسّرة ـ يستفتح اليهودُ به على عدوّهم . وحين أمعن اليهودُ في سلوكهم المتمرّد اُنتزعَ التابوتُ منهم ، ثم اُعيدَ إليهم مع طالوت حتى يكون دليلا على صدق ادعاء النبي لهم في اختيار هذا القائد العسكري . ولما رأى الإسرائيليون هذه الآية أو الدليل حسّياً اقتنعوا بذلك وانقادوا لطالوت القائد العسكري الجديد الذي طلبوه حتى يحرّرهم من أسر العبودية ، والتشريد ، والسبي .

لكن اليهود للمرة الثالثة أمعنوا في الغواية ، حينما تمرّدوا على طالوت ذاته وذلك عندما جهّز جيشاً لمقاتلة جالوت ، وهو الشخصية التي استعبدت اليهود وأذلّتهم .

وكان طالوت قد أمرهم بناءً على أوامر السماء ألاّ يشربوا من نهر معيّن خلال عملية زحف الجيش ، إلاّ تناوُلَ الماء غرفةً واحدة . . . وذلك لمصلحة إرتأتها السماءُ . وهدفُها هو اختبار اليهود في مدى التزامهم أو تمرّدهم .

لكن الغالبية منهم ـ في ضوء هذه التجربة ـ تمرّدت على أوامر طالوت ، إلاّ فئة قليلة . وكان ذلك عندما وصلوا إلى النهر ، حيث قال المتمرّدون : لا طاقة لنا بجالوت وجنوده .

أمّا الفئة القليلة ، فقالت : إنّ النصر من عند اللّه .

وبالفعل ، بدأ القتال ، . . . وانتهى بالنصر ، حيث قُتِلَ جالوت .

وقد تمّ قتلُ جالوت على يد داود الذي اختير لهذه المهمّة ، حينما ألبسه طالوت ـ نقلا عن النصوص المفسّرة ـ درعَ موسى ، على تفصيلات نذكرها في حينه .

هذا هو ملخّص القصة ، والهدف من هذا التلخيص ، أن نقف على الخطوط العامة للأحداث والشخصيات والمواقف ، . . . حتى نتبيّن مفصّلا طبيعة الصياغة الفنّية لها . . . فضلا عمّا انطوت عليه من دلالات فكرية تستهدفها القصة عبْر سردها لهذه الوقائع .

القيم الفنّية في القصة

 إنّ القصة الفنّية بنحو عام ، هي انتقاءُ مجموعة من الأحداث والشخصيات والمواقف ، . . . تُنتَخب بشكل يتّسق مع طبيعة الأفكار المستهدفَةِ فيها .

فحين يستهدف النصُّ مثلا توضيح عناد اليهود وإمعانهم في الغواية ، نجده يُبرز من الوقائع ما له صلة مباشرة بالعناد والتمرّد .

وحين يستهدف التركيز على الجهاد في سبيل اللّه ، نجده ينتقي من الوقائع ما يُبرز هذا الجانب بوضوح .

وهكذا في سائر الدلالات التي يستهدفها .

والآن ، حين نعود إلى قصة طالوت ، نجد أنّ هذه القصة قد تعمّدت ترْكَ كثير من التفصيلات ، وأبرزت بعض عناصر الحركة فيها على نحو تتساند فيه كلّ من الاستنتاج الفردي الصرف ، والنصوص المفسّرة ، ونصوص القصة . . . تتساند فيه كلّ هذه العناصر الثلاثة في عملية فهم القصة وتذوّقها وإدراك دلالاتها .

إنّ ما نحاوله الآن هو أنْ نتابع كلاًّ من عناصر السرد وعناصر الاختزال ، أي أن نتبيّن ما هو مذكور فيها من الحركة ، وما هو محذوفٌ منها .

لكننا قبل ذلك ، ينبغي أن نقرأ القصة نفسها حتى يُمكن إدراك أسرارها الفنّية المتصلة بعملية السرد والاختزال .

لقد بدأت القصةُ على هذا النحو :

﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإَ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى

﴿إِذْ قالُوا لِنَبِيّ لَهُمُ : ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ

﴿قالَ : هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاّ تُقاتِلُوا

﴿قالُوا : وما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وأَبْنائِنا

﴿فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ واللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ

هذا هو القسمُ الأوّل من القصة .

هناك ملأ ، أو وجهاء من الإسرائيليين عاشوا من بعد موسى (عليه السلام) . قالوا ذات يوم لنبيٍّ لهم : ابعث لنا رجلا عسكرياً نقاتل معه في سبيل اللّه .

لكنّ نبيّهم شكّك في صدق دعواهم ، فتساءل : أصحيحٌ أ نّكم ستقاتلون فعلا ، عندما تحين الساعةُ الحاسمة ؟

وعند ذلك أجابه اليهود ، قائلين : كيف لا نُقاتل في سبيل اللّه ؟ ونحن قومٌ مُستضعفون قد اُخرجنا من أوطاننا وسُبيَت ذرارينا؟ لكنّ الذي حدث هو ، أنّه عندما واجهوا الأمر الواقع تخلّفوا عن القتال ، إلاّ فئة قليلة منهم . . .

والسؤال هو : ما هي العناصر التي سردها النص؟ وما هي العناصر التي اختزلها ؟ وما هو السرّ الفنّي في ذلك ؟ .

يُلاحظ في الطلب الذي تقدّم به اليهود ، أ نّه مرتبط بشخصية نبويّة مبهمة . تقول القصة :

﴿إِذْ قالُوا لِنَبِيّ لَهُمُ

ترى : مَن هذا النبي الذي لم تذكر القصةُ إسمه ؟! . . . بل لم ترسم لنا حتّى بعض ملامح شخصيته .

من الزاوية الفنّية ينبغي أن نشير إلى أنّ السبب في ذلك عائدٌ إلى أنّ القصة ليست في صدد التعريف بشخصية النبي الإسرائيلي حتى تذكر إسمه أو تحدّد هويّته الشخصية ، بل في صدد التعريف بسلوك هذه الشرذمة الإسرائيلية التي أذلّها اللّه على يد طواغيت من أمثالها . إنّ القصة في صدد الكشف عن الكذب والتردّد الذي يطبع سلوك اليهود في ادعائهم بأنّهم مُستعدّون للقتال في سبيل اللّه .

ولكي تكشف القصةُ مثل هذا الادعاء ، كان لابدّ من وجود شخصيّة كبيرة مرتبطة بالسماء ، بحيث تُصبح واسطةً بين اليهود وبين السماء في تحقيق طلبهم بإرسال مَن ينقذهم من الذلّ .

ولا بدّ أن تكون مثل هذه الشخصية ذات طابع غير عادي ، كأن تكون نبيّاً أو وصىّ نبي مثلا ، حتى تستطيع تحقيق مثل هذا الطلب .

ومن هنا اكتفت القصةُ برسم شخصية ذات طابع نبوىّ ، دون أن تحدّد إسمه وهويّته ، لعدم الحاجة فنّياً إلى مثل هذا التحديد ، ما دام الأمر متّصلا بمجرّد وجود شخصيّة مقتدرة على تحقيق طلب الإسرائيليين .

يُلاحظ أيضاً أنّ القصة لم تحدّد لنا زمان هذه الحادثة . إنّها اكتفت بالقول، بأنّ هذه الحادثة تمّت من بعد موسى (عليه السلام) ، أمّا متى حدث ذلك ، وفي زمن أيّ نبيٍّ من أنبيائهم ؟ كلّ ذلك لم تتحدّث عنه القصة .

والسّر من الوجهة الفنّية يعود إلى القصة عندما حدّدت الزمان بأنّه من بعد موسى (عليه السلام) ، دون أن تذكر تأريخاً معيّناً لذلك ، إنّما تستهدف التركيز على دلالة خاصة هي ، أنّ الشخصية اليهودية تظلّ في كلّ زمان ومكان مريضةً ، ملتويةً ، متمرّدةً ، كاذبةً ، متردّدةً ، منافقةً . . . أنّها حتى من بعد موسى (عليه السلام) ظلّت محتفظةً بطابعها المريض الذي لا سبيل إلى إصلاحه . فهي في زمان موسى (عليه السلام) أتعبته كثيراً من خلال مواقفها التي سردتها قصص اُخرى من القرآن . وها هي من بعد موسى أيضاً تمارس نفس السلوك الشاذّ على النحو الذي توضّحه هذه القصة التي نحنُ في صددها .

إذن عدمُ تحديد القصة زماناً خاصاً لهذه الحادثة ، والاكتفاء بأنّ ذلك قد حدَثَ بعد نبوّة موسى له مغزىً فنيٌّ يعرفه من له أدنى إلمام بفنّ القصة .

* * *

والآن لنقف عند طلب اليهود نفسه ، وردّ الفعل الذي أحدثه هذا الطلب في جواب نبيّهم (عليه السلام) .

لقد زعمت هذه الشرذمة بأ نّها مستعدّة للقتال في سبيل اللّه ، ولذلك طلبت إلى نبيّهم أن يبعث لهم شخصية عسكرية ينضوون تحت قيادتها .

ولكن نبيّهم شكّك منذ البداية بصدق ادّعائهم ، ولذلك أجابهم قائلا :

﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاّ تُقاتِلُوا

أي : لعلّكم ـ يا معاشر اليهود ـ إذا فرض اللّه عليكم القتال لم تقاتلوا حينئذ .

هنا أجاب اليهودُ نبيَّهم قائلين :

﴿وما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وأَبْنائِنا

هذه الإجابة توحي وكأنّ اليهود صادقون كلّ الصدق ، متيقّنون كلّ اليقين بأ نّهم

سيحاربون فعلا ما دام الأمر متصلا بهذا المدى الذي آلت حياتُهم إليه، من تشريد وسبي وإذلال .

لكن نبيّهم وهو أعرف من سواه بواقع هذه الشخصيات المريضة ، كان على وعي بواقعهم المذكور ولذلك شكّك منذ البداية بصدق دعواهم .

وهذا التشكيك بمزاعم الإسرائيليين له دلالة فنّية في بناء القصة من حيث أ نّه يشكّل ارهاصاً وتنبّؤاً بما ستؤول إليه أحداث المستقبل .

كما ينبغي ألاّ نغفل عن سمة فنّية اُخرى في هذا القسم من القصة ، هي أنّ حوار اليهود كشف عن حادثة كانت مجهولةً لدى القارئ ، ونعني بها حادثة اخراجهم من ديارهم وسبي ذراريهم من قِبَل الأقباط .

فالقصة من حيث البناء الهندسي بدأت من وسط الأحداث ، حيث نقلت طلب اليهود إلى النبىّ بإرسال الشخصية العسكرية ، دون أن نعرف سبب ذلك . وبعدئذ رجعت القصة إلى أوّل الأحداث ، حيث نقلت سببَ ذلك وأوضحت أنّ الحادثة هي استذلال الأقباط للإسرائيليين . . .

* * *

ومثلما بدأت القصةُ من وسط الأحداث ورجعت إلى أوّلها ، إتجهت في الوقت ذاته إلى نهاية الأحداث ، فقدّمت النتيجة قبل أن تدخل في تفاصيل الموقف .

فقد عقّبت السماء على مزاعم اليهود القائلة بأ نّهم : كيف لا يجاهدون وقد أُخرجوا من ديارهم وأبنائهم . عقّبت قائلةً :

﴿فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ : تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً

أي عندما حانت ساعة الموقف الحاسم امتنعوا عن القتال .

إذن ، أعطتنا القصة نتيجة الموقف سَلَفاً ، بحيث عرفنا أنّ اليهود سوف لن يُقاتلوا ، إلاّ فئة صغيرة منهم .

بعد ذلك رجعت القصةُ من جديد تنقل لنا تفاصيل المُلابسات التي رافقت سلوك الإسرائيليين منذ البداية حتى انتهاءهم إلى التمرّد المذكور .

إنّ تقطيع الأحداث بهذا النحو : البدء من الوسط ، ثمّ الرجوع إلى البداية ، ثمّ الاتجاه نحو النهاية ، ثمّ العود إلى الوسط . . . هذا النحو من تقطيع الأحداث ينطوي على أسرار فنّية بالغة الأهمية ، لعلّنا نتعرّفها خلال حركة القصة في أقسامها اللاحقة .

ويعنينا الآن أن نتعرّف تفصيلات الموقف ، متمثلةً في ردّ الفعل الذي تركته إجابة اليهود في نفس نبيّهم (عليه السلام) .

فقد لحظنا أنّ النبىّ شكّك في مزاعم اليهود حينما قال لهم : لعلّكم عندما يحين موعد القتال تمتنعون عن ذلك . ولحظنا أيضاً أ نّهم أجابوه بلغة الواثق من نفسه من أ نّهم كيف لا يُحاربون العدوّ وقد شرّدهم من ديارهم وسبى ذراريهم !!

ويبدو أنّ النبىّ قد اُمرَ بتنفيذ طلبهم فعلا ـ على سبيل الاختبار ـ حتّى يكشف المزيد من وساخة أعماقهم . فها هو النبىّ يُبشّرهم بتحقيق ما طلبوه ، قائلا لهم :

﴿إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً

إنّ القارئ يتوقّع أن يستبشر اليهود بهذه الشخصية الجديدة : طالوت ، لأنّها ـ ببساطة ـ جاءت بناءً على طلبهم . إنّهم هم الذين قالوا لنبيّهم : إبعث لنا مَلِكاً ، نقاتل في سبيل اللّه .

وها هو المَلِكُ أو الشخصية العسكرية تُرسل إليهم مِن قِبَل اللّه ، فهل من عذر؟

القارئ ـ كما قلنا ـ لا يتوقّع أي اعتراض على هذه الشخصية العسكرية ، لأنّها جسّدت أحلام الإسرائيليين بالشكل الذي طلبوه بأنفسهم . . .

لكنّ الذي حدث يجيء على خلاف ما نتوقّعه أبداً . . . الذي حدث من ردود الفعل اليهودية حيال هذه الشخصية طالوت يُثير السخرية والاشفاق والعجب . . .

ألم يُرسل بناءً على طلبهم؟! ألم يُرسل وفق ما يتطلّبه القتال من توفّر سمات عسكرية في شخصيته ؟! كلّ ذلك متحققٌ في شخصيته ، فما هو العذر بعد هذا كلّه ؟!

هاهم الإسرائيليون : أذلاءُ ، طُردوا من ديارهم وسُبي الكثير من ذراريهم . . . طبيعيّاً ، أنّهم مستحقون لمثل هذا الاستذلال ما داموا قد أمعنوا في المعاصي ، وتنكّروا لعهود اللّه ، لكن عناية اللّه عظيمة والاختبار محكٌ ، بل فرصةٌ جديدة ، لأن يُعدّلوا من سلوكهم . . . وها هي السماءُ ترسل إليهم نبيّاً يتعامل معهم برفق ويتفقّد شؤونهم ، . . . لعلّهم يرعوون .

وها هُم أيضاً يضيقون ذرعاً بهذا الاستذلال الذي لحقهم ويتطلّعون إلى أيّة فرصة ، أو سبب يفتح لهم طريق الخلاص . . . وهل هناك فرصةٌ أو سببٌ أفضل من وجود نبيّ بينهم يمثّل السماء بكلّ قدراتها التي لا تُحد . إذن فليتّجهوا إلى نبيّهم وليطلبوا منه أن يدعو اللّه بإرسال من ينقذهم ، ليطلبوا منه إرسال قائد عسكري يستطيع أن يقتحم المعارك ، ويحقّق النصر . . .

وها هو النبيّ يستجيب لطلبهم . . . ها هو يُبشّرهم بمجيء الشخصية العسكرية الّتي تطلّع الإسرائيليون إليها . . . ها هو طالوت البطل الذي أرسلته السماء يجيء لتحقيق ما يصبو إليه الإسرائيليون ، لكن يالدهشة الموقف ، . . . ولا دهشة في الواقع . . . لا دهشة لِمن خَبَرَ اليهود ، وعرف عمق التواءاتهم ، وأمراضهم ، ووساختهم ، ولؤمهم ، وعنادهم . . . إنّهم جبناء مصلحيون ، . . . جبناء عندما يستذلّهم الجبابرة . . . طغاة عندما يسيطرون على غيرهم . . . إنّهم كذلك منذ أن دبّوا على الأرض . . . منذ أن مسخهم اللّه قردة وخنازير . . . منذ ذلك الحين وحتى أيامنا المعاصرة . . . إنّهم كذلك . . .

ها هم وقد بعث اللّه إليهم طالوت بناء على طلبهم . . . ها هم يعترضون على هذه الشخصية . . . ولكن أيّ اعتراض ، أيّ مهزلة وراء مثل هذا الاعتراض . . .

قالوا : إنّ بيوتاتنا أحقّ بتسلّم المناصب العسكرية . . . قالوا : إنّ القيادة الدينية والقيادة العسكرية منحصرة ـ منذ القديم ـ في بيتين هما : وُلدُ لاوي ووُلدُ يوسف . . .

ولكن طالوت من وُلد أخ يوسف . . . فلا شغل لنا به . . . يا للسخرية . . . إنّهم في وهدة الذلّ . . . ، لكنّهم ينطلقون من حسٍّ سُلاليٍّ مقيت . . .

وهل وقف الأمرُ عند هذا الحد ؟ كلاّ .

لننظر إلى بقية اعتراضهم عبر هذه السلسلة المُزرية من الاعتراضات .

* * *

قال هؤلاء الجبناء : إنّ طالوت لم يُؤتَ سعةً من المال . . . للمرة الجديدة :

يالسخرية الموقف ، ما علاقة المال بالكفاءة العسكرية؟

هل إنّ مثل هذا الاعتراض مجرّد حجّة يتستّرون بها لتغطية جُبنهم؟ إنّه لكذلك ، لكنه في الوقت ذاته يُعبّر عن عمق المرض في الشخصية اليهودية .

ألم يقولوا ذات يوم : إنّ النار لن تمسّهم ـ يوم القيامة ـ إلاّ أيّاماً معدودات ؟

ألم يقولوا : إنّ سواهم ليس على شيء؟ ألم يزعموا أ نّهم الشعب المُختار؟ . . .

ألم يزعموا غير ذلك وهم يجسّدون قمّة ما يمكن تصوّره من رذيلة وفسق وعناد وجبن وتلذّذ بإراقة الدم ، وبالتعذيب ، و. . . و. . . إلى آخره ، أليسوا هم قتلة الأنبياء؟ أليسوا هم المتمرّدين في أكثر من معركة وموقف في حياة موسى (عليه السلام) ؟

إنّهم لكذلك . . .

وها هم حتى في أحطّ مواقف الاستذلال يُعلنون عن جُنبهم ، يعلنون عن التوءاتهم ، يُعلنون عن أفكارهم المريضة الممسوخة ، يعلنون رفضهم لطالوت ، لا لسبب ، إلاّ لأنّه لم يؤتَ سعة من المال .

إنّها قمّة المهزلة في حياة الآدميين .

لكن لنتجه إلى نبيّهم ونتعرّف ردّ الفعل لديه حيال مثل هذه الاعتراضات . علماً بأنّ نبيّهم منذ البدء تنبّأ بمثل هذا الموقف وشكّك بصدق دعواهم بأنّهم سيقاتلون في سبيل اللّه وكان هذا التنبّؤ ـ مثلما أشرنا ـ دلالة فنّية من حيث البناء الهندسي للقصة تجسّد إرهاصاً بسلوك الإسرائيليين اللاحق ، وها هو سلوكهم يتجسّد في الاعتراض المذكور . . . ها هو سلوكهم يجيء جواباً لتوقّعات نبيّهم .

ومن جديد نتساءل : ما هو ردّ فعل نبيّهم حيال مثل هذا الاعتراض ؟

* * *

قال نبيّ الإسرائيليين عصرئذ :

﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ والْجِسْمِ . . .﴾

هذه الإجابة تدلّنا على جملة من الدلالات النفسية والفنّية ينبغي الوقوف عندها .

إنّها تدلّنا على أنّ نبيّهم أبدى من رحابة الصدر ما يتّسق مع تركيبة الأنبياء . . .

إنّه تحدّث بموضوعيّة تفوق الحدّ . . . قدّم لهم برهاناً أو دليلا لا سبيل إلى نكرانه أبداً . . . قال لهم : إنّ اللّه هو الذي اصطفاه ، وليس أنا حتى تعترضوا على ذلك . . .

و كان اصطفاؤه بناء على طلبهم هُم . . . فما معنى الاعتراض على ذلك ؟

ألم يقل الإسرائيليون لنبيّهم : أدعُ اللّه أن يرسل من ينقذنا ؟

وها هو المُنقذ يحلّ في الساحة . . . فَعَلامَ إذن هذا الضجيج ؟

ثمّ من الزاوية الفنّية الخالصة ، تدلّنا هذه الإجابة القائلة بأنّ اللّه زاده بسطةً في العلم والجسم تدلّنا على سمة فنّية بالغة الأهمية من حيث الموازنة بين طلب اليهود وبين اختيار البطل .

فالبطل طالوت رسمته القصةُ بملمحين : خارجي وداخلي .

الملمحُ الخارجي هو : بسطة في الجسم ، أي بطولة جسمية تتناسب وما تتطلّبه المعركة من قوىً بدنية ، ومن هيئة خارجية تثير الخوف والمهابة في نفوس الأعداء . وكان من عِظَمِ هيئته البدنية ـ كما تقول بعض النصوص المفسّرة ـ : إنّ الرجل إذا قام إليه ، ورفع يدَه ، نال رأسه .

وهذا من حيث الملمح الخارجي وما يتطلّبه الموقف العسكري من سمات جسمية .

وأمّا من حيث الملمح الداخلي الذي رسمته القصة للبطل طالوت ، فهو : العلم .

ومن الواضح أنّ الشخصية العسكرية تتطلّب توفّر خصيصتين فيها :

خصيصة علمية ، أي الإلمام والخبرة والإحاطة بالشؤون العسكرية .

ثمّ خصيصة خارجية وهي : الاقتدار الجسمي بما يواكبه من شجاعة . . .

وها هو البطل طالوت قد أرسله اللّه بهاتين السمتين اللتين تتطلبهما المعركة .

* * *

إنّ الأهميّة الفنّية لرسم هاتين الخصيصتين ، البسطة في العلم والجسم ، تتمثّل ـ كما أشرنا ـ في كون السمتين المذكورتين تشكّلان جواباً فنياً على طلب اليهود .

إنّ السماء وهي تعرف سلفاً أنّ اليهود سيعترضون على البطل الجديد طالوت بأنـّه أولا لا ينتسب وراثياً إلى بيت النبوّة والمُلك الموروثين . وبأنـّه فقيرٌ ثانياً . . .

حينئذ عوّضت السماء تينك الصفتين ، بخصيصتين غيرهما ، هُما : العلم والبطولة الجسمية .

وهذا التعويض من حيث الفنّ القصصي يشكل موازنة هندسية بين قضيتين مطلوبتين في أفكار الإسرائيليين ، وبين قضيتين عوّضتا ذلك بما هو مُحقّق للنصر . . .

وأمّا من حيث الدلالة الفكرية الصرف ، فالأمر لا يحتاج إلى تعقيب ما دام الهدف من هذا التعويض ، هو تحقيق النصر من جانب ، وإبراز العناد والتمرّد والجبن لدى الإسرائيليين من جانب آخر .

مضافاً لذلك ، فإنّ اليهود في ضوء إجابة نبيّهم المذكورة اضطروا إلى التسليم بالأمر الواقع ، لأنـّهم لا يملكون حينئذ أيّ عذر في رفض البطل الجديد طالوت ، مادام هذا البطل قد اختير من قبل اللّه أولا ، وما دامت السمات العسكرية المطلوبة متحققة في شخصية طالوت ثانياً .

ومع ذلك ، فإنّ اليهود فيما يبدو لم يقتنعوا بالأمر . وأظهروا مزيداً من العناد والالتواء والرفض على النحو الذي يوضحه القسمُ الثالث من القصة .

يبدو أنّ الإسرائيليين بالرغم من أنّ نبيّهم حاول إقناعهم بتقبّل شخصيّة طالوت قائداً للمعركة المرتقبة يبدو أنـّهم بدأوا باصطناع عقبات جديدة في مواجهة الموقف .

فبعد أن أنهوا قسماً من سلسلة اعتراضاتهم التي بدأوها بالقول ، بأنّ طالوت لم ينتسب إلى بيوتات توارثت النبوّة والمُلك ، ثم اعتراضهم الآخر من أنّ طالوت رجل فقير لا يملك أموالا طائلة . بعد هذا كلّه تقدّموا باعتراض ثالث بعد أن سدّ عليهم نبيّهم كلّ النوافذ ، وذلك حينما قال لهم : إنّ اللّه عوّض طالوت بدلا من المال ووراثة المُلك عوّضه بسطةً في العلم والجسم .

حينئذ لم يجدوا مناصاً من التسليم بهذه الحقيقة ، لكنهم وهم خبثاء ، جبناء ، معاندون طلبوا في هذا الموقف الجديد دليلا حسّياً على صحة دعوى نبيّهم .

القصة لم تقل لنا إنّ اليهود طلبوا من نبيّهم أن يقدّم برهاناً أو آيةً على صدق قوله ، لكنها سلكت منحىً فنّياً قائماً على الاقتصاد في السرد ، وترك القارئ أن يستكشف بنفسه مثل هذا الطلب من اليهود ، حيث تابعت حوار النبيّ مع قومه ومن خلال حواره بدأنا نستكشف أنّ اليهود قد تقدّموا بالطلب المذكور .

ولنستمع إلى حواره مع اليهود :

﴿وقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ : إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ

﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ

﴿وبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ . . .﴾

من هذا الحوار نستخلص جملة حقائق فنيّة في غاية الإمتاع :

فأولا : نستنتج أنّ اليهود ـ مثلما قلنا ـ طالبوا نبيّهم بدليل حسّي على صحة دعواه ، بأنّ طالوت هو تلك الشخصية العسكرية التي اُرسلت من قبل اللّه .

ثمّ وهنا تبدأ حركة القصة بانعطاف جديد ، نواجه في هذا الحوار بيئة قصصية ذات بُعد صناعي مُذهل ، يتّسم بما هو مُثير ، وطريفٌ ، ومعجز .

لكننا قبل أن نتابع تفصيلات هذه البيئة ، لابدّ أن نشير إلى أنّ نبيّهم للمرة الثالثة أبدى من رحابة الصدر ما يفوق الحدّ ، حينما جارى طريقة سلوكهم بالنحو الذي لحظناه .

ويبدو أيضاً ، أنّ الإسرائيليين كفّوا عن أي اعتراض جديد ، حينما واجهوا حقيقة المعجز الجديد : التابوت ، ولكنهم للمرة الرابعة تمرّدوا عندما اقتربت ساعة القتال .

هذه التفصيلات سنلحظها لاحقاً .

أمّا الآن ، فنتقدم إلى ظاهرة التابوت وما يواكبها من دلالة .

* * *

قال نبيُّ بني إسرائيل لوجهاء هذه الشرذمة : إنّ الآية التي سترافق مجيء طالوت ، الشخصية العسكرية المصطفاة هو : التابوت ، تحمله الملائكة .

والسؤال هو : ما هي الدلالة الفنّية والفكرية للتابوت؟ وقبل ذلك ما هي أوصاف هذا التابوت ذاته وعلاقته بالمعركة ؟

القصة ساكتة عن تفصيلات هذا الحدث الصناعي . لقد اكتفت بالقول أنّ التابوت سيظهر أمام الأعين وقد حملته الملائكة .

وهذا من حيث المظهر الخارجي للتابوت .

أمّا من حيث أوصافه الداخلية ، أي ما يحمله التابوت من محتويات في داخله ، فإنّ القصة اكتفت بالقول بأنّ فيه : سكينةً من اللّه ، وفيه : بقيّةٌ ممّا تَرَكَ آل موسى وآل هارون .

القارئ أو السامع سيقف أمام هذا الحدث الصناعي ، مبهوراً لا يملك أيّ تفسير محدّد المعالم في هذا الصدد . ولعلّ النصوص المفسّرة فحسب ، هي التي تسعفه بالمعلومات التي يتطلّع إليها .

وحتى الرجوع إلى النصوص المفسّرة ، لا تلقي إلاّ إنارة ضئيلة في هذا الموقف .

إذن ، يبقى أن يتجه القارئ والسامع إلى ذائقته الفنّية ، لاستخلاص الدلالات المحتملة لهذا المظهر . وهو أمرٌ تستهدفه القصة دون أدنى شك . إنّها تُريدنا ـ نحن القراء ـ أن نمعن في النشاط الفكري ونقلّب كافة الوجوه والاحتمالات حتى نصل إلى بعض النتائج ، محققين بذلك في الآن نفسه إمتاعاً فكرياً وجماليّاً ، . . . وهو هدف كلّ شكل فنيٍّ ، ومنه : فنّ القصة .

إذن ، فلنعد إلى ذائقتنا الفنّية مُستعينين بالنصوص المفسّرة التي تملك الكلمة الأخيرة في تحديد النتيجة الصائبة .

وأول ما يمكن ملاحظته ، هو أنّ القصة في صدد تقويم دليل حسيٍّ أيّاً كان هذا الدليل ، حتى يقتنع الإسرائيليون من خلاله بأنّ طالوت فعلا هو تلك الشخصية التي انتقتها السماء لقيادة المعركة . . . بخاصة أنـّهم لم يوافقوا على زعامته مادام لم ينحدر من الاُسر التي توارثت المُلك ، . . . ومادام فقيراً لا يملك من المال شيئاً .

أمّا وأنـّه قد عُوّض عن ذلك ببطولة جسميّة ، وبسعةِ الثقافة ، فلا مانع حينئذ من تقبّله قائداً للمعركة ، ولكن شريطة أن يقترن ذلك بآية من السماء حتى تطمئن بذلك نفوس هؤلاء المرضى : بني إسرائيل .

من هنا جاء المسوّغ الفنّي لتقديم أيّـة آية من السماء ، ذات طابع معجز حتى يمكن إقناع اليهود بذلك .

وكان التابوت هو تلك الآية ذات الطابع المعجز .

* * *

طبيعيّاً ، من الممكن أن تكون أيّـة آية نازلة من السماء دليلا على صدق نبيّهم في اختيار قائد المعركة ، لكن القصة القرآنية ـ وهي تُجسّد قمّة ما يمكن تصوّره من سمات الفنّ ـ لم تكتفِ بمجرد دليل حسي ـ مع أنّ هذا وحده كاف في تحقيق الهدف ـ ، بل تجاوزت ذلك إلى تقديم ظاهرة ذات صلة بتجارب اليهود وبخبراتهم السابقة في هذا الصدد .

ومن الواضح أنّ تقديم آية إعجازية سبق أن تعرفها هؤلاء القوم ، يظلّ أشدّ تأثيراً في الإقناع من تقديم آية اُخرى لا معرفة لهم بها في سابق تجاربهم .

ومن هنا جاء التابوت آيةً نازلةً من السماء ذات صلة بتجارب اليهود حيال هذا التابوت .

فالنصوص المفسّرة تنقل لنا أكثر من ظاهرة تتصل بالتابوت وملابساته .

تقول هذه النصوص : إنّ التابوت قد أنزله اللّه على اُمّ موسى (عليه السلام) إبّان ولادته فيما وضعت موسى فيه ، وألقته في البحر خوفاً من فتك فرعون به .

وطبيعيّاً مجرّد كون هذا التابوت ذا صلة بشخصية موسى (عليه السلام) ، كاف في الاقتناع بأهميته عاطفياً على الأقل .

وتضيف النصوص المفسّرة : إنّ موسى (عليه السلام) عندما حضرته الوفاة وَضَعَ في التابوت : الألواحَ ، والدرعَ ، وما كان عنده من آثار النبوّة وأودعه عند وصيّه .

أيضاً مجرّد كونه يحمل الألواحَ التي نزلت بتعاليم موسى (عليه السلام) ، فضلا عن الدرع ، وفضلا عن آثار النبوّة الاُخرى ، مجرّد هذا كاف في تحقيق مزيد من الإقناع بأهميته .

أكثر من ذلك ، تقول بعض النصوص المفسّرة : إنّ الإسرائيليين أنفسهم كانوا يستفتحون بهذا التابوت على عدوّهم . . .

ومعنى هذا أنّ التابوت ذو صلة بتجاربهم التي كانوا يحيونها فعلا ، وبخاصة أنـّه يقترن بما هو مُسرّ مادام الأمر يتصل باستخدامه في معاركهم واستفتاحها به .

وأيّاً كان الأمر ، فإنّ الملابسات التي رافقت التابوت قديماً ، تظل ـ من الوجهة الفنّية ـ ذات أثر كبير في تقبّله جديداً ، بخاصة أنّ النصوص المفسّرة تذكر لنا ، أنّ هذا التابوت قد انتزعته السماء من أيدي اليهود عندما أمعنوا في المعاصي . . . وها هو اليوم يعود آيةً في الاُفق . . . فكم سيكون له من أثر في نفوس هؤلاء المشكّكين ؟

إنّ غيابه عنهم ، وعودته في الاُفق . . . يظلّ من الزاوية النفسية أمراً بالغ الدلالة . . . إنّه يفجّر الحنين في أعماقهم ، . . . يدعهم ـ على الأقل ـ في مراجعة لأنفسهم عندما يتذكّرون بعضَ النِعَم ، ثم انتزاعها منهم نتيجةً لسلوكهم الخاطئ . . .

كلُّ هذه التداعيات الذهنية ستحيا في أعماق هؤلاء القوم وهي كافيةٌ لتفسير مدى الأهمية الفنّية لظاهرة التابوت التي رسمتها القصةُ آيةً على صدق نبيّهم في اختيار طالوت دون سواها من الآيات الإعجازية الاُخرى .

لكن ، إذا كان المرض قد طُبعَ على قلوبهم ، فإنّ هدايتهم من الممتنع أن تتمّ ذات يوم ، لذا فإنّ القصة تُريد أن تُلقي الحُجّة على هؤلاء حتى تصفعهم من جديد دنيوياً واُخروياً .

* * *

لحظنا أنّ التابوت الذي أنزلته السماءُ آيةً على صدق نبيّ الإسرائيليين في إرسال طالوت قائداً للمعركة من حيث ارتباطه بتجارب اليهود وعواطفهم ، . . .

ومن ثمّ مدى أهميّته ـ فنّياً ـ في اختياره دون سواه من دلائل الإعجاز في هذا الصدد .

ولو ذهبنا نُتابع الأوصافَ التي رافقت هذا الحديث الصناعي ، للحظنا أنّ الصفة المُعلَمَةَ له ، هي كونه محمولا من قِبَلِ الملائكة ، كما هو صريح القصة .

أما كيفية حمله فأمرٌ سكتت القصةُ عنه تماماً .

إنّ الملائكة يدخلون في هذه القصة أبطالا بجانب الأبطال الآدميين .

ومجرّد كونهم أبطالا من غير جنس البشر ، كاف في تفجير الإثارة لدى قارئ القصة ، وإضفاء المتعة والحيويّـة عليها .

بيد أنّ الأهمية الفنّية لهذا العنصر في القصة من جانب آخر ، هي كون هؤلاء الأبطال الملائكيّين يشكّلون عنصر إعجاز بجانب عنصر الإعجاز الآخر ونعني به التابوت .

ومن هنا يمكننا أن نلحظ بوضوح طابع التجانس الفني بين عناصر الإعجاز في القصة ، مادام الإسرائيليون يحاولون البحث عن أيّ سبب يمكن اختلاقه لإثارة الضجيج .

وها هي السماء تقدّم لهم دليلا إعجازياً آخر حتى تسدّ أفواههم ، وتقطع السبيل عليهم . وفي نفس الوقت يكون تقديمُ مثل هذا الدليل حجّةً على اليهود في استدراجهم نحو العقاب ، وإنزال الضربة القاضية في نهاية المطاف .

والمهمّ ، أنّ الملائكة جسّدوا عنصراً فنّياً فرضه سياقُ القصة الذي يستدعي وجود عنصر من الإعجاز بجانب التابوت ، حتى يحمل اليهود على الاقتناع بأنّ طالوت (عليه السلام) القائد العسكري المهيّأ لخوض المعركة ، إنّما هو مرسلٌ من قِبَل السماء ، لا أ نّه مجرد شخصية عادية يمكن الاعتراض عليها ، وعلى كونها غير منتسبة إلى الاُسر التي توارثت المُلك ، أو أنـّها فقيرة لا تملك الأموال مثلا ، على النحو الذي لحظناه في اعتراضات اليهود .

* * *

هنا يُلاحظ أنّ القصة لم تذكر من أوصاف التابوت ، وطريقة حمل الملائكة للتابوت أيّ شيء . لكنّ النصوص المفسّرة قدمت أوصافاً مختلفة تتصل بحجم التابوت وهندسته ، فذكرت بأنّـه ثلاثة أذرع في ذراعين ، وأنّ عليه صفائح الذهب ، إلى غير ذلك من الأوصاف . كما ذكرت فيما يتصل بالملائكة وطريقة حملهم للتابوت أوصافاً متفاوتةً .

المهم ـ من الزاوية الفنّية ـ لا يجد قارئ القصة ضرورة مُلحّة في ذكر مثل هذه الأوصاف ، مادامت القصةُ في صدد تبيين ما هو معجز فحسب ، ولذلك تكفّلت النصوص المفسّرة بذلك دون أن تذكر القصةُ نفسها هذه الأوصاف .

مضافاً لذلك ، فإنّ القارئ سيُحقق مزيداً من الإمتاع الفكري والفنّي حينما تتركه القصةُ أمام حشد من التخيّل في تصوّر الملائكة وهم يحملون التابوت ما بين السماء والأرض ، ويعرضونه في شكل مُثير مُدهش أمام الأنظار . أو أنـّهم يسوقونه على الأرض نفسها وليس في الجوّ . . . ولا شك أنّ مثل هذه التصوّرات وغموض الموقف الذي يرافق حمل التابوت ، سيدع القارئ في مرأىً مُمتع يشاهده بخياله ، وكأنـّه حيّ يقع تحت عينيه مباشرة .

الآن نواجه أوصافاً جديدة للتابوت . . .

فأوّلا : لحظنا أنّ التابوت كان مرتبطاً بتجارب الإسرائيليين من حيث صلته بموسى (عليه السلام) واُمّه ، ومن حيث استفتاح اليهود به في معاركهم ، ومن حيث انتزاعه منهم بعد أن عملوا بالمعاصي .

ثانياً : لحظنا حمل الملائكة ، ودلالة هذا العنصر بالإعجاز .

ثالثاً : نواجه الآن أوصافاً جديدة للتابوت ، . . . ذكرتها القصّة على نحوين :

الأوّل منهما ، هو أنّ التابوت فيه «سكينة» من اللّه .

والثاني : أنّ التابوت فيه «بقية ممّا ترك آل موسى وآل هارون» .

والسؤال هو : ما المقصود بــ السكينة ؟ وما هي تلك البقية من تَرِكَةِ آل موسى

وآل هارون ، وما هي دلالة ذلك فنّياً ؟

لقد قالت القصة :

﴿وقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ : إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ

﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وآلُ هارُونَ

ونحن ، قبل أن نتحدث عن السكينة نتقدّم إلى معرفة المقصود بتلك التركةِ أو الإرث الذي خلّفه آل موسى وآل هارون .

طبيعيّاً لا نحتاج إلى أدنى تأمّل حتى نعرف سريعاً بأنّ كلّ ما له صلة بموسى وبهارون سيكون له تأثيره في نفسية الشخصية اليهودية ، وتحريك عواطفها .

إنّ هذه القصة الفنّية العظيمة ، لا تكتفي بتقديم بعض الظواهر ذات الصلة بتجارب اليهود ، بل تقدّم أكثر من عنصر حتى تسدّ كلّ الطرق على الإسرائيليين ، . . . فقد لحظنا مثلا كيف أنّ التابوت نفسه كان مِلكاً لهم ، وكانوا يستفتحون به في المعارك . . . وكيف أنـّه كان وسيلة إنقاذ لشخصية موسى (عليه السلام) من فتك فرعون به ، عندما أُلقي موسى في داخله وطُرح في البحر .

وها هي القصة تقدّم شيئاً جديداً له صلته أيضاً بتجارب اليهود ، وبعواطفهم . . .

ألا وهو : بقايا ما تركه موسى (عليه السلام) وأخوه هارون من الآثار .

إنّ مثل هذه البقايا ، أيّاً كانت ، لها قدسيّتها وأهميتها في مشاعر اليهود ، وبخاصة أنها تُستحضر بعد غيابها .

فمن الواضح من حيث الدلالة النفسية ، أنّ عودة الشيء للظهور بعد غيابه يترك لدى الآخرين أثراً انفعالياً بالغ المدى في الاستبشار به وفي تفجير الفرح والسرور بمُشاهدته .

والسؤال : ما هي هذه البقية ممّا تركه موسى وهارون ؟

النصوص المفسّرة تتفاوت في شرحها لما هو المقصود بــ : بقية الآثار التي تركها موسى وهارون (عليهما السلام) ويُمكن عرضُها جميعاً ، بغض النظر عن التحديد النهائي لها ، يمكن عرضُها فيما يلي :

الألواح ، وفيها تعاليم السماء التي نزلت على موسى (عليه السلام) ، وكتبت فيها ، ثم جُعلت في التابوت . ومنها : الطست التي تُغسل فيها قلوب الأنبياء . ومنها : درع موسى (عليه السلام) . ومنها : الحكمة والعلم مطلقاً . ومنها : عصا موسى (عليه السلام) . ومنها : بعض الملبوسات لموسى وهارون (عليهما السلام) .

إذن ، الألواح ، العصا ، الدرع ، الطست ، الحكمة ، الملابس . . . إلى آخره ، كلّ اُولئك يمكن أن تشكّل بقيّة ممّا تركه موسى وهارون . . . ويمكن أن يكون بعضها لا جميعها هو الصائب .

والأهم من ذلك ـ فنّياً ـ هو وجود بقيّة من آثار النبوّة ، أيّاً كانت هذه البقية ما دامت مقترنةً بمعرفة اليهود بها ، وبإقرارهم بصحتها ، وبتقديسهم وتقديرهم لهذه الآثار .

أمّا ماذا كانت الآثار في الواقع ، فأمرٌ لا ضرورة فنّية له بالنسبة إلى قارئ القصة .

إنّ ما له أهميته في نظر القارئ ، هو أن يقتنع بأنّ الإسرائيليين قُدّمت لهم أكثر من حجّة ودليل ، ومنه هذا الدليل المتمثّل في مشاهدتهم بأعيانهم آثاراً من النبوّة ، معروفة لديهم .

وحينئذ ، مع وجود وتوفّر مثل هذا الدليل ، لا يبقى أيّ عذر أمام اليهود في تخلّفهم عن المعركة ، أو في تمرّدهم على الأوامر التي سيصدرها طالوت عندما يباشر مهمّته العسكرية في ميدان القتال .

ولكننا على نحو ما سنرى في الأجزاء اللاحقة من القصة ، أنّ اليهود كما هو دأبهم طوال التاريخ بالرغم من قناعتهم بمثل هذا الدليل ، وبأدلّة اُخرى عرضنا قسماً منها وسنعرض القسم الآخر منها لاحقاً ، سنرى أنّ هذه الأدلّة والحجج جميعاً لم تغسل قلوبهم من الدَرَن ، والتشكيك ، والنفعيّة ، والعناد ، واللؤم ، والتمرّد .

من الأوصاف التي وردت حيال التابوت الذي حملته الملائكة ، هو : السكينةُ من اللّه .

قالت القصة :

﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ

القارئ سيقف حيال هذه السمة ، منشطراً بين الذهاب إلى أنّ السكينة هي نوعٌ من الاطمئنان ، والعناية ، والدعم الإلهي ونحوه مثلا ، وبين الذهاب إلى أنـّها رمزٌ تتكفّل النصوص المفسرةُ بتوضيحه ، لكنه ـ أي القارئ ـ مطمئنٌ إلى أنّ اليهود لابدّ أن يكونوا قد أدركوا دلالة هذه السمة الإعجازية ، مادام الأمر متصلا بتجربتهم ، وبموقفهم اللئيم من الشخصية العسكرية التي أرسلتها إليهم ، ونعني بها طالوت .

والمهم ، حَسبُ القارئ ـ من حيث الدلالة الفنّية لهذه السمة السكينة ـ حسبه أن يُدرك منها ، أنـّها نوع من السمات الإعجازية ذات الصلة بمعطيات اللّه ، ونِعمِه ، وإبداعه . لكننا حين ننقل القصة إلى سياقها التأريخي ودلالتها الفكرية عصرئذ ، أي في سياق موقف اليهود المُعاند ، حينئذ ، فإنّ الرجوع إلى النصوص المفسّرة يُسعفنا في تعرّف الموقف .

إنّ النصوص المفسّرة متفاوتةٌ في تحديد المقصود بــ السكينة من اللّه ، فبعضها يذهب إلى أنها روحٌ من السماء ، تتكلّم . وبعضُها يذهب إلى أنها ريحٌ من الجنّة .

وبعضها يضيف أوصافاً مفصلةً لها .

وأيّاً كان الصائب ، فإنّها ـ وهذا هو المهمّ فنّياً ـ نمطٌ من الظواهر الإعجازية التي رافقت حمل الملائكة للتابوت .

ولابدّ أن تكون أيضاً ذات صلة بتجارب اليهود وخبرتهم عمليّاً بمشاهده مثل هذه الآثار سابقاً ، أو بسماعهم عنها من أسلافهم .

ونحن إذ نقول : لابدّ أن تكون هذه السمة ذات صلة بتجارب اليهود ، فلأنّ السياق الفنّي لبناء القصة يسعفنا في الاقتناع بهذا التفسير الفنّي لها .

والسرّ في ذلك ، أنّ كلّ الأوصاف المتصلة بالتابوت جاءت ذات صلة بخبرات

الإسرائيليين ، بدءً من التابوت نفسه ، مروراً بما فيه من بقية آثار موسى وهارون ،

وانتهاءً بهذه السمة السكينة .

مضافاً لذلك ، فإنّ ما لَه صلة بخبرات اليهود يكون أشدّ تأثيراً في نفوسهم المريضة التي تحتاج إلى مزيد من الحجج والأدلّة والبراهين .

وإذا افترضنا أنـّها ليست ذات صلة بتجاربهم ، فإنّ مجرّد كونها ذات سمة إعجازية ، . . . كاف في حمل اليهود على الاقتناع بها ، على نحو السمة الملائكية في حمل التابوت مثلا .

إلى هنا ، يظل الحَدَثُ الصناعي التابوت ، عنصراً قصصياً له تأثيره الضخم في حركة القصة وتغيير مسارها ، بل يمكننا القول : إنّ هذا الحدث الصناعي شكّل عنصراً وحيداً في التأثير على مجرى الأحداث . فقد رأينا مثلا أنّ الإسرائيليين اعترضوا على شخصية طالوت وشككوا في كونها مصطفاة من قِبَل السماء ، اعترضوا على كونها من غير بيت المُلك المتوارث ، واعترضوا على كونها فقيرة لا تملك أموالا .

أكثر من ذلك ، لم يكادوا يقتنعون حتى بكلام نبيّهم وبمحاولاته في إقناعهم بأنّ اللّه قد عوّض طالوت بدلا من عدم انتسابه إلى الاُسر التي توارثت المُلك وعدم تملّكه للأموال ، عوّضه عن ذلك بسمات بطولية وسمات علمية تؤهّلانه لخوض المعركة وقيادتها العسكرية ، إنّهم لم يكادوا يقتنعون حتى بهذا المنطق الواقعي الواضح ، حتى وصل الأمرُ بهم إلى أن يطالبوا نبيّهم بتقديم آية أو دليل حسّي على صحة ما يقول .

ولهذا السبب تقدّم نبيّهم مُجارياً عقلياتهم المريضة ، سادّاً عليهم كلّ طريق آخر للاعتراض . . . فكانت ظاهرة التابوت هي المؤثّر الوحيد في غلق أفواههم وإرغامهم على السكوت .

إنّ القصة لم تقل لنا أنّ اليهود قد اقتنعوا فعلا بهذا الدليل الحسّي الأخير التابوت ، لكنها سلكت منحىً فنّياً غير مباشر في التدليل على ذلك .

وهذا المنحى الفنّي يتمثل في أنّ القصة انتقلت بعد هذا الحدث الصناعي التابوت ، انتقلت مباشرة إلى صعيد المعركة ، وأخذت تسرد لنا أحداث القتال ، ممّا يعني ـ من الزاوية الفنّية ـ أنّ الإسرائيليين قد اقتنعوا بالإعجاز الذي رافق التابوت ، وأبدوا موافقتهم على القتال في ظلّ القيادة العسكرية لطالوت .

ولو لم يكن الأمرُ كذلك لما انتقلت القصة إلى وصف المعركة ، لأنـّه لو لم تكن موافقةٌ من اليهود لما كان مسوّغ للمعركة ، مادامت المعركة أساساً هي نتيجة لاقتراح اليهود وطلبهم من نبيّهم إرسال شخصية عسكرية ينضوون تحت قيادتها حتى تنقذهم من الذلّ والسبي والتشريد .

إذن ، بهذا المنحى الفنّي المُمتع ، أوحت القصةُ لنا بأنّ اليهود قد اقتنعوا بالإعجاز الذي رافق ظاهرة التابوت ، وإلى أنـّهم ـ في نهاية المطاف ـ التحقوا بطالوت ومن ثمّ فإنّ التابوت للسبب المتقدّم ، كان له تأثيره الوحيد في تغيير مجرى الأحداث ، وانعطاف القصة نحو تطوّرات جديدة ، نبدأ الآن بتوضيحها .

* * *

يبدأ القسم الجديد من قصة طالوت بتطوّرات ملحوظة في مجرى الأحداث .

فها هو طالوت يقتحم الساحة ويبدأ بتنظيم الجيش .

وها هم الإسرائيليّون يلتحقون به ، بل إنّ الجيش يبدأ بالزحف فعلا ، متّجهاً نحو العدو . . .

هذه التفصيلات أيضاً لا وجود لها في القصة ، لكننا نستوحيها من خلال لغة الفنّ القصصي .

إنّ القصة بدأت في هذا القسم الجديد ، تحدّثنا عن أوّل تجربة قتال بدأ اليهود فيها قبل خوض المعركة بالنكوص ، وبالتردّد ، وبالتمرّد على أوامر طالوت إلاّ فئة قليلة منهم . أي أنّ الوصف الذي تكفّل بنقل وقائع المعركة لم يبدأ إلاّ من وسط الأحداث ، إنّه بدأ من نقطة التمرّد الإسرائيلي على طالوت . . . أمّا قبل هذا ، فكان الصمت هو الذي يُغَلّف حركة القصة . فقبل التمرّد كانت موافقة الإسرائيليين على القتال ، ثمّ التحاقهم بالجيش فعلا ، ثمّ زحفهم نحو العدو ، كلّ هذا لم تذكره القصة ، بل ذكرت ما يلي :

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ}

{قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}

{فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}

أي، أن القصة بدأت السرد بعملية الاختبار الالهي لليهود حيث تمثل ذلك في حادثة النهر الذي صادفه الجيش الاسرائيلي أثناء توجهه للقتال .

وطبيعيا فإن القارئ مدعو إلى التأمل الدقيق لهذا السرد ، . . . فإنه ينطوي على

حقائق فنية في غاية الخطورة .

فأولا من حيث الاقتصاد في السرد ، طوت القصة كل المراحل التي سبقت تمرد اليهود على قائدهم طالوت . . . إنها اختزلت موافقة اليهود على القتال . وقبل ذلك اختزلت الإشارة إلى اقتناعهم بإعجاز التابوت . ثم اختزلت التحاقهم بالجيش .

واختزلت أخيرا زحف الجيش وتوجهه إلى ساحة القتال . . . اختزلت كل ذلك ، وطوت كل تلك المراحل ، واتجهت مباشرة إلى وصف التمرد الإسرائيلي . . .

ونحن من خلال وقوفنا على تمرد اليهود ، عرفنا أنـهم قبل ذلك قد اقتنعوا بإعجاز التابوت ، وأنـهم التحقوا بالجيش ، وأنـهم زحفوا فعلا . . .

إذن ، كم هو مثيرٌ ، وممتعٌ ، وحي مثل هذا الاقتصاد في السرد . وتركنا نحن القراء نستنتج بيسر وسهولة كل تلك المراحل التي لا ذكر لها في القصة ؟!

ولكن خطورة الفن وأهميته العظيمة ، تتضح أمامنا بنحو أشد إمتاعا وحيوية حينما نقف على الأسرار الفنية التي تقف وراء القصة ، حينما نتساءل عن السبب الذي كانت الأحداث من خلاله تبدأ من نقطة التمرد الإسرائيلي على طالوت ، وليس من نقطة سواها . . . لماذا بدأت الأحداث من قضية الاختبار الإلهي لليهود في واقعة النهر الذي صادفه الجيش الإسرائيلي أثناء توجهه للقتال ؟

ولماذا التشدد على هذا التمرد والعناد والجبن الذي صدر عن اليهود قبل القتال ؟

بدأ القسم الجديد من قصة طالوت بهذا النحو :

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ}

{قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي }

{وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}

{ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ . . .}

إن الأهمية الفنية لمثل هذا النقل القصصي لوقائع المعركة ، تتمثل في هذا التفصيل الذي ذكرته القصة عن الاختبار الإلهي لليهود ، ثم تمردهم على طالوت وشربهم من النهر خلافا لتوصيته .

وأما الحوادث التي سبقت هذا الاختبار وهذا التمرد الإسرائيلي فقد حذفت من القصة كما قلنا ، لأسباب سبق شرحها ، فلا نعيد .

أما الآن ، فيعنينا أن نشير إلى أن السر الفني وراء هذه البداية بأحداث القصة وتطوراتها وحذف ما قبلها . . . هذا السر يتمثل في أن هدف القصة بأكملها ، هو تنبيه القارئ إلى سلوك اليهود . وهو سلوك يعرفه القاصي والداني طوال وجودهم على هذه الأرض . إنهم حفنةٌ لا خلاق لها ، لا عهود لها ، لا يقين لها ، أفاضت السماء عليهم كل النعم ، لكنهم مع ذلك لم يقدروها . أذلهم الله كل الإذلال على يد الأقباط في العصور الماضية ، فاستعبدوهم ، وشردوهم ، وسبوا ذراريهم ، وقتلوا الكثير منهم ، . . . ثم أنقذوا ، لكنهم لم يقدروا هذا الإنقاذ . وأخيرا جاء دور جالوت أحد الأقباط ، ليستعبدهم من بعد وفات موسى (عليه السلام) ، لقد أخرجهم من ديارهم وسبى ذراريهم حتى ضجوا من ذلك وتوسلوا بأحد أنبيائهم أن يدعو الله فيرسل إليهم من ينقذهم .

وها هو نبيهم يحقق طلبهم ، فيجيء طالوت لإنقاذ الموقف ، لكنهم كما رأينا بدأوا بإثارة الاعتراضات السخيفة التي لا تصدر إلا عن طفل لا نضج لديه . بدأوا يقولون : طالوت ليس من بيت الملك ، . . . طالوت لا يملك أموالا . . . إلى آخره .

قال لهم نبيهم : الله قد عوضه ببطولة جسمية وكفاءة علمية بدلا من الملك الموروث والمال ، مع ذلك لم يقتنعوا تماما حتى طلبوا دليلا حسيا على صدق النبي . . .

ثم قدم النبي لهم التابوت بكل ما رافقه عن إعجاز له صلته بتجاربهم التي شاهدوها أو سمعوا عنها ، وحينئذ كان لابد من الإقناع .

لكنهم ـ وهذا هو موضع الشاهد من القصة التي نحن في صددها ـ ما أن التحقوا بالجيش وزحفوا نحو ساحة القتال حتى بدأوا من جديد ينكصون ويرتدون إلى أساليب الطفولة المرضية . . .

إن القصة عندما حذفت كل شيء ، وسكتت عن التفصيلات المتصلة بلحوقهم بالجيش وبزحفهم نحو ساحة القتال ، ثم ذكرت قضية الاختبار الإلهي فحسب وقضية تمردهم على أوامر طالوت فحسب ، إنما كانت تستهدف بهذا تذكيرنا من جديد بأن التمرد والعناد والتشكيك والكذب هو طابع هذه الفئة الذليلة ، مهما تظاهرت بالإخلاص ، ومهما أغدقت عليها النعم ، ومهما استعبدت ، ومهما اتيحت لها فرص الخلاص .

وإذن السر الفني وراء سرد الأحداث من هذه النقطة وحذف ما سواها ، هو التشدد والتنبيه على وساخة السلوك الذي يغلف الشخصية الإسرائيلية في الحالات كلها وبخاصة أن القصة منذ البداية أعلنت على لسان نبيهم أنـهم غير صادقين في ادعائهم بأنـهم مستعدون للقتال .

ثم جاءت هذه الحادثة وما قبلها ، دليلا فنيا على جبنهم وعنادهم .

* * *

على أية حال ، بعد أن عرفنا الأسرار الفنية الكامنة وراء بدء القصة ـ في تصويرها للأحداث ـ بهذه النقطة المتصلة بالاختبار ، وبالتمرد دون سواها من الأحداث ، بعد أن عرفنا ذلك يحسن بنا أن نقف عند الاختبار الإلهي نفسه ، وعند هذا التمرد الإسرائيلي ذاته ، حتى نتبين المزيد من حقائق هذه الفئة الضالة الشاذة .

لنعد إلى قراءة النص القصصي من جديد :

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ}

{قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي }

{وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}

{ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ . . .}

ظاهر النص القصصي أن طالوت زحف بجيشه نحو ساحة القتال ، لكنه أثناء الزحف اوحي إليه بأن يقدم اختبارا لمعرفة الصادق من الكاذب من هؤلاء القوم .

وكان الاختبار أو التجربة متمثلا في وجود نهر منعهم طالوت من الشرب منه ، إلا في حدود غرفة واحدة بقدر الكف .

لكن القوم سقطوا في هذا الاختبار ، إلا قليلا منهم .

إن القارئ أو المستمع بمقدوره أن يستخلص بسهولة دلالة هذا الاختبار .

ففيما يبدو أن العطش وقلة الماء كان وراء هذه التجربة .

لكن السماء ـ دون أدنى شك ـ لا تكلف الإنسان إلا وسعه .

فلا يعقل أن العطش الذي طال القوم ، كان من الشدة بنحو لا يطاق ، وإلا لما كلفتهم السماء بذلك .

بل إن المتيقن ، كان العطش بنحو يمكن أن يصبر الانسان عليه دون أن يؤثر ذلك على التوازن الحيوي للشخصية .

مضافا لذلك فإن طالوت سمح لجنوده بأن يغترفوا غرفة واحدة بملء الكف .

وفي هذا أيضا دلالة فنية على أن الاختبار كان في حدود ما يطيقه الإنسان .

فإذا افترضنا أن العطش كان شديدا ، فإن غرفة من الماء ستزيح قدرا من التوترات الناشئة من العطش ، على نحو يصبح الجندي من خلاله قادرا على تأجيل لذته إلى الشرب ، مكتفيا بتلك الغرفة منه ، لكن الباحثين عن اللذة ، اللاهثين وراء الإشباع الزائد عن الحاجة ، المتمركزين حول ذواتهم ، لا يسمحون لأنفسهم أن يمارسوا أي تأجيل للذة ، بل ينشدون إشباعا عاجلا فوريا دون التقيد بأيـة معايير وضوابط .

أليس تمرداتهم السابقة كلها معبرة عن نشدانهم اللذة بأي ثمن ؟

أليس قتلهم للأنبياء سابقا ، ومجازرهم في حياتنا المعاصرة ، نشدانا للذات ، واللذة العاجلة ؟

ألم تكن ممانعتهم للنبي (صلى الله عليه وآله) في عصر رسالة الإسلام وتخلفهم عن المعارك ، نشدانا للذة عاجلة؟ ألم يكن إظهارهم للإسلام واستبطانهم الكفر ، نشدانا للذة عابرة هي تحقيق مكاسب اقتصادية واجتماعية ؟

إذن هجومهم مثل الهيم على الشرب من النهر ، كان أيضا نشدانا للذة عابرة ، كان بإمكانهم أن يؤجلوها كما أجلها القليل منهم .

ولو كان الأمر خارجا عن الطاقة لما التزم القليل منهم بتوصية طالوت ، وإلا لأصاب الضرر هذا القليل من القوم ، في حين أنـهم ـ أي هؤلاء القليل ـ واصلوا زحفهم دون أن يصيبهم سوء .

* * *

إن حادثة النهر تشكل في الهيكل الهندسي للقصة موقعا فنيا له أهميته الكبيرة في تطوير الأحداث والتنبؤ الفني لنهاياتها .

فإذا استعرنا مصطلح اللغة القصصية ، أمكننا أن نقول : إن هذه الحادثة تشكل ما يسمى في مفاهيم العمل القصصي بـ : لحظة الإنارة ، أي اللحظة التي تلقي الضوء على ما يمكن أن تكون نهاية القصة عليه ، بمعنى أنـها تسبق النهاية وتسبق لحظات التأزم الأخيرة لنهاية الأحداث .

إن تأزم الأحداث ، أي بلوغها الذروة التي تفضي إلى النهاية قد مهدت لها هذه الحادثة حادثة النهر ، إنها ألقت إنارة على ما يمكن أن نتوقعه من سير المعارك لاحقا . فإذا كان عدم تناول الماء ـ وهو أمرٌ سهلٌ ـ ، لا يبدو أن الإسرائيليين مستعدون لتحمله ، فكيف نتوقع أن يتحملوا أعباء القتال؟ مع أن عدم تناول الماء لا يفضي إلى الموت ، في حين أن القتال مواجهةٌ مباشرةٌ مع الموت .

إذن ، كانت حادثة النهر ، أو الاختبار الالهي ذات سمة فنية بالغة الأهمية من حيث بناء القصة وخطوطها العمارية .

إنها كما سنرى ، ترهص بأحداث لاحقة تزيدنا قناعة بأن اليهود قد طبع على قلوبهم إلا النادر .

كما أن هذه الحادثة حادثة النهر من جانب آخر تشكل امتدادا لمواقف سابقة لليهود ، فليس هذا أول سلوك رديء يصدرون عنه . إنهم قبل ذلك شككوا بصحة دعوى نبيهم في إرسال طالوت ، اعترضوا عليه بأنـه لم يكن من اسرة توارثت الملك ، وبأنـه فقير ، وشككوا للمرة الجديدة أيضا حينما قال لهم نبيهم : إن طالوت قد عوضه الله ببسطة في الجسم والعلم ، حيث طلبوا دليلا حسيا على صحة إرساله من قبل السماء . وحينئذ كان التابوت هو الدليل الذي قدم إليهم .

وها هم للمرة الثالثة ، يتمردون على الاختبار الإلهي ، وسيتمردون في اللحظة الحاسمة عند القتال أيضا كما سنرى .

المهم ، أن حادثة النهر كما لحظنا شكلت موقعا عضويا في بناء القصة ، رابطا بين أجزائها السابقة واللاحقة بنحو محكم فنيا على النحو العظيم الذي لحظناه .

نواجه الآن واقعة جديدة في قصة طالوت .

فبعد أن رفض اليهود الالتزام بتوصية طالوت ، ألا يشربوا من النهر ، واصل طالوت زحفه نحو ساحة القتال ، ومعه تلك الفئة القليلة التي التزمت بتوصيته .

وتقول النصوص المفسرة : إن عدد هؤلاء الملتزمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا . وأما المتمردون فعددهم ثمانون ألفا . والمهم ، أن حادثة النهر التي كانت اختبارا لليهود ، مهدت لنا من الناحية الفنية لواقعة جديدة نتوقعها ، مادامت قد هيأتنا ذهنيا لأن نتنبأ بنتائج الموقف .

فالمتمردون ثمانون ألفا ، والملتزمون ثلاثمائة وبضعة رجلا فحسب .

وحيال هذا ماذا نتوقع ؟

إذا حانت ساعة القتال ، هل نحتمل أن هؤلاء الثمانين ألفا ، سيقتحمون الساحة، أو أنـهم سيصطنعون عذرا للتخلص من القتال ؟

مواقفهم السابقة في هذه القصة عودتنا على أن اليهود لا عهد لهم ، وإلى أنـهم يعنون بإشباع عاجل لحاجاتهم المريضة ، وفي مقدمة هذه المواقف عدم التزامهم بتوصية طالوت في الامتناع عن الشرب .

وإذا كان هؤلاء اليهود وهم في الطريق بعد ، قبل أن يصلوا إلى ساحة القتال ، لم يكن لديهم استعدادٌ لتحمل قليل من العطش ، فهل سيستعدون لتحمل الموت أثناء القتال؟

وبالفعل، ها هي الواقعة الجديدة في القصة تكشف لنا عن تخاذل الإسرائيليين وجبنهم الذي لا يضاهيه جبنٌ آخر . إنظر إلى موقفهم الجديد :

{قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}

هذا الحوار الصادر من الإسرائيليين يكشف لنا جملة من حقائق القصة .

فأولا من حيث الدلالة الفكرية ، يظل هذا الموقف من اليهود امتداداً لمواقفهم السابقة بدء من اعتراضهم على طالوت ، ثم قناعتهم به ، ثم تشكيكهم من جديد ومطالبتهم بالدليل ، ثم قناعتهم بالدليل وهو التابوت ، ثم تمردهم على طالوت وعدم التزامهم بتوصيته ، ثم هذا الموقف الأخير الذي كشف عن قمة التخاذل والجبن والتشكيك وتمزق النفس والخواء والضعة ، مع أنـهم أذلاء مستعبدون ، مشردون ، مسبي ذراريهم . . مع أنـهم في مثل هذه الحالة الذليلة ، نجدهم غير مستعدين للقتال . وهذا قمة ما يمكن تصوره في البشر من حيث ضعة الشخصية .

* * *

أما من حيث الدلالة الفنية ، فإن الحوار السابق لليهود كشف لنا عن بروز شخصية جديدة في القصة هي شخصية جالوت .

فنحن قراء القصة لم نعرف من شخصياتها غير نبي الإسرائيليين وطالوت ، ولم نعرف من أحداثها غير واقعة الزحف نحو العدو ، أما العدو نفسه فلم تحدد القصة هويته ، لكن الحوار السابق تكفل بتحديد هوية العدو وقائد جيشه ، فإذا به جالوت .

لنقرأ الحوار جديدا :

{قَالُوا : لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}

إذن ، العدو الذي استعبد اليهود وأذلهم هو جالوت .

ولا حاجة بنا إلى تذكير القارئ بأهمية مثل هذا الحوار فنيا من حيث وظيفته في الكشف عن الأحداث وتطويرها وتوصيلها إلى هذه النقطة من حركة القصة ، فيما تشكل هذه النقطة ما يسمى في لغة القصة بـ : التأزم أو الذروة فيما يتصل على الأقل بموقف اليهود من القتال . وإلا فإن ذروة الحدث من حيث القتال بعامة ـ بغض النظر عن العنصر الإسرائيلي ـ سيتحدد وفق حركة اخرى نقف عليها لاحقا .

إن ذروة الحدث تتجسد في هذا الموقف الإسرائيلي من القتال . فطالوتٌ زاحفٌ بجنوده نحو ساحة القتال .

وها هم ثمانون ألفا منهم يتخاذلون في اللحظة الحاسمة .

إذن ، ماذا بقي من جنوده ؟

ثلاثمائة وبضعة رجلا فحسب ، وفق النصوص المفسرة .

هل يمكن لطالوت أن يقتحم ساحة القتال بعدة مئآت من الجنود ، في حين أن الآلاف منهم تخاذلوا ؟

إن منطق الأرض وحساباتها العسكرية ، من الممكن أن تؤكد بأن المعركة لصالح جالوت .

لكن منطق السماء ، مالكة الأرض وما فيها ، من المؤكد أن يسجل النصر لصالح طالوت .

لكن النصر مشفوع بشروط ، في مقدمتها الثقة التامة بالله .

فهل تحقق ذلك ؟

* * *

لنعد إلى قضية النهر وموقف الجنود منها .

لقد قلنا في حينه : إن حادثة الشرب من النهر تشكل من حيث لغة الفن لحظة إنارة للأحداث اللاحقة من القصة . فقد قال طالوت لجنوده وهم لا يزالون في الطريق قبل وصولهم إلى ساحة القتال ، قال لهم :

{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي}

{وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا}

لقد شرب ثمانون ألفا من النهر، ولكن القليل منهم لم يشربوا :

{فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا}

إذن هذا القليل الذي تقول الروايات أ نه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، كانوا من

الملتزمين بأوامر طالوت ، كانوا من المؤمنين بالله دون أدنى شك . . .

والآن ، لننظر إلى موقف هذه الفئة القليلة من القتال في اللحظة الحاسمة .

الفئة الكثيرة وهم ثمانون ألفا ، قالوا بوقاحة وجبن :

{لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}  

ولكن ، لننظر إلى الفئة القليلة وهم ثلاثمائة وبضعة رجلا ماذا كان موقفهم :

{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ}

{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}

إذن ، كم هو الفارق بين المؤمنين الواثقين بالله ـ وهم قليل ـ وبين الجبناء الانهزاميين؟

إن هذه المعادلة بين الفئتين ، لها أهميتها الفنية الكبيرة في تطوير الأحداث ورسم نهاياتها في القصة .

نحن الآن في ذروة الحركة للأحداث . . .

ثمانون ألفا يتخاذلون ، ثلاثمائة وبضعة رجلا فحسب يظهرون كامل استعدادهم للقتال ، ثقة بالله .

هنا ماذا نتوقع من طالوت ، هل سيزحف بهذا النفر القليل نحو ساحة القتال ؟ أم سيحاول إقناع الفئات الكبيرة الذليلة ؟ أم سيؤجل المعركة إلى أمد آخر ؟

إن التخاذل في اللحظة الحاسمة ، سيؤثر في مجرى الأحداث . . . لو كان هذا التخاذل اليهودي قبل الزحف ، أو خلاله ـ أثناء الطريق ـ لهان الأمر ، لكنه انفجر خلال مواجهة العدو في ساحة القتال ذاتها . . .

إن أمثلة هذه الحسابات ، أو المعادلات حسب منطق الأرض لها مسوغاتها وأهميتها ، لكن منطق السماء كما قلنا ، يتجه نحو معادلة خاصة مادام ثمة ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من المؤمنين بالله ، من الواثقين بالنصر لهم حضورهم في الموقف ، حينئذ لا قيمة البتة لأولئك الثمانين ألفا ، ثمانين ألف شبح بلا قلب ، بلا روح .

وعلى العكس ، فإن ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا تملؤهم ثقةٌ بالله ، مادام لهذه الفئة القليلة حضورٌ في الموقف ، فإن السماء ستكون عند حسن ظنهم ، ولا نتوقع أبدا أن ينسحب طالوت من المعركة ، بل نتوقع أن يقتحمها بهذه الفئة القليلة .

عندما جبن اليهود عن القتال ، وانسحب ثمانون ألفا ـ وهم كل الجنود ، ما عدا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ـ لم يقم طالوت لهذا الانسحاب المهين أي وزن ، بل تقدم بالفئة القليلة إلى ساحة القتال ، واثقا بالنصر . . .

ثم بدأت المعركة ، تقول القصة :

{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا}

{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}

إن هذا الهتاف الذي جلجل به المؤمنون ، حينما برزوا لجالوت وجنوده ، سبقه ـ كما لحظنا ـ يقينٌ تام بنصر الله .

قال هذا النفر جوابا على الانهزاميين اليهود الذين أفزعهم جيش جالوت ، قال هذا النفر :

{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ}

ولما تقدم هذا النفر إلى ساحة القتال ، هتف :

{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}

ينبغي ـ نحن القراء ـ أن نقف عند هذه الموازنة ، بين اليهود المتخاذلين الذين ما أن تراءى لهم جيش طالوت حتى جبنوا ، وقالوا :

{لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}

أقول : ينبغي أن نوازن بين هذا الموقف الجبان للإسرائيليين ، وبين الفئة القليلة المؤمنة التي هتفت :

{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}

هذه الموازنة بين الموقفين ، لا تنطوي فحسب على مجرد موقفين ، أحدهما كافر والآخر مؤمن ، بل تنطوي مضافا لذلك على سمة فنية تتصل بتطوير الأحداث في القصة ، والتنبؤ بنتائجها .

إن هتاف المؤمنين ودعاءهم بتثبيت الأقدام والنصر ، لابد أن يعكس أثره الفني على أحداث القصة ، أو بكلمة جديدة لابد أن يجعلنا نتوقع بأن النصر سيسجل لصالح طالوت وجنوده المؤمنين ، وذلك لسبب واضح هو ، أن الدعاء عندما ينطلق من أعماق المؤمن بحرارة وصدق وانفعال ، مشفوعا بالسلوك الخير فإن الدعاء لا محالة سيكون مستجابا .

ومن هنا ، فإن القارئ وهو يتتبع حركة الأحداث بشغف ، بمقدوره أن يطمئن إلى أن طالوت سيواصل معركته ، دون أن يؤثر هذا الانسحاب المهين من قبل اليهود على ثقته بالنصر .

* * *

لقد بلغت الأحداث حسب مصطلح اللغة القصصية ، بلغت ما يسمى بالذروة أو التأزم . . . فالعدو كبير العدد حسب ما نتوقع ، بخاصة أ نه رابضٌ في معسكراته ، وطالوت وهو الزاحف لانتزاع الحق ، قد انسحب كل جنده البالغ ثمانين ألفا ، عدا ثلاثمائة وثلاثة عشر مقاتلا ، وها هم المقاتلون يقتحمون المعركة مع قلة عددهم .

وحسب لغة الأرض ومعادلاتها ، فإن القارئ العادي قد يتوجس خيفة من نتائج المعركة ، لعدم التكافؤ بين المتحاربين ، لكن لحظة التأزم أو الذروة سرعان ما تنفرج وتجيء مكانها لحظة ما يسمى بـ : الإنارة ، أي اللحظة التي تؤشر للقارئ بأن نهاية الحدث قد تحددت ، كل اولئك طوته القصة في فقرة قصصية ممتعة على هذا النحو :

{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ}

إذن ، إنتهى كل شيء ، المقاتلون بعددهم الضئيل وإيمانهم الكبير اقتحموا المعركة ، وظفروا بإحدى الحسنيين دنيويا ، ألا وهو : النصر ، فضلا عن النصر الأخروي الذي ينتظرهم .

أما وإن النصر قد تحقق على نحو ما تنبأ به قارئ القصة ، فإن كل شيء قد حسم بوضوح . . .

لكن الملاحظ ، أن القصة وهي ساكتة عن تفصيلات المعركة وطريقة القتال ، قد أدخلت بطلا جديدا في ختام القصة وجعلته قائد المعركة في خطها الأمامي ، إنه داود ، البطل الذي قتل جالوت نفسه .

إن مجيء هذا البطل الجديد داود ، يرافقه من حيث حركة القصة وبناؤها الفني أكثر من سر فني في هذا الجزء من القصة ، فهذا البطل يظهر فجأة على نحو لم يتوقعه القارئ أبدا .

كما أنه يمارس عملية ضخمة هي قتل أكبر شخصية للعدو .

والسؤال : ما هو السر الفني الكامن وراء مثل هذه الصياغة القصصية للبطل الجديد؟

* * *

المألوف في الأدب القصصي ، أن بعض الأبطال يمارسون أدوارهم بخفاء ، لا تعلن القصة عن أدوارهم أو وظائفهم ، وقد لا تعلن أيضا عن هوياتهم الشخصية ، وإنما تحتفظ بذلك طوال القصة ، ثم تعلن عنه في النهاية بنحو مفاجئ لم يتوقعه قارئ القصة .

وفي القصة التي نحن في صددها لم تجيء شخصية داود من خلال أدوار خاصة سكتت تماما عن كل تفصيل يتصل بطريقة القتال ، واختيار قادته في الخطوط الأمامية . . . إنما قالت لنا : لقد هزم العدو ، أما كيف هزم ، أو كيف اختير داود بطلا؟ فهذا ما سكتت القصة عنه تماما ، إنها أعلنت بشكل مفاجئ ، أن داود قتل جالوت ، وانتهى كل شيء .

ولكي تتبين بعض الأسرار الفنية الممتعة في هذا النطاق ، يحسن بنا أن نتوكأ على النصوص المفسرة ونتجه بعدها إلى تحديد الأسرار المذكورة .

* * *

من حيث البدء ، فإن الدخول في تفصيلات القتال لا يشكل ضرورة فنية في حركة القصة ، ولذلك سكتت القصة عن تفصيلات القتال . والسبب في ذلك أن القصة تستهدف من وراء عرض هذه الواقعة لفت الانتباه إلى أن الفئة القليلة إذا كانت واثقة بنصر الله ، فإنها تغلب الفئة الكبيرة مهما ضخم عددها وعدتها ، وهذا ما تم فعلا ، حيث هزم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا جيشا بأكمله ، بالرغم من الانسحاب المهين لليهود ، لأن الانسحاب نفسه وبخاصة أنـه ثمانون ألفا يترك أثره السلبي الكبير في توازن الجنود ومعنوياتهم .

لكن مع ذلك ، مادامت الثقة بالله هي المحرك الرئيس للسلوك ، حينئذ فإن النصر متحققٌ لا محالة .

وهذا ما حصل فعلا ، وبه ينتهي هدف القصة .

وأما التفصيلات فبمقدور القارئ أن يرسمها حسب خبراته ومعرفته بأساليب القتال ، وهو أمر ثانوي .

لكن الذي حدث ، هو : أن القصة لم تسكت عن كل التفاصيل ، بل أبرزت البطل الجديد داود فجأة وأعلنت أ نه هو قاتل جالوت .

قبل هذا البطل ، كان طالوت هو الشخصية الرئيسة وراء بيئة القتال بكل أبعادها ، بدء من اختيارها قائدا لمعركة كانت سببا لأن تنتقيها السماء ، مرورا بممارستها تلك التجربة التي أفرزت المؤمن من الكافر في حادثة النهر ، وانتهاء بإشرافها المباشر على عمليات القتال التي انشطر الجنود حيالها بين منسحب من المعركة وهم الأكثرية ، وبين ثابت على أقدامه وهم القلة المؤمنة .

لكن طالوت يختفي عن مسرح الأحداث عند هذه النقطة بالذات ، ليجيء داود بطلا جديدا يتولى قتل جالوت بنفسه .

ما هو السر الفني وراء ذلك ؟

انتهت قصة طالوت بالهزيمة العسكرية المنكرة لجالوت وجنوده . وقالت القصة محددة كلا من الهزيمة وقتل جالوت على النحو الآتي :

{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ}

إن هذه الهزيمة العسكرية ذات بعدين : أحدهما يتصل بهزيمة العدو بشكل عام .

والآخر يتصل بقتل جالوت على يد بطل المعركة الأمامية داود .

ومما لا شك فيه ، أن القصة عندما تشطر الهزيمة إلى بعدين فهذا يعني أن لجالوت فاعلية خاصة بحيث أن قتله يضع حدا للعدوان ، وإلا كان بإمكان القصة أن تقول لنا : إن المؤمنين هزموا عدوهم وانتصروا ، وانتهى الأمر .

ولكن بما أنـها عقبت على واقعة الهزيمة بقتل جالوت ، فهذا يعني أن الشخصية المذكورة لو لم تقتل مثلا ، كان من الممكن أن يتكرر العدوان ثانية ، كأن تلملم هذه الشخصية المنهزمة فلولها ، أو تمارس نشاطا خارج الحدود ، وتتهيأ لعدوان جديد . أو على الأقل ينبغي للطغاة أن يلاقوا جزاءهم في الدنيا قبل الآخرة حتى يعتبر الآخرون بهم .

والمهم ، أن المسوغ الفني لقتل جالوت قد اتضح تماما ، لكن السؤال : ما هو المسوغ الفني لشخصية داود نفسه؟ أما كان بإمكان طالوت ذاته أن يتولى هذه المهمة مثلا؟

* * *

في تصورنا ، أن طالوت وهو شخصية عسكرية كبيرة توازن النبي في موقعها الاجتماعي ، يتطلب موقعها المذكور أن تخطط للمعركة أكثر من مباشرتها للقتال ، وقد رأينا في حينه أن النبوة كانت في بيت ، والملك القيادة العسكرية في بيت آخر ، مما يعني أن الشخصية العسكرية توازن الشخصية النبوية عصرئذ من حيث الموقع الريادي وما يتطلبه من بقاء الرائد واستمرارية سلامته لمواصلة الإشراف والتخطيط والتوجيه . . . إلى آخره .

من هنا كان لابد من وجود شخصية عسكرية اخرى ، ذات كفاءة في القتال المباشر ، بل ذات سمات بطولية خاصة ، حتى يمكنها أن تقطع رأس الفساد جالوت .

وجاء داود هو البطل المهيأ لهذه المهمة .

وحين نعود إلى النصوص المفسرة ، نجدها تلقي ضوء كبيرا على شخصية داود وطريقة انتقائه لهذه المهمة ، مما يعزز التفسير الفني الذي اخترناه في هذا الصدد .

تقول النصوص المفسرة بما مؤداه :

إن السماء أوحت لطالوت بأن قتل جالوت يتم على يد بطل يستوي عليه درع موسى (عليه السلام) ـ لا يغب عن بالنا أن الدرع المذكور وآثارا اخرى كانت ترافق ظاهرة التابوت ومحتوياته ـ .

وهنا ، كان لابد لطالوت أن يبحث عن مثل هذه الشخصية ، وعندها أحضر طالوت إيشا أحد رعاة الأغنام ، وكان له عدة أولاد ، فألبسهم الدرع واحدا واحدا حتى استوى على البطل داود .

وتقول النصوص المفسرة : إن داود جلب مقلاعا ومخلاة وضع فيها أحجارا ثلاثة تناولها في الطريق قبل وصوله إلى طالوت ، كما ترسم النصوص شيئا من ملامحه الفيزيائية المتصلة ببطولته التي لا تتوفر عند الرجل العادي . . .

كل ذلك يفسر لنا ، أن داود لم يختر عبثا ، كما أن سماته البطولية لم تكن غير عادية فحسب ، بل كانت ذات نمط معجز فيما يبدو ، مادام الدرع ـ وهو ظاهرة اعجازية ـ قد ارتبطت باستوائه على داود ، فضلا عن أن السماء هي التي أوحت بذلك لداود . . .

* * *

إذن ، نحن الآن أمام بطل متفرد يتناسب تفرده مع المهمة العسكرية الملقاة على عاتقه .

إنبثاق مثل هذا البطل ، إدانةٌ جديدة لليهود الذين تخاذلوا عن نصرة طالوت .

لقد انهزم ثمانون ألفا من اليهود ، وجمدت عروقهم قبل مباشرة القتال ، لكن البطل طالوت ومعه فئة قليلة من المؤمنين اقتحموا ساحة القتال وكان داود هو البطل المختار لتحقيق النصر ، وكان لابد أن يكون ذات سمات متفردة ، متميزة مشفوعة بإعجاز من السماء ، وذلك لسبب فني واضح في حركة القصة ، هو أن المؤمنين ما داموا فئة قليلة لا يتجاوز عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، حينئذ لابد أن يقترن ذلك بوجود ظاهرة إعجازية تكشف عن دعم السماء وإسنادهم لهؤلاء الأبطال المؤمنين ، وكان داود هو الظاهرة المذكورة بسماتها المتميزة التي شرحتها نصوص التفسير .

مضافا لذلك ، أن داود كما ستوضحه القصة ، قد آتاه العلم والحكمة وعلمه مما يشاء بعد مهمته المذكورة ، مما يفصح ذلك عن أسرار فنية جديدة نستكشفها في هذا الصدد ، بحيث يمكن القول أن اختيار مثل هذه الشخصية ، سينعكس على مستقبلها الذي ستكون فيه نبيا ذا رسالة عصرئذ .

وبكلمة جديدة ، أن السمات المتميزة لداود جاءت تعبيرا عن جملة من الأسباب الفنية ، منها : أن وجود داود بطلا جديدا في المعركة ، سيهيئ الأذهان إلى تقبل شخصية جديدة تحمل وظيفة النبوة فيما بعد .

وبالفعل كما تقول النصوص المفسرة : إن الناس قد اتجهوا إليه بعد سماعهم ببطولته التي مسحت جالوت ، وألغته من الحساب ،ثم كانت قضية نبوته على نحو ما نعرفه في هذا الحقل .

لكننا خارجا عن ذلك ، لم نتحدث عن طريقة قتل هذا البطل لجالوت . . .

* * *

تقول النصوص المفسرة : إن داود قد استخدم الأحجار الثلاثة في هذه العملية ، حيث رمى واحدا عن يمين جالوت ، وثانيا عن شماله ، فانهزم جنود جالوت ، ورمى بالثالث جبهة جالوت فاخترقها إلى دماغه .

وتضيف هذه النصوص ، خالعة بعض الأوصاف الخارجية على شخصية جالوت من ركوبه للفيل مثلا وترصيع جبهته بياقوتة تلمع ، تعبيرا عن زهوه العسكري . . . إلى آخره .

ومما لا شك فيه ، أن القصة ذاتها مادامت قد نسجت الصمت حيال هذه الملامح الخارجية لكل من شخصيتي داود وجالوت ، فإن هذا يعني أن مثل هذه الملامح تشكل أهمية ثانوية بالقياس إلى الأهمية الرئيسة لعملية النصر ، متمثلة في أن بطلا واحدا من مجموعة ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، قد حقق النصر قبال جيش منظم أعدته دولة .

لكننا مع ذلك ، نجد أن اضطلاع النصوص المفسرة برسم الملامح الخارجية لكل من داود وجالوت له تجانسه أيضا مع الدلالة المذكورة ، فركوب الفيل مثلا ، وترصيع الجبهة بالياقوت قبال شخصية لا تحمل إلا أحجارا عادية ، إنما يدلنا على مدى الفارقية بين شخصية مزهوة بملامحها عسكريا ، وبين شخصية لا تعرف للزهو معنى ، بل على العكس ، تظل الأحجار تعبيرا عن أدنى درجات التحرك العسكري ، فكم هو الفارق إذن ، بين زهو ينتسب إلى الأرض ، وبين بطولة تنتسب إلى السماء ، بحيث تمسح كل معالم الزهو الأرضي بمجرد إلقاء أحجار ثلاثة .

وأخيرا . . . تظل هذه النهاية وحركة القصة بشكل عام ، تظل إدانة كبيرة لليهود في كل أنماط سلوكهم ، بل إنها تفسر لنا كل المسوغات التي تجعلهم طوال التاريخ أذلاء بالرغم من فترات السيطرة التي يمارسون من خلالها أعتى أشكال القسوة بمثابة رد فعل للجبن وللذل اللذين يطبعان شخصية اليهودي .

لقد استعبدوا ، فطلبوا منقذا ، وجاء المنقذ فاعترضوا عليه ، ثم اضطروا إلى تقبله بعد أن واجهتهم معجزة التابوت ، ثم تمردوا على أوامره وهم في الطريق بعد . . . ثم جبنوا عن مواجهة القتال في اللحظات الاولى ، وانسحبوا بشكل مهين ، لكن السماء حسمت كل شيء حينما أوضحت ـ من خلال هذه القصة ـ كيف أن الثقة بالله تصنع المعجز ، وإلى أن الجبن والتشكيك وركوب الذات ، لا يعود إلا بالخسران في الدنيا قبل الآخرة . . .

ختاما ، لا مناص من الإشارة جديدا بأن محاور السورة المباركة سورة «البقرة» تتنوع من جانب إلى ما هو رئيس كظاهرتي التقوى والإماتة والإحياء وإلى منعكسات ذلك في مفردات متنوعة ، بعضها من ظواهر السلوك المضاد للتقوى وفي مقدمة ذلك سلوك اليهود وسواهم من المنحرفين . حيث جسدت القصة المذكورة ـ كما لاحظنا ـ أبرز ملامح السلوك المنحرف ، بنحو يتجانس مع طبيعة ما طرحته السورة من العرض للسلوك المذكور بحيث بلغ ثلث سورة «البقرة» وهو أمرٌ لا يحصل في طرح الظواهر الاخرى ، مما يكشف عن حرص السورة الكريمة ومنها : القصص عن فضح السلوك الإسرائيلي المذكور .

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .